هارون ومقام القداسة

هارون ومقام القداسة

الخوري بولس الفغاليّ

بهذه العبارة يبدأ مديح ابن سيراخ لهارون الكاهن: "ورفع (الربُّ) هارون إلى مقام القداسة، وهو مثل أخيه موسى من سبط لاوي. وأقام معه عهدًا مؤبَّدًا وجعله كاهنَ الشعب. باركه بما يليق من البهاء، فألبسه أفخر الحلل. خلع عليه الكمال كلَّه وزيَّنه برموز السلطة وألبسه سروالاً من الكتّان ورداء طويلاً من الأفود... وأعطاه الحلَّة المقدَّسة الموشّاة بذهب ولونٍ بنفسجيّ وأرجوان، وصورة القضاء ومعها الأوريم (= النور) والتميم (= الكمال). صنع نسيجها القرمزيّ عاملٌ ماهر، وعليها حجارة كريمة كنقشِ الخاتم مرصَّعة في الذهب، صنعها نقّاش الجوهر ونقشت فيها للذكرى، أسماء أسباط بني إسرائيل" (سي 45: 6-11).

اهتمَّ ابن سيراخ بالكهنة في مديحه. فتكلَّم وأطال الكلام عن هارون. وبعد ذلك سيأتي ابنه فنحاس "الثالث في المجد بعد موسى وهارون" (سي 45: 23). وفي ف 50، سوف يصوِّر لنا سمعان الكاهن الأعظم: "كم كان رائعًا عند خروجه من وراء حاجب الهيكل. كان مثل كوكب الصبح بين الغيوم، أو البدر عند تمامه، أو الشمس المشرقة على هيكل العليّ" (آ5-7).

أمّا نحن فنتوقَّف عند شخص هارون: هو الوسيط بين الله والشعب. ومعه أقام الله عهدًا. هو الذي اختاره الربُّ ومسحه بالزيت المقدَّس. وأخيرًا، هو الذي يعضده الله في وجه الخصوم والحسّاد. بما أنَّه سلَّم أمره إلى الربّ، فالربُّ لا يتخلّى عن أتقيائه. بما أنَّ لا حصَّة له في أرض الربّ، وبما أنَّ حصَّته هي الربّ، فكم يكون غنيًّا: "فأنت يا ربُّ صالح وغفور، وكثير الرحمة لكلِّ من يدعوك" (مز 86: 5).

1. أقام معه عهدًا مؤبَّدًا

العهد هو اتِّفاق بين اثنين، بين فرد وفرد، بين جماعة وجماعة. العهد رباط بين الله وشعبه. وهنا بين الله وكاهنه، هارون. الله يساعد كاهنه، والكاهن يكون في خدمة الله. كان عهد منذ البداية بين الله وآدم: جعله في الجنَّة وطلب منه التعلُّق به والسماع له وحده. ففضَّل أن يستمع إلى الحيَّة، إلى إبليس، ليكون "إلهًا" بجانب الله. وهذا نقض العهد ولبث الناس في حالة ضياع إلى أن جاء نوح، فتجدَّد العهد: "أثمروا واكثروا واملأوا الأرض" (تك 9: 1). ذاك ما سبق وقاله الله حين خلق الإنسان، رجلاً وامرأة (تك 1: 28). وسوف ننتظر موسى: "هوذا دم العهد الذي قطعه الربُّ معكم على جميع هذه الأقوال" (خر 24: 8). وأوَّلها الوصايا. "أنا هو الربُّ إلهك لا يكن لك إله غيري... اذكر يوم السبت لتقدِّسه... أكرم أباك وأمّك لكي تطول أيّامك على الأرض..." (خر 20: 2ي). ولكنَّ هذا العهد نقض. ولو نعرف من نقضه؟ هارون. مضى موسى إلى الجبل، وأقام هناك وأطال القيام، فصنع هارون تمثالاً للشعب وهكذا تجاوز الوصيَّة الأولى التي تسند كلَّ الوصايا. فأجبر موسى على كسر لوحي الوصايا. ولكنَّ الربَّ لا يبقى على غضبه. ولهذا تجدَّد العهد.

أجل، خطئ هارون. وقيل إنَّه خاف من ثورة تقوم عليه. فخوفه يشبه خوف بطرس أمام جارية تسأله إن كان يعرف يسوع: "أنا لا أعرفه، يا امرأة" (لو 22: 57). وكما الربُّ غفر لبطرس، غفر لهارون أيضًا. فقال فيه المدراش، الذي هو درس وتأمُّل في النصوص الكتابيَّة: كانت نيَّة هارون صالحة، وحين طلب "أقراط الذهب التي في آذانهم" (خر 32: 3)، أراد أن يربح بعض الوقت إلى أن ينزل موسى. فكانت الخلاصة أنَّ هارون ضحّى بخلاص نفسه من أجل شعبه، على مثال بولس الرسول الذي يقول في الرسالة إلى رومة: "وإنّي أتمنّى لو كنتُ أنا ذاتي محرومًا ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي في الجسد" (رو 9: 4). وسوف يحدِّث الربُّ موسى في المدراش فيقول له: "عرفتُ كم كانت نيَّة هرون طيِّبة" (ط و ب ه). ونقرأ فيما بعد كلام الربِّ لهارون نفسه: "أعرف، يا هارون، ما كان قصدك الحقيقيّ. بحياتك لن أسلِّم إلاَّ لك ملء السلطان على الذبائح التي يقدِّمها لي أبنائي". من هنا الأمر الإلهيّ: "قرِّبْ إليك هارون". أين قال له هذا؟ "في المسكن المقدَّس".

ومرَّت الأيّام، وكان وقت قُطع العهد مع الملوك ولاسيَّما مع داود: "يكون بيتك وملكك ثابتين على الدوام أمام وجهي، وعرشك يكون راسخًا إلى الأبد" (2 صم 7: 16). ولكن سقطت الملكيَّة ودُمِّرت أورشليم وأُحرق الهيكل، ومضى الشعب إلى المنفى. ولكنَّ الربَّ عاد فقطع عهده مع "الكهنة" وعلى رأسهم هارون. كان التاج للملوك فانتقل إلى الكهنة. كان الملوك يُمسحون بالزيت، وها هو هارون وأبناؤه يُمسحون بالزيت المقدَّس. هم تسلَّموا قيادة الشعب، ولبسوا الثياب الملوكيَّة، لا لكي يرتفعوا فوق الشعب، بل ليفهموا مهمَّتهم الجديدة من أجل شعب الله.

ماذا وهب الربُّ لهارون؟ أوَّلاً القداسة. انفصل الكاهن عن العوامّ. هو مأخوذ من الشعب، ولكنَّه يُفرَز من أجل الله. فتمنَع عليه أمور كثيرة بحيث يبقى طاهرًا ويكون دومًا مستعدًّا للاقتراب من الله. هو يبتعد عن الأوساخ بحيث لا يرى الربّ فيك قذارة فيرجع عنك (تث 23: 14). ويبتعد عن الأمراض ولاسيَّما البرص، كما يبتعد عن الفساد. فالكاهن لا يلمس جثَّة ميت. فإذا كان المؤمن "نجسًا سبعة أيّام" (عد 19: 11)، فماذا يكون الكاهن؟

ولكن أبعد من القداسة الخارجيَّة والنظافة التي تلامس الجسد، هناك الطهارة الخلقيَّة، الداخليَّة: "كونوا قدّيسين لأنّي أنا الربُّ إلهكم قدّوس" (لا 19: 1). وقال القدّيس بطرس للكهنة: "كونوا مثالاً للرعيَّة" (1 بط 5: 3). ووعدهم: "ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يَبلى" (آ4).

ووهب الربُّ هارونَ البركة. له ولأبنائه. فهم الذين يباركون الشعب، ولاسيَّما في نهاية الاحتفالات: "وكلَّم الربُّ موسى فقال: قُل لهارون وبنيه: بمثل هذا تباركون بني إسرائيل وتقولون: يبارككم الربُّ ويحفظكم، يضيء الربُّ بوجهه عليكم ويرحمكم. يرفع الربُّ وجهه نحوكم ويمنحكم السلام" (عد 6: 25-26). ويضيف الشارح: في كلِّ أشغالك، في الليل وفي النهار. فالكاهن هو من يوصل بركة الله إلى الشعب. ويحمل صلوات الشعب وقرابينه إلى الله. هكذا يكون الوسيط، لا لأنَّه اختار نفسه، بل لأنَّ الله اختاره في هذا قالت الرسالة إلى العبرانيّين: "وما من أحد يتولّى مقام رئيس كهنة إلاَّ إذا دعاه الله كما دعا هارون" (عب 5: 4).

2. كرَّس موسى هارون

ويواصل ابن سيراخ مديحه لهارون: "وكرَّس موسى أخاه هارون، ومسحه بالزيت المقدَّس، فصار ذلك عهدًا أبديًّا له ولذرِّيَّته ما دامت السماء، ليخدم الربَّ ويمارس الكهنوت ويبارك شعبه باسمه" (سي 45: 15).

هناك أوَّلاً الاختيار. القبائل اثنتا عشرة، ولكنَّ الربَّ اختار قبيلة لاوي. والعشائر عديدة ولكنَّ الربَّ أخذ موسى ورفعه. هل كان أهلاً لذلك؟ هذا ما لا يقوله الكتاب. وفي أيِّ حال، اختيار الله هو دائمًا مجّانيّ. ولنا مثال على ذلك في اختيار داود ملكًا. رأى صموئيل أخاه الأكبر أليآب: منظره حلو، قامته طويلة مثل شاول. أجاب الربُّ أنَّه "لا ينظر كما ينظر الإنسان. فالإنسان ينظر إلى المظهر، أمّا الربُّ فينظر إلى القلب" (1 صم 16: 7). فالقلب هو مركز العاطفة والإرادة والقرار. ولهذا اختار "الصغير الذي يرعى الغنم" (آ11). يحتقره إخوته. لا فائدة منه في الحرب، فليمضي وراء القطيع. وإلى هناك مضى الربّ.

الربُّ اختار وموسى أطاع الربَّ حين "كرَّس" هارون، حرفيّا: ملأ له يديه. ذاك ما يقول سفر الخروج: "تلبس هارون أخاك... وبنيه معه، وتمسحهم، وتملأ أياديهم، وتقدِّسهم ليكونوا لي كهنة" (خر 28: 41). يملأ الربُّ يد كاهنه،، فيُعطي ممّا أُعطي له. يده هي للبركة والصلاة، لا للعنف. فيقول الرسول: "رافعين أيديًا طاهرة من غير غضب ولا خصام" (1 تم 2: 8).

المسحة بالزيت لها رموز عديدة. الزيت هو العطر. فالكاهن هو رائحة المسيح الطيِّبة (2 كو 2: 15). والزيت يعدُّ الإنسان "للقتال". فالكاهن محارب يدافع عن خرافه، ويعرِّض نفسه للخطر ولا يخاف. هو بعيد جدًّا عن الأجير الذي يهرب من "الذئب" الذي ينهش القطيع.

في "المدراش" قيل: طوبى لمن تختار وتستقبل في حضرتك: "من وسط بني إسرائيل... من وسط بني إسرائيل اختار قبيلة لاوي، ومن قبيلة لاوي اختار هارون كما قيل في 1 صم 2: 28: "اخترتك من كلِّ قبائل إسرائيل". وهكذا يكون هارون هالة القداسة في وسط شعبه. هل يتميَّز بالقداسة؟ الله وحده يعرف. وفي أيِّ حال، سيقول موسى لامرأته صفورة: أنتِ خفتِ أمام الربِّ برهة قصيرة، فكيف يجب أن أكون وأنا دائمًا في حضرة الربّ.

ويروي سفر الخروج مطوَّلاً كيف يتمُّ تكريس هارون. بعناصر نكتشفها إلى الآن في رسامة الكهنة، ولاسيَّما في الطقوس السريانيَّة المختلفة: "هذا ما تصنعه لهارون وبنيه حتّى تكرِّسهم كهنة لي" (خر 29: 1). "تأخذ عجلاً..." ثمَّ "خبز فطير...". "وتقدِّم هارون وبنيه إلى خيمة الاجتماع وتغسلهم بالماء" (آ4). لا حاجة اليوم إلى كلِّ هذا، سوى أهمِّيَّة الطهارة التي يجب أن يتحلّى بها الكاهن. ويأتي دور "الدم" (آ12) الذي يُؤخَذ من الذبيحة. ولكنَّ اليوم لنا دم المسيح، كما تحدَّثت الرسالة إلى العبرانيّين: لا حاجة بعد إلى دم التيوس والعجول (عب 9: 12) فدم المسيح الذي سُفك مرَّة واحدة "كسب لنا الخلاص الأبديّ". "فدمُ المسيح الذي قدَّم نفسه إلى الله بالروح الأزليّ قربانًا لا عيب فيه، هو يطهِّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ" (آ14).

ولماذا هذه الرسامة لهارون؟ ثلاثة أهداف. أوَّلاً، خدمة الربّ التي تكون في تقريب المحرقة والبخور والرائحة الطيِّبة، هي ممارسة الطقوس إكرامًا لله، كما نقرأ في التقاليد الكهنوتيَّة. لهذا طلب الربُّ من موسى أن "يصنع مذبحًا لإيقاد البخور، من خشب السفط وأن يغشِّيه بالذهب" (خر 30: 1، 3). وهذا البخور يكون عطرًا كما نفعل اليوم في استقبالنا ضيفًا كبيرًا. ثانيًا، ممارسة الكهنوت الذي يقوم، في ما يقوم، بواجب التعليم. نقرأ مثلاً في خر 24: 7 كيف أخذ (موسى) كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا: "كلُّ ما تكلَّم به الربُّ نسمع له ونفعل". ونقرأ في سفر التثنية: "أنصت واسمع، يا إسرائيل، اليوم صرتَ شعبًا للربِّ إلهك. فاسمع لصوت الربِّ إلهك، واعمل بوصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم" (تث 27: 9-10). ويتحدَّث حزقيال النبيّ عن هؤلاء الكهنة الذين "يتقدَّمون إليَّ ليخدموني، ويقفون أمامي، ويدخلون مقدسي..." (خر 44: 15ي). ويواصل: "ويُرون شعبي التمييز بين المقدَّس والمحلَّل، ويعلِّمونهم التمييز بين النجس والطاهر. وفي الخصام هم يقفون للحكم، ويحكمون حسب أحكامي، ويحفظون شرائعي وفرائضي في كلِّ مواسمي" (آ23-24). ثالثًا، مباركة الشعب باسم الربّ، في البيوت، في الحقول، في الأعمال، على البيادر والمعاصر. فحيث يكون الشعب هناك يكون كهنته وأوَّلهم هارون.

هنا نورد بعض ما قاله يعقوب السروجيّ العائش في القرن الخامس، في كلامه عن هارون. نسمعه يكلِّم ابنه الكاهن إلعازار: "الله الذي وقفتُ أمامه بالنقاوة والقداسة، هو يبارك شبابك، يا ابني، ويهبك مراحمه قدَّام الشعب... الجبّار الذي بإشارة منه أتى كلَّ شيء إلى الوجود، هو يهب لك الضمير الذي به يرضى الله... ذاك الذي منحني الكهنوت فوقفتُ قدّامه بالنقاء، هو يهب لك أن تغفر الخطايا والذنوب ويتقبَّل من يديك العطر النقيّ والمقدَّس".

ويتواصل الكلام إلى الكاهن: "إليك يستمع اللاويّون وبإشارة منك يسيرون. ويخاف الشعب قدّامك ولا يعصون كلمة من فمك. منك يأخذ بنو إسرائيل الشرائع والوصايا، وفي كلِّ أجيال العالم يخرج خبرُ كهنوتك. ويكون لك الربُّ رفيقًا وحارسًا في كلِّ وقت، وهو يأتمنك على الكهنوت الذي يُريح لاهوته".

3. الربُّ زاد كاهنه عزَّة

ونصل إلى حقبة ثالثة في حياة هارون يشير إليها سفر العدد. قال ابن سيراخ: "حسده الغرباء وتآمروا عليه بمنتهى الغضب... ورأى الربُّ ذلك واستاء... لكنَّه زاد هارون عزَّة، فخصَّه مع الكهنة ببواكير ثمار الأرض" (سي 45: 18-20).

ذكر ابن سيراخ أوَّلاً "داتان وأبيرام". هما ابنا إليآب من قبيلة رأوبين. رفضا الكهنوت وقالا: "الجماعة كلُّهم مكرَّسون للربّ، والربُّ فيما بينهم، فما بالكم تتكبَّرون على جماعة الربّ" (عد 16: 3). لا شكَّ في أنَّ الكاهن لا يتكبَّر على إخوته، ولا يحاول أن يسود عليهم. فالربُّ قال لتلاميذه في يوم من المزاحمة على المراكز الأولى: "تعلمون أنَّ رؤساء الأمم يسودونها، وأنَّ عظماءها يتسلَّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم. بل م أراد أن يكون عظيمًا فيكم، فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون الأوَّل فيكم، فليكن لجميعكم عبدًا" (مر 10: 42-44).

اتُّهم هارون. واتُّهم معه أخوه موسى والحلقة الكهنوتيَّة. قالوا لهم: تعاملتم معنا بالقشِّ لا بالحقّ. "أقليل أنَّك أخرجتنا من أرض مصر التي تدرُّ لبنًا وعسلاً لتقتلنا في البرِّيَّة، والآن تترأَّس علينا أيضًا؟... أفتحسب أنَّ هؤلاء القوم عميان؟" (عد 16: 12-14).

ما كان هارون وحده من يُتَّهم كذبًا ويُظلم. ويسوعنا اتَّهموه. ومثله بولس الرسول والعدد الكبير من الكهنة الذين نعرف. ولكن كما يقول الإنجيل: لا خفيّ إلاَّ سيظهر. وفي النهاية، الله هو من يدافع عن أحبّائه. يخبِّئهم بظلِّ جناحيه. قال المرتِّل: "من يقيم في حمى العليّ، وفي ظلِّ القدير يبيت، يقول للربّ: أنت حصني وحماي، أنت إلهي الذي عليت أتَّكل" (مز 91: 1-2). فيقال له: "ينجِّيك من فخِّ الصيّاد... بريش جناحيه يظلِّلك وفي كتفه تحتمي" (آ3-4).

روى سفر العدد ما نال داتان وأبيرام من عقاب: "انشقَّت الأرض وابتلعتهم هم وعيالهم" (عد 16: 31-32). وأوجز ابن سيراخ ما حصل: "أنزل الربُّ عجائب وأفناهم بنار لهيبه" (سي 45: 19). ونحن لا ننسى أنَّ النار تدلُّ على حضور الله وعقابه، ربَّما يعود الخاطئ إلى التوبة.

وذكر ابن سيراخ قورح. هو لاوي من بني قهات. ثار لأنَّ هارون استأثر بالكهنوت فدعاه موسى مع جماعته ليسمعوا حكم الربّ: "يأخذ كلُّ واحد مجمرته ويلقي فيها بخورًا ويقدِّمها أمام الربّ" (عد 16: 17). وكان نصيب الذين ثاروا حريقًا في النار. أمّا الآخرون فتشفَّع لهم هارون فنجوا من الموت.

معجزتان سلبيّتان انتهتا في موت العاصين. أمّا المعجزة الثالثة، فتكون في إظهار كرامة هارون بحيث يكفُّ اللوم عنه (عد 17: 25). ماذا حصل؟ طلب موسى من كلِّ سبط أن يعطي رئيسه عصا فيضعها مع عصا هارون "أمام الربِّ في خيمة الشهادة" (آ21). فتدخَّل الربُّ من أجل كاهنه. "وفي الغد دخل موسى خيمة الشهادة فوجد أنَّ عصا هارون التي هي لسبط لاوي، أفرخت فأخرجت براعيم، وأزهرت وأنضجت لوزًا" (آ23).

وهكذا مجَّد الربُّ هارون كاهنه. كما يمجِّد كهنته في كلِّ آنٍ وزمان، وما أحلاهم إن تحلَّوا بالقداسة وعاشوا الأمانة للربِّ الذي آمن بهم وسلَّمهم الوديعة التي يحفظونها في مجيء ربِّنا.

ونعود هنا إلى يعقوب السروجيّ الذي يسمعنا موسى وهو يودِّع أخاه: "امضِ بالسلام أيُّها الكاهن المحبوب في بيت الله. امضِ بالسلام يا كاهنًا أصعد ذبائح سلاميَّة. امضِ بالسلام يا كاهنًا أتمَّ مشيئة ربِّه. امضِ بالسلام يا كاهنًا غفر خطايا الشعب".

الخاتمة

هكذا بدا وجه هارون الكاهن. كان بقرب أخيه موسى فحمل كلمة الربِّ عن أخيه، لأنَّ موسى اعتبر نفسه ثقيل اللسان. مضى موسى إلى فرعون وهارون مضى معه، وفي البرِّيَّة لم يفترق الأخوان في خدمة الشعب. وكانت آخر مرَّة حين طلب الشعب ماء ليشرب. قال موسى: "اسمعوا أيُّها المتمرِّدون، أنُخرج لكم من هذه الصرخة ماء؟" (عد 20: 10). ارتاب موسى وارتاب أخاه هارون. هي تجربة تصيب الكاهن في أواخر حياته حين يتعب من التذمُّر والصعوبات التي تحيط به. قال الربُّ وهو يؤنِّب موسى وهارون: "بما أنَّكما لم تؤمنا بي إيمانًا يظهر قداستي على مرأى بني إسرائيل، لذلك لا تُدخلان أنتما هؤلاء الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها لهم" (آ12). ولكن في النهاية، نال هارون المديح، وموسى دفنه الربُّ "بيده" في الوادي، في أرض موآب (تث 34: 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM