الفصل الرابع عشر: صعود يسوع

الفصل الرابع عشر
صعود يسوع
1: 1- 11
تتحدث آ 2، 9- 11 وحدها عن الصعود. ولكن الليتورجيا تسمعنا المقطع كله. فالنص لا يروي الصعود لذاته، بل يدخله في إطار أوسع تشكله آ 1- 14. إذن، نبدأ فنعرض هدف الكاتب في هذه الآيات، ونفسّر آ 1- 8، قبل أن نتفحّص المعنى الذي تنسبه هذه القرينة إلى خبر الصعود (آ 9- 11).
أ- من يسوع إلى الرسل بالروح (آ 1- 14)
قبل أن يطلق الكاتب القسم الثاني من خبره، يذكر نقطة وصوله في كتابه الأول (آ 1- 2) ويتوسّع في الوقت عينه في رواية الأحداث الأخيرة: أحاديث يسوع القائم من الموت مع رسله، التعليمات التي أعطاهم (آ 3– 8؛ رج لو 24: 44- 49). صعوده (آ 9– 11؛ رج لو 24: 50، 51- رجوع الرسل إلى أورشليم (آ 12- 14؛ رج لو 24: 52- 53).
كان هدف هذه الشميلة الغنية أن يهيئ القارئ إلى ما سيتبع ليُظهر أولاً شخص يسوع (آ 1). وحالاً يتوجّه انتباهنا إلى "الرسل" الذين سنعرف أسماءهم في اَخر القطعة (آ 13). إنهم، بشكل من الأشكال، الشهود الوحيدون لأعمال يسوع وأقواله الأخيرة. إذن، يبدو الكاتب مهتماً بالتشديد على مميّزات الحلقة الرسولية: إنها مستودع حقيقي لوعد ورسالة القائم من الموت.
إن تأثير هذا الموضوع على الكتاب كلّه أمر واضح. فكل التوسّعات المتعاقبة في حياة الكنيسة، وهي توسعات ترتبط بسلطة هذه المجموعة المميّزة (يفكر الكاتب بامتداد الرسالة إلى الوثنيين)، تتأسّس شرعيأ على سلطة الرب القائم من الموت.
بين شخص يسوع ومجموعة الرسل، يتغلغل على دفعات متكررة شخصٌ آخر: هو الروح القدس (آ 2، 4، 5، 8). إنه يربط الرب الذي سيترك أخصّاءه عمّا قريب، بالكنيسة الرسولية التي تنتظر قوة الروح لتكون شاهدة المسيح إلى أقاصي الأرض. إذن، سيكون على القارئ أن يكتشف في مسيرة التاريخ، عملَ الروح الذي سيوجّه الأمور. وهذا العمل يكفل لنا أن مراحل إنتشار الكنيسة، وبالأخص الكرازة للوثنيين، ليست وليدة الصدفة ولا تلبية لرغبة بشرية، بل تنفيذأ لبرنامج أعدّه مسبقاً يسوعُ القائم من الموت (آ 8).
ب- الكتاب الأول و"أبطاله" (آ 1- 2)
يشير الكاتب بإيجاز إلى مضمون كتابه الأول الذي نسميّه "الإنجيل بحسب لوقا". ويذكر الممثلين الرئيسين الثلاثة: يسوع والرسل (يشير إلى اختيارهم. رج لو 6: 12- 16) والروح القدس؛ ويحدّد أيضاً أن خبره الأول صوّر نشاطهم منذ البدء (رج لو 3: 23). أي من عماد يسوع على يد يوحنا وحلول الروح القدس، إلى اليوم الذي فيه انفصل يسوع عن أخصائه ورُفع إلى السماء (لو 24: 51).
وسنجد "أبطال" الإنجيل الثلاثة في أع، ولكن مع دور مختلف. فعلى الرسل منذ الآن أن يعلّموا (2: 42؛ 4: 2؛ 5: 42...) أن يُجروا أعمالاً تدلّ على قدرة الله (4: 33). وسيعطي الروحُ القدس الزخمَ الداخلي لكل عمل رسولي (1: 5؛ 2: 4؛ 4: 28، 31؛ 8: 29). أما يسوع فسيكون موضوع الكرازة الرسولية وقلب حياة المؤمنين (4: 33؛ 7: 55؛ 8: 35؛ 9: 20...)
ج ـ تعليمات يسوع الأخيرة (آ 3- 8)
لمّح الكاتب في آ 2 إلى تعليمات أعطاها يسوع لرسله قبل أن ينفصل عنهم (رج لو 24: 47- 49). يتيح له هذا التلميح أن يرسم الإطار اللاهوتي الذي فيه تتسجّل الأخبار الجديدة؛ إذن، هو يُلقي نظرة إجمالية إلى نشاط الرب بعد قيامته (آ 3)، ويدوّن خطبتين من خطبه (آ 4- 5، 6- 8) تشدّدان على العمل الذي سيمارسه الروح في التلاميذ (آ 5، 8).
إذا عدنا إلى خاتمة الإنجيل (لو 24: 36- 51) نرى أن الحياة المشتركة بين الرسل ويسوع القائم من الموت لم تدُم طويلاً. ولكن لوقا يتكلّم في أ ع 1: 3 عن أربعين يوما. فيصوّر هذه الحقبة على أنها الملء والكمال. أتاح هذا الوقت للرسل أن يتيّقنوا (مع براهين عديدة) من القيامة، أن ينالوا من يسوع كل التعليم المطلوب عن ملكوت الله. لا يدلّ الملكوت هنا على الكنيسة، بل على هذه المرحلة الأخيرة من تاريخ الخلاص، التي أنبأ بها الأنبياء، ودشّنها موت الرب وقيامته وفيض الروح (8: 12؛ 14: 22؛ 19: 8؛ 23: 28). وهكذا يبدو الرسل مجموعة هيّأها يسوع لتشهد لقيامته ولتُعلن ملكوت الله.
أول تعليمة من تعليمات يسوع للرسل (آ 4- 5) هي أمره لهم أن لا يبرحوا أورشليم ("خلال طعام شاركهم فيه"، آ 4. نستطيع أن نترجم: حين جمعهم حوله، وهذا ما يلمّح إلى إعادة تنظيم المجموعة التي شتتها موت يسوع. يصوّر لو 24: 33- 34، 53 نتيجة هذا التجمّع). هذا ما كان قد قاله في لو 24: 47- 49. يدلّ هذا التكرار على الرباط بين حضور الرسل في المدينة وأول ظهور لـ "وعد الآب"، الذي هو المعمودية في الروح القدس (2: 33- 39).
كانت أورشليم في قلب الأحداث الخلاصية في حياة يسوع (لو 1: 18– 23؛ 2: 22– 38، 41– 50؛ 4: 9؛ 9: 51– 53؛ 13: 33...)، وستكون أيضاً المركز الذي منه تشعّ البشارة. وهكذا يرتبط لوقا بكنيسة أورشليم الرسولية التي تعمّدت بالروح، فيبين شرعية التوسعات المتعاقبة التي عرفتها الرسالة (8: 14؛ 11: 22؛ 15: 1 ي). وإن كلمات يسوع في آ 5، وتحقيقها المذكور في 2: 1- 4 ستفيد بطرس ليرى في خبرة كورنيليوس وأخصائه الروحية، علامة أن الله وافق على قبول الوثنيين للعماد دون أن تفرض عليهم الممارسات اليهودية (11: 16).
ترتبط آ 6- 8 من الوجهة الأدبية بنص لو 24: 49. ولكنّها تهدف إلى إبراز مضمون موهبة الروح الذي تحدّثنا عنه في آ 4- 5. لا تعني هذه الموهبة الإقامة النهائية للملكوت الإسكاتولوجي (آ 6) الذي حدّد الأب وقت مجيئه (آ 7)، بل عمل شهادة يصل إلى الآخرين بقوة الروح القدس. كيف سينعش الروح بقدرته شهادة الرسل؟ سيمنحهم ظواهر مواهبية تُبرز منذ الآن عمل الله الخلاصي (2: 15- 21، 33؛ 5: 32...). ويعطيهم الشجاعة والجرأة (حرّية التكلّم) الضروريتين لكل شاهد (2: 4، 14؛ 4: 31؛ 7: 55- 56). وهذه الشهادة تعني بصورة خاصة قيامة المسيح (1: 22؛ 2: 32؛ 4: 33) التي سيعلنونها حتى "أقاصي الأرض". هذه العبارة المقولبة التي أخذها لوقا من التوراة اليونانية (رج أش 8: 9؛ 48: 20؛ 49: 6؛ 62: 11؛ مز 134: 7؛ إر 6: 22...) تدلّ على الشمول المطلق الذي يطمح إليه التعليم الإنجيلي. تعود العبارة نفسها في 13: 47 (رج أش 49: 6) لتدلّ على أنه يجب علينا أن نتجاوز كلّ حاجز اجتماعي أو عرقي لنبشّر الوثنيين بالإنجيل (13: 46). وستكون الكنيسة قد حصلت ضمناً على هذه الشمولية ساعة يعلن بولس "بجرأة وبدون عائق" يسوع المسيح في رومة، مركز العالم آنذاك (28: 31).
د- وغاب يسوع عن أنظار رسله (آ 9- 11)
بدا لوقا وهو يصور الصعود، كأنه يشدّد على الطريقة التي بها انفصل يسوع عن أخصائه، لا كأنه يتحدّث عن تمجيد الرب. فهو لا يستعمل كلمات أع وسائر أسفار العهد الجديد التي تشير إلى ارتفاع يسوع المجيد (رج2: 33؛ 5: 31؛ 7: 55؛ لو 24: 52؛ 1 تم 2: 16...). مقابل هذا، يشدّد على ما يدلّ على البعد في المكان: ارتفع يسوع إلى السماء، فغاب عن أنظار الرسل وعن هذا العالم، وكأنه مسافر ذهب إلى بلد بعيد. ولم يبتعد يسوع هكذا عن رسله إلاّ بعد أن "انتهى من الكلام"، وحين كانوا "يتبعونه بأنظارهم" (آ 9). إذن، ظلّوا قربه حتى ساعة الإنفصال (نجد تلميحاً إلى إيليا واليشاع. لقد شارك التلميذ في الروح النبوي الذي كان في معلمه، 2 مل 2: 1- 15). نقدر أن نرى تلميحاً لطيفاً إلى تمجيد يسوع مع "الغمامة" التي ترافق الظهورات (التيوفانيات) عادة في العهد الجديد (لو 21: 27؛ 1 تس 4: 17) وفي العهد القديم (خر 13: 21– 22؛ 24: 15- 18). غير أن وظيفة الغمامة هنا هي أن تحجب يسوع بطريقة نهائية عن أنظار رسله. لقد انتهى زمن حضور يسوع الجسدي وسط أخصائه، وانفتحت حقبة جديدة في تاريخ الخلاص.
ولكن لم يأتِ بعدُ وقتُ ظهور الملكوت المجيد. ما أعلنه يسوع في هذا الشأن (آ 7) سيقوله بدورهما، "رجلان في ثياب بيضاء". لا شك في أن حضورهما يحيط بالمجد حدثَ هذا النهار. هذا ما حصل صباح القيامة. ظهر رجلان "في ثياب برّاقة"، وأعلنا للنسوة قرب القبر: "لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ إنه قام" (لو 24: 4). ولكن كلامهما لا يهدف إلى الاحتفال بمجد يسوع، بل إلى تقديم تحذير إلى الكنيسة: لا فائدة من البحث في آيات سماوية تنبىء بمجيء يسوع القريب (2 تس 2: 2– 3؛ 2 بط 3: 4). يجب على الرسل أن لا يشكّوا أن يسوع "سيعود" كما رأوه صاعداً إلى السماء، أي بوضوح وبآيات قدرة تضمَّنَ الصعودُ إلى السماء بذارها (1 تس 4: 16؛ 2 تس 1: 7- 8).
هـ- بُعد الخبر في الكنيسة
يُصوَّر الصعود في هذا المقطع وفي لو 24: 51 حيث ينهي يسوع حياته على الأرض ببركة "قدسية" (رج سي 50: 20) تدفع أخصّاءه إلى السجود والفرح وإنشاد تسابيح الله في الهيكل (لو 24: 52- 53؛ رج سي 50: 21- 23). إلاّ أننا نجد في العهد الجديد مقاطع أخرى تلمّح إلى صعود يسوع إلى السماء: يو 3: 13: "ما صعد أحد إلى السماء إلا إبن الإنسان الذي هو في السماء ونزل من السماء"؛ 6: 62: "فكيف لو رأيتم إبن الإنسان يصعد إلى حيث كان من قبل"؛ 20: 17: "أنا صاعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم"؛ روم 8: 34: "المسيح هو الذي مات، بل قام، وهو الذي عن يمين الله يشفع لنا"؛ أف 4: 10: "وهذا الذي نزل هو نفسه الذي صعد إلى ما فوق السماوات كلها ليملأ كل شيء"؛ 16:3: "آمن به العالم ورفعه الله في المجد"؛ عب 4: 14: "يسوع هو كاهن أعلى اجتاز السماوات"؛ 1 بط 3: 22: "يسوع المسيح الذي صعد إلى السماء، وهو الآن عن يمين الله تخضع له الملائكة والقوات وأصحاب السلطان".
تسيطر على هذه النصوص الوجهة الكرستولوجية: إن يسوع يشارك الآب مشاركة تامّة في مجده. غير أن أع 1: 9- 11 ينظر إلى الصعود من الوجهة الكنسية (نتائج انفصال يسوع عن أخصائه بالنسبة إلى الكنيسة). إنه يدلّنا على العبور من زمن المسيح إلى زمن الرسل والكنيسة. لقد انتهى حضور يسوع المنظور وسط البشر. منذ الآن، سيكون الرسل الشهود المميّزين، ومستودع كلمة الرب ووعده. بهم يتعلّق إعلان ملكوت الله: وهذا الملكوت لا يظهر في المجد في القريب العاجل، لأن واجب الكنيسة أن تشهد للقيامة في الأرض كلها. هذه هي وجهة السر التي يجب على الكرازة أن تبرزها اليوم.
هناك من يتوقف على الوجهة "المكانية" في هذا النص: يجلس الله في الأعالي التي فوق الأرض، ويذهب المسيح إليه، "صاعداً إلى السماء". ولكن، هل يستطيع لوقا أن يتصّور الأمور بطريقة أخرى في أيامه؟ ثمّ إن إيجاز التصوير وإبراز البعد الكنسي للوقائع، يدلاّن على اهتمامه الأساسي: إنذار الكنيسة بواجب الشهادة وإعلان البشارة إلى عالم اليوم.
إذا كنّا، بفضل عطية الروح، في تواصل تام مع كنيسة الرسل، علينا أن نقاوم تجربتين تعترضاننا: تحسّر عقيم على الماضي، نظرة سرابية إلى المستقبل. فالماضي مهما كان جميلاً قد مضى ولن يعود. فلا نستطيع بعد اليوم أن نتّحد بالمسيح إلا بواسطة الرسل الذين وعدهم يسوع بروحه. ومن جهة أخرى، إن وقت ظهور الملكوت المجيد وتأثيره على واقع العالم هما سرّ الآب. فيبقى علينا أن نتمّ المهمة الملقاة علينا في الزمن الحاضر، ونحن متأكدون أن الرب الذي صعد إلى السماء سيظهر في الوقت المحدّد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM