كاهنك الذي خدم أسرارك

(زمن الصوم، حياتنا الليتورجيّة، 2010)

كاهنك الذي خدم أسرارك

الخوري بولس الفغالي

 

بهذه العبارة يصلّي الكهنة والمؤمنون من أجل الكاهن الذي ينتقل من هذه الحياة ليلاقي الربَّ يسوع الآتي ليمنحه جزاء الخادم الأمين. فالكاهن خدم أسرار الربِّ المقدَّسة، وانتقل من خدمة إلى خدمة، ومن عمل على الأرض إلى عمل في السماء، لأنَّ التقاليد الدينيَّة تعتبر أنَّ الهيكل الأرضيّ صورة عن الهيكل السماويّ. والربُّ أهَّله لأن يحمل جسده ودمه بين يديه، ويوزِّع أسراره الإلهيَّة على المؤمنين، كما أهَّله لأن يغفر الخطايا ويمنح الحلَّة للتائبين ويعزّي الحزانى ويبارك المرضى. ذاك هو عمل الكاهن الأساسيّ على ما طلب منه يسوع في الإنجيل: يكون "الخادم الأمين العاقل الذي أوكل إليه سيِّده أن يُعطي خدمه طعامهم في حينه" (مت 24: 45). أمّا كلامنا هنا في سنة الكهنة هذه فيتوزَّع في ثلاث محطّات: من هو الكاهن؟ عمله في الأسرار هو امتداد عمل المسيح الذي يأخذ فمنا لكي يتكلَّم به، ويدنا لكي يبارك بها، وقلبنا لكي يحبَّ به. وأخيرًا، كما المسيح أعدَّ الآتين إليه لقبول الشفاء والتجاوب مع نداء المؤمن، كذلك يفعل الكاهن حين يمنح الأسرار الإلهيَّة لشعب المؤمنين: يرافق كلَّ واحد، يوصله إلى المسيح، يدعوه إلى مائدة الكلمة ومائدة القربان، يقوده إلى التوبة والحياة مع الله.

  1. أنت كاهن إلى الأبد

حين يرتسم الشمّاس كاهنًا، يجعل الأسقف على رأسه الخبز والخمر فيزيِّحهما في الكنيسة، لكي يفهم المؤمنون دور الكاهن في تكريس الخبز ليصبح جسد الربّ، وتكريس الخمر لكي يكون دم الربّ. هذا أمرٌ لا يفعله سوى الكاهن الذي يختاره الربُّ من بين الناس لكي يكون في ما هو لله، "ليقدِّم القرابين والذبائح تكفيرًا عن الخطايا" (عب 5: 1).

من هو الكاهن؟ نتذكَّر أوَّلاً أنَّ الكهنوت لم يبدأ مع المسيحيَّة. فقد رافق الإنسان منذ أراد الاتِّصال بالله. فالكاهن في العالم اليونانيّ هو "هيارايس hiereis" ويقيم في الهيكل "هيارون hieron". فالهيكل هو مقام الآلهة، منذ العالم المصريّ. وفي عالم الكتاب المقدَّس، الهيكل مركز حضور الله، على ما قال سليمان للربِّ حين دشَّن "البيت" الذي بناه له: "لتكن عيناك (يا ربّ) مفتوحتين ليلاً ونهارًا على هذا الهيكل، على الموضع الذي قُلتَ يكون اسمك فيه لتسمع صلاتي. واسمع إلى تضرُّع عبدك وبني إسرائيل شعبك الذين يصلّون شاخصين إلى هذا الموضع، واسمع أنت من مقامك في السماء، وإذا سمعتَ فاغفر" (1 مل 8: 29-30). اللقاء بالربِّ: "إليك، أيَّها الإله الحيّ، عطشتْ نفسي، فمتى أجيء وأرى وجه الله؟" (مز 41: 3). ولكن من يستقبل هؤلاء الآتين إلى الهيكل؟ الكاهن. هنا نتذكَّر ليتورجيَّة الدخول كما يرويها مز 118. يأتي المؤمن يطلب الحماية لدى الربّ، مثل عصفور بنى عشَّه في زاوية من سقف الهيكل. يهتف من الخارج: "افتحوا لي أبواب البرّ، فأدخل وأحمد الربّ" (مز 118: 19). البرُّ هو العمل بمشيئة الربّ، فالمؤمن يأتي حاجًّا إلى الهيكل، لأنَّ الربَّ يدعوه في الأعياد الكبرى. والبرُّ هو الصدق، كما يقول النصُّ العبريّ. فالربُّ هو الصادق في مواعيده ويطلب منّا الصدق.

ينادي المؤمن من الخارج، كما في هجمة العيد الكبير لدى بعض الطوائف. فيقول له الكاهن من الداخل: "هذا الباب هو باب الربّ، فلا يدخل فيه إلاَّ الصادقون" (آ20)، إلاَّ الأبرار الذين عاشوا في تقوى الربِّ وحفظوا وصاياه. يعلن المؤمن: "أحمدك (يا ربّ) لأنَّك أعنتني وكنتَ لي خلاصًا" (آ21). فيقول الكاهن من الداخل: "مبارك ذاك الآتي باسم الربّ". وحين يدخل الحجّاج، يرفع الكاهن يده: "نبارككم من بيت الربّ. الربُّ هو الذي أنارنا، زيِّنوا الموكب بالأغصان المورقة" (آ26-27). وينطلق الموكب مع الكاهن في المقدِّمة. هو "الإمام" منذ بدايات التاريخ، في الشعوب التي عرفت الذبيحة، في العالم اليهوديّ حتّى دمار الهيكل سنة 70ب.م. أمّا في المسيحيَّة، فذبيحتنا يسوع المسيح الذي أرسله الله كفّارة عن خطايانا وخطايا العالم كلِّه (1 يو 2: 3) "في دمه لكلِّ من يؤمن به" (رو 3: 25).

أجل، يقف الكاهن باسم المسيح، يستقبل شعب الله في بيت الله، هو القريب من الله، يسمع صوت الله ويُسمعه إلى شعب الله. على مثال صموئيل، والنائم قربَ تابوت العهد، رمز حضور الله في هيكله. والسراج المضاء في الليل يدلُّ على أنَّ الله هو الذي ينير الطريق. والسهر على هذا السراج رمز إلى استعداد الكاهن لقبول الكلمة ولو في قلب الليل. صموئيل، صموئيل. وهكذا الربُّ يدعو كاهنه إن عرف أن يكون ساهرًا، لا نائمًا مثل التلاميذ في بستان الزيتون.

في الكتاب المقدَّس، الكاهن هو يرتبط بالأقداس، فينادي المؤمنين قبل المناولة: الأقداس للقدّيسين. الأقداس التي بين يديه هي جسد المسيح ودمه. وهو يقدِّمها للقدّيسين، أي للمؤمنين المدعوّين إلى القداسة بفعل الإيمان المقدَّس، ذاك البذار الذي غُرس فينا وهو ينمو وينمو، يومًا بعد يوم. والكهنوت كرامة لأنَّه يجعل الإنسان عظيمًا بعظمة الله، على مثال ما أنشدت مريم: "تعظِّم نفسي الربّ. صنع بي عظائم، أنا أمته الوضيعة". وكذلك يقول الكاهن الذي هو "خادم" الربِّ وخادم الرعيَّة. وهذا شرف كبير له. تلك هي وظيفته، في المعنى الرفيع للكلمة. فهي عهد يأخذه الإنسان على نفسه، الربُّ يعيننا ونحن نشترط على نفوسنا بأن نكون على قدر الثقة التي يضعها الله فينا.

عمل الكاهن عمل مقدَّس. وهو يحمل في يديه ما هو مقدَّس: الخبز والخمر، الزيت، زيت العماد، زيت الميرون، زيت المسحة المقدَّسة. وأخيرًا يحمل الطعام من أجل العماد، كما حمل سمعان الشيخ الطفل الإلهيّ وهتف: "أطلقْ عبدك بسلام، فعيناي رأتا خلاصك" (لو 2: 29-30). هو الخلاص يصل إلى هذا المعمَّد، سواء كان طفلاً، شابًّا أو شابَّة. هذا الآتي إلى جرن العماد، يُولَد من جديد، يُولَد من الروح القدس، وكلُّ هذا بيد الكاهن. يا للشرف الكبير، ويا للمسؤوليَّة التي لا تقابلها مسؤوليَّةٌ على الأرض.

  1. بطرس عمَّد، يسوع عمَّد

ذاك كلام القدّيس أوغسطين حين أراد أن يهدِّئ روع المؤمنين حول خادم السرّ: "إذا كان الكاهن خاطئًا، ماذا يكون عن السرّ؟ هل يكون فاعلاً. بل إذا الكاهن سيطر عليه الخوف فأنكر المسيح أمام الاضطهاد، هل يصحُّ السرُّ الذي يمنحه للمؤمنين؟ فجاء كلام أسقف عنّابة (هيبّونة القديمة) قرب قرطاجة قاطعًا: بطرس عمَّد، يسوع عمَّد. يهوذا (أو: يوضاس) عمَّد، يسوع عمَّد. ففاعليَّة السرّ لا ترتبط بخادم السرّ البشريّ. فهذا يقوم مقام خادم السرِّ السماويّ يسوع المسيح. إنَّه الوكيل، لا الأصيل. وفي سرِّ العماد، هل يكون المسيح غائبًا، أم هو حاضر بنوع سرّيّ، خفيّ؟ هو الذي يدعو هذا الأخ وهذه الأخت للدخول إلى عيلة الله، عيلة الثالوث الأقدس. وفي القدّاس الإلهيّ، هل يتكلَّم الكاهن باسمه الخاصّ فيعطي المؤمنين جسده الخاصّ؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. بل هو يعطي فمه ليسوع المسيح الذي يعطينا جسده القائم من الموت ودمه المراق على الصليب.

أجل، لا جدال حول فاعليَّة السرِّ في حقبة الآباء، سواء قرأنا القدّيس إيرينّه، أسقف ليون في فرنسا، أو مقال ترتليان، ذاك الكاتب القرطاجيّ المميَّز، حول العماد. ونقرأ ما كتبه القدّيس يوستين، ابن نابلس في فلسطين في الدفاع الأوَّل (عدد 61): "هذا الاستحمام يُدعى استنارة، لأنَّ الذين يتلقَّون هذه العقيدة يمتلئ روحُهم نورًا. ويغتسل المستنير أيضًا باسم يسوع المسيح الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطيّ، وباسم الروح القدس الذي تنبَّأ في الأنبياء عن حياة يسوع بأسرها". وبالنسبة إلى الإفخارستيّا، قال يوستين: "لأنَّنا لا نتناول هذا الطعام كخبز عاديّ وشراب عاديّ. فكما أنَّ يسوع المسيح مخلِّصنا، بقوَّة كلمة الله، أخذ جسدًا دومًا لأجل خلاصنا، كذلك الطعام الذي قدَّسته الصلاة المكوَّنة من كلام المسيح، هذا الطعام الذي يجب أن يغذّي دمنا وأجسادنا هو جسد ودم يسوع المتأنِّس: هذه هي عقيدتنا" (عدد 66).

وكما القدّيس يوستين، كذلك القدّيس كيرلُّس، أسقف أورشليم تحدَّث عن مسح الجسد فتتقدَّس النفس بالروح القدس. قال: "ولكن احذر من أن تظنَّ أنَّ الدهن ليس إلاَّ دهنًا، لأنَّه كما أنَّ خبز الإفخارستيّا بعد استدعاء الروح القدس لم يَعُد خبزًا عاديًّا، إنَّما صار جسدَ المسيح، كذلك هذا الدهن المقدَّس لم يَعُد، بعد الاستدعاء، دهنًا بسيطًا عاديًّا،  ولا دهنًا مشتركًا، إذا صحَّ القول. إنَّه عطاء المسيح وقد أصبح، بحضور الروح القدس، مانحًا لاهوته" (21/3). وفي 22/ 2: "لقد سبق له في قانا أن حوَّل الماء خمرًا بفعل إرادته، أفلا يكون جديرًا بالتصديق عندما يحوِّل الخمر إلى دمه؟ لقد قام بهذه العجيبة عندما دُعيَ إلى عرس دنيويّ. وعندما يهب لأصدقاء العريس (مت 9: 15) أن يتلذَّذوا بجسده ودمه، أفلا نعترف به بالأكثر؟"

فالعماد الذي "يُختَم" بوضع الأيدي والمسح بالميرون، ويتمُّ بالمشاركة في جسد المسيح الإفخارستيّ، ينقلنا من ملكوت الموت والخطيئة إلى ملكوت الحياة والنعمة. المسيح يعمل كلَّ هذا فينا. ولكنَّه لا يستطيع، أو هو لا يريد أن يُتمَّ فينا هذه المعجزات العظيمة إلاَّ بواسطة الكاهن. ونعود ونقول: يد الكاهن هي يد يسوع، ويد يسوع هي يد الكاهن. فم الكاهن هو فم يسوع، وفم يسوع هو فم الكاهن.

ولكنَّ الكاهن إنسان. وبما أنَّه إنسان فهو خاطئ. هذا ما نعرفه كلُّنا، وأوَّل واحد هو الكاهن نفسه، في خطِّ بطرس الرسول بعد الصيد العجائبيّ: "ابتعد عنّي يا ربّ فأنا رجل خاطئ" (لو 5: 8). أحسَّ بنفسه أنَّه لا يستحقّ. وكلُّ ما يستطيع أن يفعله هو أن يكون "صيّاد سمك" ذاك كلام بشريّ. أمّا يسوع فقال له: "لا تخف (وأنت في حضرة الله، لا تأخذك الرهبة)، ستكون بعد اليوم صيّاد بشر" (آ9). دعاه يسوع فخلَّصه من جديد من أجل هذه المهمَّة الجديدة. وكذلك دعا الآخرين، عندئذٍ "تركوا كلَّ شيء وتبعوه" (آ11).

أجل، حين يدعو الله الإنسان إلى دعوة خاصَّة، فهو يخلقه من جديد، لكي يهيِّئه للرسالة الجديدة. ولنا مثال على ذلك في شخص إشعيا النبيّ المدعوّ لكي يحمل كلام الله. كان في الهيكل فصُعق أمام عظمة الله. ما عاد يستطيع أن يتكلَّم، شأنه شأن زكريّا والد يوحنّا المعمدان. بل اعتبر النبيّ أنَّه مات وصار بلا حراك، مثل حزقيال النبيّ. فماذا حصل لذاك الذي أعلن: ويل لي، هلكتُ، لأنّي رجل دنس الشفتين ومُقيم بين شعب دنس الشفاه، والذي رأته عيناي هو الملك الربُّ القدير؟ (إش 6: 5). ماذا حصل لذاك الذي وجد نفسه غير مستحقّ بأن يكون نبيّ الله؟ روى لنا إشعيا فقال: "فطار إليَّ أحد السرافيم وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، ومسَّ فمي وقال: انظر! هذه مسَّت شفتيك فأزيل إثمك وكُفِّرت خطيئتك" (آ6-7).

النار تدلُّ على حضور الله، والنار تنقّي المعادن من كلِّ الأدران والأوهام. وهكذا فعلَتْ بالنبيّ فصار نقيًّا طاهرًا، وخصوصًا صارت شفتاه قادرتين على حمل الكلمة، والكاهن الذي ينال "النعمة الإلهيَّة" بوضع يد الأسقف، الذي يختاره الربُّ كما اختار الرسل وقال له: اتبعني، أما يتطهَّر من كلِّ خطيئة، بحيث يستطيع أن يسمع ما سمعه النبيّ إرميا: "انطلق إلى من أُرسلك إليهم، وكلَّ ما آمرك به تقوله. لا تخف من أحد، لأنّي في فمك أضع كلامي" (إر 1: 7-8). لا تخفْ، لا تقُلْ إنَّك صغير ولا تعرف أن تتكلَّم. ماذا فعل الربُّ بنبيِّه؟ روى عن نفسه فقال: مدَّ يده ومسَّ فمي وفال: أعطيتك سلطة على الأمم وعلى الممالك..." (آ9). ونتخيَّل! سلطة على الكون كلِّه.

وهنا نفهم استعداد إشعيا السريع، لا قبل الجمرة، بل بعد الجمرة. سمع صوت الربّ: "من أُرسِل؟ من يكون رسولاً لنا؟" (إش 6: 8). وجاء الجواب بدون تردُّد: "ها أنا لك، فأرسلني". قال له الربّ: "اذهب" (آ9). ذهب وكلُّه ثقة بقدرة الله. ومثله يفعل الكاهن حين يمارس الأسرار. يقول للآتي إلى العماد: أنا أعمِّدك فيصبح هذا الإنسان ابن الله. يقول أمام الخبز: هذا جسدي، فيصبح الخبز جسد المسيح. ويقول أمام الخمر: هذا دمي فيصبح الخمر دم السيح. يأتي أمامه الخاطئ. يركع تائبًا. يقشعرّ الكاهن: من أنا حتّى يركع هذا الإنسان أمامي؟ أتذكَّر ذلك حين كنت شابًّا وأتى رجل كبير السنّ، فاضل. من أنا؟ أنا خاطئ مثله إن لم يكن أكثر منه. فدفعني الربّ: لا تخف. أعطيتك سلطانًا. وسلطاني يتمُّ بك، هو فمي يتكلَّم بفمك. لا تتشكَّك مثل الفرّيسيّين حين سمعوني أقول للمخلَّع: مغفورة لك خطاياك. فابن الإنسان له سلطان أن يغفر الخطايا على الأرض (مر 2: 10). ذاك ما قلتُه خلال حياتي على الأرض، والناس في زمن الكنيسة "خافوا ومجَّدوا الله الذي أعطى البشر مثل هذا السلطان" (مت 9: 8). البشر هو أنتم الكهنة. والسلطان هو على الخطايا كما قلت لكم بعد القيامة "من غفرتم له خطاياه تُغفَر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنَع عنه". ذاك هو سلطان الحلّ. يقول الكاهن للتائب: "أنا أحلَّك من جميع خطاياك". أو "يحلُّك الربُّ من جميع خطاياك" ويرفع الكاهن يده باسم المسيح ويتذكَّر كلام المسيح: "كلَّ ما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تحلّونه في الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت 18: 18).

  1. إن شئتَ! شئتُ

أتى الأبرص إلى يسوع بعد أن رأى يسوع وقد جاءه إلى البرِّيَّة حيث يكون معزولاً عن الناس. قال: إن شئتَ فأنت قادر أن تطهِّرني. فأجابه يسوع: شئتُ فكن طاهرًا (مت 8: 2-3). تلك هي قدرة الربِّ يسوع. يقول وحين يقول يتمُّ ما قاله. حماة بطرس "طريحة الفراش بالحمّى". لمس يدها فتركتها الحمّى. البحر هائج. "انتهر الربُّ الرياح والبحر فهدأت" (مت 8: 26). وفي كلِّ مرَّة يقول الإنجيل: تعجَّب الناس. ونحن المؤمنين أما ينبغي علينا أن نتعجَّب. طفلٌ جاء به أهله إلى الكنيسة. صبَّ الكاهن عليه بعض الماء فصار ابن الله، ابنة الله. هل هذا أمرٌ طبيعيّ؟ بل هو فائق الطبيعة وأعظم من كلِّ ما نراه بعيوننا.

يحمل المؤمنون إلى الكاهن بعض الخبز، فيصبح هذا الخبز جسد المسيح بحيث إنَّ الكاهن حين يناولنا يقول: جسد المسيح. فنقول: آمين. أي حقًّا هو جسد المسيح. لم يعُد الخبز خبزًا. ويقدِّم لنا الكاهن كأس الخمر ويقول: دم المسيح. فنقول: آمين. ونتذكَّر كلام الربِّ بعد تكثير الأرغفة في إنجيل يوحنّا: "أنا هو خبز الحياة. من جاء إليَّ لا يجوع، ومن آمن بي لا يعطش" (يو 6: 35). وواصل يسوع كلامه: "إذا كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة. ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديَّة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر، جسدي هو القوت الحقيقيّ، ودمي هو الشراب الحقيقيّ. من أكل جسدي وشرب دمي يثبتُ هو فيَّ، وأثبتُ أنا فيه" (آ53-56).

أما نتعجَّب من هذا التحوُّل العجيب؟ من المؤسف أنَّ الذين كانوا في عرس قانا الجليل لم يتعجَّبوا. الذين ملأوا الأجران بالماء، كيف تجاسروا وقدَّموا للمدعوّين "الخمر" وهم عارفون كلَّ المعرفة أنَّهم ملأوا الأجران بالماء؟ ثمَّ، أما دهشوا حين سمعوا رئيس المتَّكأ يتحدَّث عن هذه الخمرة الطيِّبة التي لم يَذُقْ مثلها في حياته؟ ونحن في القدّاس الإلهيّ نشبه هؤلاء الخدم كما نشبه رئيس المتَّكأ: كان بالإمكان أن يسأل: من أين اشتريتم هذه الخمرة الطيِّبة؟ مرَّ مرور الكرام، كما يُقال، فشابه بيلاطس الذي سأل يسوع عن "الحقّ" ومضى دون أن ينتظر الجواب (يو 18: 38).

الكاهن هو هنا باسم المسيح. يعلن كلام التقديس. نقترب من المناولة. هل نؤمن الإيمان العميق؟ أم نشبه اليهود الذين شاركوا في الطعام الذي هيَّأه له الربُّ في البرِّيَّة. فقال لهم: "اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديَّة" (يو 6: 27). ولمّا وعى التلاميذ ما يعطيهم يسوع، كانوا صادقين مع أنفسهم: "هذا كلام صعب، قاسٍ، من يطيق أن يسمع؟" (يو 6: 60) لم يكونوا مستعدِّين. ونتذكَّر هنا ما قاله بولس الرسول لجماعة كورنتوس: "أنتم لا تأكلون عشاء الربِّ حين تجتمعون" (1 كو 11: 20). تعوَّدنا على القدّاس. ونسينا كلام الرسول القائل أيضًا: "ليمتحن كلُّ واحد نفسه، ثمَّ يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس، لأنَّ من أكل وشرب وهو لا يراعي جسد الربِّ، أكل وشرب الحكم على نفسه" (آ28-29).

هذا من جهة المؤمنين المدعوّين إلى الإيمان. ومن جهة الكاهن، كيف يتعامل مع الأسرار المقدَّسة؟ تمارَس المعموديَّة بسرعة، خصوصًا في عيد الغطاس. لماذا لا يكون العماد جماعيًّا؟ والقدّاس؟ كان يُقال: الكاهن، في بداية حياته الكهنوتيَّة، يخاف من المسيح. ولكن بعد سنوات يخاف المسيح منه. يأخذ منه الفتور، تسيطر عليه العادة. ويتبعُ القدّاسُ القدّاس، بحيث "نردِّد الكلام تردادًا مثل الوثنيّين" (مت 6: 7). هنا يسمع الكاهن صوت الربّ، كما في سفر الرؤيا: "أعتبُ عليك لأنَّك تركت محبَّتك الأولى. فاذكر من أين سقطتَ وتُبْ وعُدْ إلى أعمالك الماضية. فإن كنتَ لا تتوب جئتك وأخذتُ منارتها من مكانها" (رؤ 2: 5). ويقول الربُّ إلى أسقف أفسس، إلى كاهن أفسس: "أنا أعرفُ أعمالك، وأعرف أنَّك لا باردٌ ولا حارّ، وليتك كنتَ باردًا أو حارًّا، ولكن بما أنَّك فاتر، لا بارد ولا حارّ، فأنا أتقيَّأك من فمي".

هكذا يكون الخادم الشرّير، كما يدعوه الربُّ في الإنجيل الذي يكون مصيرُه مصير المنافقين (مت 24: 51). أمّا الخادم الأمين "فيوكِّل إليه الله كلَّ ما له" (آ47). وأجمل من هذا، مثل هذا الخادم الأمين الذي يرجع سيِّده فيجده ساهرًا، ماذا يفعل له؟ "يشمِّر عن ساعده ويجلسه للطعام ويقوم بخدمته" (لو 12: 37).

ذاك هو وجه الكاهن خادم أسرار الله. هو الساكن في بيت الله. هو حارس البيت كما القائم على أسوار المدينة. نال النعمة فنقلها إلى المؤمنين. باركها الربُّ فبارك بدوره شعب الربّ. يد الربِّ تفعل بيده وهو يكون مطواعًا معه. فم الربِّ يتكلَّم بفمه، فلا يقول إلاَّ ما يقوله الربُّ له، يا للشرف العظيم للكاهن! ويا للمسؤوليَّة الكبيرة! إن هو ارتفع رفع رعيَّته معه. وإن انحدر، لا سمح الله، انحدرت رعيَّته معه. إلاَّ إذا قام نبيّ ونبَّه الكهنة، ونبَّه المؤمنين. ذاك هو دور المرشد في الرياضة السنويَّة. فإلى يديك يا يسوع نكل كهنتنا ونحن واثقون أنَّك بدأت معهم وسوف تكمِّل معهم حتّى مجيء ربِّنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM