قلبي الإلهيُّ مملوء حبًّا للناس

قلبي الإلهيُّ مملوء حبًّا للناس

الخوري بولس الفغالي

ذات يوم كانت مرغريتّا ألاكوك، وهي راهبة من راهبات الزيارة، ساجدة أمام القربان المقدَّس، فرأت نفسها بغتة محاطة بالحضور الإلهيّ، فتركت قلبها يستسلم لحرارة الحبّ. وسمعت يسوع يقول لها: "قلبي الإلهيُّ مملوء حبًّا للناس، ولك على وجه الخصوص، وبما أنَّه لا يقدر أن يحتفظ بنار حبِّه المتوقِّدة، أراد أن ينشر هذا الحبَّ على يدك ويبيِّن الكنوز التي يحتويها هذا القلب الإلهيّ". وكان للربِّ أن يظهر مرَّة أخرى لهذه الراهبة مع "جراحاته الخمسة التي بدت متلألئة مثل الشمس اللامعة مع لهيب يتدفَّق خارجًا من القلب مثل سيل المياه في الوادي".

وانتشرت العبادة لقلب يسوع الأقدس في فرنسا وأوروبّا ووصلت إلى الشرق. ولماذا التوقُّف عند القلب لا عند الشخص كلِّه؟ لأنَّ القلب هو مركز الحبِّ في مفهومنا اليوم. والقلب هو مركز المعرفة، والأمُّ أكبر عارفة بما في قلب ابنها. ومن القلب تنطلق الإرادة التي تعمل فتجد التشجيع في حبٍّ يتدفَّق ويتدفَّق ولا ينقطع. وهذه العبادة التي انتشرت منذ القرن الثامن عشر، لم تكن وليدة العصور الحديثة، فهي انطلقت منذ تلك الساعة التي فيها طُعن جنبُ الربِّ بحربة، على الصليب، فجرى منه الدم والماء. عندئذٍ عرف المؤمنون ويعرفون كلَّ يوم، بشكل ملموس، مدى حبِّ الابن الذي سار إلى أقصى الحدود: هو الخادم ويعلِّم كهنته كما يعلِّم المؤمنين أهمِّيَّة الخدمة. وهو الوديع والمتواضع الذي سار في الاتِّضاع حتَّى الموت والموت على الصليب. فإلى هنا يأتي الكاهن وإلاَّ لا يكون كاهنًا على ما قال الربُّ: "من يحبُّني، من يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي" (يو 12: 26). قال يسوع مثل هذا الكلام حين تطلَّع إلى تلك الساعة التي تنتظره، ساعة الموت. فهتف: "أيُّها الآب، مجِّد اسمك" (آ28). هنا يتمجَّد الآب: في الحبِّ والعطاء والتضحية، لهذا كان صوت من السماء: "مجَّدتُ وأمجِّد أيضًا". لا في زمن يسوع فقط، بل من خلال الكهنة، من خلال الرهبان والراهبات، من خلال كلِّ مؤمن ومؤمنة. والطريق رسمها لنا يسوع، ولا طريق سواها، فهو وحده الطريق التي تقود إلى الحقِّ والحياة.

 

  1. أنا عطشان

"كمل كلُّ شيء" (يو 19: 28). لا، لم يكمل بعد. عندئذٍ قال يسوع: "أنا عطشان". هو أمر طبيعيٌّ أن يهتف الإنسان المتألِّم والمائت أن يطلب شربة ماء. والناس هناك قدَّموا له ليشرب، لا الماء بل الخلّ. هكذا يتعذَّب يسوع إلى النهاية بمثل هذا التصرُّف الذي لا يمتُّ إلى الإنسانيَّة بصِلة. اعتبروا أنَّ الخلَّ "يخدِّر" المتألِّم فلا يحسُّ بعد بالوجع. ولكن في نظر يسوع، يجب أن يتمَّ الكتاب: "جعلوا في طعامي علقمًا، وفي عطشي سقوني خلاًّ" (مز 69: 22). أمّا الكلام عن العطش فجاء في مز 22: 16: "يبسَتْ كالخزف قوَّتي، ولساني لصق بحلقي". أمّا المعنى الروحيُّ، فالعطش هو من نوع آخر، العطش إلى الحبِّ والعطاء والتجاوب مع هذا الحبّ. ما أُعطيَ يسوع الخمر ولا الماء، بل العلقم والخلّ. وإذا كان المؤمن يحسُّ بالعطش إلى اللقاء بالربِّ، كما الأيِّلُ إلى مجاري المياه" (مز 42: 2)، يصبح ذاك "الشحّاذ" الذي يطلب اللقاء بكلِّ واحد منّا.

في الواقع، نحن عطاش، فنسمع كلمات سفر الرؤيا الأخيرة: "من كان عطشانًا فليأتِ، ومن شاء فليأخذ مياه الحياة مجّانًا" (22: 17). ولهذا نأتي إلى قرب الصليب ونرى المشهد الأخير: "واحد من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دمٌ وماء" (يو 19: 34). الدم يذكِّرنا بالخمر الذي تكاثر في عرس قانا الجليل، ولا يزال حاضرًا على مذابحنا. فمع الخبز يقول الكاهن للخمر: "هذا هو دمي الذي يُراقُ من أجلكم لمغفرة الخطايا". فالدمُ هو الحياة، ويسوع هو الحيُّ ولد على الصليب ويمنحنا الحياة التي تدوم.

والماء هو ذاك الذي طلبه من السامريَّة: "أعطيني لأشرب" (يو 4: 7). بانتظار أن يعدَها بماء آخر: "لو كنتِ تعرفين عطيَّة الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه ماء الحياة" (آ10). اقتربت تلك السامريَّة ممَّن هو "ماء الحياة" فتبدَّلت حياتها كلُّها وصارت مبشِّرة بالمسيح (آ29). وأتت بأهل قريتها فاكتشفوا أنَّ هذا الذي كلَّمتهم عنه "هو مخلِّص العالم" (آ42).

من "جنب" يسوع، من صدره، خرج دم وماء. هذا كان بحضور الروح. وهذا الروح عينه يكون حاضرًا حين ينادي يسوع: "إن عطش أحد فليأتِ إليَّ ليشرب، ومن آمن بي، كما قال الكتاب، تفيض من صدره أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38).

فهذا المشهد على الصليب وما ارتبط به يسند العبادة للقلب الأقدس، لا كأن نأخذ القلب ونتعبَّد له، بل كأن نتطلَّع إلى ما يرمز إليه القلب، فيكون قلب الكاهن مثل قلب يسوع، بحيث يشتعل بنار الحبِّ فلا يعرف للحدود عطاء. فالكاهن مع الربِّ، ليلاً ونهارًا من أجل المؤمنين. لا وقتَ له "يرتاح" على ما حصل للرسل بعد أن رجعوا إلى الرسالة "تعبين". قال لهم يسوع: "تعالوا أنتم وحدكم إلى مكان مقفر واستريحوا قليلاً" (مر 6: 31). أطاعوا المعلِّم "وذهبوا في القارب وحدهم إلى مكان مقفر" (آ32). ولكنَّهم ما استطاعوا أن يهربوا إذ "رآهم الناس ذاهبين، وعرف كثير منهم إلى أين، فأسرعوا من جميع المدن مشيًا على الأقدام وسبقوهم إلى ذلك المكان" (آ33). لا مكان للراحة والناس مثلُ "خراف لا راعي لها" (آ34). ونتذكَّر هنا هؤلاء الكهنة الذين سبقونا. فخوري آرس كان يقضي الساعات الطوال في كرسي الاعتراف. الناس يأتون إليه وهو يستقبلهم، يستمع إلى كلِّ واحد منهم، ينصحه، يصلِّي معه ويكفِّر معه عن خطاياه. ومثله العديدون الذين عرفناهم الذين اهتمّوا بكرسي الاعتراف أكثر من اهتمامهم بالاحتفالات واستقبالات فيها الكثير من الفائدة على جميع المستويات.

  1. أحبَّ حتّى الغاية

كانت الحربة في جنب المخلِّص آخر مسيرة الآلام، أمّا البداية فكانت مع غسل الأرجل. حدَّثنا الإنجيليُّ فقال: "قبل عيد الفصح، كان يسوع يعرف أنَّ ساعته أتت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، وهو الذي أحبَّ أخصَّاءه الذين في العالم، أحبَّهم حتّى الغاية"، إلى منتهى الحبّ (يو 13: 1). لا يمكن أن يكون بعده عمل يدلُّ على عظمة حبِّ الابن لأحبّائه. هذا ما جعلنا نتعبَّد لقلب يسوع الأقدس.

حبٌّ انطلق من الآب: "هكذا أحبَّ الله العالم حتّى إنَّه بذل ابنه الوحيد لئلاَّ يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 3: 16). وهذا الحبُّ جعل الله "لا يبخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، فكيف لا يهب لنا معه كلَّ شيء؟" (رو 8: 27). وحبٌّ وصل إلى الابن الذي أعلن: "ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه" (يو 15: 13). ويضيف يسوع: "أنتم أحبّائي" (آ14). والروح القدس هو الحبُّ الجامع بين الآب والابن، وهو يجعلنا داخل عيلة الله.

كيف عرفنا هذه المحبَّة؟ حين غسل يسوع أرجل تلاميذه. فنحن نعرف أنَّ العبد لا يغسل رجلَيْ سيِّده، فهو عمل حميم محفوظ للمرأة والابنة. وهكذا يكون عمل يسوع دالاً على المحبَّة العميقة التي يكنُّها الربُّ لتلاميذه ولكلِّ واحد منّا. ونفهم هذه المحبَّة العميقة في جواب الربِّ لبطرس حين أراد أن يغسل له قدميه. تمنَّع سمعان بطرس في نظرة بشريَّة تجعل من هو الربُّ والمعلِّم عند أقدام تلاميذه: "أأنت يا سيِّدي تغسل لي قدمَيَّ؟" (يو 13: 6). وجاء جواب يسوع يبيِّن له المعنى العميق لما يفعل "أنت لا تعلم الآن معنى ما أصنع". ما فهم بطرس وما قبل أن يُعامَل مثل طفل بالبساطة الإنجيليَّة، بل لبث معاندًا: "لن تغسل لي رجلَيَّ إلى الأبد!". عندئذٍ قدَّم يسوع الجواب: "إن كنتُ لا أغسلك فلا نصيب لك معي!" (آ7-8).

ما زال بطرس ينظر إلى يسوع على أنَّه المسيح، الذي لا يمرُّ في التواضع والآلام، ونسيَ ما يمكن أن تفعله المحبَّة. فهي تتنازل وتتنازل لكي تصبح على مستوى المحبوب. أما هكذا يفعل الأب (والأمُّ) مع طفله؟ بلى. هكذا فعل يسوع، وهكذا ينبغي على بطرس أن يفعل، كما على كلِّ كاهن. فالربُّ كان لنا مثالاً على ما قال لتلاميذه بعد غسل الأرجل: "أنتم تدعونني معلِّمًا وربًّا، وحسنًا تقولون، لأنِّي أنا كذلك. فإن كنتُ أنا الربُّ والمعلِّم غسلتُ أرجلكم، فأنتم يجب أن يغسل بعضُكم أرجل بعض، لأنِّي أعطيتكم مثالاً، حتّى كما صنعتُ أنا لكم تصنعون أنتم أيضًا" (آ13-15).

الربُّ هو مثال للكاهن في الحبِّ الذي لا حدود له. على مثال القدِّيس داميان مثلاً الذي مضى يعيش مع المرضى بالبَرص: عاش معهم ومات معهم ومن أجلهم فتحسَّنت حالتهم بعد موته. وعلى مثال مكسيميليان كولبي، ذاك الكاهن الفرنسيسكانيّ الذي أخذ محلَّ جاره، صاحب الأسرة الكبيرة، ومضى يموت عنه.

الربُّ هو مثال الكاهن في الخدمة وهو الذي اتَّخذ المكان الأخير لكي يكون للجميع فيسوع أعلن أنَّه جاء "ليَخدم"، ليكون في خدمة كلِّ واحد منّا. وهذا ما نكتشفه خلال حياته العلنيَّة على الأرض. جاؤوا إليه بالأطفال، فما استصغرهم ولا وافق تلاميذه على تصرُّفهم. من يكون الأطفال؟ لا شيء. هم ملك والدهم يفعل بهم كما يشاء! ما هذا الكلام. فالكاهن هو مثل يسوع، يستقبل الأطفال كما الكبار، ويتذكَّر كلام الربّ: "دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم". وأضاف: "من قبل هذا الطفل باسمي يكون قبلني" (لو 9: 48). واستقبل المرضى من كلِّ نوع. الأبرص في البرِّيَّة، مضى إليه، لمسه. النازفة اقتربت منه، لمسته مع أنَّها "نجسة" في رأي الناس. ما خاف أن "يتنجَّس"، بل هو الذي طهَّرها وصارت معافاة. والميت محمول، لمس يسوع النعش. ولكنَّه لمس الميت، يا للنجاسة! ولكنَّ الميت هو حيّ.

ذاك هو يسوع. ذاك يكون الكاهن فيتصرَّف بقلب محبّ، وبموقف الخادم الذي يفرح بالخدمة أطيب فرح. فتلك هي رسالته، خصوصًا حين يُرسَل إلى موضع من المواضع ويُدعى "خادم الرعيَّة". هل يعرف الكاهن هذا الوضع قبل أن ينال الرسامة الكهنوتيَّة؟ أم يستعدُّ لأن "يترأَّس" فيحسب نفسه صار أعلى من الناس الذين حوله، مع أنَّ يسوع قال: الأوَّل في منطق الإنجيل يكون الآخر، والسيِّد يكون العبد والخادم. ذاك ما قال الربُّ بعد غسل الأرجل: "ما من عبد أعظم من سيِّده، وما من رسول أعظم من مُرسله" (يو 13: 16). أنريد أن نأخذ طريقًا غير الذي أخذه يسوع؟ إن فعلنا نضلُّ الطريق. فالتلميذ لا يمكن أن يكون أفضل من معلِّمه (مت 10: 24). يكفي التلميذ، بل أكبر شرف له "أن يكون كمعلِّمه" (آ25)، إلاَّ إذا كان لنا معلِّمٌ آخر نأخذه من هذا العالم، أو لنا سيِّد آخر نتعبَّد له: لا نقدر أن نعبد الله والمال. وبما أنَّ المال أمر ملموس، فلماذا لا نتعلَّق به وهو يعطينا أن نفسح المجال لكلِّ رغباتنا. ما أتعسنا عندما نستفيد من كهنوتنا لكي ننسى وضعنا الأصليَّ ونحاول أن نرتفع في السلم الاجتماعيّ! وما أتعسنا حين نرى إخوتنا وأخواتنا أقرب إلى الله منّا، لأنَّهم يعيشون على طبيعتهم ويعرفون مركزهم في المجتمع. وما أجمل البابا يوحنّا الثالث والعشرين لا يستقبل شقيقتيه لأنَّهما استقرضتا ثيابًا للمجيء إليه لأنَّهما استحيتا من ثياب الفلاّحين. مع أنَّه صار أسقفًا وكردينالاً وسفيرًا للفاتيكان وبابا، فأهله لم يرثوا منه شيئًا، لا في حياته ولا في مماته. ومن قال لنا إنَّ مال الكنيسة والرعيَّة والأبرشيَّة يثمر؟ هو يترك وراءه الخلاف والخصومة والبغضاء بين الإخوة والأخوات، وفي النهاية يُمحى ذكرُهم.

كم أنَّ يسوع بعيد بقلبه المحبِّ عن مثل هؤلاء الكهنة وسائر رجال الإكليروس. وما أجمله ذلك الأسقف يترك في الأبرشيَّة كلَّ ما وصل إلى يده من مال سيعود إلى رهبنته فقيرًا فيعيش مثل إخوته في الدير دون أن يتشاوف عليهم وكأنَّه آتٍ من كوكب آخر! والكردينال ليجيه، رئيس أساقفة مونتريال في كندا، وصل إلى سنِّ التقاعد فما ضاع في ما يعمل، بل قدَّم نفسه لخدمة البرص في أفريقيا. هو الخادم ولبث الخادم. لأنَّ يسوع لا يريد رؤساء عليه، بل خدَّامًا يضعون "الوزرة" مثله. ويركعون فيخدمون الصغار الصغار الذين لا يهتمُّ أحدٌ بهم.

 

  1. تعلَّموا منّي

قدَّم لنا إنجيل متّى عددًا من "المعلِّمين". هم يجلسون "على كرسي موسى"، يعني يعرفون الشريعة والوصايا ويعلِّمونها للمؤمنين. إذًا، يمتلكون سلطة شبيهة بسلطة موسى. وعلينا أن نطيعهم، كما يطيع المؤمنون الكهنة. ولكنَّ يسوع ينبِّهنا: "مثل أعمالهم لا تعملوا" (23: 3). لماذا؟ لأنَّهم "يقولون ولا يفعلون". وأتذكَّر عظة راح فيها الكاهن بعيدًا على مستوى التجرُّد. فقال له "القندلفت": "كيف تقول مثل هذا الكلام؟" وجاءه الجواب: "هذا الكلام ليس لنا، بل للآخرين". كم نشبه الشعب اليهوديَّ حين قابل نفسه بالوثنيّين: نحن الأطهار وهم الأنجاس. نحن مختونون وهم ليسوا بمختونين وبالتالي لا يستحقُّون أن يكونوا معنا. وينبِّههم بولس الرسول وينبِّهنا معهم: "أنت تتَّكل على الناموس، وتفتخر بالله، وتعرف مشيتئه..." (رو 2: 17-18). ثمَّ: "تثق أنَّك قائد العميان، ونور للذين في الظلمة، ومهذِّب الأغنياء، ومعلِّم الأطفال، ولك صورة العلم والحقِّ في الناموس" (آ19-20).

ما هذا الامتياز، ولكنَّه امتياز في الفراغ بحيث نغشُّ أنفسنا. ذاك ما يقول لنا سفر الرؤيا: يا ملاك (كاهن أو أسقف) كنيسة لاودكيَّة، "تقول إنِّي غنيٌّ واستغنيت، ولا حاجة بي إلى شيء. غير أنَّك لا تعلم أنَّك شقيّ، بائس، فقير، أعمى، عريان" (3: 17). ماذا يحتاج هذا الكاهن المسكين؟ الذهب الحقيقيَّ المصفّى بالنار، الذي لا زغل فيه. حسب ثيابه بيضاء كما أخذها في العماد وفي الرسامة الكهنوتيَّة! كم أخطأ! بل هو "عريان" مثل آدم في الفردوس، الذي اختبأ عن نظر الله. وهو "أعمى" فيا ويله وويل الذين يُسأل عنهم: "أعمى يقود أعمى فيقع الاثنان في حفرة". إذًا هو يحتاج إلى "كحل خاصّ"، إلى لمسة قاسية من المسيح لئلاَّ يتشبَّه بالفرِّيسيّين الذين اعتبروا أنَّهم يرون ساعة بان الأعمى منذ مولده أفضل منهم. أجل، الويل لنا إن كان النور الذي فينا ظلامًا. من أجل هذا قال بولس لمعاصرين، ويقول لكلِّ كاهن منَّا، إذا لم يكن مثل قلب الربّ: "أنت الذي تعلِّمُ غيرك، أمّا تعلَّم نفسك؟ الذي تكرز أن لا يُسَرق، أتسرق؟... إنَّ اسم الله يجدَّف عليه بسببكم كما هو مكتوب" (رو 2: 21-24). هل يعرف الكاهن الشرَّ الذي يتركه وراءه إن لبث يتعلَّم من الكتبة والفرِّيسيّين، لا من يسوع؟ والربُّ ينبِّهنا من الشكوك الذي نتركها وراءنا: فنستحقُّ أن يعلَّق في عنقنا حجر الرحى ونُرمى في البحر" (مت 18: 6).

ويقدِّم يسوع صورة عن الكتبة والفرِّيسيّين تنطبق على الكثير منّا: نضع الأحمال على أكتاف الناس، ونحن لا نحرِّكها بأصابعنا. نحبُّ أن نكون في الصفوف الأماميَّة لكي يرانا الناس. نريد أن يدعونا الناس: يا معلِّم! قال الربّ: "كلُّكم إخوة، ومعلِّمكم واحد" (مت 23: 8). نحن لا نقتدي بالبشر، ولا نطلب أن يدعونا أحد "يا سيِّد" والسبب: "لأنَّ لكم سيِّدًا واحدًا هو المسيح" (آ10). ففي منطق الإنجيل: الأكبر هو الخادم "ومن يرفع نفسه ينخفض، ومن يخفض نفسه يرتفع" (آ11).

أجل، معلِّمنا واحد وهو المسيح. قال: "تعلَّموا منِّي لأنِّي وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وهكذا نعود إلى "القلب" الذي هو في أساس الإنسان. فهناك أعمال تأتي من الخارج فتبقى في الخارج. وجماعة الإكليروس يعرفون كيف يتنازلون لكي يرفعهم الآخرون. هذا لا يُدعى تواضع، بل كبرياء مخفيَّة أو إذا شئنا التواضع الكاذب. فالتواضع الحقيقيُّ يخرج من القلب مثل الثمرة من الشجرة. والربُّ قال: من ثمارهم تعرفونهم. لا يُجنى من الشوك عنب ولا من العوسج تين. فالشجرة الصالحة تعطي ثمارًا صالحة، والشجرة الرديئة تعطي ثمارًا رديئة.

وما قلناه عن التواضع نقوله عن الوداعة التي هي أخت التواضع. فالمتواضع لا يمكن  إلاَّ أن يكون وديعًا، هادئًا. هكذا قيل عن يسوع: لا يماحك ولا يصيح، ولا يسمع أحد صوته في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر وسراجًا مدخِّنًا لا يطفئ، وبرزت وداعته بشكل خاصّ خلال آلامه. الصراخ، شهود الزور. تمزيق الثياب، العنف. أمّا يسوع فكان ساكتًا، مع أنَّه كان قادرًا أن يأتي بجيش يدافع عنه. فمتى كان العنف يحلُّ أمور الناس، وهل نعرف الأثر الذي يتركه كاهنٌ يتصرَّف بالعنف والعصبيَّة؟ مثل ذاك الكاهن في يوم أربعاء الآلام، "هجم" المؤمنون لكي يأخذوا الزيت المقدَّس، فصرخ فيهم ارجعوا وإلاَّ أرمي العجين والزيت من الشبّاك! ما نسيَ الناس هذا الكلام بعد أكثر من سنة. ولا أقول شيئًا عن تصرُّف بعض الكهنة في سرِّ التوبة. نحن ننسى أنَّنا خطأة مثل الذين يأتون ويركعون مقرِّين بخطاياهم. يا ليتنا نعرف أن نقرَّ بخطايانا في قلوبنا مع التائبين الآتين إلى الربّ، عندئذٍ ننال الغفران الذين نالوه. فكيف نرضى أن تمرَّ نعمة الله إلى الخطأة بيدنا ولا نستفيد منها، إلاَّ إذا حسبنا نفوسنا قدِّيسين مثل ذلك الفرِّيسيِّ الذي جاء يشكر الله على الأعمال الصالحة التي قام بها ونسيَ أن يعترف بخطاياه.

تعلَّموا منِّي، قال الربُّ، هذا إذا أردتم أن "تجدوا الراحة". وإلاَّ يكون لكم التعب. "خذوا نيري عليكم"، خذوا شريعتي ووصاياي، سيروا في خطاي، في الباب الضيِّق، في الطريق الصاعدة، إذا أردتم أن تكون لكم الحياة والسعادة. أمّا كلُّ "نير" آخر فيقود إلى العبوديَّة، على ما كان يُصنَع للأسرى في العالم القديم. نير يسوع هو نير الحرِّيَّة التي ترفعنا من اهتمامات العالم العديدة لتجعلنا "نجري" وراء يسوع مثل عروس نشيد الأناشيد. لا شيء يثقِّلنا بعد أن تجرَّدنا من كلِّ شيء. وقال في هذا بولس الرسول: "نحن يكفينا القوت والكسوة" "والذين يطلبون الغنى يقعون في التجربة والفخّ وفي كثير من الشهوات العمياء المضرَّة التي تغرق الناس في الدمار والهلاك. فحبُّ المال أصلُ كلِّ شرّ، وبعض الناس استسلموا إليه فضلُّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1 تم 6: 8-10). نجّانا الله من هذه العبوديَّة التي تنسينا عبادة الله الواحد وتدفعنا إلى البحث عن أصنام وأصنام تُحدرنا إلى مستوى الأشياء التي نتعلَّق بها.

الخاتمة

قال بولس الرسول: اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح. يا للكلام الحلو الذي نتمنّى على كلِّ كاهن أن يستطيع قوله أمام المؤمنين. يكفي أن ينظر المؤمنون كاهنهم يصلِّي لكي يتعلَّموا منه الصلاة. يكفي أن يشاهدوه غافرًا ما ينال من افتراء لكي يتعلَّموا أن يغفروا مثله. يكفي أن يروه وديعًا ومتواضعًا لكي يشاهدوا فيه وجه المسيح. قال يسوع: تعلَّموا منِّي. نراه ثمَّ نسمع كلامه: قلبه محبٌّ يكون قلبنا مثل قلبه. أحبَّنا وضحِّى بحياته لأجلنا، وهكذا يكون الكاهن. كان الخادم وسط التلاميذ، ومثله يكون الكهنة، عندئذٍ نستطيع أن نرفع إليه صلاتنا: يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبنا مثل قلبك. نقول ونحن مستعدُّون أن نسير في خطاه إذا أردنا أن نجد الراحة التي يُعطينا والسعادة التي يغمرنا بها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM