الفصل التاسع: الرحلة الرسولية الأولى

الفصل التاسع
الرحلة الرسولية الأولى
تحتل مدينة أنطاكية في حياة بولس مكانة كبيرة. ففيها اكتشف جماعة تتكلّم لغتين، الآرامية واليونانية. واكتشف جماعة مسيحية مؤلّفة من اليهود والوثنيين. في أنطاكية سيعي بولس أهمية رسالته في العالم اليوناني. وبفضل مساعدات هذه الجماعة، سينطلق في رحلاته الرسولية الكبرى من أنطاكية لا من أورشليم. وحين يعود إلى أنطاكية، يشرك مسيحيّي أنطاكية بفرحته وشكره لتقدّم البشارة لدى الوثنيين.
أ- انطاكية، مدينة كبيرة على العاصي
1- تاريخ المدينة
لم تعد انطاكية اليوم على ما كانت عليه في أيام بولس. فاض النهر مراراً، واهتزت الأرض، فأمّحت كل آثار المدينة القديمة أو كادت. كانت أنطاكية جزءاً من سورية، إلى أن ضمّت إلى تركيا مع كل لواء الاسكندرون عشية الحرب العالمية الثانية. إذن، هي اليوم مدينة صغيرة في تركيا.
تأسست سنة 311 ق. م. على يد سلوقس، فكانت ثالث مدينة في العالم القديم بعد رومة الاسكندرية. كانت اسوارها تمتدّ على 15 كلم، وكان سكانها يعدّون نصف مليون نسمة، كما يقول سترابون. كانت أنطاكية ملتقى طرق بسبب موقعها. إتصلت بواسطة العاصي بسورية الجوفاء (البقاع اللبناني) التي كانت أحد أهراء العالم القديم. والبحر لم يكن بعيداً. كانت القوافل تأتيها من بلاد الرافدين كما من طرسوس وبر الأناضول عبر الأبواب السورية. وهكذا كانت انطاكية على ملتقى حضارتين: العالم السامي والعالم اليوناني. إشتهر معبدها الذي كرّس لأبولون والذي شيّد في دفنة المخضوضرة (2 مك 4: 33)، باحتفالات إباحية مُنع الجندي الروماني من المشاركة فيها.
أقامت في انطاكية جماعة يهودية، وقد اعاد خلف انطيوخس أبيفانوس ما سلبه هذا الأخير من الهيكل. وسيقوم هيرودوس الكبير ببعض الأعمال في انطاكية ليدلّ على عظمته، ويساعد على توسّع الجماعة اليهودية في تلك المدينة. نشير هنا إلى أن اليهود ردّوا عددا كبيراً من أهل المدينة إلى ديانتهم. ونشير أيضاً إلى ليبانيوس، معلّم الخطابة في منتصف القرن 4 ب. م. والذي تتلمذ على يده يوحنا فم الذهب وتيودورس، أسقف المصيصة.
2- تأسست الجماعة المسيحية في انطاكية
يشكّل مجيء الهلينيين إلى انطاكية تاريخاً مهماً في عمل البشارة. يقول أع 11: 19- 21: "وأما المؤمنون الذين شتّتهم الاضطهاد الذي نزل بهم بعد مقتل اسطفانس، فانتقلوا إلى فينيقية وقبرص وانطاكية، وكانوا لا يبشرون أحداً بكلام الله إلا اليهود. ولكن بعض هؤلاء المؤمنين من قبرص وقيروان جاؤوا إلى انطاكية وأخذوا يخاطبون اليونانيين أيضاً ويبشّرونهم بالرب يسوع. كانت يد الرب معهم، فآمن منهم كثيرون واهتدوا إلى الرب". نشير أولاً إلى أن أول من بشر أنطاكية لم يكن الرسل، بل المسيحيون. في مرحلة أولى، بشّروا اليهود فقط. ولكن من يقدر أن يوقف هجمة الروح؟ من يقدر أن يحصر كلمة الله في مدينة من المدن أو في شعب من الشعوب؟ خاطب المسيحيون المشتتون اليهود ثم اليونانيين أي الوثنيين. وكما دفع الرب بطرس إلى بيت كورنيليوس، هكذا ساند مبادرة المرسلين في أنطاكية. لا شك في أنه كان لاضطهاد اسطفانس أثر سيء، ولكن كان له أيضاً أثر حسن، لأنه اخرج الكنيسة من عزلتها، وأطلقها على طرق العالم. كان باستطاعة الجماعة المسيحية الأولى أن تبقى منعزلة على نفسها، أن تكون شيعة مثل سائر الشيع اليهودية. ولكن الروح القدس لم يتركها ترتاح، فأرسلها إلى خارج أورشليم، جعلها كنيسة جامعة وهو سيوصلها إلى أقاصي الأرض.
لهذا سمح الرب بأن تلقى كنيسته الاضطهاد منذ بداية حياتها. ويشير سفر الأعمال مرتين إلى النتائج الحسنة التي لحقت هذا الاضطهاد. نقرأ في 8: 4: "وأخذوا المؤمنون الذين تشتتوا ينتقلون من مكان إلى آخر، مبشّرين بكلام الله". ولم يكتف هذا الاضطهاد باطلاق الكنيسة إلى نواحي اليهودية والسامرة (8: 1) وسائر فلسطين (لدة، يافا، 9: 32- 36) ودمشق ومدن فينيقية، بل أوصلها إلى انطاكية، بانتظارها أن يطلقها من هناك إلى آسية الصغرى (تركيا).
أجل، للمرة الأولى تُعلن البشارة لليونانيين: "قلقت جماعة أورشليم مما حدث، فأرسلت برنابا. فلما جاء ورأى النعمة التي وهبها الله للمؤمنين، فرح وشجعّهم كلهم على الامانة للرب بكلّ قلوبهم" (11: 23). لا بدّ من إبقاء الرباط متيناً بين كنيسة أورشليم وسائر الكنائس. حين بشر فيلبس، أحد السبعة، السامريين، أرسلت كنيسة أورشليم بطرس ويوحنا (8: 14). وحين توسّعت البشارة، راح بطرس يزور الكنائس الواحدة بعد الأخرى حتى وصل إلى لدة (9: 32). أما هنا، فأرسلت أورشليم إلى أنطاكية برنابا الذي قيلُ فيه أنه كان "رجلاً صالحاً، ممتلئاً من الروح القدس والإيمان" (11: 24). ولكنها لم ترسل واحداً من الرسل. هل كانت الأسباب لغوية (لا يعرف بطرس اليونانية)؟ هل المسافة كانت السبب؟ ولكن بطرس سيذهب فيما بعد إلى أنطاكية كما تقول غل 2: 11- 12. هل تخوّفت أورشليم من هذه الجماعة الوثنية الجديدة؟ الأمر ممكن، لاسيما وان وضع بطرس بعد ارتداد كورنيليوس لم يكن سهلاً (11: 2 ي). مهما يكن من أمر، فالروح القدس أسند بواسطة برنابا عمل البشارة لدى الوثنيين. وما اكتفى برنابا بالتشجيع، بل شمّر عن ساعده من أجل العمل "فانضمّ إلى الرب جمع كبير". وكان ذلك بفضله. وسيوسّع برنابا الرسالة، فيذهب في طلب شاول (بولس). جاء به من طرسوس إلى انطاكية، فأقاما سنة كاملة يجتمعان إلى أبناء الكنيسة، فعلّما جمعاً كبيراً (11: 25- 26). أجل، بعد أن حاول بولس أن يبشر في دمشق (9: 19- 24) ثم في أورشليم (9: 26- 30) ها هو يذهب إلى طرسوس (9: 30). أحدق به الخطر في دمشق بعد أن وضع اليهود خطة ليقتلوه. فأخذه التلاميذ ليلاً ودلّوه من السور في قفة (9: 24). وحاول اليهود المتكلمون باليونانية أن يقتلوه في أورشليم فأنزله الإخوة إلى قيصرية، ومن هناك أرسلوه إلى طرسوس (9: 30). إذن، أبعده الرسل عن الخطر. وقد يكون هناك سبب آخر لمجيء بولس إلى طرسوس: إنه يبحث عن دعوته. إنه لن يستطيع أن يبشر إخوته وقد قال: "إني حزين جداً، وفي قلبي ألم لا ينقطع. وإني أتمنّى لو كنت أنا ذاتي محروماً ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي في الجسد" (روم 9: 2- 3). فماذا يفعل؟ هو ينتظر أنوار الله، وسوف تصله على يد برنابا الذي قدّمه للرسل (9: 27)، وذهب إليه يدعوه لمشاركته في البشارة. وسيفهم بولس في نهاية حياته أن عليه أن يحمل اسم المسيح إلى الأمم الوثنية والملوك (حتى رومة) (9: 15). سيفهم كلام الرب: "سأنقذك من الأمم الوثنية الذين أرسلك إليهم، لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور" (26: 17- 18). أجل، أرسل الروح القدس برنابا إلى بولس فصار رسوله الأمم، والى جماعة أنطاكية فسمّيت كنيسة على مثال كنيسة أورشليم مع أنها تألفت من مختونين وغير مختونين، والى هؤلاء الأخوة الجدد (1: 15) فتسمّوا مسيحيين نسبة إلى المسيح (كرستيانوس نسبة إلى كرستوس). كانوا "المؤمنين" (2: 44) و"التلاميذ" (6: 1) وأهل "الطريق" أو: "المذهب" (9: 2) و"القديسين" (9: 13)، فصاروا المسيحيين. هكذا سماهم الوثنون أنفسهم، واعتبروهم مجموعة دينية جديدة تنتمي إلى المسيح. ليس المسيحيون شيعة يهودية، شأنهم شأن الصادوقيين (5: 17) أو الفريسيين (15: 5)، وقد سماهم ترتلّوس "شيعة الناصريين" (24: 4، رج 2: 22). إنهم جماعة المسيح الذي يتبعه الرسل. وسيقول اغريبا لبولس: "تريد أن تقنعني بأن أصير مسيحياً" (26: 28 أ).
وسيدلّ التلاميذ في أنطاكية على تضامنهم مع كنيسة أورشليم خلال المجاعة التي حدثت في فلسطين في أيام الإمبراطور كلوديوس. قدّم كل واحد معونة إلى الإخوة المقيمين في اليهودية، وذلك بواسطة برنابا وشاول (11: 27- 30). أرسلت أورشليم معونة روحية إلى كنيسة انطاكية، فردّت لها انطاكية معونة مادية. قال القديس بولس في هذا الشأن: "فاذا كنا زرعنا فيكم الخيرات الروحية، فهل يكون كثيراً علينا أن نحصد من خيراتكم المادية" (1 كور 9: 11)؟ هكذا برزت المشاركة (كوينونيا) بين كنيستين على ما قال القديس لوقا: "وكان المؤمنون كلهم متحدين، يجعلون كل ما عندهم مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وخيراتهم ويتقاسمون ثمنها على قدر حاجة كل واحد منهم" (2: 44- 45).
ب- الانطلاق في الرسالة
1- ارسال برنابا وشاول (13: 1- 3)
نشير أولاً إلى أن الرحلات الرسولية البولسية ستنطلق كلها من أنطاكية. من انطاكية انطلق بولس وبرنابا فنزلا إلى سلوكية (13: 4). وبعد أن بشرا قبرص وقسماً من آسية الصغرى، عادا إلى انطاكية وجمعا الكنيسة (14: 27). تلك كانت الرحلة الأولى. وبعد أن نال بولس وبرنابا بركة مجمع أورشليم (15: 1- 34)، إنطلقا من أنطاكية حيث كانا يعلّمان ويبشران بكلام الرب (15: 35)، وذهبا يتفقدان الاخوة في كل مدينة بشّرا بها (15: 35). والى انطاكية سيعود بولس بعد مرور عابر في قيصرية وأورشليم (18: 22). وتبدأ الرحلة الثالثة في 18: 23: "بعد ما صرف بعض الوقت في أنطاكية، خرج وسار في غّلاطية وفريجية يقوّي عزائم التلاميذ". كان لوقا من أنطاكية، ولهذا احتفظ بلائحة المسؤولين عن الجماعة: برنابا، شممعون، لوقيوس، مناين، شاول. برنابا هو في المقدمة، وبولس في المؤخرة. وسيكون بولس الثاني في آ 2 و آ 7. بعد آ 9، سيلعب بولس الدور الأول في رسالته مع برنابا (آ 42، 46، 50، 14: 3، 19- 21). وسيترك اسم شاول نهائياً ويحتفظ باسم بولس: إنه قد انتقل من العالم اليهودي إلى العالم الوثني.
يتحدث 13: 1 عن الأنبياء والمعلمين. المعلّمون هم مسيحيون نالوا موهبة تعليم أخوتهم. يجعلهم بولس (1 كور 12: 28) بعد الرسل والأنبياء في سلسلة أعضاء الجماعة الذين نالوا موهبة من مواهب الروح القدس. واحتل الأنبياء (13: 1؛ 15، 32؛ 21: 9- 10) مكانة رفيعة في الجماعة. يجعلهم بولس (1 كور 12: 28؛ أف 4: 11) حالاً بعد الرسل في سلسلة الذين نالوا مواهب (كرسمات) الروح القدس: هم يحرّضون الجماعة ويبنونها (15: 32). يقرأون في القلوب وقد ينبئون بالمستقبل (11: 27- 28).
وخلال سهرة صلاة وليتورجيا (نحن هنا بلا شك في احتفال بالافخارستيا) (20: 7)، أسمع الروح القدس صوته بواسطة الأنبياء: "خصّصوا لي برنابا وشاول لعمل دَعَوتهما إليه" (آ 2). "العمل" هو المهمة (أو الرسالة) التي سيقوم بها بولس وبرنابا خير قيام (14: 26: العمل الذي قاما به والذي سينتهي في 15: 35).
إن صوم الجماعة يجعل الصلاة تزداد حرارة. وتميّز الاحتفال بالانطلاق بوضع الأيدي (هذا ما يدل على بداية عمل محدّد). أحس كل واحد أنه متضامن مع المرسلين على المستوى الروحي كما على المستوى المادي. يحتاج الرسولان إلى الطعام والى المال ليدفعا أجرة العبور. وسيكون لبولس مناسبات يحرض فيها الجماعات على تأمين الضروري للمرسلين. سيوصّي أهل كورنتوس بتيموتاوس (1 كور 16: 11). وسينتظر معونة مسيحيي رومة من أجل الذهاب إلى اسبانية (روم 15: 24): قد تكون معونة مادية، قد يحتاج إلى رفيق في الطريق، أو إلى نصائح... وقد يحتاج إلى كل هذا.
2- شاول وبرنابا في قبرص (13: 4- 12)
كانت جزيرة قبرص موطن برنابا (4: 36)، وكان فيها جماعة يهودية كبيرة. كانت العلاقات التجارية نشيطة بين قبرص وفلسطين حتى إن اغوسطس منح هيرودس الكبير نصف مدخول المناجم من النحاس. يذكر لوقا مدينة سلاميس التي هي على الشاطئ الشرقي للجزيرة. ويذكر أيضاً بافوس التي هي مرفأ على الشاطئ الغربي للجزيرة وتبعد عن سلاميس مسافة 180 كلم. في بافوس أقام حاكم الجزيرة. إنطلق المسافران من سلوكية، مرفأ انطاكية إلى قبرص، وعادا من قبرص، من مرفأ بافوس إلى آسية الصغرى.
إهتمّ لوقا بأول اتصال بين بولس وهذا الوالي الروماني المستعدّ لسماع كلام الله. يقول عنه أع: "طلب إليهما أن يسمع كلام الله" (آ 7). إسم هذا الحاكم: سرجيوس بولس. ونقرأ في آ 9: "فامتلأ شاول"، واسمه أيضاً بولس، من الروح القدس". هل من علاقة بين الاسمين أم أن الأمر مجرّد صدفة؟ لا شك في أن الاتصال بالعالم الروماني دفع بولس لكي يتخفى عن اسم شاول وفيه ما فيه من تحقير.
ولكن وجب على بولس أن يواجه ساحراً يهودياً اسمه بريشوع (أو: ابن يشوع). وكان اسمه أيضاً "عليماً" لأنه اعتبر عالماً في أمور السحر والعرافة. وكانت معجزة بولس الأولى: حلّت الضربة بهذا الساحر الذي "اخذ يدور حول المكان ملتمساً من يقوده بيده" (آ 11). ظهرت قدرة الله فآمن الحاكم، وتأثر بتعليم الرب.
من هم الأشخاص؟ بولس وقد تحدّثنا عنه. ويوحنا (آ 5) أي يوحنا مرقس، هو تارة يوحنا الملقب بمرقس (12: 25) أو يوحنا المسّمى مرقس (15: 37) أو هو مرقس (15: 39؛ كو 4: 10؛ فلم 24؛ 2 تم 4: 11؛ 1 بط 5 :13) أو يوحنا (13: 5، 13). تخفى عن بولس وبرنابا أمام صعوبات الرسالة (13: 13). وسيتذكّر بولس هذا التخلي فيرى "أن لا يرافقهما من فارقهما في بمفيلية وما شاركهما في العمل" (15: 38). وبسبب مرقس، سيكون خلاف بين بولس وبرنابا. حينئذ ذهب برنابا مع مرقس، وذهب بولس مع سيلا وهو احد الذين أرسلتهم كنيسة أورشليم إلى أنطاكية ليحمل إلى المؤمنين قرار مجمع أورشليم (15: 22 ي). ولكن سيكون مرقس المعاون المخلص لبولس ويسميه بطرس "ابني". تسميه كو 4: 10: "ابن عم برنابا".
وهناك برنابا. اسمه يوسف. لقبه: ابن التعزية. هو يعرف كيف يعزّي ويشجع (بيا في السريانية). وُلد في قبرص، كما قلنا، وكان من اللاويين (يهتمّون بأمور العبادة). إمتلك أراضي في أورشليم وقد "باع حقلاً يملكه وجاء بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل" (4: 37). كان طويل القامة وصاحب لحية مهيبة، فسمّوه "زوش" (أو زفس) رئيس الآلهة في الميتولوجيا اليونانية (14: 12). لم يكتب برنابا رسالة، ولم يترك لنا خطبة، ولكنه عاش كلام يسوع حرفيا: "بع ما لك وأعط ثمنه للمساكين". وهكذا تحرّر برنابا، وجعل نفسه في خدمة الآخرين. صار رسولاً، أي تكرّس لخدمة البشارة، لخدمة الإنجيل. وكان برنابا قائداً منفتحاً على عمل الروح مستعداً لتقبل إيحاءاته. حين جاء بولس إلى أورشليم، إستقبله برنابا وقدّمه إلى الرسل. هناك أمور جديدة في انطاكية.. حينئذ أرسلت كنيسة أورشليم برنابا. أحس أن الأمور تتجاوزه فذهب إلى طرسوس وعمل مدة سنتين مع شاول. كان الأول وهيأ بولس للرسالة. صار الثاني، ولكنه فرح لأنه سلم المشعل إلى من يحمله.
بدأت الرسالة أولاً في المجامع. هذه هي طريقة بولس التي أعلنها في 13: 46: "كان يجب أن نبشّركم أنتم أولاً بكلمة الله. بما أنكم رفضتموها، لذلك نتوجّه الآن إلى الوثنيين". هذا ما يفعله بولس في انطاكية بسيدية (13: 14)، في ايقونية (14: 1)...
3- الرسالة في بمفيلية وبسيدية
كانت تتوزّع منطقة بمفيلية مدن هامة لا تزال آثارها ظاهرة للعيان. يكفي أن نعلم أن مسرح برجه كان يتسع لخمسة عشر ألف مشاهد. هذا ما يدلّ على عظمة المدينة. ومع ذلك، ذهب الرسول إلى داخل البلاد عبر أبواب جبال طورس المشهورة باللصوص الكامنين فيها (2 كور 11: 26). خاف يوحنا مرقس. فذهب بولس وبرنابا وحدهما نحو بسيدية وليقونية. إن الخبر المروي في انطاكية بسيدية (13: 16- 41) هو خبر نموذجي وسنعود إليه. يفهمنا لوقا كيف كان يعظ بولس، وكيف كان الناس ولاسيما اليهود، يتقبلّون كلامه. وهكذا تنقسم الجماعة بين مؤمنين مجدّوا كلام الرب، وبين رافضين يصيرون مضطهدين.
إن لوقا يعطي أهمية كبيرة للمجامع. فيسوع ألقى خطبته التي كانت برنامج رسالته في مجمع الناصرة (لو 4: 18- 27). وفي أنطاكية بسيدية أعلن بولس أن يسوع هو المسيح منطلقاً من انتظار الشعب المختار. توجّه يسوع في الناصرة إلى اليهود. أما بولس فسيلتقي بسامعين من اليهود ومن المتّقين لله. وسيعطي بولس الأساس اللاهوتي لممارسة مهمته التبشيرية: "الإنجيل هو قوة الله لخلاص كل مؤمن من اليهود أولاً ثم من اليونانيين" (روم 1: 16).
نجح بولس لدى الدخلاء، فعارضه اليهود ولاحقوه. وسيلاحقونه في كل رسالته: في إيقونية (14: 2 ي)، في لسترة (14: 19)... بانتظار تسالونيكي (17: 5) وبيرية (17: 13) وكورنتوس (18: 12 ي).
ووصل بولس وبرنابا إلى ايقونية. هي كونيا الحالية. كانت جزءاً من مقاطعة غلاطية الرومانية. أما ليقونية فتقع بين فريجية وغلاطية وكيليكية وهي أرض تكثر فيها المراعي. بدأ التبشير في المجمع. سمع اليهود واليونانيون. حرّض اليهود اليونانيين (أي غير اليهود) على بولس وبرنابا، ولكن الرسولين أقاما مدة من الزمن يجاهران بالرب. وجرت العجائب والآيات. وانقسم أهل المدينة. وخاف الأخوة من أن يُرجم الرسولان فدفعوهما إلى الهرب.
4- كرازة للوثنيين في لسترة (14: 8- 20)
ما زالت الصعوبات تلاحق بولس وبرنابا. وصلا إلى لسترة، وهناك حصلت لهما مغامرة غريبة تدل على بساطة هؤلاء الناس الذين يصدّقون كل ما يقال لهم. شفى بولس رجلاً كسيحاً، فظن الناس أن الآلهة جاؤوا إلى الأرض في لباس البشر: زوش اله السماء الاولمبي وهرماس المتحدث باسمه: برنابا، وبولس يتحدّث. أراد الناس أن يقدموا ذبيحة لهذين "الالهين". حينئذٍ مزّق بولس وبرنابا ثيابهما: "نحن بشر ضعفاء مثلكم. جئنا نبشركم لتتركوا هذه الاباطيل وتهتدوا إلى الله الحي" (آ 15).
جاءت هذه المعجزة كجواب على الإيمان. نظر بولس إلى الكسيح فرأى فيه من الإيمان ما يدعو إلى الخلاص أي إلى الشفاء (مر 9: 23)؛ رج 3: 16: قال بطرس: "وبفضل الإيمان باسم يسوع عادت القوة (الصحة) إلى هذا الرجل الذي ترونه وتعرفونه". معجزة بولس هذه تشبه معجزة بطرس (3: 1). هذا ما قاله بولس لأهل كورنتوس: "وما أنا أقل من الرسل. فالعلامات على أني رسول اظهرتها بكل صبر بينكم: من معجزات وعجائب وأعمال خارقة" (2 كور 12: 11- 12).
هذه الخطبة القصيرة (آ 15- 17) هي أول مثل عن الكرازة التي وجّهها بولس إلى اليهود، بل إلى الوثنيين الذين لا يشاركون اليهود في إيمانهم. أعلن بولس الله الخالق الذي يعتني بالبشر. هو لم يلفح إلى تاريخ إسرائيل، ولا إلى النبوءات، ولكن كلامه جاء نسيجاً من الكلمات البيبلية. نقرأ مثلا خر 20: 11: الرب خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها (رج مز 146: 6). وهذا ما نجده في آ 15. وإذ يتكلم بولس عن المطر والمواسم والقوت يتذكّر مز 147: 8: "يغطي السماء بالغيوم، ويهيئ المطر للأرض، وينبت العشب في الجبال" (رج إر 5: 24).
أبرز بولس، شأنه شأن الفلاسفة الرواقيين، الخيرات التي تمنحها العناية ونظام الفصول. هذه الخطبة هي رسمة لن تكتمل خطوطها إلاّ في أثينة حيث يستعيد بولس البرهنة عينها في لغة فلسفية مدروسة.
ولكن اليهود جعلوا الناس ينسون المعجزة، فاستمالوهم على بولس: رجموه وجرّوه إلى خارج المدينة وحسبوه أنه مات (آ 19). ولكنها لن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة التي سيرجم فيها بولس (2 كور 11: 25).
وانتقل الرسولان إلى دربة وكسبا كثيراً من التلاميذ. وعادا في الطريق عينه يشجّعان الجماعات الفتية على الثبات في الإيمان، أي في الحياة المسيحية. ويقولان: "لا بدّ من أن نجتاز صعوبات كثيرة لندخل ملكوت الله" (أف 3: 13؛ كو 1: 24؛ 1 تس 3: 3- 4؛ 2 تس 1: 4- 5؛ 2 تم 3: 12).
وعيّنا لهذه المجموعات قسوساً أو شيوخاً. عرفنا من 11: 30 أن هناك شيوخاً (أو قسوساً أو كهنة) في كنيسة أورشليم. كان عند اليهود شيوخ يرئسان جماعاتهم، وكان هؤلاء الشيوخ يأتون حالاً بعد رؤساء الكهنة (4: 23: رؤساء الكهنة والشيوخ، رج 23: 14؛ 25: 15) في جماعة أورشليم. وهكذا يأتي الشيوخ المسيحيون بعد الرسل. وهنا نجد الشيوخ للمرة الأولى خارج أورشليم. دورهم قيادة الجماعة (رج 20: 18 ي). وسنجد إيضاحات أخرى عن تنظيم الجماعات في 1 تم 3: 1- 7؛ تي 1: 5- 9. أجل، إن بولس لا يكتفي بأن يزرع الكنيسة: إنه يسهر على نموّها.
وعاد الرسولان إلى أنطاكية كما انطلقا منها، أرسلتهما الكنيسة في مهمة وها هما يقدّمان تقريراً عن هذه المهمة: فتح الله باب الإيمان للوثنيين. فهل يبقى هذا الباب مفتوحاً، أو تغلقه جماعات منغلقة على ذاتها، وعلى العالم اليهودي؟ هذا ما سيتدارسه مجمع أورشليم فيقول بلسان بطرس: لم يفرّق الله بين اليهود والوثنيين. نحن نخلص بنعمة الرب يسوع (لا بالشريعة). وهم يخلصون أيضاً بنعمة الرب يسوع. ما فزق الله بيننا وبينهم في شيء. طفر قلوبنا بالإيمان وطهّر قلوبهم بالإيمان. أجل، إن كلمة الله ليست مقيّدة. وسينطلق بولس في رحلة رسولية ثانية تصل به ورفاقه إلى أوروبا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM