الفصل الرابع: سفر الأعمال، كتاب تاريخ ديني

الفصل الرابع
سفر الأعمال، كتاب تاريخ ديني
أ- ماذا يقول الشراح عن سفر الأعمال
1- الفن الأدبي وهدف الكتاب
لماذا كتب لوقا كتبه ولمن كتبه؟
يقول شراح عديدون إن لوقا ما أراد أن يدون كتاب تاريخ (حسب مفهومنا الحديث)، بل كتاباً تعليمياً من أجل بناء الجماعة التي يعيش فيها. وجّه كتابه إلى المسيحيين الهلينيين (يتكلّمون اللغة اليونانية) ليذكّرهم بانتشار البشارة وتوسّع الكنيسة لدى الوثنيين. ماذا يعني هذا الكلام؟
ليس أع كتاب تاريخ، لأن لوقا لا يرديد أن يورد الماضي على أنه ماضٍ، أو أن يقدّم صورة جديدة عن أصل المسيحية يحافظ فيها على موضوعية الصحافي. وليس أع سرداً لسيرة بطرس وبولس على طريقة الأغريق بحرّيتها في التوسّع والكتابة. لا يهتمّ لوقا بفضول معاصريه أو الأجيال اللاحقة. إنه يريد أن يبني جماعته. وهو لا يُعنى بسيكولوجية أبطال عاشوا في الماضي في إطار تاريخي مفصّل ودقيق. هدفه هو الحاضر، وإليه ينقل تعليماً لاهةتياً خاصة في الخطب التي تتوزّع كتابه. إذن، نحن أمام كرازة وتعليم ديني موجّه إلى المؤمنين. هذا ما قاله هرناك، ديباليوس، هانشن، ايراهاردت وغيرهم.
ويرى هؤلاء الشراح في مجمل الكتاب موضوعين هامين يوجّهان الكاتب.
الأول: موضوع الشمول: إ، تعليم الخلاص يتوجّه إلى جميع البشر، والإنجيل ينتقل من اليهود إلى الأمم الوثنية. هذا هو التعليم الأساسي الذي يوجّه لوقا إلى المسيحيين الهلينيين. ولكننا نتساءل: لماذا احتاج لوقا أن يذكر يقيناً مثل هذا أمام مؤمنين من أصل وثني؟ هل ليحميهم من محاولة تهويد (أي فرض الشرائع والأطر اليهودية) جديد كما حدث في جماعات غلاطية؟ قد يكون الأمر هكذا.
الثاني موضوع الدفاع. هو أق أهمية من الأول ولكنه حاضر. أراد صاحب أع أن يقدم المسيحية إلى العالم الروماني بوجهها الصحيح. فذكر أن المسيحيين لا يعادون الدولة، وأنهم بالتالي يستطيعون أن ينالوا حقوق الديانة المشروعة، كما هو الحال بالنسبة إلى العالم اليهودي. ولكن، إن كان الأمر هكذا، يصبح أع وكأنه كتب أولا للامؤمنين وللسلطات الرومانية، وهذا ما يرفضه شراح عديدون. وأخيراً، إن ذكر تيوفيلوس في لو 1: 3 وأع 1: 1 ما زال يطرح أسئلة دون جواب يُجمع عليه الشرّاح.
وعلى كل حال، إن الذين شدّدوا على الطابع الهجومي (على اليهود مثلاً) أو على الطابع الدفاعي (بالنسبة إلى السلطة الرومانية)، لم يجدوا من يتبعهم. نذكر مثلاً زيلر (مدرسة توبنغن في ألمانيا): أراد صاحب أع أ، يوفّق بين الكنيسة الكبرى والمسيحية المتهودة، فجاء كتابه بشكل تسوية تزيل كل أثر للتعارض بين بطرس وبولس. لم يعد أحد يدافع عن هذا الموقف مع ما فيه من جاذبية. فالجميع يشيرون إلى محبة لوقا للسلام. فهو لا يحب أن يجعل الناس يتجابهون، ولا أن يصلّب المواقف والأوضاع. ولقد قال جوليشر في عبارة شهيرة: لم يجعل من بولس رجلاً "مهوّداً" (حسب التقليد اليهودي) ولا من بطرس رجلاً "مبلوساً" (أي حسب عقلية بولس)، بل جعلهما لوقاويين أي كاثوليكيين، فتجاوزا الأمور الخاصة ليدخلا في نظرة الكنيسة الشاملة.
وقال بوليج: دوّن لوقا دفاع بولس بالنظر إلى دعوى التي أقيمت عليه. وقال سالين: أع هو الدفاع الذي استعمله بولس أمام محكمة الامبراطور في رومة. ولكن هذا القول لا يفسّر لماذا لوقا ف 1- 12، كما ينسى أن أع هو الدرفة الثانية من مؤلف يتضمّن درفة أولى هو الاإنجيل الثلث. وقال تروكمي: أع هو كتاب نزاع ومجادلة يدافع فيه لوقا عن بولس بوجه المتهودين. لقد أراد لوقا أن يجعل من بولس المكمّل الحقيقي لعمل الإثني عشر.
ونتساءل: لماذا رفض الشراح أن يعتبروا أع كتاباً تاريخياً؟ بسبب التعارض الظاهر بين أع والرسائل البولسية. سنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد، ولكننا لا نقدر أن ننكر أمراً يقيناً وهو أن لوقا يلقي نظرة إلى ماضي الجماعة الأولى ليجمع أغنى المعطيات يجعلها في إطار لاهوته. قد ينقض التاريخ بعض الصحة حسب الطريقة الحديثة في سرد التاريخ، ولكننا نبقى مع أع أمام كتاب تاريخ وليس فقط أمام مقال تقوي أو درس تعليمي.
2- الاسكاتولوجيا والتاريخ
لماذا كتب لوقا هذا التاريخ وكيف تجرّأ فزاده على النص الإنجيلي (كتابه الأول)، فجعل حياة الكنيسة وحدث الخلاص المعلن بالإيمان على مستوى واحد وفي مجموعة واحدة؟ إن الجواب على هذا السؤال الجوهري يعطينا المفتاح لندخل في سرّ أع. فقبل الجيل المسيحي الثاني الذي كان جيل لوقا، انتظر المسيحيون عودة الرب في القريب العاجل. ولكن النهاية القريبة التي أعلنوها دائماً لم يأتِ، وانتظار الخلاص الاسكاتولوجي ضعف فأثّر على قرار الإيمان. في قلب هذه الأزمة، وعى لوقا مستقبل الكنيسة: ما زال أمام الكنيسة مستقبل طويل وغير محدّد. فعلى الكنيسة أن تقيم في العالم، في زمن الخلاص، حيث ستعمل كمنظمة خلاص تحمل التعليم الخلاصي. فقال غراسر: إن لوقا "تورخ" (أي أدخل في التاريخ) التقليد الاسكاتولوجي (الذي هو في نهاية الزمن): لقد جاء لخلاص وحلّ في زمن الكنيسة حاملة الخلاص. وهكذا عاد الموضوع الاسكاتولوجي إلى الوراء وبدأ زمن الشهادة. قال الملاك للتلاميذ: "ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء" (1: 11)؟ وقال كازمان: نحن لا نكتب تاريخ الكنيسة حين ننتظر كل يوم نهاية العالم. ولكن تأخّر مجيء المسيح الثاني، دفع لوقا إلى أن يتخلّى عن الانتظار القريب لليوم الاسكاتولوجي، وأن يحل محله رؤية "تاريخ الخلاص" حيث تشكّل حياة يسوع "وسطا بين زمانين"، زمان إسرائيل وزمان الكنيسة (كونزلمان).
ولكن هذه النظرة اللاهوتية والسيكولوجية تصطدم بعقبات. غنطلق بعضهم من عناصر ربطوها ربطاً مصطنعاً، فبنوا نظرية لاهوتية ترتبط بلوقا ولم يشرحوا نص لوقا. فنحن لا نجد في أع أية خيبة أمل أمام تأخّر المجيء الثاني. وهل إن لوقا زاح الانتظار الاسكاتولوجي إلى مستقبل بعيد واعتبره غير مهم، وهو الذي ذكر في إنجيله إمكانية دينونية مفاجئة (لو 10: 9؛ 12: 35- 36؛ 21: 34- 36)؟ أما كان لوقا ينتظر النهاية الأخيرة حين ينتهي جيله (لو 9: 27، 18: 8- 21: 32)؟ لقد وعى مستقبلاً للكنيسة بالنظر إلى ماضٍ مضى. ولكن، إذ شدّد على بداية جديدة للتاريخ في يسوع المسيح، أكّد في الوقت عينه على النهاية. إذا كان هناك من بداية، فلا بد من أن تكون نهاية.
ومع ذلك، إن عدنا إلى لو وأع، وجدنا أن لوقا أضعف التوتر الاسكاتولوجي. نقرأ مثلاً في لو 19: 11: "وكان الذين يسمعون هذا الكلام يظنون أن ملكوت الله سيظهر في الحال". ونقرأ أيضاً: قال يسوع: "انتبهوا لئلا يضلّكم أحد. سيجيء كثير من الناس متحلين اسمي فيقولون: أنا هو المسيح وحان الوقت، فلا تتبعوهم" (لو 21: 8؛ رج أع 1: 6- 8). فهل أراد لوقا أن يحارب الآراء الجليانية الخاطئة التي تهدّد رساة الكنيسة؟ قد يكون. ولكن هذا لا يمنعه من أن يعتبر الأزمنة الحالية وكأنها "الأيام الأخيرة" التي دشنها مجيء الروح (أع 2: 17: يحوّر في يوء 3: 1. "بعد هذا" صارت "في الأيام الأخيرة")، أو أن يتكلّم عن الملكوت الآتي في دباية أع (1: 3، 6) وفي نهايته (28: 23، 31) كما في أماكن عديدة منه (8: 12: بشّرهم فيلبس بملكوت الله؛ 14: 22؛ 17: 7؛ 19: 8؛ 20: 25). هنا نلاحظ اختلافاً واضحاً بين أع ولو: ففي لوقا يُعتبر الملكوت حاضراً في عمل يسع الخلاصي. وفي أع يتابع الروح حضور الخلاص هذا في انتظار ملكوت مسيحي.
ونقول أيضاً إ، هناك شراحاًً يجعلون من لوقا كاتباً حديثاً له تفكيرنا في النظرة إلى التاريخ. إن لوقا لم يسع إلى فتح التاريخ على مستقبل غير محدّد لزمن الكنيسة، بل ان يحصر زمن الكنيسة الحالي في وحدة الحدث الذي يؤسس الكنيسة، الذي هو مجيء يسوع المسيح.
انطلق كونزلمان وكومل من لو 16: 16 ليميّزا ثلاثة أزمنة: زمان إسرائيل حتى يوحنا، زمان يسوع، زمان الكنيسة. ولكن إذا عدنا إلى لو 3: 6 وأع 28: 28 نرى أننا أمام زمانين: زمان إسرائيل حتى يوحنا، وزمان خلاص الله. هذا يعني أن زمان يسوع وزمان الكنيسة متحدان، والمؤمنون يتطلعون إلى زمان الملكوت. لا يسمّي لوقا الكنيسة "إسرائيل الجديد". إن الكنيسة واحدة مع معلمها، وهذا ما يجعل لوقا قريباً جداً من بولس.
وما زال الشراح يتجادلون: كتاب دفاع، سيرة بطرس وبولس، كرازة وتعليم، تاريخ ديني. وسمّى بعضهم أع: البشر أو إنجيل الروح. وقالوا: تعلق أع بالإنجيل، فساعد على نقل بشارة الخلاص. وهكذا اتخذ لو بُعداً تاريخياً: انطلق من الحدث الخلاصي، فوصل إلى أقاصي الأرض. إن خبر يسوع هو بداية خبر ديني جديد يمتد في الكنيسة.
ب- تاريخ ديني
يقدّم أع تاريخاً دينياً في خط التواريخ البيبلية والنظرات التاريخية المعروفة في المجامع اليهودية في القرن الأول المسيحي. وإن لوقا نفسه يورد أمثلة من هذه اللوحات التوراتية الواسعة التي يوجّهها قصد لاهوتي (7: 2- 47؛ 13: 17- 22). فتاريخ يسوع والكنيسة هو امتداد لتاريخ شعب الله. فعبر تسلسل الأزمنة، هناك تواصل في التاريخ لا انقطاع. فكتابة الحدث المسيحي تبدو وكأنها تكمّل نص التوراة، فتدوّن تاريخاً جديداً يجد كماله في يسوع والجماعة المسيحية.
1- القديميات البيبلية وسفر الأعمال
عرف القرن الأول المسيحي العديد من هذه الكتب التي تستعيد التاريخ، فتستعمل العهد القديم والتقاليد الشفهية (ها غاده أو الخبر الديني) من أجل بنيان المؤمنين. نذكر بصورة خاصّة القديميات البيبلية التي قيل أن فيلون الاسكندراني دوّنها. ويبدو أن هذا الكتاب دوّن في فلسطين قبل سنة 70 (دمار أورشليم على يد الرومان). وهو يقدّم التاريخ من آدم إلى شاول في سلسلة من اللوحات الحية المركّزة على أشخاص توراتية مثل يشوع، القاضي قناز، صموئيل. ونجد في هذا التاريخ الجديد للعهد عدداً من الخطب التي وضعت على شفاه الأشخاص، فذكّرنا بأحد مواضيع الكتاب المهمة وهو: ديمومة العهد، فالله وحده هو سيد التاريخ، وكل شيء يسير حسب مخطّطه، والنبوءات تتم دوماً. في هذا التاريخ الديني المدوّن في إطار العناية الإلهية، الله وحده هو المخلّص. أما الرئيس الذي يعيّنه الله هو أداة هذا الخلاص (إن قناز يعيَّن بالقرعة كما يعيّن متيا في أع 1: 26).
وإذا تفحصنا القديميات البيبلية وجدنا توازيات عديدة مع مؤلّف لوقا (أي الإنجيل والأعمال): البشارات، الصلوات العديدة، الملائكة، الروح القدس والنبوءة، موضوع الشهادة. يبدو أ، لوقا تيبع نهج فيلون المزعوم، ولكنه يشدّد على ما في الحدث الخلاصي من جديد.
وإذا عدنا إلى أع نرى أن الله يقود مسيرة التاريخ في طرق لا ننتظرها. الله يسوس التاريخ، وكل شيء يتم حسب قصده (أع 4: 28)، حسب مخطط الله" (20: 27) ونحن لا نقدر أن نعارضه (5: 39؛ 11: 17؛ 26: 14). والرسول يتبع إرادة الله (5: 29؛ 6، 16)، لأنه يجب (1: 16، 22، داي في اليونانية) أن يتحقّق كل شيء حتى زمن تجديد العالم (3: 21). ويقف في خدمة مخطّط الله الملائكة (5: 19؛ 8: 26؛ 10: 3، 7، 22؛ 11: 13؛ 12: 7- 11، 23). وتعطى الرؤى للبشر (2: 17؛ 9: 10، 12؛ 10: 3؛ 16: 9- 10؛ 18: 9؛ 23: 11؛ 26: 16- 19؛ 27: 24). والروح القدس هو الذي يوجّه الأحداث باستمرار منذ فبض الكلمة يوم العنصرة. إن الروح القدس هو هنا منذ بداية حياة يسوع العامة (لو 4: 1، 10) وفي "معمودية" الكنيسة (أع 1: 5؛ 2: 4، 18)، وطوال الرسالة. هو يحمل قوة الشهادة الرسولية (أع 4: 8، 31؛ 5: 32؛ 6: 10). ويؤثر بصورة مباشرة على سلوك الرسل (8: 15، 17؛ 13: 2، 4؛ 15: 28). هو الذي قال لفيلبس: اقترب من مركبة وزير ملكة الحبشة (8: 29)، وهو الذي خطفه وملأ قلبه فرحاً قبل أن يصل إلى أشدود (8: 39). الروح هو الذي قال لبطرس حين جاءه رسل كورنيليوس: "قم وانزل إليهم واذهب معهم ولا تخف، لأنيأ،ا أرسلتهم" (10: 19). والروح هو الذي نزل على جميع الذين سمعوا كلمة بطرس (10: 44- 43؛ 11: 12- 15؛ 15: 8). والروح هو الذي منع بولس وسيلا من السير في مشروعهما الخاص (16: 6- 7؛ رج 19: 1- 7، 21؛ 20: 22- 23؛ 21: 11). إن الجديد في الحدث المسيحي، في عنصرة الرسالة وسط الوثنيين، هو عمل الروح. فالتبدّلات المتواصلة التي تصيب البشر والأحداث تدل بصورة عجيبة على استمرار التاريخ، على تواصل مخطّط الله، وكل هذا بفضل رباط الروح.
2- الاستشهادات الكتابية في أع
تلعب الايرادات الكتابية دوراً هاماً في أع. فكل شيء هُيّئ له وأعلن عنه في الأسفار المقدسة (1: 16؛ 2: 31؛ 3: 18؛ 7: 52). كل شيء قيل مسبقاً. قال بولس الرسول في دفاعه في أع 26: 22: "أنبأ الأنبياء وموسى بما سيحصل، ولا شيء لي أقوله بعد هذا". إمتلك تلميذا عماوس مفتاح الأسفار المقدسة (لو 24: 27)، ورأى لوقا مثلهم في حدث يسوع، ولا سيما في قيامته، تتمّة للعهد القديم (13: 32- 33). وأعتبر لوفا أن الأسفار المقدّسة تخصّ الكنيسة منذ الآن، وهي ستعالجها في مدراش على الطريقة اليهودية في المجامع. ولنا في 4: 25- 27 مثلاً واضحاً عن المدارش (درس وتعليم) المسيحي. نقرأ النص القديم ونؤونه (8: 34) في حركة فكرية تنطلق من الكتاب المقدس إلى الواقع الجديد. ولكن الحركة المعاكسة معروفة أيضاً في التفسير النمطي حيث يفرض حدث الخلاص قراءة جديدة للنص الكتابي. أجل، لقد صار النص القديم كلمة جديدة، بحيث إن وجود الكنيسة نفسها وتعبيرها عن رسالتها وجداً اعلاناً لهما في الكتاب المقدس (2: 17؛ 13: 47؛ 15: 17). وما زالت النبوءة تتحقق اليوم في زمن الكنيسة وفي حياة الجماعة (1: 20 واملاء مركز يهوذا؛ 2: 17 ي وحلول الروح القدس؛ 4: 25 والاضطهاد). ذكر لوقا كل هذه الإيرادات الكتابية. فشدّد على الوحدة والتواصل بين الأزمنة. من إسرائيل ويسوع، ومن يسوع إلى الجماعة الأولى، ومن جماعة أورشليم إلى الجماعات البولسية. وبهذا أعطى لوقا للمسيحيين الهلينيين رسالة كفاءة: لقد أهّلهم الله ليكونوا في عداد شعبه الجديد في الكنيسة، شأنهم شأن الآتين من العالم اليهودي.
3- موضوع الوحدة في أع
يحتلّ موضوع الوحدة في أع مكانة بارزة، وهذا أمر أشرنا إليه حين رأينا الموازاة بين بطرس وبولس. وهذا الشعور بالوحدة عينه يلهم لوقا حين يقدّم توازياً بين خدمة يسوع ومعجزاته وموته وبين موت اسطفانس (7: 56- 60؛ ق لو 22: 69؛ 23: 34- 36) ومعجزات بطرس وبولس (ق أع 9: 40 ولو 8: 54؛ أع 28: 7- 10 ولو 4: 38- 39) وصعود بولس إلى أورشليم وتوقيفه وآلامه. بالإضافة إلى ذلك ينسج لوقا دوماً رباطات بين الناس والأحداث في وحدة الجماعة الأولى. يبرز التوافق والإجماع (1: 14؛ 2: 1، 46؛ 4: 24؛ 5: 12؛ 8: 6). ويتركّز مثاله عن الوحدة على أورشليم ولا سيما في الاجمالات (2: 44، 46؛ 4: 32). في خبر كورنيليوس (ف 10- 11) يسير الخبر جغرافياً من قيصرية إلى أورشليم، وفي أورشليم أيضاً سيهدأ الصراع الذي بدأ في انطاكية حول دخول الوثنيين إلى الكنيسة (15: 1- 29).
واهتم لوقا بالوحدة اهتماماً زائداً جعله يخفّف من حدة بعض المشادات بين الناس. هو لم يذكر إلاّ خلاف مرقس مع بولس (15: 39). ولم يذكر أي خلاف آخر. فلو كان لنا فقط أع، لما كنا عرفنا الخضات الانقسامات التي هزت الجماعة الأولى. فالنزاع الخطير في 6: 1- 6 (خلاف بين العنصر العبراني والعنصر اليوناني) صار خبراً بسيطاً. وموقف اسطفانس من الذبائح والهيكل (في خط حركات المعمِّدين) خسر من حدّته (7: 1 ي). ولم يكن للمسيحيين المتهودين أي توكل من الرسل (15: 24)، وهذا أمر يصعب تصديقه. واعتبر لوقا أن بولس لم يصطدم ببطرس، وهذا ما يعارض ما تقوله غل 1- 2. يعتبر لوقا أن على الكنيسة أن لا تعود إلى الخلافات السابقة مهما كان من أمر المسيحية المتهودة التي يجعلها أع وكأنها لم توجد. إن تمهيد المعطيات التاريخية يعود بالدرجة الأولى إلى نفسية لوقا. وهو يعكس اعتقاداً يقول إن المسيحيين الهلينيين هم الموكلون الحقيقيون على خيرات الخلاص. ويبرهن لوقا عن هذه الاعتقاد فيبين أن كنيسة بولس (أو كنيسته هو) تشكل جسداً واحداً مع جماعة العنصرة وشعب العهد الحقيقي.
4- الشريعة في أع
يذكّرنا لوقا باعلانات بولس حول الأمانة تجاه الشريعة الموسوية وعادات إسرائيل (22: 3؛ 14؛ 25: 8؛ 28: 17). وهو يستفيد من كل ظرف ليبيّن أن بولس يمارس الشريعة ممارسة فعلية: يصلّي في الهيكل (22: 17). يختن تيموتاوس (16: 3)، ينذر نذراً في كنخرية (18: 18؛ رج 21: 23- 27). يبدو هذا التصرّف لأول وهلة غريباً، بل معارضاً لما قاله بولس عن نفسه في رسائله. ولكن هذا الرجوع إلى العالم اليهودي كان ضرورياً ليبرّر تجذّر الكنائس الهلينية في الجيل الثاني. لا شك في أن مسألة الشريعة لم تكن تُطرح عليها كما كانت تطرح في زمان بولس. ولم يعد المطلوب با تتحرّر هذه الكنائس (الوثنية الأصل) من الشريعة، بل أن ترتبط بشعب العهد بواسطة الجماعة الأولى. فصارت مثل بولس الذي قبله حنانيا "ذلك الرجل التقي والأمين للشريعة" (22: 12) في حضن الكنيسة. ثم إن المبشرين الأولين كانوا من اليهود، أكان ذلك في اليهودية أم في الشتات. وكان أول السامعين للكلمة يهوداً أيضاً يوم العنصرة وفي مجامع الشتات التي بدأ فيها بولس رسالته (9: 20؛ 13: 5؛ 14: 1؛ 17: 1- 2، 10، 17؛ 18: 4، 26). إن جماعة أورشليم المتحدة ببولس كانت يهودية، وكثير من يهود الشتات قبلوا تعليم بولس (9: 19- 21؛ 13: 43). ولكن لماذا التشديد على هذه النقاط حين يتوجّه لوقا إلى مسيحيين هلينيين أي أتوا من العالم اليوناني الوثني، لا من العالم اليهودي المتعلق بالشريعة؟
5- هدف أع وقراءه
توجّه لوقا أولاً إلى المؤمنين، لا مباشرة إلى الوثنيين أو إلى السلطات الرومانية. لا شك في أن الكاتب يورد إشارات تدل على براءة بولس والمسيحيين فيما يخص القيصر (16: 39؛ 18: 15- 18؛ 23: 29؛ 25: 8، 25؛ 26: 32) أو حتى إلاهة أفسس (19: 36- 39). لم يكن همّ لوقا أن يربح ودّ قارئ آت من العالم الوثني، بل أن يقدّم قواعد الفطنة إلى المسيحيين الذين يهدّدهم الاضطهاد: لا نعاند سلطات هذا العالم من قضاة وضباط رومانيين، ولا حاجة إلى تحدّي السلطة من أجل التحدي. قال بولس: "ما أذنبت بشيء لا إلى شريعة اليهود، ولا إلى الهيكل، ولا إلى القيصر" (25: 8).
تحدّث لوقا إلى مسيحيين هلينيين ليبيّن لهم متانة الخلاص الذي تقدّمه الكنيسة. فكشف تجذر هذه الكنيسة والعلاقات المتعددة التي تربطها بيسوع وبالجماعة الأولى. ففاعلية الخلاص تستند إلى الرباط الحي دائماً بين كنيسة حالية ورثت تعليم بولس وحدث الخلاص الأول. لقد قال لوقا في مطلع إنجيله إنه كتب ليستطيع المؤمن أن يتأكد من "متانة التعليم الذي تلقاه" (لو 1: 4): لا ليتحقق تاريخنا من صدق الوقائع المرويّة، ولكن ليؤكد للمسيحيين الهلينيين شرعية التعليم التي تحمل الخلاص. إن لوقا لا يورد الماضي من أجل الماضي، ولا يعطي للمستقبل قيمة ليست له حين يتحدّث عن كنيسة نعمت بنُظم الخلاص. إنه بالأحرى يسعى إلى إعادة الزمن الحاضر إلى وحدة الحدث الذي أسّس الكنيسة. وهو بذلك يتلاقى وطموح الكنائس الهلينية أن تكون في تواصل صحيح بالنسبة إلى الجماعة الأولى، أن تكون متّحدة بها اتحاداً مباشراً. وإذا عدنا إلى الأساس، نجد أن أع يتجاوب والحاجة إلى الأمان الذي أحسّ به المؤمنون في عصره. كان فيلون المزعوم قد جمع التقاليد الشفهية التي يستعملها الواعظون في المجامع ليؤكدوا لمعاصريهم تواصل العهد ويطمئنوهم. وهكذا فعل لوقا، فطمأن المسيحيين حول تواصل خلاص الله. لهذا نتحاشى أن نفرض نظراتنا الحديثة على نص أع فنقول مثلاً أن لوقا قلّل من قيمة بولس وجعله خاضعاً لبطرس أو للشريعة، أو أن المواهب قد حلّت محلّها الكنيسة المنظمة. كل هذه قراءات خاطئة لا تأخذ بعين الاعتبار الحركة الأساسية في الكتاب.
وقصارى الكلام، إن الكنيسة المرتبطة ببولس صارت هي أيضاً مؤتمنة على الخلاص. وهكذا صار لنا من جهة، شعب المؤمنين الذي يضم كل المرتدين دون أن يميّز بين يهود (في الأصل) ومتقين (لله) ووثنين (في الأصل)، ومن جهة ثانية اليهود، الذين لم يؤمنوا بالمسيح. هؤلاء صاروا شعباً كسائر الشعوب ولم يعد لهم من امتيازات بعد الآن: "حكمتم أنكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية، لذلك نتوجه الآن إلى الأمم" (13: 46؛ رج 18: 6). وينهي لوقا كتابه بكلام قاس يضعه على شفتي بولس: "الله أرسل خلاصه إلى الوثنيين (أي أعضاء الأمم غير اليهودية)

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM