الفصل الثاني: التاريخ الأدبي لسفر الأعمال

الفصل الثاني
التاريخ الأدبي لسفر الأعمال
كتب ايريناوس كتابه ضد الهراطقة، حوالي سنة 180 ونسب بصورة واضحة أع إلى لوقا رفيق (سكتاتور) بولس. وحوالي سنة 150، استعمل القديس يوستينوس في دفاعه الأول (39، 49، 50) عناصر مأخوذة من أع. ولكننا لا نجد قبل هذا التاريخ من اكلمنضوس الروماني إلى بوليكربوس أثراً أكيداً على معرفة بمؤلَّف لوقا. كل ما نجده هو عبارات وتقاليد يوردها بابياس وهي مشتركة بين أع وكتابات الآباء. قد يكون أن الكاتب لم يكن بعد تمتع في كل الكنائس بالسلطة التي ستكون له فيما بعد. فهل نستطيع أن نرجع إلى الوراء في الزمن، ونتتبّع تاريخ أع الأدبي؟ إن النقد النصوصي يتيح لنا أن نحدّد موقع أشكال النص المختلفة منذ منتصف القرن الثاني، إن لم يكن قبل ذلك. والنقد الأدبي يتيح لنا أن نرجع إلى ما قبل هذا التاريخ. ستكون نظرتنا تفصيلية (دياكرونية) وستبقى على المستوى الأدبي المحض دون أن توصلنا بصورة مباشرة إلى استنتاجات تاريخية: نحن هنا سنميّز التاريخ الأدبي من المسائل التاريخية، فنتحدّث في هذا الفصل عن التاريخ الأدبي لسفر الأعمال، تاركين إلى فصل لاحق موضوع القيمة التاريخية لسفر الأعمال.
أ- أشكال النص المختلفة
إذا عدنا إلى "النص المتداول" الذي نجده عند مختلف الشهود، نرى في أع شكلين قريبين الواحد من الآخر: النص السوري أو الانطاكي، والنص المصري أو الاسكندراني. نذكر هنا بصورة خاصة الكودكسات الاسفينية: الفاتيكاني (القرن الرابع)، السينائي (القرن الرابع)، الاسكندراني (القرن الخامس)، والافرامي (القرن الخامس). والبرديات التالية: 45 (القرن الثالث)، 50 (القرن 4- 5)، 74 (القرن السابع). كما نذكر آباء كنيسة الاسكندرية. وهناك شكل ثالث للنص يختلف عن التقليدين السابقين هو "النص الغربي". نجده خاصة في الكودكس البازي (القرن 5- 6) وفي البرديات التالية: 8 (القرن الرابع)، 29، 38 (حوالي سنة 300)، 48 (نهاية القرن الثالث). كما نجده في مخطوطات اللاتينية العتيقة وفي العناصر الهامشية في الترجمة السريانية الحرقلية، وفي مقتطفات سريانية فلسطينية وُجدت في خربة مرد، وفي تفسير لافرام وصل إلينا في اللغة الأرمنية. ونجد هذا النص الغربي بصورة خاصة في المخطوط القبطي رقم 14. وعند الآباء اللاتين: ايريناوس اللاتيني، ترتليانس، قبريانس، أوغسطينس. ان هذه اللائحة الخليطية تدل على جهلنا للنص الغربي، هذا إذا وجد نص غربي في حالة خاصة.
فإذا قابلنا هذا النموذج النصوصي بالأشكال السابقة، إكتشفنا بعض الصفات الأصيلة: إنه أطول من النص المتداول (هناك 400 زيادة). حسّن العلاقات بين الأحداث الواردة وخفّض من حدّة الصعوبات. لغته تكاد تكون شعبية وهي تتضمّن الصيغ الآرامية (كما قالت توري، بلاك، ويلكوكس). أما الاستشهادات البيبلية فهي ليست قريبة من السبعينية كما هو الحال في النص المتداول (سارفو). يُبدي النص الغربي احترامًا كبيراً لبطرس وبولس (كريهام، مارتيني)، ويميل إلى التشديد على دور اليهود في موت يسوع واضطهاد المسيحيين (مانو، تيليي، هانسون). انتشر النص الغربي في الشرق كما في الغرب منذ منتصف القرن الثاني، فاعتبره بعضهم النص الأصلي لسفر الأعمال.
سنة 1894، رأى بلاس في النص الغربي الدفق الأول للتدوين اللوقاوي، ثم جاءت نشرة ثانية محزنة، سُميت النسخة الشرقية. وسنة 1933، اعتبر كلارك هذه النسخة الأخيرة على أنها اختصار وإعادة نظر في النص الغربي. أما روبس الانكليزي فاعتبر أن النص الأول هو النص الشرقي. وهكذا انقسم الشّراح: قسم يختار النص المتداول ويعتبرونه النص الأصيل (كانيون، بروسي، هانشن). وقسم ثان يرى الأصالة في النص الغربي ويدعو إلى أسلوب تلفيقي، لأنه يعتبر أن النص الشرقي لا يستأثر بالحقيقة كلها ولا النص الغربي (كيلناتريك، وليامس، دوبون الفرنسي).
إن الشراح (مثلا كلين) يرون بصورة عامة أن النص الغربي لسفر الأعمال جاء متأخراً بالنسبة إلى النص المتداول: فقد اهتم بان يجعل التناسق بين الأخبار (ق ف 9 و22، و26)، بأن يشرح الصعوبات (16: 35)، بأن يتجنّب التنافر بين النصوص. ونجد في النص الغربي زيادات ليتورجية (8: 37) وميولاً لاهوتية. هل نستطيع أن نحسب اختلافة 15: 20، 29 في النص الغربي على أنها النص الأصلي، وهي تقدّم تفسيراً لقرار أورشليم الذي طبع في البداية بطابع طقسي. إن النقاد يقرأون الاختلافة بعد الاختلافة ويتوقفون عند بعضها. هنا نشير إلى أمور جغرافية في 12: 10 و20: 15 أو زمنية في 19: 9؛ 27: 5؛ 28: 16.
بدا النص الغربي ثانوياً على المستوى الأدبي، ولكننا لن نماثل النص الاسكندراني مع النص الأصلي، ونتجنّب مزج النموذجين، أي النص المتداول مع النص الغربي. بل نتطلّع إلى كل نص في ذاته دون تلفيق. وعلى المستوى التاريخي، هذا لا يمنعنا أن نأخذ بمقطع من النص الغربي حتى ولو ظهر طابعه الثانوي. أجل، ما زال مجال البحث مفتوحاً على المستوى الأدبي. أما الدروب فعديدة: أو أننا نربط النص الغربي بالنص المتداول ونستند إلى بعض التقاليد الشفهية. أو نعود إلى تقليد سابق مشترك أخذ منه النص المتداول أو النص الغربي. أو نقول إن نص أع بقي نصاً متحركاً في الوسط اللوقاوي قبل أن يثبت في صيغته القانونية الأخيرة.
هذا يدلي على أهمية النص الغريب، وعلى أن العمل التأويلي الحالي لن يقوم بأن نحاول اكتشاف النص الأصلي لسفر الأعمال، بل أن نحدّد موقع كل من النموذجين (المتداول والغربي) ونربطهما بالوسط الذي فيه وُلدا. على هذا المستوى يبدو النص الغربي متأثراً بهجوم على اليهود والمتهوّدين. ومنه يستطيع أن يغرف المؤرخ واللاهوتي والليتورجي. بل إن المؤؤل نفسه سيستعين بالنص الغربي، لأنه لا يستطيع فهم نص من النصوص دون أن يشير إلى التقلّبات في فهمه على مدى العصور.
ب- متى دوّن سفر الأعمال
1- آراء متعددة
يقول الشراح المعاصرون إن أع دوّن بين سنة 75 وسنة 90، بل حوالي السنة 80. ولكن هناك من تبع هرناك وكلارك فقال إن أع دوّن قبل دمار الهيكل (سنة 70، بروسي، بلايكلوك، غودناف، باركر). وقال آخرون (كلاين، اونايل، كنوكس، انسلين) إنه دوّن خلال القرن الثاني. تلك آراء متطرفة. اذن، تبقى المسألة موضوع جدال، دون أن يهتم بها الشارحون: فعدم ذكر اسم الكاتب، وتأخير زمن تدوين الكتاب لا يؤثّران بالالهام ولا بتاريخية الكتاب.
ما هي البراهين التي يقدّمها الشراح؟ صمتُ الكاتب الذي لا يقول شيئا عن موت بولس ولا عن دمار الهيكل (سنة 70). هناك مسافة لاهوتية بين المؤلَّف اللوقاوي (لو- أع) ورسائل القديس بولس. كيف دوّن المؤرخ فلافيوس يوسيفوس كتابه سنة 93 دون أن يذكر أع؟ وانطلق البعض من لو 1: 3 فترجموا: بعد أن تتبّعت كل شيء عن قرب منذ زمن طويل. هذا يعني أن لوقا كان شريكاً نشيطاً في العمل مع بولس. ولكن يبدو أن هناك ترجمة أصح: "بعد أن تتبعت كل شيء بدقة". فالإنسان لا يشارك في الأحداث "بدقة".
أما تنوعّ الآراء حول تأريخ أع فيعود إلى العناصر التالية التي يختلف الشرّاح في تقويمها.
أولاً: هدف الكاتب
قال هرناك: إنتهى أع انتهاء مفاجئاً. هذا يفرض علينا القول إنه دوّن قبل موت بولس ودمار الهيكل. تلك هي النتيجة التي وصل إليها اوسابيوس القيصري. ولكن منذ القرن الثاني جعل ايريناوس تأليف إنجيلي مرقس ولوقا (وبالتالي أع) يتم بعد موت الرسل. وهذا ما تقوله أيضاً المقدمة المناوئة لمرقيون، وقانون موراتوري الذي دوّن حوالي سنة 180. ثم إن 20: 29 (الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي أي بعد موتي)، 38 (لن تروا وجهي بعد الآن) تشيران إلى موت بولس. وأخيراً إن خاتمة أع تليق لياقة كاملة بمشروع الكاتب: لقد وصلت البشارة إلى "أقاصي الأرض"، أي إلى رومة. نسي هرناك قصد الكاتب وفن الكتاب الأدبي فجاء استنتاجه خاطئاً.
ثانياً: لوقا وصاحب الكتابين إلى تيوفيلوس
صاحب أع هو صاحب لو. فالكتابان مهديان إلى تيوفيلوس. تلمّح مقدمة أع إلى الكتاب الأول. اللغة والأسلوب والألفاظ هي هي في لو وأع. والمواضيع تتشابه: الفرح، التجرّد، الصلاة، الانفتاح على الأمم الوثنية... بما أن الكاتب هو هو في أع ولو، وبما أن لو دوّن بعد سنة 70 (رج لو 19: 43: سيجيء زمان يحيط بك أعداؤك بالمتاريسى ويحاصرونك؛ 21: 20- 24: فاذا رأيتم أورشليم تحاصرها الجيوش...)، فهذا يعني أن أع دوّن بعد سنة 70، وهو الذي دوّن بعد لو. هناك شراح قلائل (كلارك، ارجيل) يقولون إن صاحب أع هو غير صاحب لو، ويستندون في قولهم إلى اختلاف في الأسلوب والمفردات. ولكن هذا القول غير معقول. ثم لا ننسى المسافة بين لو وأع لأن أع دوّن بعد لو.
ثالثاً: بولس، لوقا وصاحب أع
يرتبط تاريخ تدوين أع بموضوع الكاتب. من هو لوقا؟ هل هو رفيق بولس؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن لن نؤخّر زمن تدوين أع. وإن كان الكتاب مغفلا مثل الرسالة إلى ديوجنيس أو مثل مؤلفات أخرى، يبرز موقفان. الأول (دوبون، بروسي) يجعل من لوقا صاحب أع ويقدّم البرهان التالي: إن المقاطع المدوّنة في صيغة المتكلم الجمع (مثلا 16: 16: كنا نحن في أحد الأيام) تعود إلى شخص شارك بولس في رحلاته. وبما أن لغة هذه المقاطع مماثلة للغة سائر الكتاب (كما قال هرناك وهاوكينس)، اذن النص كله هو من تأليف رفيق بولس، ولن نجد أفضل من لوقا ليتولىّ هذه المهمة (رج كو 4: 14؛ فلم 24). الموقف الثاني (ولهاوزن، لوزاي، غوغيل، كومال، كونزلمان، فيلهاور): هناك اختلاف جذري بين صورة بولس حسب أع وصورته في الرسائل البولسية الأكيدة. سنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد دون أن نأخذ بالأحكام المفرطة. ثم إن الاكرام العظيم الذي نعم به الرسولان بطرس وبولس ولاهوت أع يعكسان وضعا كنسياً عرفته نهاية القرن الأول المسيحي. أما المقاطع المدوّنة في صيغة الجمع، فقد تدل على خدعة أدبية لجأ إليها الكاتب ليجعل خبره يقع في أفضل موقع من قلب القارئ (كما قال ديباليوس).
2- الموقف الذي نقترح
أما موقفنا فيأخذ بعين الاعتبار العناصر التالية: أولاً: هناك فرق ملحوظ بين بولس وصاحب أع، حتى وإن حسبنا حساب نظرة كل منهما. اذن، يبدو من الصعب أن نأخذ بتاريخ قريب من السنة 70. ثانياً: لا نستطيع أن نتجاوز نهاية القرن الأول، لأن صاحب أع لا يعرف مجموعة الرسائل البولسية. ثالثاً: إن المناخ الهادئ الذي يغمر الكتاب يجعلنا نحدّد كتابته قبل الاضطهاد الكبير الذي أشعله دومسيان سنة 95. رابعاً إن المقاطع المدوّنة في صيغة المتكلم الجمع تلعب دوراًَ هاماً في إطار لاهوت أع الذي يشدّد بقوة على موضوع الوحدة وتواصل الخلاص التاريخي. وعلى مستوى قرّاء أع، تدلّ هذه المقاطع على العلاقة الملموسة بين الجماعة التي تتقبل الكتاب وشهادة بولس والجماعة الرسولية. أن يكون لوقا هو الذي أمّن رباط الوحدة هذا، كما قال التقليد القديم، أو ان يكون تلميذ عاش في محيط لوقاوي، فها لا يؤثر على عمق الكتاب. فإذا كانت المسافة بعيدة جداً بين قرّاء أع وشهود نشاط بولس، فهذا يبدو أمراً غريباً. ومختصر الكلام، يبدو أ، أع دوّن بين سنة 80 وسنة 95. فإذا سمّينا لوقا صاحب أع، نختار تاريخاً قريباً من السنة 80. أما إذا قلنا إن أع نبت في محيط لوقاوي نقترب من السنة 95.
ونتساءل أخيراً: أين دوّن أع؟ في أنطاكية؟ في آسية الصغرى؟ في اليونان؟ في رومة (بسبب 28: 30)؟ كلها افتراضات لا تفرض نفسها.
ج- المراجع والتقاليد
نلاحظ اليوم تباعداً عن التأويل التفصيلي (دياكروني). فما عاد الشراح يرضون عن نقد للنصوص يقطعها ويفتّتها إلى ما لا نهاية، وهم يظنّون بذلك أنهم يحفون مسائل القيمة التاريخية للنص. يجب أن نقرأ النص كما هو أمامنا. ولكن ردّة الفعل هذه مهما كانت شرعية، لن تحتقر المحاولة التاريخية والأدبية في اكتشاف التكوين الأدبي لكتاب من الكتب. فالنص هو دوماً نتيجة تحوّلات سابقة. ونحن نميّز تكوين الكتاب الداخلي وما جاءه من الخارج من مراجع وتقاليد أدخلها الكاتب في تدوين كتابه.
1- تكوين الكتاب
نجد بعض المرات تنافراً في أع. فهناك قطع توقف تواصل الخبر. مثلا، خبر استشهاد اسطفانس. يبدأ في 6: 8- 15 ويتتابع في 7: 55- 60. ولكن جاءت الخطبة ففصلت الخبر إلى قسمين (7: 16- 54). وهذه الحصيرات عديدة في الكتاب: تبشير السامرة يفصل بين 8: 1 أَو 9: 1 والحديث عن بولس المضطهد. إضطهاد هيرودس للمسيحيين وموته بين 11: 27- 30 و12: 24- 25. تحرير بولس بصورة عجيبة (16: 25 - 34). الفتنة في افسس بين 19: 20 و20: 2. إن إقامة افتيخوس من الموت (20: 7- 20) تقطع خبر اجتماع الكنيسة في ترواس. ونذكر أيضا شفاء مقعد لسترة (14: 8- 18) مع ذكر دربة في 14: 6 و14: 20 ب.
بالإضافة إلى هذه الحصيرات، حوّر الكاتب نصّه أو كفله ليقوي الرباطات من أجل وحدة الكتاب. ويلفت نظرنا الاجمالات الثلاث (2: 43، 44- 45؛ 4: 33؛ 5: 12 ب، 14) التي تبدو وكأنها حمل ثقيل على النص. فالآية 4: 33 تبدو كحاشية بين 4: 32 و4: 34، وهي تهيّئ بطريقة مباشرة موضوع الاجمالة الثالثة حول القدرة العجائبية لدى الرسل. وهناك زيادات يقترحها ديباليوس (16: 32- 33) أو هانشن. بعد 18: 19 أ، تأتي حالا آ 21 ج: يفترق بولس عن رفاقه ليذهب إلى أفسس بحراً، لا ليذهب إلى المجمع كما تقول آ 19 ب- 21 ب. وخلاصة القول، لا يبدو نص أع وكأنه من يد واحدة. قد وُضعت بعض اللمسات. فمن وضعها؟
نحن نقول: كل شيء هو من لوقا في أع حتى الحواشي والتعاليق. ونعلن مع الآب بانوا الدومينيكاني: قام لوقا بعمله على مراحل، كما فعل في إنجيله. ألّف قطعاً ثم جمعها بواسطة اللحمات. والقطع التي أدخلها لوقا ليست وثائق جاءته من الخارج، بل تدوينات قام بها بنفسه انطلاقاً من الاستقصاءات التي قام بها. لوقا هو رجل الوحدة والتناسق حتى في طريقته بوضع المواد بعضها قرب بعض.
ولكن لا ننسى افتراضاً آخر، وإن ظلّ غامضاً حتى الآن: قد يكون المحيط اللوقاوي قام ببعض التحوّلات داخل أع. كيف يستطيع كاتب مثل لوقا أن يفصل 4: 32 عن 4: 34 في الاجمالة الثانية. ثم إن النص قد قرأه المحيط اللوقاوي وكيّفه بعض الشيء، وهذا ما يشهد له النص الغربي الذي دلّنا على وجود نص متحرّك لم يثبت قبل بداية القرن الثاني.
2- المراجع
هل إستعمل صاحب أع مراجع؟ هل ضمّ إلى كتبه وثائق شفهية أو خطية بعد أن قام باللمسات اللازمة؟ استعمل لوقا إنجيل مرقس لتدوين إنجيله، فهل عمل الشيء نفسه من أجل تدوين أع، فما أكتفى بمعلومات أو تقاليد متفرقة وغير محددة، بل أخذ مجموعات مكوّنة وثابتة؟ لا نستطيع أن نقدّم إلا أجوبة متحفظة على هذه الأسئلة، لأننا لا نستطيع أن نبرهن عن وجود المراجع التي نحن بصددها. فكل ما في أع هو لوقاوي. والمعايير الأسلوبية لا تتيح لنا أن نميّز المراجع. لا شك في أن هناك فرقاً أكيداً في أسلوب القسم الأول (نكهة سامية) وأسلوب القسم الثاني (نكهة يونانية). ولكن لوقا يعرف كيف ينوّع أسلوبه، فيكيّف ما يكتب فيحسّ القارئ أنه عاد إلى زمن بدايات الكنيسة. قال لوازي: إن مدوّن أع شوّه ما فعله لوقا. مثل هذا القول مرفوض قطعاً. وقال هرناك: هناك مرجع انطاكي ومرجعان فلسطينيان عاد إليهما لوقا ليدوّن القسم الأول من أع. وحاول سارفو وتروكمي أن يحدّدا المراجع المكتوبة. ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل. غير أننا نستطيع أن نتوقّف عند سلسلة من الوثائق عاد إليها لوقا من أجل تكوين كتابه وقد برزت في إطارين اثنين: المرجع الأنطاكي، يوميات مسافر.
أولاً: المرجع الإنطاكي
قال بولمان على خطى هرناك ويرامياس بوجود مرجع أنطاكي يتضمّن 6: 1- 8: 4؛ 11: 19- 30 و12: 25 مع خبر السفر. وزاد الأب بانوا على ذلك 15: 3- 33 بعد 11: 30. في هذه الحالة، يكون السفر إلى أورشليم والمذكور في 11: 30 هو نفسه المذكور في 15: 3 ي، وهذا ما يزيل صعوبة هامة في كرونولوجيا أع. ولكن هذه الفرضية لا تفرض نفسها: لقد استقى لوقا من نبع وثائقي انطاكي، ولكن لا شيء يسمخ لنا بالقول بوجود سلسلة من الوثائق مكوّنة بطريقة عضوية. فيبقى مع ذلك أن المجموعة المكوّنة من 6: 1- 8: 4 و8: 5- 11: 19- 30 تعكس في تواصلها تقليداً شفهياً يعود إلى أنطاكية.
ثانياً: يوميات مسافر (صيغة المتكلم الجمع)
هذا الافتراض الثاني هو متشعّب وموضوع جدال، ونحن نميّز فيه مسألتين اثنين. الأولى: هل وجدت قبل تدوين أع مسيرة أو لائحة بمحطات الأسفار التي قام بها بولس؟ قال ديباليوس: يتضمّن خبر السفر بصورة جوهرية 13: 4- 14: 28 و15: 26- 21: 16. وقال تروكمي: استعمل لوقا "يوميات" دوّنها رفاق سفر بولس. ولكن ما هي البراهين على ذلك؟ ونعود إلى القول إن كل شيء من أع هو لوقاوي بما في ذلك أخبار السفر (رج لو 9: 51- 19: 28). وفي الوقت عينه نقول إن هناك فرقاً كبيراً بين خبر السفر في أع والإشارات البسيطة التي نجدها في خبر السفر (صعود يسوع إلى أورشليم) في الإنجيل. فهل كان لوقا يستطيع أن يكتب ما كتبه لولا وثائق غنية أو لولا ما دوّنه في دفتر خاص خلال مرافقته للقديس بولس؟
المسألة الثانية: أما تفترض المقاطع المدونة في صيغة المتكلم الجمع والمقروءة في يوميات مسافر (16: 10- 17؛ 20: 5؛ 21: 18؛ 27: 1- 28: 16) وجود مرجع استقى منه لوقا (زيلر، كومل)؟ هذا ما تفترضه مقدمة المقاطع المذكورة وخاتمتها (صياغة متقطعة)، وتبعثُر هذه المقاطع في أع. وهنا نشير إلى نقطتين. على المستوى الاجمالي (سنكروني): إن هذه المقاطع في صيغة المتكلم الجمع تؤمن التواصل بين الكاتب والقرّاء من جهة، وبين النشاط البولسي من جهة أخرى. أما على المستوى التفصيلي (دياكروني) فهذه القطع ترتبط بوثائق ثابتة. إلا أنه يبد من الصعب أن نفصل هذه القطع عن مجمل المسيرة التي تحمل هذه القطع. وهكذا نعود مرة أخرى إلى فرضية "يوميات مسافر".
3- التقاليد
رفضنا القول بمراجع سابقة ومكوّنة أقحمها لوقا في أع، ولكننا لا نستطيع أن نفرض التوثيق الذي قام به الكاتب. إن لوقا استقى بدقة معلوماته في الكنائس التي زارها أو لدى المسيحيين الذين تعرّف إليهم. ففي أيام بولس، كان المؤمنون يتجوّلون بين كنيسة أخرة. وإن صاحب أع يشدّد على الرباطات والاتصالات بين الكنائس (14: 27؛ 15: 3- 4). ولكن هل يمكن أن نكتشف في النص الحالي إشارات تدلّ على هذا التكوين التحتي؟ ينطلق النقّاد من معيار التباين: تقطّع في التدوين، عناصر أدبية لا تشبه ما نعرفه عند لوقا، معطيات غريبة وغير مفيدة ولا تدخل في الإطار العام للفكر اللوقاوي. في الواقع، إن كل مقطوعة تطرح سؤالاً خاصاً، لا سيما تلك التي نقرأها في القسم الأول من أع والتي ترتبط ببداية الكنيسة. وفي خبر السفر، نستطيع أن نتحقّق من طبيعة التوثيق من طبيعة التوثيق فنشير إلى نقص في التعبير أو الملومات. مثلاً، يحب لوقا أن يقدّم أشخاص خبره في البداية. أما في 17: 5 فإن ياسون يأتي في وسط الخبر، وكأننا لم نكن ننتظره. ثم إن لوقا يذكر مدناً أو محطات سفر لا تفيدنا في اللحمة الإخبارية (14: 25؛ 17: 1؛ 20: 13- 15). هو لا يملأ الفراغات باخبار يستنبطها. إن لم يكن له شيء يقوله يمرّ مرور الكرام. وقد نستطيع أن نتساءل بعض المرات: أما يفضّل الصمت على الكلام كما فعل في حادثة أنطاكية (غل 2: 1- 14) أو خلال أزمنة كورنتوس. فضّل أن يضعف فكرته الأساسية ولا يمسّ وحدة الكنيسة. وقد ذكر تقاليد شعبية (1: 18؛ 16: 25- 34؛ 19: 14- 16؛ 20: 7- 12) تختلف قيمتها. ويبدو أن لوقا لم يفهم موضوع التبرّع من أجل القديسين في أورشليم، فاعتبره صدقة من أجل شعب إسرائيل. أورد كلام بولس: "جئت أحمل بعض التبرّعات إلى شعبي" (24: 17). كل هذا يدل على تنوّع التقاليد التي استقى منها لوقا من أجل كتاب غني مثل أع. ولكن هذا لا يعني حكماً على تاريخية هذه التقاليد، ولا يسمح لنا بأن ننسى أننا أمام نصّ مهمّ نكتشف فيه كل يوم كلام الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM