الفصل العشرون

الفصل العشرون

كان في بطمس رجلٌ غنيٌّ جدًّا اسمه ميرون([1]). واسم امرأته فلورا([2]). كان لهما ثلاثة أبناء درسوا علوم البلاغة. وكان الكبير ممسوسًا من الشيطان. ولمّا استقبلنا ميرون في بيته، هرب ابنُه المسلَّمُ إلى الروح الشرِّير والعارف بقوَّة يوحنّا، إلى بلد آخر لئلاَّ يَطرد منه يوحنّا الروح الشرِّير. وإذ علم ميرون أنَّ ابنه هرب، قال لامرأته: «لو كان هذان الرجلان من الناس الطيِّبين، لما هرب ابننا. فيجب أن يكونا، كما يُقال، ساحرَين ومشعوذَين، رميا أذيَّتهما على هذا البيت فكان السبب في هرب ابننا. فيا ولدي العزيز، كيف جُننتُ فاستقبلتُ في بيتي هذين الساحرين اللذين كانا السبب في أنِّي خسرتُك».

فقالت له زوجته: «إذا كان الأمر كما تقول، فلماذا لا تطردهما من بيتك لئلاَّ يضربا ولدَينا الآخرين بأذايا مماثلة فيُكرهانهما على أن يبتعدا عنّا ويَهلكا؟» فقال ميرون: «لا أطردهما، ولكنِّي أسومهما المضايقات الكثيرة إلى أن يُعيدا ابننا. وبعد ذلك يُعاقَبان عقابًا قاسيًا». كان ميرون صهر حاكم جزيرة بطمس، وكلُّ ما قاله لزوجته كُشف ليوحنّا بإلهام إلهيّ. فقال لي: «يا ابني بروخور، اعلم أنَّ مضيفنا ميرون يفكِّر بأن يسومنا عذابات كثيرة. فابنه كان ممسوسًا من الشيطان. وحين دخلْنا إلى البيت، خاف الروح الشرِّير أن نطرده، فهرب وحمل هذا الشابَّ إلى أرض أخرى. لهذا غضب ميرون علينا. ولكن لا تتبلبل روحُك في شأن تصرُّفات ميرون تجاهنا». وإذ كان يوحنّا يتكلَّم هكذا، وصلت رسالةٌ من ابن ميرون هذا نصُّها:

«إلى أبي وأمِّي. أنا أبُّولونيد([3]) بسلام. الساحر الذي اسمه يوحنّا، والذي استقبلتماه في بيتكما، صنع الجرائم العديدة بسحره، فأرسل روحًا لاحقَني حتّى إلى هذه المدينة. وبعد أن تحمَّلتُ الكثير من الأخطار، وجدتُ رجلاً اسمه قينوبيس([4])، امتلأ طيبة وصراحة، فروى لي سبب شقاواتي. قال لي: "يا ابني أبُّولونيد، إذا كان هذا الساحر لا يُقتَل فلا تستطيع أن تقيم في بلدك، ولا أن ترى بعدُ والديك". لهذا يا والدي، أتوسَّل إليك بأن تشفق على ابنك فتُهلك هذا الساحر الذي اسمه يوحنّا، لكي أستطيع سريعًا أن أنعم بقبلاتك، وقبلات والدتي وشقيقيَّ».

ما إن قرأ ميرون هذه الرسالة، حتّى أغلق علينا حالاً ومضى إلى الوالي وأراه الرسالة، فغضب الوالي علينا غضبًا جدًّا، لاسيَّما وأنَّ اسم قينوبيس موجود في هذه الرسالة. فجميع الذين يقيمون في بطمس يحترمون قينوبيس هذا وكأنَّه إله بسبب أعماله العظيمة. تأثر الوالي بأقوال ميرون وأبّولونيد، فأمر بأن يسلَّم يوحنّا إلى الوحوش. فاقتادونا من منزل ميرون إلى السجن حيث مكثنا ثلاثة أيّام، وبعدها قال ليوحنّا: «إنَّ إمبراطورنا المبجَّل، دوميسيان، بعد أن سمع الاتِّهامات الموجَّهة إليك، حكم عليك، وبعد ذلك عفا عنك. وإذ أراد أن يعطيك الوسائل لكي تصلح نفسك، أرسلك إلى هذه الجزيرة. وها أنت تستعدُّ لكي تقترف فيها مساوئ أكبر من تلك التي اقترفتَ في أفسس. فقد طردتَ ابن صهري. أجبني بعجل قبل أن أعاقبك. اجعل قريبي يعود وقُلْ أيَّ ديانة هي ديانتك ومن أيِّ بلد جئتَ إلى هنا».

فأجاب يوحنّا: «أنا عبرانيّ وخادم يسوع المسيح ابن الله الحيّ، الذي صُلب ودُفن لأجل خطايا البشر، وقام في اليوم الثالث من بين الأموات. أرسلَني لأكرز بالإنجيل إلى جميع الأمم لكي يؤمنوا به فتكون لهم الحياة الأبديَّة». فقال له الوالي: «حكم عليك الإمبراطور التقيّ بالمنفى لأنَّك كرزتَ بمثل هذه الأمور.

فتعلَّمْ، يا جاهل، أن تعبد الآلهة وتكرِّم الخالدين. احفظ شرائع الإمبراطوريَّة ولا تصوِّر شكل إله إنسانًا حُكم عليه بالموت بسبب القلاقل التي أثارها». فقال يوحنّا الطوباويّ: «أنا أعبدُه دومًا وهو الخالد، وأبشِّر به أولئك الذين ينبغي أن يحيوا حياة تقيَّة». فأجاب الوالي: «لسنا بحاجة إلى سماع الخرافات التي تثرثرها. فقد مُنعتَ أن تواصل كرازتك هذه. أعِدْ أبّولونيد صحيحًا معافى إلى هذه المدينة ورُدَّه إلى إسرته».

فأجاب يوحنّا: «لا أستطيع أن أتوقَّف عن الكرازة على ما أفعل، وأن أنتظر هكذا جزاء الخلاص الأبديّ الذي وُعدتُ به في نهاية عملي. ذاك ما يمنحني من أحببتُ ومن به آمنتُ (2 تم 1: 12)، سيِّدي يسوع المسيح المبارك في جميع الدهور. أمّا صديقك أبّولونيد فما عملتُ له شيئًا. وإذا سمحتَ، أرسلتُ تلميذي بطلبه ويعيده إلى هنا. وإن كان له أن يشتكينا فهو يشتكينا بحضورك». فأمر الوالي بأن يُعمَل هكذا، وأبقى، بانتظار ذلك، يوحنّا، مقيَّدًا بسلسلتين قويَّتين. وقال له يوحنّا: «اسمح لي أن أكتب إلى أبُّولونيد. ثمَّ ترسلني إلى السجن». فسمح الوالي فكتب يوحنّا هذه الرسالة إلى أبُّولونيد:

«يوحنّا، رسول يسوع المسيح ابن الله. إلى الروح الشرِّير الساكن في أبُّولونيد. آمرُك باسم الآب والابن والروح القدس أن تخرج من خليقة الله وأن لا تعود تدخل إليه([5])، وأن لا تُقيم في هذه الجزيرة، بل أن تعتزل في الصحراء حيث لا يسكن إنسان. وهذا ما آمرُك به، أنا يوحنّا، باسم الثالوث الأقدس».

فأخذتُ، أنا بروخور، هذه الرسالة ومضيتُ إلى المدينة التي يقيم فيها أبّولونيد، والتي تبعد ستِّين ميلاً. ولمّا دخلتُ إلى هذه المدينة، رحتُ أبحثُ عنه فوجدتُه بعد يومين. ولمّا اقتربتُ منه، تركه في الحال الروح النجس. فاستعاد أبُّولونيد حالاً نفسه وقال لي: «لماذا أتيتَ إلى هنا، يا أحبَّ تلميذ لأفضل البشر؟» فأجبتُ: «جئتُ لأعيدك إلى والدك الذي يحبُّك، وإلى أسرتك». وفي الحال، أمر بأن تُسرَج الخيول وانطلقنا. وحين وصلنا إلى بطمس، سألني أبُّولونيد أين يقيم يوحنّا، فأجبتُه: «إنَّ الوالي يحتفظ به في السجن ويقيِّده بالسلاسل». عندئذٍ ما أراد أن يمضي إلى أسرته، بل مضى مباشرة إلى السجن. فسقط السجّان حالاً عند قدميه، حين عرفه. وإذ دخل أبُّولونيد ورأى يوحنّا ركع أمامه، فأنهضه الرسول وقال له: «ليباركك الله، يا ابني!» وخلَّص أبُّولونيد يوحنّا حالاً من قيوده، وقال للسجّان: «إن سأل الوالي من خلَّص هذا السجين فقل له إنِّي أنا». ثمَّ اقتادنا إلى البيت حيث كان أبوه وأمُّه وأخواه مستسلمين إلى الحزن. ولمّا رأوه، نهضوا والفرح يملأ قلوبهم، وقبَّلوه وهم يبكون. فقال له والده: «ما الذي حصل، يا ابني، لكي تهرب من بيتي وتسبِّب لنا جميعًا حزنًا كبيرًا؟» فأجاب أبُّولونيد: «كان بيتنا مليئًا بالخطايا والشياطين. ولمّا دخله يوحنّا، رسول الربّ، تجاهلناه وما عرفنا ذاك الذي أرسله، ولكنَّني علمتُ من هو وممَّن تلقَّى مهمَّته».

وحين سمع ميرون هذا الكلام، صدَّق ابنه وقال: «يا ابني، إن كان الأمر هكذا، فلنمضِ إلى الوالي ونبشِّره بما أعلمتَنا. فهو من وافقني ووضع يوحنّا في السجن». فأجاب أبُّولونيد: «لا تهتمَّ لهذا، يا أبي، أنا خلَّصتُ يوحنّا، والوالي الذي هو قريبنا يريدُ ما نريد». وأدخل أبُّولونيد يوحنّا وقال له: «أيُّها المعلِّم العزيز، بشِّرنا بالأقوال المفيدة التي تُنيلنا الحياة الأبديَّة». فقال يوحنّا: «أريدُ أوَّلاً أن تروي لي لماذا تركتَ بلدك ولماذا لجأت إلى بلد غريب». فقال أبُّولونيد: «منذ سنوات عديدة، أتى إليَّ شخصٌ ولمسني. فاستيقظتُ حالاً وعرفتُ ذاك الذي أيقظني. كانت عيناه كبيرتين وتشعّان مثل جمرتين مشتعلتين ووجهه يبرق كالبرق. فقال لي: "افتح فمك". وفي الحال دخل إلى بطني. ومنذ ذلك اليوم عرفتُ كلَّ ما حصل لبيتنا من خير أو من شرّ. وكان الجميع يأتون إليَّ ويسألوني عن أمورهم. ولكن حين دخلتَ أنت إلى هذا البيت. قال لي: "يا أبُّولونيد، إنَّه ساحر". وردَّد لي دومًا: "إذا لم يُقتَل، لن تستطيع العودة إلى أرضك". سألتُ قينوبيس فقال لي القول عينه. وحين دخل تلميذ يوحنّا إلى حيث كنتُ مقيمًا، رأيت الروح الذي كان فيَّ يخرج بشكل يشبه الشكل الذي كان له حين دخلَ في جسدي، وللحال أحسستُ أنِّي نجوتُ من متاعب عديدة وامتلأت فرحًا عظيمًا وعزاءً عميقًا».

فقال يوحنّا لأبُّولونيد: «يا ابني، هذا علامة عن قدرة ورحمة يسوع المسيح ابن الله الذي صُلب لأجلنا، والذي قام. والشيطان الذي دخل فيك، طردَك من بيتك حين دخلنا لأنَّه خاف أن نطرده بقدرة يسوع المسيح. والآن، يا ابني، نحن لا ننتصر فقط على الروح النجس حين ندعو قدرة الله، بل نطرده أيضًا بواسطة رسالة». وطلب منِّي يوحنّا الرسالة التي سبق له فبعث بها إلى الشيطان فحملتُها، وأراها لأبُّولونيد. وحين قرأها هذا، مضى معنا ومع أخويه إلى الوالي وروى له كلَّ ما حصل. فأطرق الوالي برأسه وشكرنا. ومنذ ذلك الوقت دلَّ على تعلُّق كبير بيوحنّا. ولمّا تركناه، عُدنا إلى بيت ميرون.

 


[1](1)  Myron: العطر والزيت العطر.

[2](2)  Flora : زهرة

[3](3)  Apollonide ابن الإله أبُّولون.

[4](4)  Cynops

[5](5)  لو 11: 26. ترك الشيطان إنسانًا، ثمَّ عاد إليه ومعه سبعة شياطين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM