الفصل الثامن والعشرون: العظة الأولى في الرسالة إلى تيطس للقديس يوحنا الذهبي الفم

الفصل الثامن والعشرون

العظة الأولى في الرسالة إلى تيطس للقديس يوحنا الذهبي الفم

تفرَّد الذهبيّ الفم بين آباء الكنيسة، فشرح أو وعظ كلَّ الرسائل البولسيَّة وصولاً إلى تلك التي أُرسلت إلى العبرانيّين. أمّا الرسالة إلى تيطس فنالت ستَّ عظات تُليَتْ في أنطاكية. ودليلنا إلى ذلك ما قال هذا المعلِّم في العظة الثالثة: »ماذا تقولون عن الذين يصومون ويحفظون السبت مع اليهود؟ عن الذين يؤمُّون الأماكن المكرَّسة بممارسات أصناميَّة؟ غابة Daphné والمغارة التي دُعيت Maltrone، وهذه النقطة في كيليكية التي زيَّنوها باسم Saturne. هؤلاء هل يكونون قدّيسين؟ هناك مسيحيّون لبثوا متعلِّقين بالممارسات اليهوديَّة. وقسم آخر كبير لبث يمضي إلى غابة دفنة المقدَّسة، القريبة من أنطاكية.

*  *  *

ونقرأ العظة الأولى التي جاءت بعد القراءة الليتورجيَّة لما في تي 1: 1-14.

من بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح ليهدي الذين اختارهم الله إلى الإيمان وإلى معرفة الحقِّ الموافقة للتقوى، على رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد الله الصادقُ بها منذ الأزل، فأظهر كلمته في حينها بالبشارة التي ائتمنتُ عليها بأمر الله مخلِّصنا، إلى تيطس ابني الحبيب في إيماننا المشترك. عليك النعمة والسلام من الله الآب والمسيح يسوع مخلِّصنا.

*  *  *

تيطس الابن الحبيب

كان تيطس بين رفاق بولس، ذاك الرجل المختبر. فلو لم يبرهن عن ذلك لما كان معلِّمه فكَّر بأن يوكِّل إليه جزيرة بأكملها (جزيرة كريت)، ولا أن يأمره بأن يكمِّل ما هو ناقص، حسب عبارة الرسول عينها. ولا هو كان كلَّفه بأن يوجِّه عددًا من الأساقفة لو لم يكن واثقًا به ملء الثقة.

ظنَّ بعضهم أنَّ تيطس كان بعدُ فتى، لأنَّ بولس يدعوه ابنه. ولكن هذا ليس بالبرهان الواضح. افترض أنَّه ذُكر في سفر الأعمال. حينئذٍ يكون في كورنتوس، إلاَّ إذا كان هناك تلميذ آخر بهذا الاسم. أراد الرسول أن يُرسَل إليه زيناس (معلِّم الشريعة) وأبلُّوس (3: 13). وهو يستغني عن تيطس. هذا يعني أنَّه يستند إلى ثباتهما وفضيلتهما أمام ذاك الحاكم المسؤول αυτοκρατορος.

أمّا أنا فأظنُّ أنَّ الزمن ليس هو هو، وبولس لم يكن مهدَّدًا عندما كتب هذه الرسالة. بل هو لا يتكلَّم أبدًا عن محن يحتملها، فيشكر الله ولا يتوقَّف: أفضل طريقة لحثِّ المؤمنين على الفضيلة. فحين عرف ما صاروا له أهلاً، وإلى أيِّ عظمة رُفعوا، وذلك برحمة مجّانيَّة، وجب عليهم أن يحسُّوا بدفعة قويَّة نحو الخير.

وهاجم بولس أيضًا اليهود. إن هو هاجم الأمَّة كلَّها فلا تندهشوا. فحين كتب إلى الغلاطيّين، فعل كذلك. »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء« (3: 1). هذه ليست بشتيمة، بل المحبَّة. فلو سلك هذا السلوك عينه من أجل منفعته، لكان استحقَّ اللوم. وإذا غيرةُ الكرازة حملته وأشعلته، فهو لا يريد أن »يشتم«. فالمسيح نفسه أذلَّ الكتبة والفرّيسيّين ألف مرَّة، لا لينتقم، بل بسبب الشرِّ الذي يصنعونه للآخرين.

رسالة قصيرة

الرسالة التي نشرحها هي قصيرة، والسبب واضح. هي شهادة عن فضيلة تيطس، بحيث لا يحتاج إلى خطاب طويل، بل إلى استعادة بعض الأمور. لا يبدو أنَّ هذه الرسالة سبقت الرسالتين إلى تيموتاوس. فبولس كتب هاتين الرسالتين وهو في نهاية حياته، حين كان في القيود. ولكنَّه كان حرٌّا حين كتب الرسالة إلى تيطس. قال في 3: 12: »أنوي أن أقضي الشتاء في نيكوبوليس«. وهكذا دلَّ بما فيه الكفاية أنَّه ليس في القيود.

إذًا، ما معنى هذه الكلمات: بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح بحسب إيمان مختاري الله؟ انظروا كيف يأخذ هذين اللقبين، ولا يميِّز: عبد الله ورسول المسيح. ومرَّات: عبد المسيح. هذا يعني المساواة بين الآب والابن.

حسب إيمان مختاري الله ومعرفة الحقيقة الموافقة للتقوى في رجاء الحياة الأبديَّة. هذا الإيمان، إيمان مختاري الله، هل هو الثقة التي محضتموها أم تلك التي كنتم وأنتم موضوعها؟ إنَّه يعني برأيي، أنَّ مختاري الله سُلِّموا إليه، وإليكم معنى هذا الكلام: أنا تسلَّمتُ هذه المهمَّة الرفيعة، لا بسبب أعمالي الصالحة، ولا بسبب جهاداتي القاسية. يجب أن لا نرى هنا إلاّ رحمة ذاك الذي جعل فيَّ ثقته.

بعد هذا، لئلاّ تبدو لهم النعمة أمرًا لا سبب لها، لأنَّ كلَّ شيء ليس عمل الله الذي كان باستطاعته أن يمحض ثقته للآخرين، أضاف: ومعرفة الحقيقة الموافقة للتقوى. من هنا هذه الثقة التي أظهرها الله لي. أو بالأحرى هذه الثقة عينها هي عطيَّة نعمته، هي عمله هو. فالمسيح نفسه قال: »ما أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم« (يو 15: 16). وقدَّم الرسول تعبيرًا مشابهًا في رسالة أخرى: »أعرفه كما عرفني« (1 كو 13: 12). وفي رسالة أخرى: »أرجو أن أدرك يسوع الذي سبق فأدركني« (فل 3: 12).

أُدركنا أوَّلاً ثمَّ انفتحت عيوننا. نحن نُرى أوَّلاً ثمَّ نَرى. أولاً يتوجَّه إلينا النداء، ثمَّ تأتي طاعتنا. وإذ أضاف: حسب الإيمان، قدَّم لهم كلَّ شيء: أنا لهم رسول، لا بسبب استحقاقي، بل من أجل المختارين. وقال الشيء عينه في موضع آخر: »كلُّ شيء لكم. بولس أم أبلُّوس« (1 كو 3: 22).

ومعرفة الحقيقة الموافقة للتقوى. هي حقيقة موضوعها الأمور الطبيعيَّة التي لا تستند إلى التقوى. فالزراعة وسائر الفنون تشكِّل علومًا حقيقيَّة. أمّا هذه فلا موضوع لها سوى التقوى. أو حسب الإيمان الذي أخذوا به مثل باقي المختارين، والذي به رأوا الحقيقة.

إذًا في الإيمان تأتي المعرفة، لا من البراهين. لا في رجاء الحياة الأبديَّة. سبق وبيَّن لنا الحياةَ الحاضرة في نعمة الله. وها هو يحدِّثنا عن الحياة المقبلة فيقدِّم لنا سعف النخل الأبديَّة من أجل الحسنات التي نلناها. أعطانا الإيمان ونجّانا من الضلال. وهو يريد أن يعطينا الإكليل. انظروا كيف أنَّ هذه البداية تمتلئ من حسنات الله وتلك هي الفكرة التي تُشرف على الرسالة كلِّها وبالتالي تحرِّك تحريكًا هذا القدّيس والذين يجب أن يعلِّمهم، من أجل جهادات الفضيلة. فلا شيء يفيدنا مثل التذكُّر الدائم لحسنات الله، العامَّة والخاصَّة.

فإن أحسن إلينا صديق، أو حين ننال كلمة حلوة، خدمة حقيقيَّة، يشتعل قلبنا، فماذا يكون حين يرينا الله الأخطار العديدة التي نجّانا منها. فكم يجب أن تظهر له محبَّتنا وطاعتنا.

ومعرفة الحقيقة. هنا تنطبق الحقيقة على الصورة. هنا أيضًا المعرفة هي التقوى لا الحقيقة في الواقع ولا الكذب، بل الصورة والرمز. ونلاحظ هذه العبارة: في رجاء الحياة الأبديَّة«. استندت الشريعة القديمة إلى رجاء الحياة الحاضرة. وقال الرسول أيضًا: »من يحقِّق هذا الخير يحيا به« (رو 5: 5). هل رأيتم منذ الآن كيف بدا سموُّ النعمة؟ هم ليسوا المختارين، بل نحن. هكذا سبق ودُعوا. منذ الآن لم يعودوا كذلك.

ما وعدَ به الله، الذي لا يكذب، قبل الأزمنة المقسَّمة دهورًا. لا الآن، ولا في توبة، بل مسبقًا حُدِّدت هذه الأمور. وبولس لمَّح إلى ذلك مرارًا كما في هذه العبارة: »فُرزتُ من أجل إنجيل الله« (رو 1: 1). ثمَّ »أولئك الذين رآهم في علمه السابق والذين أعدَّهم« (رو 8: 30). هذا ما يدلُّ على نبلنا، لأنَّنا موضوع حبِّه لا منذ اليوم بل منذ البداية.

الذي وعدنا به الله الذي لا يكذب. بما أنَّ طبيعته ترذل الكذب، فما وعدَ لا بدَّ أن يصل. بل ينبغي أن لا نشكَّ في ما يتبع الموت. فالوعد أعطيَ لنا بيد من لا يكذب، بالله قبل الأزمنة المقسَّمة إلى دهور. هذه الملاحظة الأخيرة حول قدم الوعد، تجعله أيضًا أكثر للتصديق. قال: نظَّمت هذه الأمور لا بسبب المقاومة التي جاءت من اليهود، بل هي صُوِّرت منذ الابتداء. وأضاف: أظهرها في حينها، في الأوقات التي أرادها. عبارة لافتة. ولكن لماذا هذا التأخُّر؟ عنايتُه هي التي رتَّبت هكذا فأرادت أن يتمَّ كلُّ شيء في وقته. وهناك، زمن لنحمل حمل الربّ« كما قال النبيّ (داود) في مز 119: 126. ودلَّ الرسول بوضوح على الزمن المؤاتي والذي يتجاوب أفضل التجاوب مع الفكر الإلهيّ.

أظهر كلمته في الزمن الذي أراد، بالبشارة التي أنا خادمها. البشارة تضمُّ كلَّ شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، والحياة والتقوى والإيمان. وأكرِّر: كلُّ شيء بالبشارة. في وضح النور. وبثقة تامَّة. هكذا يجب أن نفهم هذا اللفظ. مثل المنادي على المسرح أمام الجميع، يرفع المبشِّر الصوتَ أمام الله وينقل إليه ما سمع دون أن يضيف شيئًا، دون أن ينقِّص شيئًا. ذاك هو واجب المنادي، أن يُظهر الحقيقة كلَّها، نقيَّة تامَّة. وحين نمارس خدمة البشارة، ينبغي أن نمارسها بلا خوف. وإلاَّ لا تكون البشارة بشارة المسيح. قال: »اكرزوا على السطوح« (مت 10: 27).

التي أنا خادمها بحسب أمر الله مخلِّصنا. ظرفان يدلاَّن إلى أيِّ حدٍّ تكون البشارة جديرة بالثقة، بحيث لا تسبِّب لأحد حسدًا ولا قرفًا ولا رفضًا. بما أنَّ المهمَّة أمرٌ، فهي لا تتعلَّق أبدًا بي. فأنا بكلِّ بساطة أُتمُّ أمرًا. ما علينا أن نعلمه يرتبط تارة بنا وطورًا لا يرتبط: حين يأمرنا الله لا يكون لنا بعد خيار. حين نكتفي بأن يسمح، فلنا كلُّ السلطان. مثلاً: »إذا قال أحد لأخيه: يا بليد يستحقُّ نار جهنَّم« (مت 5: 22). هو أمر لا يناقش. وهذا أيضًا: »إذا كنتَ أمام المذبح تقدِّم تقدمتك، وإذا عرفتَ أنَّ لأخيك عليك شيئًا، اترك تقدمتك عند المذبح وامضِ وصالح أخاك ثمَّ عدْ وقدِّم قربانك« (آ24). هي فريضة صارمة، ومن تجاوزها لا ينجو من العذاب. ولكن حين يقول الربّ: »إذا أردت أن تكون كاملاً بعْ ما تملك« (مت 19: 21). أو: »من يفهم يفهم« (آ12)، لم نعد أمام فريضة، والسامع حرٌّ بأن يتوافق مع هذه التوصية أو لا يتوافق. مثل هذه الأمور متروكة لخيارنا في الممارسة، أمّا الأوامر الحقيقيَّة  فمن الضروريّ أن نتبعها وإلاَّ نالنا العقاب. هذا أعلنه الرسول حين قال: »أنا تحت الضرورة. الويل لي إن لم أبشِّر« (1 كو 9: 16). أتكلَّم بوضوح أكثر لئلاّ يبقى أحدٌ جاهلاً. فالإنسان الذي كلِّف بإدارة الكنيسة مثلاً، والذي تسلَّم الأسقفيَّة، إن لم يعلِّم الشعب الواجبات التي يتمّ، لا ينجو من الدينونة. لا شيء مماثلاً بالنسبة إلى العوام. من هناك كلام الرسول: اعمل هكذا بحسب أمر مخلِّصنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM