الفصل الخامس والعشرون: تفسير المزامير عند هيسيخيوس الأورشليمي

الفصل الخامس والعشرون:

تفسير المزامير عند هيسيخيوس الأورشليمي

منذ زمان بعيد، يتساءل الباحثون عن تفاسير وشروح، بعضها جُعل على اسم هيسيخيوس وبعضها الآخر على أسماء أخرى، ربَّما خوفًا من إتلافها على يد المعادين لأوريجان، بعد أن تأثَّر به هيسيخيوس خاصَّة وبالمدرسة الإسكندرانيَّة عامَّة. فكانت النتيجة الآن ثلاثة مؤلَّفات حول المزامير. الأوَّل: تشاريب(1) حول المزامير. لسنا أمام تفسير متواصل، بل شروح قصيرة لا تتجاوز الحواشي التي نقرأها في هامش الكتاب: تقدِّم تفسيرًا أليغوريٌّا، استعاريٌّا، بهدف بناء الجماعة. مثلاً: »الربّ« في مز 23، صار ''الراعي الصالح الذي يهب حياته لخرافه''. »في مراعٍ«، صار »في كنيسة الله حيثُ يُزهر القدّيسون«. »أعددتَ لي مائدة«: »دعا المرتِّل سرَّ الخلود المائدة المقدَّسة«. والزيت هو »نعمة الروح القدس«، ممّا يبيِّن أنّنا أمام مزمور شُكر يُتلى في الاحتفال بالتدرُّج (أو: التنشئة) المسيحيّ واقتبال أسرار العماد والتثبيت والإفخارستيّا(2).

والمؤلَّف الثاني: الشرح الموسَّع للمزامير(3). نشر هيسيخيوس شرحًا كبيرًا، كاملاً للمزامير. نُشر قسم منه على اسمه في الآباء اليونان (93: 1179-1340). وقسم آخر على اسم يوحنّا الذهبيّ الفمّ (الآباء اليونان 55: 711-784)، وبقي قسم ثالث غير منشور وهو مهمّ جدٌّا(4). نشير إلى أنَّ النصوص موجودة في المخطوط الباريسيّ (يوناني 654) بالنسبة إلى المزامير 9، 37-48، وفي الفاتيكانيّ (يوناني 525، 1223) بالنسبة إلى مز 52-77، وفي أوكسفورد بالنسبة إلى المزامير 78-108، 119. وإذا عدنا إلى »التعاقبات«(5) من الخطِّ الثالث، نستطيع أن نملأ بعض الفراغات. ومع ذلك، يبقى تفسير القسم الأخير أي مز 120-150(6) ناقصًا.

والمؤلَّف الثالث: الشرح المجهول الاسم. لا هو بالطويل ولا هو بالقصير في مستوى التشاريب. نشره ياجيك(7) سنة 1917 وقال: كاتب غير أكيد. ولكن تبيَّن فيما بعد، أنَّه من تأليف هيسيخيوس، وذلك بشهادة التعاقبات. قيل في هذا الشرح إنَّه انطبع بالطابع الأنطاكيّ في الكلام عن يسوع المسيح. غير أنَّ جيسان(8) رأى أنَّ هيسيخيوس اعتاد أن يستعمل تعابير من مدرسة أنطاكية قبل الجدالات النسطوريَّة. ثمَّ تحاشاها فيما بعد. هذا يعني أنَّ الشرح المجهول الاسم يعود إلى الحقبة الأولى في حياة هيسيخيوس، على ما يبدو.

*  *  *

إلى من وجَّه هيسيخيوس هذه التشاريب أو الشروح؟ إلى رهبان يعيشون في الدير بقيادة الرئيس(9). وأوضحت حاشية أوردها مركاتي(10): توخّى الكاتب أن يُسند انتباه الرهبان في تلاوة المزامير. ففي بداية كلِّ مزمور، العنوان المكتوب بالحبر الأحمر(11)، هو موضوع شرح يستند في أكثر الأحيان إلى علم الاشتقاق وأصل الكلمة: سواء أسماء العلم (الأماكن) أو الموصوفات. ثمَّ إنَّ أحرف الأبجديَّة العبريَّة(12) في بداية مز 111، وعلى مدِّ مز 119 و144 (الآباء اليونان 27: 1309-1318)، كلُّ هذه إنَّما هي طرق تجتذب نظر الرهبان، وتدعوهم إلى رفع النفس أبعد من العلامات المكتوبة التي لا يفهمها أغلبهم.

في دراسة مز 126: 4 (أعدنا يا ربّ مثلما تعيد إلى الجداول في النقب مياهَها بعد جفاف) توقَّف عند عبارة »جدول النقب أو سبل الجنوب« (الآباء اليونان 27: 1233، مركاتي، ص 150-151) حيث يقول الكاتب بالنسبة إلى هذا الموضع: »نعرف أنَّ السيل(13) هو ذاك الذي يفصل مصر عن فلسطين، انطلاقًا من البحر، وبالتحديد أمام العريش(14) الذي هو رأس مصر(15) بالنسبة إلى الآتي من الشرق. من هناك توغَّل البدو في أرض فلسطين ليقوموا بأعمال السلب ويكدِّسوا النهب إلى يوم تفيض المياه فتجرف الأسلاب والبشر«. وأضاف الكاتب: »كنتُ في تلك المدينة، ورأيتُ السيل«. من هو القائل مثل هذا الكلام؟ قال المخطوط: »هيسيخيوس الذي كان في الماضي رفيق المتوحِّدين في برِّيَّة فلسطين«(16).

سَخر أحدُ الدارسين(17) من هذه الحاشية الموسَّعة في المزامير فقال: »إنَّ أنطونيلّي (ناشر المزامير، حاشية 2) اعتبر مؤلَّفًا للمعلِّم العظيم (أي أثناز) ملاحظات لا تكاد تليق بمعلِّم يدرِّس التعليم المسيحيّ للمعمَّدين الجدد«. هنا لا بدَّ من العودة إلى هذه النصوص المنشورة وإن في القرن الثامن عشر والاستعانة بما في التعاقبات (الكاتينا) من غنى.

هذه الإشارة إلى العرش تفهمنا أنَّ صاحب المزامير هو من فلسطين. وكلامه يقودنا مباشرة إلى أورشليم(18). فتذكُّر المسيح في المدينة المقدَّسة وفي بيت لحم، الذي لبث حاضرًا في أماكن عزيزة على قلب المتعبِّدين، يَعود مرارًا وتكرارًا(19).

ونضيف أنَّه مع الشروح المتعدِّدة لأسماء العالم أو الألفاظ النادرة والغريبة، نجد رسمات حلوة وموسَّعة عن آدم والمسيح والأمم والشيطان والكنيسة. ويأتي شرحُ الألفاظ بعض المرّات في شكل حوار (مثلاً في مز 13، 24، 25). لماذا نعجب من ذلك وهيسيخيوس هو المعلِّم في الكنيسة(20)، كما كان أوريجان في الإسكندريَّة والذهبيّ الفم في أنطاكية؟

*  *  *

فمن كان هيسيخيوس هذا؟ هو فلسطينيّ من أورشليم. رافق البطريرك يوفنال إلى اللاورا(21) مع الأرشمندريت باساريون في 7 أيّار سنة 428 كما تقول الدعوة الثانية عشرة لاجتماع المجلس(22). ذاك ما قاله كيرلُّس البيسانيّ في حياة أوتيم الأكبر. وتحدَّثت كرونيكة تيوفان(23) (بداية القرن 11) عن رسمة كيرلُّس أسقفًا على الإسكندريَّة، وشهرة هيسيخيوس سنة 412، وعن موت هيسيخيوس المعاصر لموت ميلاني الصغيرة سنة 439.

متى انتهت حياة هيسيخيوس؟ هناك رأيان. رأي أوَّل يعتبر أنَّه توفِّي بين مجمع أفسس (431) ومجمع خليقيدونية (451)(24). والرأي الثاني يعتبر أنَّه توفِّي بعد سنة 451 وانعقاد مجمع خلقيدونية، بدليل ما كتب رافضًا التحديدات الجديدة، ومقترِبًا بعض المرّات من المواقف المونوفيسيَّة. أمّا نحن فنأخذ بالرأي الثاني بدليل ما وصل إلينا في بليروفريا(25) حيث روى يوحنّا الميومه(26) أنَّ هيسيخيوس كان حيٌّا خلال مجمع خلقيدونية. ونستند خصوصًا إلى رسالة البابا بيلاج الأوَّل (556-56)، حيث قال بأنَّ هيسيخيوس كتب ضدَّ مجمع خلقيدونية، وضدَّ رسالة القدّيس لاوون، بابا رومة، إلى فلافيان، بطريرك القسطنطينيَّة(27). أيكون هيسيخيوس الذي ذكره البابا بيلاج شخصًا مغمورًا؟ أم ذاك الذي ترك الآثار الكثيرة، على مستوى التاريخ فقُرئ بعض ما كتبه عن تيودور أسقف المصيصة في المجمع المسكونيّ الخامس سنة553(28) والذي ألقى العظات الكثيرة، وترك وراءه المؤلَّفات التفسيريَّة التي توزَّعت في عدد من الكتب خوفًا من التلف. فنحن لا ننسى تأثير الإسكندريَّة عامَّة، وأوريجان خاصَّة، على هيسيخيوس، وقد اهتمَّت السلطات الكنسيَّة بإتلاف كلِّ ما يلامس النظرة الأوريجانيَّة ولو من بعيد. وإذا كان هيسيخيوس صديق القدّيس أوتيم (377-473) وذاك الكاتب المشهور الذي لبث مشهورًا في القرنين 6-7 بحيث وصفه كيرلُّس البيساني باللاهوتيّ (ص 27)، وإذا كان جان موسخوس (+634)، نعته بالطوباويّ في المرج الروحيّ (46، الآباء اليونان 87: 901، ب)، وإذا كانت السنكسارات اليونانيَّة كرَّمت ذكراه في 28 آذار(29)، فكيف نجسر أن نمزجه مع شخص آخر مغمور عاش في القرن الخامس أو السادس، في الإسكندريَّة واشتهر بالتآليف المعجميَّة(30)؟ أو مع هيسيخيوس الميلتيّ(31) الذي ترك في ما ترك تاريخًا في ستَّة أجزاء، يمتدّ من بالوس، الملك الأشوريّ، حتّى الإمبراطور أتناز الأوَّل؟(32)

وقبل أن نقدِّم دراسة حول هيسيخيوس اللاهوتيّ ومفسِّر الكتاب المقدَّس، نورد شرحًا للمزامير 38 في النصّ العبريّ، أو 37 في السبعينيَّة. جُعل الشرح باسم الذهبيّ الفمّ، كما شروح أخرى عند أوريجان أو كيرلُّس الإسكندرانيّ(33).

*  *  *

مزمور لداود في تذكُّر السبت(34)

مزمور لداود في تذكُّر السبت. أيّ سبت؟ لا أيّ سبت. هو لا يتكلَّم عن سبت الذبائح بحسب الشريعة، بل عن آلام المسيح. عنه قال يوحنّا اللاهوتيّ: »وكان ذلك يوم التهيئة (السبت)، ولئلاّ تبقى الأجسام على صلبانها، لأنَّ ذلك السبت كان عظيمًا، طلب اليهود من بيلاطُس أن يكسروا سيقان المصلوبين« (يو 19: 31).

1     يا ربّ، لا تغضب في معاتبتي

ولا تحتدَّ إذا أدَّبتني

مرارًا قيل لنا إنَّ المسيح أخذ بشريَّتنا في الآلام كما في النبوءة. ينتج عن هذا أنَّه يريد أن يؤدَّب لا في الغضب ولا في الاحتداد. وماذا يطلب إذًا؟ ما يقود إلى الخلاص. ويريد التأديب في السلام الذي لا يمكن أن يأتي إلاّ ذا قبلنا التأديب على أنَّه آتٍ من عند الله. فالإقناع يقود الشخص بالبراهين كما يقول النبيّ أشعيا: »إن كانت خطاياكم بلون القرمز، فهي تصير بيضاء كالثلج، وإن كانت حمراء غامقة، فهي تصير بيضاء كالصوف« (أش 1: 18). ومن يتَّخذ التأديب يعود إلى النبيّ نفسه القائل: »سلامنا أعدَّه لنا، وبجراحُه شفينا« (أش 53: 5).

2     سهامك تثبَتْ فيَّ،

ويدك ثقلت عليَّ.

طلب المسيح من أبيه أن لا يخاف من أجل البشر، لأنَّ السهام موجَّهة عليهم. أي إنَّ الشرور اجتاحته بسبب طبيعة آدم العاديَّة. دخلت فيَّ وأنا أتقبَّل الخطيئة من البشر، بحيث خضعتُ للتأديب من أجلهم.

4     جسدي غير معافى لأنَّك غضبتَ

وعظامي غير سليمة لأنّي خطئتُ.

يدعو »العظام« بشريَّته. فقد أعلن لتلاميذه بعد القيامة حين أراد أن يثبت تدبير البشريَّة التي من قبل: »جسّوني وانظروا. فالروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي« (لو 54: 39). خطئت. في السبعينيَّة: من وجه خطاياي. التي حملها من أجلنا. ما نال السلام، بل الاضطراب في عظامه، أي في بشريَّته: حُفظ اللاهوت حرٌّا من كلِّ اضطراب. تعلَّم هذا من الوحيد (المونوجين) القائل: »نفسي مضطربة« (يو 12: 22). والنفس تعني البشريَّة.

5           آثامي عبرت فوق رأسي،

كحمل أثقل ممّا أحتمل.

6           جراحي أنتنت وقيَّحت

يا ربّ بسبب حماقتي.

وكيف أنتنت جراح لحمه، مع أنَّ لحمه لا يعرف الفساد؟ وكيف كون له هذا وهو الحكمة الحقَّة؟ دعا يهوذا حماقتَه كما المعلِّم ينسب إلى نفسه زلَّة اللسان عند تلميذه. وقيَّحت الجراح بتسليمه (معلِّمه) بالآثام. هل أكره من تلك الخطيئة التي فيها الإناء يخون صانعه ويرسله إلى الموت؟ فاسدة هي، تختنق في الفخاخ. عندئذٍ يكون الإعلان عن خلاصه بحيث ييأس الأطبّاء من شفاء الجراح.

7أ         انحنيتُ بالحداد والتويتُ كثيرًا

صار يائسًا، لا على الصليب فقط، وقبل الصليب مثل فلاّح ثابت في عمله حتّى ينقّي حقله، بل انحنى حتّى النهاية حين تحمَّل الموت من أجلنا. فقد كان أرفع خليقة حتّى انحنى إلى الأرض ليرفع كلَّ من سقط.

آ7ب   وأمشي بالحداد نهارًا وليلاً

لماذا فرحُ العالم يؤثِّر في كآبته؟ هذا ما يبيِّنه الآتي من الآيات.

آ8أ         لأنَّ خاصرتيَّ امتلأتا احتراقًا

دعا احتراقًا العذابات التي تحمَّلها في زمن الصليب. فهي حملتها إليه مشتعلة. (وقال): امتلأتُ حين فكَّرتُ في شفاء البشر من خطاياهم فيما بينهم. أمّا لليهود

8ب          فلا شفاء للحم (للجسد).

أي في عذابات جسدي، رفعوا عليَّ الصليب الذي فيه وحده الخلاص من الخطايا. إذًا، بحقٍّ كنتُ حزينًا.

9آ    خائر ومنسحق كثيرًا

كئيب أنا، لأنّي متَّهم كذبًا. منسحقٌ أنا ولا أجيب بكلمة: كنتُ منسحقًا حين رئيس الكهنة استحلفني وسألني إن كنتُ المسيح، فما أجبتُ. بل أنا هو. أنت قلت (مت 26: 63، 64). ما طلبتُ مجدي وكأنَّهم يتقبَّلون جوابًا مشكوكًا فيه، بعد أن أُبعدوا عن الحقيقة في تأكيدهم.

9ب    وأئنُّ من زفير قلبي

قال: أزأر لأبيِّن عظمة الأنين، ومثل أسد يشمُّ الطريدة لأنَّه لا يجدها، هكذا هو أيضًا يزأر لأنَّه لا يقدر أن يصطاد الخلاص لليهود.

10أ    يا ربّ، أمامك كلُّ رغباتي

وماذا كانت رغبة المسيح؟ أن يعمل الفصح من أجلنا. لهذا قال لتلاميذه: »رغبة رغبتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي« (لو 22: 15). لا الفصح فقط، بل ما به تتمُّ الصورة، وتكون الحقيقة. ولماذا »معكم«؟ لأنَ اليهود لم يريدوا أن يكونوا مشاركين في السرّ، الذي رتَّبه من أجلهم. هذا عرَّفه الآب لوحيده لكي يعرف كلَّ شيء قبل أوانه. من هنا قال بولس المصطفى بحسب القدرة: »حزني كبير وتعبُ قلبي لا ينقطع. فأتمنّى أنا أن أكون محرومًا من المسيح من أجل إخوتي الذين هم أقاربي بحسب اللحم والدم، الذين هم بنو إسرائيل« (رو 9: 3، 4).

11    قلبي خافق وقوَّتي فارقتني

ونور عينيّ لم يبقَ معي.

كيف يتبلبل قلبُه حين لا يخلِّص اليهود. ولكنَّه دعا بطرس القوَّة والقدرة بسبب اعتراف الإيمان. »أنت الصخر وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها« (مت 16: 18). ولكن حين أنكره، تركه. فالرسل كلُّهم نور، حيث قال لهم: »أنتم نور العالم« (مت 5: 14). هؤلاء كانوا عيون العهدين، عهد الشريعة وعهد الإنجيل. فالقديم والجديد يُضيئان لنا بنور الربِّ في زمن الصليب، لا لليهود الذين لم يكونوا مع المسيح.

12    أحبّائي وأصحابي تنحَّوا عن نكبتي

وأقاربي وقفوا بعيدًا عنّي.

أحبّائي. فهِمَ بالأحبّاء وسائر الأقارب أنَّهم اليهود. هم أحبّاء لا لأنَّهم أحبّاء يسوع، بل لأنَّهم كانوا محبوبين لديه. كما الصانع يحبُّ ما صنع. والراعي يحبُّ »الخراف التي ضلَّت في إسرائيل« (مت 10: 6)، هكذا أحبَّهم المسيح. ودعاهم أيضًا الأقارب، بسبب المعرفة (الزوجيَّة) بحسب اللحم والدم. أمّا الرسل فكانوا الأقارب، بل أقرب الأقارب بسبب الإيمان به. واليهود الذين دعاهم أحبّاء وأقارب، الذين لم يكونوا بعيدين بل صاروا قريبين منه بسبب وقاحتهم الكبيرة، نصبوا له الفخاخ (مت 26: 4). الذين كانوا بقربي وقفوا بعيدًا عنّي. أي الذين كانوا قريبين جدٌّا (التلاميذ القدّيسون الذين وقفوا جانبًا في زمن الصليب)، ما نصبوا له فخاخًا، بل أبعدوا المفخِّخين.

13أ         طالبو حياتي نصبوا لي فخٌّا.

استعملوا القوَّة. ولماذا استعملوا القوَّة؟ ليعطوا مجدًا له، لأنَّهم تذرَّعوا بالغيرة على الشريعة حين نصبوا فخاخهم حسدًا. هذا ما يدلُّ عليه بضوح العبارة التالية:

13ب   والساعون إلى أذيَّتي يتحدَّثون بسقوطي

فالذين يطلبون الشرَّ لي يتحدَّثون بالباطل. وما هو هذا الباطل؟ قال لو 23: 2: »فأخذوا يتَّهمونه قائلين: وجدنا هذا يُفسد شعبنا ويُمنعنا من إعطاء الجزية لقيصر. فحين سأل يسوعَ الهيرودسيّون والفرّيسيّون أجاب: »أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله« (لو 20: 25).

*  *  *

نكتفي بهذا القدر من تفسير مز 38، كما وُجد في التعاقبات (أو الكاتينا) التي جمعها باربارو وجعل تجاهها الترجمة اللاتينيَّة. ما لاحظناه منذ البداية، هو ابتعاد طريقة هيسيخيوس عن الشرح الأنطاكيّ. هو لا يتوقَّف عند المعنى »الحرفيّ« أو »التاريخيّ« حيث يُدرَس المزمور في إطار العهد القديم. بل ينتقل حالاً إلى شخص يسوع المسيح، فيقرأ حياته وموته وآلامه بكلمات المزمور. من أجل هذا، نراه يكيِّف ألفاظَ العهد القديم بحيث تكون في شكل خبر يقود إلى العهد الجديد.

*  *  *

وبعد قراءة مزمور يُشبه المزامير الأخرى، التي سعى الشرّاح لإعادتها إلى هيسيخيوس، نودُّ أن نتعرَّف إلى شارح الكتاب وإلى اللاهوتيّ، وإلى الواعظ.

1- شارح الكتاب المقدَّس

ونبدأ بالكلام عن النصِّ الملهم وطريقة تفسيره. ونتذكَّر أنَّ هذه الشروح توجَّهت إلى الرهبان(35). ولكنَّها لم تنحصر بالرهبان، بل تكون قد وصلت إلى أبعد من الدير أو اللاورا. دُوِّنت في أورشليم أوَّلاً، ثمَّ في بيت لحم وجبل تابور(36). ماذا يقول الشارح؟

وافق التقليدَ اليهوديَّ الذي ذكره أوريجان (الآباء اليونان 12: 1056أ)، فقسم المزامير إلى خمسة كتب، بحيث ينتهي كلُّ كتاب بالعبارة: آمين، آمين(37). واتَّبع ترجمةَ السبعينيَّة التي فرضت نفسها في العالم اليونانيّ. كما أبدى إعجابه بتوافق الشرّاح(38) الذين أصلحوا قدر المستطاع، وبإلهام الروح القدس، ما أصاب الكتب النبويَّة من ضرر خلال فترة المنفى. ومع ذلك، ومنذ ذلك الوقت، طال النصَّ اليونانيّ أضرارٌ جديدة: الاختلاف بين الترجمات: أكيلا (القرن 2، ترجمة حرفيَّة، قريبة من الكزّ) في مز 5: 4؛ 78: 46؛ 81: 4. ثمَّ سيماك (من القرن الثاني، ترجمة أدبيَّة) في مز 11: 3؛ 18: 14؛ 81: 14؛ 90: 3ب. ثمَّ تيودوسيون (جاء بعد أكيلا - حرَّر النصَّ بعض الشيء) في مز 28: 21؛ 90: 6. ثمَّ الخامسة (78: 21؛ 94: 23؛ 110: 1) والسادسة(39) (89: 45). وهذا دون أن ننسى الاختلافات بين مخطوط وآخر. من كتاب المزامير الذي هو في جوهره النسخة اللوقيانيَّة(40)، أخذ هيسيخيوس التقسيمات المعتادة(41)، ولكنَّه لم يتردَّد في تقديم تقطيعات جديدة.

إذا كان حرفُ النصِّ في السبعينيَّة لا يدعو إلى ملاحظة إجماليَّة بل فقط إلى ملاحظات عابرة أو تصحيحات، فليس الأمرُ كذلك بالنسبة إلى العناوين التي تُقرأ في بداية عدد من المزامير. فقد اعترض هيسيخيوس في مقدِّمته مع »عناوين المزامير«(42)، على بعض سابقيه الذين اكتشفوا بنشافة العنوان العبريّ الذي نُقل في بعض النسخات الدارجة، فأنكروا أن يكون داود هو صاحب مجمل المزامير. فوزَّعوها بين داود ومعاونيه المباشرين من جهة، وبين سليمان وموسى من جهة أخرى. وبعد ذلك تركوا في الإغفال وبدون اسم، عددًا من المزامير(43). ذاك ما قاله هيسيخيوس في مقدِّمة المزامير، وسوف يطبِّقه على مدِّ تفسيره لهذا السفر الإلهيّ.

ذكَّر أوَّلاً بأنَّ العناوين ليست أمورًا خارجة عن النصّ. هنا أشار إلى بعضهم مثل تيودور أسقف المصيصة، وتيودوريه أسقف القورشيَّة (بداية مز 73). ربّما تتوافق بعض المرّات مع التاريخ المقدَّس. فبداية مز 57 ترتبط بما في 1صم 24: 4ي: »كتاب الملوك يشرح هذا الخبر بشكل أوضح«. وفي بداية مز 60 نقرأ: »هكذا كُتب في 2صم 8: 3ي«. وفي مواضع أخرى، يبدو أنَّ هناك تضاربًا في ألفاظ العنوان الواحد. قابل بداية مز 56 مع 1صم 21: 11ي. ومهما يكن من أمر هذه التوافقات أو اللاتوافقات، نعرف بأنَّ ترتيب المزامير ليس ترتيب التاريخ. وبعض التلميحات إلى الماضي، الموزَّعة في هذا العنوان أو ذاك، لا تميل بانتباهنا عن الموضوع الرئيسيّ في الكتاب المقدَّس، أي النبوءة. نقرأ في بداية مز 59: »يجب أن نعرف أنَّ الخبر نُظِّم لا بحسب ترتيب المزامير... بل من أجل النبوءة«.

*  *  *

هنا نترك عمل الناقد لكي نصل إلى عمل الشارح والمفسِّر. ولكن قبل ذلك، نعود إلى الوراء، ونعطي أمثلة حول ما قال هيسيخيوس في المقدِّمة حول نسبة المزامير إلى داود. قال:

المزامير كلُّها هي لداود. وقد أنشد الكثير منها(44). ولكن حين نظم في صهيون، المدينة المصونة، خدمة الغناء، احتفظ لنفسه بالصلاة، وتركَ للآخرين الألحان (بداية مز 39): فالآخرون هم منشدو المزامير الذين دُوِّن اسمهم في بداية المزامير المختلفة، الذين منهم كتّاب مغفَّلون على أنَّهم أصحاب هذه المزامير. مثل قورح (مز 85، 87، 88)، آساف (مز 73، 74) يدوثون (مز 39)، إيثان (مز 89)، هيمان (مز 88). وهناك اسمان مشهوران أكثر من هؤلاء (سليمان وموسى). ولكنَّ الأسفار التاريخيَّة لا تقول أبدًا إنَّهم أنشدوا مزامير، بل تركوا فقط أناشيد وتسابيح. في بداية شرح مز 72، أعلن هيسيخيوس أنَّ سليمان الحقيقيّ، المسالم، هو المسيح. أمّا موسى، رجل الله، فما وُضع اسمُه عبثًا في بداية نشيد فيه يرتفع النبيّ من مشهد الخلق إلى عناية الله التي تنظِّم حياة العالم (الآباء اليونان 55: 755-756).

يبقى أن نقول كلمة حول مزامير لاعنوان لها (مز 91-100). اعتبر الشرّاح أنَّ لاعنوان للمزمور 91. بل يجب، مع السبعينيَّة، أن نعيد إليه العنوان كما إلى بداية مز 95، 96، 98. عنوان 93 ليس بأكيد. لا نجد اسمًا في مز 92، بعد أن غاب اسمَ الموسيقيّ. أمّا مز 100 وإن لم نجد في بدايته اسمًا، فهو ينتمي إلى النبوءة الداوديَّة.

ومهما كانت هذه التفاصيل مهمَّة، إلاَّ أنَّه يجب أن لا تميل بنا عن الجوهر، أي عن شخص داود، قلبِ هذا السفر الملهَم. أعطانا الشرح الأوَّل ثلاثة تفاسير عن اسمه: محتقر، قدير، مرغوب(45). أمّا الشرح الكثير فيشدِّد بشكل خاصّ على داود الملك وصورة المسيح. في عنوان مز 35: لداود. هو داود الجديد νοτηον. في مز 59: 1: داود الجديد هو المسيح. في مز 69: 1: »في كلام عن داود، نشير مرارًا إلى المسيح«. في مز 78: 70: »داود كان أبا المسيح وصورته εικον.'' في مز 98: 1: »دعا داودَ المسيح«.

كان داود ضوءًا يُنير، أمّا المسيح فهو إشعاع النور الأبديّ، وقد أسقط أشعَّته على آخر حنايا الشعب المقدَّس، فأتمَّ ما تعلن الكلمات، وكشف للبشريَّة الطريق التي تصل إليها معرفةُ الكلمة.

ونسأل هيسيخيوس بعض الإيضاحات حول نهج تفسيره. هو لا يجهل أنَّ آخرين سبقوه في شرح المزامير. لم يذكر واحدًا منهم، ولكنَّه عرف مؤلَّفاتهم فأورد الآراء المختلفة. حول 6: 7ب ج: دموعي كلَّ ليلة تفيض، أغمرُ بها فراشي. أورد الشارح لفظين من مرجعين يدلاّن على الفراش: στρομνη و κλινη . في مز 9: 17أ و19 مع طول الأناة: μακροθυμια ثمَّ ληθη.  وفي مز 119: 73: »يداك صنعتاني وكوَّنتاني. ثمَّεπλασα (جبل، كوَّن)، وفي موضع آخر، εποησαν يعارض هذا التفسير أو ذاك(46).

*  *  *

»كلُّ كتابة هي ملهمة من عند الله«. هذه المعطية التقليديَّة التي نقرأها في 2تم 3: 16. في اليونانيَّة     θεοπνευστος. شرح هيسيخيوس أنَّ الكتب المقدَّسة هي أجنحة يمدُّها روحُ الله، وأداةٌ خلقها لكي يرفعنا من الأرض ويحملنا إلى السماء. απο της αναλαβουσαι εις ουρανον αναγουσιν رج مز 57: 2ج؛ 63: 8ب. ويتوافق العهد القديم والعهد الجديد توافقًا تامٌّا. بهما يتمُّ التنسيق بين الأصوات التي نسمع. في مز 108: 3أ (يا عود، يا كنّارة): »يدعو العهد القديم والعهد الجديد لكي يستيقظا«. ويتمُّ الانتقال من الصورة إلى الحقيقة. حول مز 81: 3: »إبدأوا العزف وهاتوا دفٌّا«. قال: »بعد أن جمع الآلات إلى الآلات، جمع القديم αρχασια والجديد η νεα.

وينتقل المؤمن من الإنباء إلى الإتمام، كما من الزمن إلى الأبديَّة. رج مز 108: 3؛ 105: 8 حيث يقود العهد الجديد إلى الأبديَّة  τον αιωνα وقيل عن الأناجيل إنَّها مركبة الله التي يقودها أربع أفراس (68: 18أ). وهي توافق الأبواق (98: 6)، والحذاء المرميّ (108: 10ب). أمّا العهد الجديد، فهو المرعى الدائم الاخضرار (23: 2).

الكتب المقدَّسة هي شهادة الله، ولكنَّنا لا نصل إليها بشكل مباشر. فبين سرِّ عجائبه وإمكانيّاتنا الخاصَّة، يقف حجابٌ نُسج في كثافة الكلمة، ويقف ظلُّ الصور والألغاز: فيجب أن نجهد عقلنا لكي نزيل هذا الحجاب إذا أردنا أن نفهم شيئًا من الأسرار المعروضة علينا (مز 119: 8: »افتح عينيّ فأبصر عجائب من شريعتك«. أسرار في الأنماط τυπος وفي الظلال σκιας).

ويتميَّز الحرف عن الروح، بحيث »ننتبه فنقرأ الشريعة  بحسب الروح« κατα  πνευμα (مز 81: 117: أجود الحنطة)، و»ندعو الشريعة شحم النار لأنَّ الروح يسكن في الحروف« (مز 49: 5) كما يميِّز الكاتب ما هو مجرَّد خبر أو تذكير بالماضي (عنوان مز 52؛ 54؛ 58)، والتوسُّع الذي يفرضه إطار المشاهدة. مرّات لا يشير هيسيخيوس إلى التاريخ كما في مز 4؛ 106: 16. ويقول في مز 68: 2: »نحن نكتشف النبوءة بالنسبة إلى المسيح، وكذلك نجد التاريخ مرتبطًا بالمشاهدة« θεωρια. في مز 107: 4 (بعضهم تاه في برِّيَّة مقفرة) يمكن أن تنطبق الآية »بحسب التاريخ«κατ ιστοριαν على مغامرة الشعب اليهوديّ. ولكن في الحقيقة، يدعونا النبيّ »إلى البراري لحياة في المشاهدة«.

وما نلاحظ عند هيسيخيوس هو دعوته لكي نتآلف مع لغة الكتاب المقدَّس وعاداته في استعمال بعض الأفعال والأسماء والعبارات، في معنى خاصّ، مثلاً »خلق« في معنى »أدَّب«. أو »المعرفة«γνωσις في معنى »الاختبار العمليّ« πραζις (مز 78: 17).

*  *  *

وتوقَّف هيسيخيوس عند مختلف المجموعات البشريَّة: أولئك الذين نجدهم في المزامير (اليهود والأمم)، وأولئك الذين، في عصر الشارح، لبثوا خارج ملء الحقيقة. وبدأ باليهود. انحصر الجمع بين الشريعة والأنبياء فشبِّه بأحشاء تتوجَّع، منذ تقلُّبات القمر إلى شروق الشمس (22: 15؛ 104: 19). أمّا الآن فقد زال هذا الوضع: لا هيكل بعدُ ولا ذبائح، ولا مدينة مقدَّسة (مز 50: 8أ، لا أعاتبكم على ذبائحكم). بل إنَّ اليهود تشتَّتوا (78: 2-4)، صاروا موضوع عار وكره (53: 2ب؛ 79: 42ب). بقدر ما استطاعوا، ضايقوا المسيح ولاحقوه (مز 35: 1ب؛ 59: 1) عبر الرسل والشهداء. واليوم، يحتملون تقلُّب الظروف؛ فمملكة الرومان تضايقهم بعد أن دمَّرتهم (89: 43: أعليتَ يمين خصومه، وفرَّحتَ كلَّ أعاديه).

وقدَّم هيسيخيوس مقابلة بينهم وبين اليونان. يفتخر اليهود بموسى ويشمخون بأجدادهم. أمّا اليونان فيستندون إلى أصنامهم المنقوشة، (يفتخرون بحكمتهم، مز 89: 18 حيث تقابَل الحكمة بتعليم إبليس διαβολος). أمّا النتيجة فواضحة: أرض اليهوديَّة التي سبق الأنبياء والأبرار فأخضعوها، قد حوَّلها إلى ملحٍ شرُّ سكّانها حين ثاروا على المسيح (107: 34؛ الآباء اليونان 93: 1305ب). واليونان الذين هم فلاسفة، رجال سفسطة وبلاغة، والذين ظنّوا أنَّ فلسفتهم ستسيل على مدِّ الألفاظ، قد تركهم الله في الصحراء وما نجحت خطبُهم سوى أن تحرِّك عطشًا لا يستطيعون أن يُشبعوه (مز 107: 33). فالفئتان هما باطل، وبالتالي يزولان (مز 31: 7أ؛ ق مر 7: 4؛ مت 23: 23؛ لو 11: 42). هي أمور احتقرها المسيح.

ونشير إلى عادات الزمن الذي عاش فيه هيسيخيوس: هي بقايا العالم الهلّينيّ على مستوى الفنّ (مز 105: 2أ؛ 119: 3ب) أو الإسترولوجيا (75: 6) أو سباق الخيل أو المسارح. أمّا المجتمع فيعرف فئتين من الأشخاص: المتشامخون (119: 150، 161) والسكّيرون (مز 68: 65؛ 107: 27). وإذا خرجنا من المدن، نجد »لأمم« (الوثنيَّة) الموزَّعة في الأرياف والجبال، وبشكل خاصّ لبنان الذي ما زال قلعة الأصناميَّة (29: 5؛ 92: 13-14؛ 104: 16ب). هنا يلتقي هيسيخيوس بالذهبيّ الفمّ في التحسُّر على لبنان (أي جبل لبنان) الذي لم ينبذ بعدُ الأعياد المقامة إكرامًا لأدونيس وعشتاروت، إلاّ أنَّ هيسيخيوس رأى أنَّ الاهتداء إلى المسيح هو في تقدُّم مطَّرد (34: 23؛ 106: 47).

وننتقل من تصرُّف »اليونان« إلى حلبة تتوسَّطهم مع الذين يتعدَّون على صفة »مسيحيّ«. هم الهراطقة »الذين يسلبون αρπαζω الاسم المسيحيّ (مز 73: 10). هو الجهل يدفعهم أو عدم معرفة الإله الحقيقيّ. بعضهم لا يعرف سوى الأمور البشريَّة. والآخرون لا يهتمّون بمعرفة الله (73: 10) من هنا ينطلقون نحو الروايات والأساطير: بعضهم قسَّم الثالوث (مز 110: 3) وآخرون اعتبروا التجسُّد في الظاهر (هي الظاهريَّة docétisme، 108: 5؛ 110: 3). لهذا، طُردوا من المعبد. رج مز 74: 6 حيث يقول: »لهذا اعتبرنا هؤلاء الهراطقة إنَّهم مجدِّفون«.

هراطقة هربوا من حضن الكنيسة. »يونان« ضالّون، ولا يزالون متعلِّقين بالغنوصيَّة والمعرفة الباطنيَّة التي لا ترتبط بالوحي (التقليد) مثل المانويّين (34: 21؛ 89: 13؛ 90: 2). فهؤلاء كلُّهم لم يبلغوا إلى الحقّ، هدف معرفة الله θεογνωσια. نقرأ في مز 86: 11: هدف التيوغنوسيا (معرفة الله) »البلوغ إلى الحقيقة كلِّها«. تجاه التيوغنوسيا هناك التيولوجيّا θεολογια التي تعني الحياة الروحيَّة والمشاهدة. في مز 8: 9، صار »خير السماء« صورة عن الذين يجدّون في »اللاهوت«، تجاه »سمك البحر« الذين يسبحون في مياه العالم (الآباء اليونان 27: 676).

غابت هذه التيوغنوسيا عن مملكة إبليس (107: 4 του διαβολον πολιτεια عُرضت على اليهود بالآيات والعجائب من كلِّ نوع (74: 6τα σημεια και τα θαυματα). فرفضوها. بـل جــدَّفوا. أمّــا »الأمم« التــي سُجنــت في الماضي، في حضرة الأصناميَّة، فتسلَّموا ميراث التيوغنوسيا، »ميراث اليهود« των λουδαιων κληρονομιαν (79: 1). فالتيوغنوسيا عطيَّة من السماء حملها المسيحُ إلى البشر. وهي ينبوع حياة ونور (67: 5ب؛ 36: 10). انتشرت عبر الإنجيل فأدخلتْنا إلى البحث عن الله في بساطة الإيمان وتجرُّده (104: 13ب؛ 53: 3ب؛ 64: 7). التيوغنوسيا طريق التبرير (69: 28). وقد تنشَّأنا في »سرِّها« حين قبلنا سرَّ العماد (109: 27؛ 66: 13ب-14؛ 109: 27). وسوف تصبح فيما بعد طعامًا للنفس وشبعًا واتّساعًا (107: 5؛ 109: 27) قبل أن تفيض ملأها  في مشاركة لا تَستبعد أحدًا: أهل البيت والغرباءοικειοις αλλοτριος. البشارة تصل إلى الجميع في الكنيسة (78: 7).

ولكن هل معرفة الله ممكنة؟ هنا عاد هيسيخيوس إلى التقليد اليهوديّ القديم الذي لا يحقُّ له أن يتلفَّظ باسم الله(48). فلا شيء يمكن أن يضاف إلى تسامي الله. وما ندعوه »عظمة« هو تنوُّع أو درجة في تجلّيه: السيطرة على الملائكة. ارتفاع السماوات، أساس الأرض (104: 1ب) والنسمة اللاملموسة التي تدفع السحب، ومسيرة الرياح التي لا تتوقَّف، لا تستطيعان إلاّ أن تُعطيا فكرة عن الحركة الإلهيَّة التي لا تتوقَّف عن الإحاطة بكلِّ خليقة ومنْحها الحياة (مز 104: 3 ب ج؛ رج أع 17: 28، نحيا فيه) ودقَّةُ الفضاء تجد ما يقابلها في عمق اللجج. لهذا أراد المرتِّل أن يبرز لاإمكانيّتنا بأن نضمَّ ما لا يُدرَك: فعلى مستوى معرفتنا، يبقى الله لامعروفًا (104: 6أ). توسَّع هيسيخيوس في مز 104 مع صيغة النفي (لا نقدر) في إطار النهج الأبّوفاتيّ apophatique (ما لا نستطيع أن نعبِّر عنه) الذي تركَّز في الشرق منذ غريغوار النيصيّ وبسيدو ديونيسيوس وصولاً إلى يوحنّا الصليب الذي قال:»يجب على النفس أن تعرف الله، بما ليس هو، لا بما هو«.

*  *  *

2- هيسيخيوس اللاهوتيّ والواعظ

تغلَّفت الأسرار صور الشريعة وظلالها. لهذا دعاها المرتِّل »عجائب«. هي تتميَّز عن تجلِّيات ظاهرة لقدرة الله: هي ثمرة الإنجيل. منها يأخذ الإنسان التيوغنوسيا. إنَّها خفايا الله السرّيَّة، ويُمنع أن تسلَّم إلى الآذان الدنيويَّة (119: 11).

وبعد أن اتَّخذ هيسيخيوس هذه الحيطة، أعلن الموجز الأوَّل في قانون الإيمان: إله واحد في ثلاثة أقانيم. نجده في تريزاغيون (التقديسات الثلاثة) السرافيم (إش 6: 3). نقرأ في مز 66: 8: »إله واحد في ثلاثة أقانيمπροσωπον حمد ورحمة وممجَّدة. في مواضع أخرى لا يكون للفظ προσωπονالمعنى الدقيق الذي قرأناه هنا، بل المعرفة التي نمتلكها عن الله:προσωπον الله أو معرفته γνωσις. رج عب 1: 3 والكلام عن »ختم جوهر الله« كما في مز 119: 58أ. كلُّ هذا نجد عنه تلميحًا في التشريع الموسويّ. في مز 30: 9: ما من أحد يُدرك الإله الواحد والربّ الواحد بحسب تث 6: 4. والروح، عبر موسى، حدَّثنا عن الآب وعن شخص الابن. رج مز 68: 19د-20أ: يمجَّدون تمجيدًا متساويًا. رج مز 67: 7ب-8 مع عودة إلى عد 6: 23-26. نحن لا نقول ثلاثة آلهة

τρεις θεους بل ثلاثة أقانيم τρια πτοσωπα في اللاهوت θεοτητος نحن نقول: إله واحد، ربٌّ واحد. في مز 66: 4ب يعود الشارح إلى خر 34: 6 (الربُّ الربّ، إله رحيم) وإلى مز 113: 2 (ليكن اسم الربِّ مباركًا).

الاسم الحصريُّ للثالوث هو الله. هو الربُّ الإله. والله لا يُقسَم (5: 8؛ 96: 2 ονομα...θεος). وهذا مع أنَّ الهراطقة قالوا »بانقسام في الله« ليخفِّفوا من كرامة الابن. ذاك هو تعليم الأريوسيّين وخلفائهم (100: 3). ومع أنَّ آخرين يتوقَّفون عند تمييزات تحمل الجدال (119: 173)، ففي الإله الثالوث كيان واحد (أو طبيعة واحدة)ουσια وقدرة واحدة وديناميَّة واحدة (109: 7ب). ويتحدَّث الكتاب عادة عن »اليمين« (118: 16).

*  *  *

ذاك كلام عن الثالوث. وماذا عن يسوع المسيح؟ كتب هيسيخيوس في مقدِّمته (مركاتي، حاشية 2، ص 155) عن المسيح: هو نور البرّ الذي أرسله الله إلى الأرض، بحسب نبوءة ملاخي (3: 20: »تشرق لكم شمسُ البرّ«). ما نقوله عن الكرستولوجيّا بحسب هيسيخيوس (Jüssen, op. cit., I, p. 83ss) يكون امتدادًا لهذا القول: المسيح يضيء الكتب المقدَّسة حين يكمِّلها.

ما هو إنسان فقط Vopwrqna Volij(49) بل إله θεος وإنسان (87: 2، 5) ابن وحيد monogenhV وربّ (2: 2ح؛ 100: 3). وإذ أراد الشارح الأورشليميّ أن يُبرز مساواة الابن لجوهر الآب، استعمل تارة اللفظ »الأبّوفاتيّ« المعروف في الشرق(50)، وطورًا عبارات خاصَّة للكلام عن حميميَّة الأقنومين في الكائن الإلهيّ. هناك لفظ isoV (59: 10ب): المساوي. اللوغس مساوٍ للآب بحسب القدرة kratoV وبحسب السلطة exousia. حول مز 69: 17: وكيف يقول المونوجين قولاً ليُسمع. فهو مساوٍ للآب وفي درجة مساوية وفي مز 69: 9 يردّ على الأنوميّين الذين يقولون بأنَّ الابن لامساوٍ للآب.

وإذا أراد هيسيخيوس أن يجعل في متناول قرّائه التلازم المتبادل بين الآب والابن، طلب من اللغة الملموسة في المزامير صورًا تساعد على التعبير عن هذه اللاإنفصاليَّة، عن التلازميَّة. فحين أورد مز 99: 7: ففيه (= السحاب) يمتلك الآب وهو يكون في الابن ولكن لا ينطلق في مسيرة من أجل أجر. استند الشارح هنا إلى يو 10: 38: »الآب فيَّ وأنا فيه«. وإلى يو 14: 10: »أنا في الآب والآب فيَّ«. وإلى يو 17: 21: »أيُّها الآب مثلما أنت فيَّ أنا فيك«. قال: الابن هو وجه προσωπον الآب (حول مز 22: 4)، ونور هذا الوجه (4: 7أ)، وإشعاع مجد الآب (60: 8أ؛ 102: 16ب؛ رج عب 1: 3). الآب هو هيكل الابن، والابن هو هيكل الآب(51).

غير أنَّ اللاإنقسام بين الآب والابن واللاإنفصال لا يساويان لاالتميُّز. فالشارح يحافظ على أولويَّة الابن كما يعلن في الوقت عينه العلاقة القائمة بين الآب والابن (2: 7ح). هو لدى الآب منذ الأزل، قبل أن يكون بدأ. وتأتي عبارات تدعونا إلى الاكتشاف في الابن، أداةَ قدرة الله: ذراعه، يمينه (79: 11ب؛ 20: 7ج).

على مدِّ هذه المقاطع المختلفة التي أوردنا، سمّى هيسيخيوس الابن، المونوجين والمسيح. وحين شرح مز 80: 18: »تكون يدك« على ما سبق وتوسَّع فيه من قبل. إنسان يمينه هو المسيح. هو إنسان لأنَّه قاسم الوضع البشريّ وما توقَّف عن أن يلبث مساويًا في الجوهر مع ذاك الذي ولده، مساويٌّا له بالقدرة، لامنفصلاً عنه إلى الأبد، جالسًا منذ الآن عن يمينه، سند الخليقة. هذا الكلام المنسوج بإيرادات من العهد الجديد (أع 7: 55-56)، يعلن منذ الآن حالات المسيح الثلاث، الذي هو نقطة وصل بين السماء والأرض، بين مقصد الله الأزليّ في البشريَّة وتتمَّته. فالله ينظر إلينا في ابنه. ولطفه أعدَّ وحقَّق السرَّ الذي يُعيننا (مز 84: 1ب؛ رج أف 1: 9-11).

*  *  *

لطف الله. ففي إظهاره، في تجسُّد الكلمة (51: 20؛ أف 1: 9)، نكتشف سرَّ المعالم التي غُرست في نسيج الكتاب المقدَّس. فالأحداث والأشخاص وظواهر الطبيعة، كلُّ هذا يتوجَّه لكي يقدِّم صورة مسبقة عن السرِّ الذي صار سرٌّا لنا(52). فصراع يعقوب مع الملاك (تك 31: 23-33) يذكِّرنا بالمسيح الذي أظهر الله qeojaneia في اللحم والدم kata sarka. رج مز 68: 5؛ 98: 3. هو النمط الأوَّل protupon للسرِّ الذي ظهر بشكل بشريّ. وملكيصادق (110: 4ب؛ تك 14: 18) هو نمط tupoV المسيح. ويوسف، إيقونة المسيح (81: 726). وكذا نقول عن داود وسليمان.

والنار في سيناء (68: 9 ب ج) تتحرَّك الآن في جسمه البشريّ. والغمام (97: 2) هو جسد الربّ الذي يُخفي السرّ.

وحين شرح هيسيخيوس مز 66: 5 المتحدِّث عن أعمال الله وصنائعه، وجد ما يُسند كلامه في تك 1: 26 (نصنع الإنسان) فقال: اتَّخذ الابن جسدًا لكي يجبل من جديد الإنسان الذي سقط. وإقامته بين البشر هي: الوصول (المجيء). ثمَّ الإقامة في أرضه وموطنه. ثمَّ نموّ اللحميّ، البشريّ sarkwsiV (80: 30؛ 96: 11؛ 98: 25أ. ثمَّ 80: 3؛ 65: 10 مع epidhmia؛ 80: 4 مع فعل endhmein. ثمَّ 65: 7؛ 80: 3؛ 93: 1). فتجلّي عظمة الله، بأيِّ اسمٍ نسمّيه، يتجاوز كلَّ معجزات العالم المخلوق، بما يفوق الوصف. والابن، بتجسُّده، يبقى ما هو. وُلد، تألَّم ولكن اللاتألُّم عنده apaqeian لم يُمسّ ولم يَنقص (104: 1ب؛ 118: 23).

إنَّ الألفاظ المذكورة هنا، توافق زمنًا من التاريخ. ولكنَّنا نقدر منذ الآن أن نُسقط عليها نورًا يحيطها من كلِّ جهة. نستطيع مع المرتِّل أن نتمثَّل يسوع المسيح وهو ينحني لكي يرى على الأرض تدبيره ويتفحَّص مخطَّط الفداء οικονομια (102: 20). استشفَّ المرتِّل (83: 2) هذه »الإيقونوميّا« في الجسم البشريّ (72: 1؛ يو 9: 39). والأحياء والأموات اختبروا حسناتها (68: 8-9). وهي تصل إلى ذروتها المجيدة حين تظهر علامة الصليب في السماوات (72: 19أ؛ رج يو 12: 28؛ مت 24: 30).

صور مسبقة. تحقُّقات. استباقات. تلك هي حقيقة الله ورحمته وجماله (36: 6ب؛ 45: 5أ؛ 93: 1). فالعليّ الذي صار إنسانًا، لبث كما كان. هو المسيح الكامل χριστος ολος (85: 12؛ يو 3: 16). وفي الوقت عينه هو الإنسان الكامل (78: 39؛ يو 1: 14، مع ضعف الجسد) اتَّخذ طبيعتنا (65: 7؛ 108: 5)، الذي هو جسم بشريّ من أصل داوديّ (89: 5) كلُّه جمال ولاعيب فيه (45: 3أ؛ 103: 1، مع أنَّ هيسيخيوس طبَّق على يسوع: أنا دودة). اتّخذه من مريم العذراء أمَّه θεοτοκος. هي مسيرته الثانية αφιζις في المساء، بعد الأولى التي توافق ولادته الأزليَّة في الصباح. جاء ذلك في شرح مز 65: 6: »ومطالع الصبح والمساء ترنِّم لك«.

ما من مائت يُقابَل به. هذه البشريَّة التعيسة، الساقطة، موضوع رثاء الأنبياء، أخذ يسوع خطاياها وكأنَّها خطاياه (106: 4). هو آدم الجديد، وباكورة البشريَّة الجديدة التي من أجلها تلاشى (14: 6؛ 2كو 8: 9: تعرَّى). فالرحمة والحقّ، واللاهوت والناسوت، كلُّها سارت إلى الأمام وتعانقت في اتِّحاد الحبّ، بحيث لا تعود تنفصل. وجهان اثنان للمسيح في حياته المائتة: إمّا يتشفَّع من أجل الآخرين، وإمّا يوجِّه صلاته إلى الآب وهو ممدَّد على الصليب. ذاك هو الوجه البشريّ الذي يتجلّى (24: 5 هـ: على الصليب، عبر الإنسان). غير أنَّ الزلزال الذي رافق أنفاسه الأخيرة، وأشار إلى قيامته، دلَّ على قدرته التي تمارَس منذ الآن في وجه واحد، هو الوجه الإلهيّ (110: 9؛ زمن الصلب والقيامة. رج مت 27: 51؛ 28: 2τον μονογενους προσsωπον). فسواء دعونا المسيح »كلمة أو لسانًا« (45: 2 ج)، أو »هيكل الله« (65: 6أ:ναον λεγει το σωμα. أو دعونا σαρζ (الجسم البشريّ)، »بشريَّة الله« (31: 10ن) وهو »الإنسان الربّ« (45: 4)، فنحن نتحدَّث عن الشخص الواحد الذي ندلُّ عليه بعبارات متنوِّعة(53). فلا كرامته ازدادت كرامة، ولا عظمته ازدادت عظمة (99: 7؛ 104: 1ب). كان مثلنا، مات وحده قبل أن ينزل إلى ظلال القبر(54)، ولكنَّه خرج حالاً بعد ذلك منتصرًا على الموت، ومكلَّلاً بقيامته قمَّة أسراره (107: 16-17أ).

وما اكتفى الابن بأن يتجسَّد، بل بذل حياته من أجلنا، مثل البجعة: فحين لا تجد شيئًا تعطيه لصغارها، فهي تأكل لحمها وتغذّيهم بدمها (102: 307). فبيننا وبين يسوع دورة متواصلة من التداول: مال نحونا، قدَّم ذاته من أجلنا. ودلَّ على الطريق التي نتَّخذها من أجل العودة إليه. مبادرة الله وأعمال المسيح وآلامه من أجلنا أعطتنا الحياة (85: 7). والهدف: أن يجعلنا في شبه مجده (108: 2ب، 6ب-7أ).

كلُّ هذا نقرأه في الإنجيل. ولكن مع نشر البشارة على مدِّ الزمن، توسَّعت أيضًا معرفتنا للمسيح (96: 2ب) في هذه العبارة، نفهم أنَّنا ندخل في سرٍّ آخر، سرِّ الكنيسة.

*  *  *

حين أنشد المرتِّل لطف الله (34: 9)، ضمَّ في نشيده وفي خطِّ النبوءات، حالات الكنيسة: انعزالها وعقمها الأصليّ حين كانت في برِّيَّة قادش (29: 8) وأدوم (73: 1). ولكنَّ هذه البرّيَّة تستيقظ يومًا إلى الحياة (65: 13؛ رج أش 54: 1؛ غل : 27). ثمَّ تجديدها وتقديسها (30: 1). ودورها كوارثة للمسيح (5: 1). هي وجه المسيح(55). والمسيحُ بدوره يلبس وجه كنيسته حين ترفع صلاتها إلى الله (35: 8). منه تتقبَّل النور وتجعله يثمر، مثل القمر الذي تنيره شمس لا تتراخى حتّى نهاية الدهور (72: 5ب). وهي أيضًا بشريَّة المسيح، لحمه ودمه (مز 59: 3 την εαυτου σαρκα). هي جسده. هي الرأس، والمؤمنون الأعضاء (45: 3ج؛ 68: 24)، والعظام (35: 10أ). هي عروس المسيح (16: 7؛ 50: 11ب)، والملكة الجالسة على العرش عن يمينه (45: 10ب).

وينقلنا هيسيخيوس من مجد الكنيسة في العلاء(56)، في خطِّ ما قاله بولس الرسول وسفر الرؤيا، إلى جهات أخرى من الكنيسة، في شكل تدريجيّ. فيشرح لنا أنَّها بناء الله والملائكة، التي لا تزعزعها هزّاتُ الهراطقة (93: 1؛ مت 16: 18). إنَّها المدينة القويَّة πολις περιοχης حيث تجتمع كلُّ وسائل الخلاص (60: 11أ): هي شهادات الربّ. الشريعة، الأنبياء، البشارة، المخافة، المحبَّة، التحذير، التشجيع، الإيمان، النعمة. كلُّ هذه تُدعى وسائل الخلاص.

وما يُقال عن الكنيسة الجامعة، يقال عن الكنائس الخاصَّة المنتشرة في المسكونة. هي ثابتة مثل جُزر تضربها الأمواج (97: 1ب). هي وديان خصبة تسقيها مياه متواصلة نازلة من الجبال الروحيَّة (الملائكة) لكي تعطي الطعام الحقيقيّ الذي هو الإيمان بالمسيح (65: 14ب ج). فكلُّ كنيسة وكلُّ الكنائس هي معصرة يدوس فيها المسيح عناقيد الكرم ليستخرج منها الخمرة عينها (56: 1؛ 8: 1). وهي العشُّ الذي لا يفسد، حيث صغار السنونو ينالون حصَّتهم من الطعام (84: 4ب ج). هي موضع راحة المسيح وإزهار الفضائل حتّى تميل شمسُ حياتنا إلى الغروب (92: 14-15).

بواسطة هذه الصور المتنوِّعة والمتلاحمة، نستطيع أن نكوِّن صورة عن الكنيسة التي هي مدينة السماء المقدَّسة، التي تعكس وحدتها وغناها في أسس المعابد وجماعات المؤمنين (53: 3). لهذا، فبعد الكلام عن الكنيسة الجامعة، وعن الكنيسة المحلّيَّة، نصل إلى الكنيسة التي هي بناء يستقبل المؤمنين بالمسيح.

فالكنيسة التي نلتئم فيها هي بيت الله(57)، وهيكل الصلاة (84: 2)، والجناح (= الكنيسة) الذي يستند إلى خشبة الصليب، ويستعدّ دومًا لكي يكون حامل البركة، ولاسيَّما في مياه المعموديَّة (104: 26). لا نستطيع أن نقترب من الكنيسة إلاّ باحترام تقويّ، ونحافظ على نفوسنا حين ندخل إليها (5: 8). ففيها المكان المقدَّس أي المعبد (24: 3ب؛ 26: 6ب). وفيها نتذوَّق حلاوة الله، والمسيحُ يكون فرحنا. فليتورجيَّة الأسرار التي تتمُّ في الكنيسة، هي صورة عن الليتورجيّا السماويَّة التي سوف نشارك فيها (37: 4).

والنصُّ الذي قرأه هيسيخيوس في مز 107: 23 (وآخرون أبحروا في السفن، ليتاجروا في المياه الغزيرة)، أتاح له أن يستخلص الخطوط الرئيسيَّة في مسيرتنا. ففي ما يخصُّنا، لا نمتلك سوى زوارق صغيرة اهترأ خشبُها. فكيف تستطيع أن تؤمِّن لنا العبور وسط العواصف والأمواج العاتية؟ وهذا البحر المائج الذي هو إطار حياتنا، لا بدَّ لنا من مواجهته، إذا أردنا أن تنجح »تجارتنا«، أي خلاصنا. في هذا المجال، تقدِّم لنا الكنيسة سفنها فتقودنا من المياه الغزيرة إلى المرفأ الأمين (107: 35؛ نش 7: 5).

كانت الكنيسة وادي الغنم (65: 14؛ الأودية تكتسي بالحنطة)، التي منها تجرى المياه الروحيَّة (108: 8ج. إشارة إلى مياه المعموديَّة) وهي المركب الذي نبحر فيه. وهي الميناء الذي ننزل فيه.

كلُّ هذه التشابيه التي عرضها سفرُ الزامير، كانت حلقات في سلسلة ممتدَّة بين السماء والأرض. فمن مسكن العليّ حيث المسيح يُدخل كنيسته، نزلنا إلى الأبواب حيث كنيسة الأرض تستقبلنا. تخلَّصنا من وسخنا الأصليّ، ولا تملَّ من أن تلمح صورتُنا بَعد أدراننا، وتؤمِّن لنا، على مدِّ الطريق، طعام الخلود. ذاك موضوع الأسرار الثلاثة التي سوف نتكلَّم عنها: العماد، التوبة، الإفخارستيّا.

*  *  *

ننطلق من كلامنا من أصول البشريَّة، حيث رتَّب الله الخليقة منذ البدء: »نصنع الإنسان كصورتنا« (تك 1: 26). »فنفخ في أنفه نسمة حياة« (تك 2: 7؛ ز 53: 7). تدخَّل الله تدخُّلاً مباشرًا في خلق النفس، فأكَّد قرابتها إلى الله (40: 18أ) وكرامتها العميقة (82: 6) وقداستها (86: 2أ). لو أنَّ أبوينا الأوَّلين لم يعصيا، لو أنَّهما ما خانا صورة الله! (83: 7). من هذه المغامرة في الفردوس، اختبر الجنس البشريّ النتائج: التصقنا بالأرض نفسًا وجسدًا (44: 26). تنجَّسنا (51: 7؛ رج أي 14: 4-5). ابتعدنا عن سلالة الله (تك 3: 19). كان الإنسان غنيٌّا، نبيلاً. صار عريانًا منذ آدم، وتفاقَم عريُه على مدى الأجيال، فدُعيَ ابن الشقاء(58). وهو يتحمَّل نتائج الجراح الآدميَّة التي تشارك فيها طبيعتُنا (38: 3). وسيكون الأمرُ هكذا حتّى يوم الموت الذي هو عقاب الخطيئة (107: 17أ) ومرضنا الذي لا شفاء منه (82: 5). فالموت يحمل الضربة القاضية على كرامة ابن الله فينا، ويكمِّل تسلُّطه (89: 49τυραννιδα).

فهل وصلنا إلى النتيجة النهائيَّة لهذه الخطيئة؟ كلاّ. فجميع النفوس، بمن فيها نفوس أبرار، سجينة الجحيم: ما من أحد يستطيع أن ينجو من الموت. وما من أحد يستطيع أن يُخرج نفسًا من الجحيم (89: 49). فماذا ورثنا من خير؟! لا شيء. بل سجن لا خروج منه. ذاك كان مصيرنا. غير أنَّ الحال انقلبت مع المسيح. تحمَّل البشر مع ما فيهما من تشويهات. كان آدمَ الثاني، فجبل من جديد العجين القديم المُعيي، كي يستعمله من أجل خدمة جديدة، فيكون مستودع  الخيرات الروحيَّة (38: 19ب؛ 68: 10). سواء جبل مرَّة أولى أو مرَّة ثانية، فلسنا أمام الطين والماء (103: 14ب). بل أمام سرِّ العماد المقدَّس Jüssen, op. cit., II, p. 31-41.

*  *  *

العماد سرّ. عملٌ به الربُّ يقدِّسنا: هو موضوع نبوءة (42: 2) وصورة مسبقة (51: 9؛ 78: 13). جعل منه المسيح المدخل الوحيد للخلاص، والأداة الضروريَّة من أجل ولادتنا الجديدة (42: 1؛ 104: 25 ج؛ يو 3: 5). وجرن المعموديَّة حيث يُعطى هذا السرّ هو موضع حميم تحتفظ به الكنيسة لاستقبال الموعوظين، الذين استعدُّوا لاقتبال السرِّ المقدَّس (42: 2). إنَّه يتضمَّن حوض الماء (107: 35أ). ينطلق هيسيخيوس من شكله أو مضمونه أو رمزيَّته، فيدعوه: الحشا μητρα، البطن κοιλια، المعدة γαστηρ. أو النهر، أو البحر. ويُشرف عليه الصليب (1: 3أ).

كما العبرانيّون وصلوا إلى البحر بعد أن ساروا مسيرة الهاربين، هكذا يستشعر الموعوظون بالخوف أمام هذه الكمّيَّة من الماء (35: 10ب). لا داعيَ للخوف: فالفرعون الروحيّ (إبليس) الذي لاحقهم حتّى الآن، قد تخلّى عن ملاحقتهم بعد أن قطعوا رُبط العبوديَّة وخضعوا لشريعة المسيح وتعليمه (66: 13ب، 14) في هذا الماء الذي ينعشه تجهيز χποργια الروح القدس του πνευματος (107: 8ب ج) يغطَّس الموعوظُ ثلاث مرّات (104: 21، رمزيَّة التقطيعات الثلاثة)

ولا تنحصر نعمةُ المعموديَّة του βαπτισματος في تحرير (34: 5ب) تتوقَّف بعده (23: 2ب) υδωρ αναπαυσεως pause، بل تضمُّنا إلى موت المسيح وقيامته (66: 7أ؛ رو 6: 5)، وتُشركنا في ديناميَّة الروح القدس (69: 4) الذي يحوِّل المياه إلى مسكن لله (52: 5ب) ونحن إلى أولاد الله (104: 16ب). لهذا وُصف هذا السرّ بالتجديد παλινγενεσις، بجبْلٍ جديد، بطبخٍ جديد يتبعه فعل تبريد (66: 12 ب ج). وهو أيضًا غسْلٌ أبديّ (18: 16أ).

وينتهي الاحتفال بالعماد، بالتثبيت والمسح بالزيت. فكما كان ملوك إسرائيل يُمسَحون بالزيت (105: 15) كذلك المسيح مُسح بالروح القدس، والمعمَّدون يُختَمون بالزيت المقدَّس (4: 8) على الرأس. وبفعل هذا الختم الذي لا يُمحى، يصيرون مُلك المسيح والكنيسة (4: 9ب).

*  *  *

ولادة جديدة. حياة جديدة. ختم الروح. مسحة الروح. تلك هي موهبة الله التي لا عودة عنها. غير أنَّ هذا لا يعني حفظ هذا الختم من كلِّ تشويه يسبِّبه الإنسان في القسم الثاني من مسيرته، أي بعد العماد.

مرَّة أولى وجد بحرًا هادئًا، نقاوة وخلاصًا. صعد إلى السفينة، فاستعادته فخاخ الخطايا (62: 10أ ب؛ 119: 61). ما العمل؟ يعي المؤمن ضلاله، وينظر إلى الله الذي يصحِّح له طريقه (119: 5) ليصل إلى بحر ثانٍ يستطيع فيه أن يلقي المرساة (80: 10) حيث يأخذ الدواء لجهالاته (51: 1της μετανοιας το φαρμακονويستعيد فرحه الأوَّل (51: 10). هكذا نصل إلى سرِّ التوبة الذي سُلِّم إلى الكنيسة.

العماد يلدنا من جديد. التوبة تنقّينا. والإفخارستيّا تحمل إلينا الطعام. مثل العماد، كان لها صورة مسبقة. ومثل التوبة أسَّسها المسيح وسلَّمها إلى الكنيسة. فالمنُّ النازل من السماء ليغذّي الشعب الجائع، في البرّيَّة، هو صورة عن الخبز السماويّ (105: 40ب). والمشاركة في جسد المسيح ودمه، التي تأسَست في علّيَّة صهيون (50: 23أ)، تتواصل في خدمة الكنيسة.

الإفخارستيّا هي المسيح الذي صار خبز الحياة وشراب الحياة (80: 6). في التناول، نأكل المسيح εσθιεν τον χριστον (27: 2أ). ومن لا يشارك في هذا الطعــام، يبقى معوزًا  (82: 13أ). من يلجــأ إلى هذا الطعام، يجد الشبع والحلاوة والفـرح والقــوَّة والشبــاب. يصبـح جسـدَ المسيح (34: 9؛ 63: 6 σωμα χριστου). والخبز والخمر الموزَّعان في الكنيسة، هما عربون الحياة الحقَّة، على هذه الأرض وفي الآخرة (133: 3 ب ج).

*  *  *

ونختم كلامنا. غُصنا في شرح المزامير عند هيسيخيوس. اكتشفنا غنى ما كنّا لننتظره عند كاتب من هذا القياس. شرح كبير. شرح وسط. وتشاريب حول المزامير. غنى على مستوى دراسة النصوص وشرح الألفاظ والمعاني. وغنى خاصّ على مستوى اللاهوت، وهذا أمر توسَّعنا فيه وتوسَّعنا. ولكنَّنا في أيِّ حال، لم نستنفد العالم اللاهوتيّ الذي أدخلنا فيه ذاك المعلِّم في أورشليم. الذي لم ينقص عن أوريجان في الإسكندريَّة وقيصريَّة، ولا عن أفرام في الرها. معه، تركت المزامير »سجنها« الذي هو العهد القديم على ما اعتادت أن تفعل مدرسة أنطاكية. وفتحت أبوابها لعمل الروح. ما عدنا نميِّز أين هو العهد القديم وأين هو العهد الجديد. تداخل العهدان الواحد في الآخر. الجديد وجد جذوره في القديم. والقديم استنار بما يرسله إليه العهد الجديد من ضوء. وهكذا كان لنا كتابٌ روحيّ يرافقنا في الصلاة والتأمُّل اليوميّ، كما يقدِّم لنا التعليم اللاهوتيّ العميق في خطِّ الآباء الكبار مثل غريغوار النيصيّ وباسيل والذهبيّ الفمّ وغيرهم. فيا ليت من ينبري فينقل لنا هذا الغنى إلى اللغة العربيَّة فنكتشف غنى لبث مغمورًا لأنَّه وُزِّع على عدد من الشارحين. أمّا وقد أعيد الآن غنى هيسيخيوس إلى هيسيخيوس، فماذا ننتظر لكي نتتلمذ على هذا اللاهوتيّ الذي دُعيَ بحقّ »معلِّم الكنيسة« في أورشليم، في القرن الخامس(59).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM