الفصل الثالث والعشرون: كيرلس أسقف أورشليم

الفصل الثالث والعشرون:

كيرلس أسقف أورشليم

حين نتعرّف إلى أساقفة أورشليم في القرن الرابع المسيحيّ، وحده كيرلّس اشتهر ككاتب كنسيّ وصلت إلينا آثاره. وإذا أردنا أن ندخل في مناخ الكنيسة في منتصف القرن الرابع، وبعد مجمع نيقية بربع قرن (325)، يبرز وجه كيرلّس الذي رسمه أكاك أسقف قيصريّة فلسطين الأريوسيّ، ولكنّه خرج عن طاعته فذاق المنفى ثلاث مرّات خلال أسقفيّته. هذا الأسقف الذي كان شابًا خلال المجمع المسكونيّ الأوّل، سوف يشارك في المجمع المسكونيّ الثاني، سنة 381، ويترك لنا عظات هي أجمل صورة عن الحياة الليتورجيّة وممارسة الأسرار في أورشليم، في القرن الرابع. كيرلّس أبٌ من آباء الكنيسة، وهي تعيّد له في الثامن عشر من آذار، يوم وفاته التي كانت سنة 387.

من هو كيرلّس الأورشليميّ هذا؟ ماذا ترك لنا من آثار؟ ونشدّد بشكل خاصّ على تعليمه في الليتورجيّا ولا سيّما على سرّي المعموديّة والإفخارستيّا.

1- سيرة كيرلّس

نتوقّف عند أربع محطّات:

أ - قبل الأسقفيّة

لا نعرف الشيء الكثير عن كيرلّس قبل رسامته الكهنوتيّة. ومع ذلك، فتقاطعُ المعلومات تتيح لنا أن نكوّن فكرة عن هذا الأب والمعلّم في الكنيسة.

وُلد على ما يبدو سنة 313 أو 315، في أورشليم أو في جوارها. في أيّ حال، هو يعرف الأماكن المقدّسة قبل أن يقوم فيها الإمبراطور قسطنطين بأعمال البناء سنة 326. فحين أورد نبوءة ميخا عن مكان التجسّد، أورد مز 132: 6: »ها قد سمعنا به في أفراتة ووجدناه في قرية الغاب«. وشرح كيرلّس: »منذ سنين قليلة كان المكان غابة«(1). وإذ يذكر نبوءة نشيد الأناشيد على مكان القيامة، يقول: »نزلت إلى جنّة الجوز«. ويشرح: لأنّ المكان الذي صُلب فيه كان بستانًا، إن كان المكان مزيّنًا بالهبات الملكيّة، فذلك لا يمنع أنّه كان بستانًا لا تزال آثاره باقية إلى الآن (14: 5: ص 247). ويسأل كيرلّس: أين يقوم المخلّص؟ ويجيب: في كهف الصخرة. إنّه يُسمّي »كهف الصخرة« الكهف الذي كان قبل أن يُصبح باب القبر الخلاصيّ، وقبل أن يُنحَت في هذه الصخرة، كما هي العادة هنا، ليكون قبرًا. في الواقع أنّه لا يظهر الآن. بما أنّه، لإقامة هذا المبنى الحاليّ، كان لا بدّ من هدم المغارة، لأنّه قبل بناء المبنى بفضل سخاء الإمبراطور وكرمه، كانت المغارة أمام الصخرة« (14: 9: ص 249-250).

نال كيرلس ثقافة عميقة ومتنوّعة قبل أن يعود إلى دراسة الكتب المقدّسة التي تملأ عظاته. أمّا أسلوبه فأسلوب مدرسة أنطاكية المتعلّقة بالحرف تنطلق منه لكي تصل إلى المسيح، وإلى شرح أسرار الكنيسة. في هذا المجال، هو قريب جدٌّا من تيودور، أسقف المصيصة، في العظات التعليميّة.

إذا عدنا إلى سنكسار يونانيّ قديم، نعرف أنّ كيرلّس كان راهبًا (الآباء اليونان 33: 321) بالمعنى الواسع، على مثال أبناء العهد في العالم السريانيّ. هو ما أقام في دير، ولا مضى إلى البريّة، بل مارس النسك في بيته ولا سيّما في بحثه عن الكمال في العفّة الكاملة. قيل على لسان جيروم، إنّ القدّيس مكار، أسقف أورشليم، رسمه شمّاسًا وهو ابن عشرين سنة. ولكنّ الأكيد هو أنّه نال الرسامة الكهنوتيّة من يد سلفه على كرسيّ أورشليم: مكسيمُ. كانت الرسامة الكهنوتيّة تتمّ في سنّ الثلاثين. هذا يعني أنّنا سنة 343 أو 345. وفي سنة 348، يقدّم كيرلّس عظاته، قبل أسقفيّته بزمن قليل.

ب - كيرلّس الأسقف

سؤالان رئيسيّان يُطرحان بالنسبة إلى ارتقاء كيرلّس إلى الأسقفيّة. الأوّل: في أيّ سنة رُسم أسقفًا؟ إنّ الرسالة التي كتبها إلى الإمبراطور كونستانسيوس الثاني (إمبراطور 337-361) ابن قسطنطين الأوّل العظيم (307-337) حول صليب مضيء ظهر في أورشليم، في 7 أيّار 351، تبيّن أنّه كان أسقفًا في تلك السنة. أو بالأحرى قبل تلك السنة. فالقدّيس مكسيمُ سلفه، كان قد ترأّس سينودسًا فيه عاد القدّيس أثناز من سينودس سرديك وقُبل في الشركة الكنسيّة. عُقد مجمع سرديك سنة 343، وعاد أثناز إلى الإسكندريّة، إلى كرسيّه في 21 تشرين الأوّل سنة 346، بعد أن مرّ في فلسطين. هذا ما تقوله رسائل العيد التي دوّنها أثناز وما زالت محفوظة في السريانيّة وفي القبطيّة. هذا يعني أنّ مكسيم توفّي سنة 347، 348، وأنّ كيرلّس سُقّف على أورشليم سنة 348.

والسؤال الثاني: كيف وصل القدّيس كيرلّس إلى الأسقفيّة؟ حسب تواريخ جيروم، قدّم أكاك القيصريّ، مطران فلسطين، وأساقفة آخرون الكرسيّ الأسقفيّ لكيرلّس شرط أن يتنازل عن الرسامة الكهنوتيّة التي نالها من القدّيس مكسي (كرونيكون، سنة 349)، ويُقال إنّ كيرلّس قبل العرض، فخدم كشمّاس بعض الوقت، وحصل، بعد المناورات، على استقالة هرقليوس الذي عيّنه مكسيم خلفًا له. وقال روفين في التاريخ الكنسيّ (1: 1، ف 23) الشيء عينه في شكل موجز.(2)

يبدو أنّ جيروم لم يكن يقدّر كثيرًا كيرلّس، فاتّهمه بأنّه بدّل إيمانه. في الواقع، ما ارتبط كيرلّس يومًا بالأريوسيّة الجذريّة، بل كان من حزب أكاك القيصريّ، أي من حزب الذين اعترفوا بلاهوت الابن ولكنّهم رفضوا مساواته في الجوهر، ممّا يعني أنهم رفضوا اللفظ اليونانيّ هوموأوسيّوس. ذاك كان خطّ أوسابيوس القيصريّ أيضًا. اكتفى هذا الحزب بأن يقول إنّ الابن شبيه بالآب، وذلك لكي يتجنّب تعليم سبيليوس الذي يتحدّث عن إله واحد يتجلّى أبًا في العهد القديم، ابنًا في التجسّد، وروحًا قدسًا في الحلول على التلاميذ يوم العنصرة.

بعد ذلك، فهم كيرلّس أنّ لفظ شبيه (هومويوس) لا يكفي لكي يعبّر عن التعليم التقليديّ، فانضمّ إلى باسيل الأنقيريّ (= أنقرة الحاليّة) وأوستات أسقف سابسطة، وسلوان أسقف طرسوس، وجاورجيوس أسقف اللاذقيّة، أي أولئك الذين اعتبرهم هيلاريون وأثناز أخوتهم فمدّا إليهم الأيدي.(3)

قال كيرلّس في العظة السابعة، العدد الأوّل (ص 116): »لقد حدّثتكم نهار أمس ما فيه الكفاية عن وحدانيّة الله... تتبّعنا الهرطقات العديدة التي تهاجم الجوهر الإلهيّ في مختلف تعاريجها... ولكن لنعُد إلى موضوعنا، ولنتقبّل التعاليم الخلاصيّة لإيماننا الحقّ. لنُضف ''الأبوّة'' إلى الوحدانيّة الإلهيّة. ولنؤمن ''بإله واحد آب''. يجب أن لا نؤمن ''بإله واحد'' وحسب، بل أن نؤمن بأنّ هذا الإله هو أبو الابن، سيّدنا يسوع المسيح«.

ذاك كان الخطّ اللاتينيّ. أمّا في الخطّ اليونانيّ فنقرأ سقراط (التاريخ الكنسيّ 2: 38) وسوزومين (التاريخ الكنسيّ 4: 2) اللذين أكّدا أنّ مكسيم، سلف كيرلّس، أُرسل إلى المنفى بسبب إيمانه المستقيم، وأدخل كيرلّس على أنّه من التيّار الأريوسيّ. غير أنّ تيودوريه القورشيّ (التاريخ الكنسي 2: 22) يعارض هذا القول ويورد رسالة السينودس في مجمع القسطنطينيّة سنة 382 (5: 9)، التي بعث بها آباء المجمع إلى البابا داماز.

اختلفت الآراء لأسباب وأسباب. ولكن الاضطهادات التي قاساها كيرلّس هي أفضل شهادة عن إيمانه المستقيم الذي اعترف به مجمع القسطنطينيّة، فاعترف بكيرلّس كأسقف أورشليم. وأكّد الأساقفة المجتمعون هناك أنّ كيرلّس رُسم أسقفًا بيد أساقفة المقاطعة الكنسيّة رسامة قانونيّة. أمّا تيودوريه فقال: »بعد موت مكسيم، استحقّ كيرلّس، المدافع الشجاع عن الإيمان الرسوليّ، أن يُرفع إلى الكرامة الأسقفيّة«. وفي النهاية نشير إلى أنّ البابا لاون الثالث عشر منحه لقب الملفان في الكنيسة الجامعة.

ج- السنوات الأسقفيّة الأولى (348-357): خلاف مع أكاك القيصريّ

خلال بضع سنوات اهتمّ كيرلّس بمهمّته الأسقفيّة، على ضوء نور الصلب الذي ظهر له في السماء، في 7 أيّار 351. تشجّع بهذه الرؤية واندفع يعمل، وقد شهد على عمله الناجح القدّيس باسيل الذي زار الكنيسة حوالي سنة 357. وسوف يكتب رسالة (85 إلى راهب تراجع، الآباء اليونان 32: 367) يذكّره فيها صديقه بعدد القدّيسين وخدّام الله الذين استقبلوهما وأكرموهما في أورشليم.

غير أنّ الهدوء الذي نعم به كيرلّس، كان نسبيٌّا، وما دام طويلاً. فكان خلاف بينه وبين أكاك انتهى بنتائج مؤلمة. والخلاف، حسب سوزومين (4: 25) دار حول حقوق المطران، وحول الأوّليّة التي تحقّ لأورشليم، حسب تيودوريه (2: 26). هو في الواقع خلاف على أمر واحد: فالقانون السابع من مجمع نيقية أعطى كنيسة أورشليم أن تتقدّم في الرتبة أو في الكرامة مع الاحتفاظ بحقّ الكرسيّ المطرانيّ، أو الكرسيّ الذي يُقيم فيه المطران(4). ما طلبه أسقف أورشليم كان نتيجة أوليّة الكرامة، لا أوليّة حقوق المطران على سائر أساقفة فلسطين. ما طلبه كان عصمةً تحافظ على امتياز كنيسته.

رفض أكاك هذا التفسير بشدّة. فمثلُ هذا القرار يصدر عن مجمع نيقية، لم يكن بذات قيمة لمن عارض مجمع نيقية. وتداخلت مسألة قانونيّة مع مسألة عقائديّة، حسب سوزومين (4: 25). كما برزت مشكلة شخصيّة: كيف يتفلّت أسقف أورشليم من وصاية قيصريّة؟  وخصوصًا، كيف يتفلّت كيرلّس من أكاك الذي رسمه أسقفًا وانتظر أن يكون من حزبه، فتركه وراح في خطّ سوف يكلّفه أكثر من منفى.

دعا أسقفُ قيصريّة كيرلّسَ ليحضر لديه، فرفض. فجمع أكاك سينودسًا حطّ كيرلّس من كرسيّه، كما قال سوزومين (2: 11). والسبب الذي سيق كدليل، هو أنّ أسقف أورشليم بدّد أموال الكنيسة ودنّس أغراضها (سوزومين 4: 25). في الواقع، باع كيرلّس في زمن ضيق عظيم، بعض أغراض الكنيسة لمساعدة الفقراء. غضبَ الإمبراطور، كما قال تيودوريه (2: 27) لأنّه هو الذي قدّم هذه الأغراض، فتوالت المحن على كيرلّس، أسقف أورشليم، كما توالت في مصر على أثناز بطريرك الإسكندريّة.

د. المنفى (358-378) والسنوات الأخيرة (379-386)

مضى كيرلّس إلى أنطاكية. ولكنّ ليونسيوس أسقفها كان قد مات، وما انتُخب أسقف مكانه. فمضى كيرلّس إلى طرسوس. فاستقبله أسقفها سلوان وكرّمه، وسمح له بممارسة وظيفته الأسقفيّة، ولا سيّما الوعظ، رغم اعتراض أكاك. وكان سينودس في أيلول سنة 359 (تيودوريه 2: 22)، في سلوقية. ساند الأساقفة كيرلّس فعاد إلى كرسيّه. ولكنّ سينودس القسطنطينيّة سنة 360 أرسله إلى منفى سيمتدّ حتّى موت الإمبراطور كونستاتيوس.

ما إن عاد كيرلّس إلى أورشليم، حتّى بدأ اليهود يبنون الهيكل بمساندة يوليان الجاحد. عاد كيرلّس إلى الإنجيل حيث يقال: لا يبقى حجر على حجر إلاّ ويُنقض (متّى 24: 2) وأعلن أنّ المحاولة فاشلة لا محالة. وسيكون لأسقف أورشليم أن يمضي إلى منفى سيمتدّ إلى موت الإمبراطور فلافيوس فالانس، سنة 378. عندئذٍ عاد بسلام، واستطاع أن يجعل ابن أخيه جيلاز مطرانًا على قيصريّة. فكان أفضل المدافعين عن الإيمان النيقاويّ. كما وجب عليه أن يعيد السلام إلى أبرشيّته بعد أن عاث فيها خرابًا الأريوسيّون(5) والماقيدونيّون (رفضوا ألوهيّة الروح القدس) والأبوليناريّون (فتحوا الطريق أمام أصحاب الطبيعة الواحدة). زار القدّيس غريغوار النيصيّ سنة 379 كنيسة أورشليم، بعد أن أرسله سينودس عُقد في أنطاكية. وكان تقريرٌ أرسله الآباء الشرقيّون إلى الآباء الغربيّين المجتمعين في رومة، حول البابا داماز: »نعلمكم أنّ أسقف كنيسة أورشليم، أمّ جميع الكنائس، هو الوقور والمحبوب من الله، كيرلّس الذي نال الرسامة القانونيّة بيد أساقفة منطقته، وساند في أماكن مختلفة الحروب العديدة على الأريوسيّين.«

2- مؤلّفات كيرلّس

* عظة عن المخلّع

تحدّث كيرلّس عن شفاء المخلّع كما في يو 5: 1-13 (بركة لها خمسة أروقة، تسمّى بيت زاتا، أو بيت حسدا). هي عظة أمام الأسقف فيها يُبرز الكاهنُ الجديد قدرة يسوع المسيح شافي الأحياء والنفوس. وربط هذه المعجزة بمقطع من نشيد الأناشيد مع شرح استعاريّ أو أليغوريّ لهذا السفر المقدّس. نُشرت هذه العظة أوّل ما نشرت سنة 1703، ثمّ دخلت في مجموعة الآباء اليونان (33: 1131- 1154).

* رسالة إلى قوسطانطيوس

بعث بها إلى الإمبراطور سنة 351، فروى له ظهور الصليب المنير. هي نعمة عرفها الأسقف، شبيهة بالنعمة التي عرفها الإمبراطور قسطنطين حين قيل له: »بهذه العلامة تنتصر.« غير أنّ هذه الرسالة التي نُشرت في الآباء اليونان (33: 1165-1176) أثارت بعض الجدال حول صحّتها، بسبب وجود لفظ Homoousios (مساوٍ في الجوهر، من جوهر واحد) الذي لم يكن بعدُ عرفه كيرلّس. ولكن أما يكون مرور أثناز في أورشليم، مناسبة لتَدخل هذه اللفظةُ اللاهوتيّة في فكر كيرلّس؟

نورد هنا وصفًا للظهور العجيب لصليب النور في السماء: »في أيّام العنصرة المقدّسة، في صلاة الساعة التاسعة، في أيّار، حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، ظهر صليب من النور عظيم في السماء، فوق الجلجلة المقدّسة، وامتدّ إلى جبل الزيتون المقدّس. ما رآه فقط شخصٌ أو شخصان، بل بان بشكل واضح لسكّان المدينة كلّهم. وما توارى بسرعة، كما يمكن أن يُفترض، مثل حلم عبَر، بل لبث منظورًا بالعين، فوق الأرض، خلال ساعات عديدة، فكسف ببهائه شعاع الشمس. كان بالإمكان أن يرتفع فوقها أو يُخفيها، لو لم يقدِّم للذين شاهدوه بهاء أقوى من بهاء الشمس. وهكذا تسارع سكّان المدينة فجأة إلى الكنيسة المقدّسة، وقد تملّكتهم مخافةٌ امتزجت بالفرح أمام منظر الرؤية السماويّة. ارتموا فيها، شبّانًا وشيوخًا، رجالاً ونساءً من كلّ الأعمار... لا المسيحيّون فقط، بل أيضًا الوثنيّون الغرباء الذين في أورشليم. وكلّهم كما بصوت واحد أصعدوا مدائحهم للمسيح ربّنا، الابن الوحيد، المولود من الله، صاحب المعجزات« (الآباء اليونان 33: 69-111).

وتنتهي الرسالة فيتمنّى كاتبها أن يمنح الله الإمبراطور الصحّة ومتابعة اهتمامه العاديّ بالكنائس المقدّسة، ويمنح رومة السلطة عبر دورات عديدة من السنوات الهادئة »ليتمجّد على الدوام الثالوث الأقدس وذات الجوهر الواحد، إلهنا الحقيقيّ، الذي يليق به كلّ مجد في عالم لا نهاية له. آمين«

تحدّث سوزومين (4: 5) عن هذه الرسالة التي بعث بها كيرلّس إلى الإمبراطور، وقال إنّ الحجّاج حملوا خبر هذه المعجزة في العالم كله.

إلى هذه الرسالة لمّحت العظات. مثلاً، في كلام عن الصلب: »صُلب حقٌّا عن خطايانا. وحتّى إذا أردتَ أن تنكر ذلك، فإنّ المكان المنظور ذاته يقنعك بذلك. هذه الجلجلة المقدّسة حيث نجتمع الآن من أجل الذي صُلب عليها. والأرض كلّها مملوءة بأجزاء من خشبة الصليب. وصُلب، لا من أجل خطاياه، بل ليُعتقنا من خطايانا. واحتُقر عندئذٍ من البشر ولُطم كإنسان. ولكنّه اعتُرف به كإله من قِبَل الخليقة: فأظلمت الشمس مرتعدة عندما رأت الربّ مهانًا بهذا الشكل، إذ لم تستطع أن تتحمّل مثلَ هذا المنظر« (4: 10: ص 58)

* شذرات من مؤلّفات ضائعة

هناك ثلاثة مقاطع قصيرة. أهمّها عظة حول عرس قانا الجليل (يو 2: 1-12)، وشرحٌ لكلام يسوع: »أمضي إلى أبي« (يو 16: 28). بعضهم اعتبر أنّ كلام كيرلّس عن التمييز بين الطبيعة الإلهيّة (وعملها) والطبيعة البشريّة (وعملها)، يجعلنا ننكر نسبة هذه الشذرات إلى كيرلّس. ولكنّنا نجد ما يقابلها في العظات.

نقرأ في العظة الرابعة (عدد 9، ص 57-58): »آمنْ بأنّ هذا الابن الوحيد لله نزل من السماء إلى الأرض بسبب خطايانا، وأنّه أخذ طبيعتنا البشريّة المعرَّضة للألم، ووُلد من القدّيسة العذراء ومن الروح القدس. وهذا التجسّد لم يتمّ بحسب الروح أو بحسب المظهر، بل تمّ بالفعل. وجاء من العذراء، لا كمن يمرّ بقناة، بل أخذ فعلاً جسدًا فيها. ورضع منها فعلاً، وأكل وشرب مثلنا فعلاً. فلو كان التجسّد مظهرًا، لكان الخلاص مظهرًا أيضًا. كان المسيح مزدوجًا: إنسانٌ في ما كان يُرى، وإله في ما كان لا يُرى. كإنسان كان يأكل مثلنا، وكان له جسد معرّض للآلام. ولكنّه كإله أَطعم خمسة آلاف رجل خبزًا. ومات فعلاً كإنسان. وكإله أقام ميتًا بعد أربعة أيّام. نام فعلاً في السفينة كإنسان، وكإله مشى على الماء«.

وفي العظة الثانية عشرة (العدد 1، ص 182-183) نقرأ حول التجسّد، حول المسيح الذي هو إله وإنسان معًا: »يا رفاق الطهر وتلاميذ العفاف، نُنشد بشفاه ملؤها الطهر، المولودَ من العذراء. ونحن الذين أُهِّلنا للاشتراك في جسد الحمل، لنشترك في الرأس والقدمين (خر 12: 9): يعني الرأس الألوهيّة، والقدمان الطبيعة البشريّة التي اتّخذها. ونحن الذين نسمع الأناجيل، لنثق بيوحنّا اللاهوتيّ، لأنّه قال: »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله«. ويضيف: »والكلمة صار بشرًا«. يجب أن لا نعبد الإنسان فقط، ولا أن نقول إنّه إله بدون الطبيعة البشريّة، لأنّ في ذلك كفرًا، لأنّه إذا كان المسيح إلهًا، وهو في الواقع إله، وإذا لم يأخذ الطبيعة البشريّة، فإنّ الخلاص لم يتمّ بعدُ لنا. يجب أن نعبده كإله، وأن نؤمن بأنّه صار إنسانًا. لا فائدة لنا من القول إنّه إنسان بدون الألوهيّة. كما أنّه لا خلاص لنا إذا فصلنا الطبيعة البشريّة عن الألوهيّة.

3- العظات

هي أهمّ ما ترك لنا كيرلّس على مستوى كرازة ألقاها في كنيسة القبر المقدّس. هذه العظات هي إحدى الكنوز الثمينة في الكنيسة المسيحيّة الأولى. وُجدت حاشية في مخطوطات عديدة، ذكرت أنّها دُوّنت بطريقة الاختزال (Steno). ألقاها كيرلّس وما كتبها بيده. فقام من كتبها في أيّامه أو بعد موته.

أ - عظة تمهيديّة

جاءت العظات في مجموعتين. بعد عظة تمهيديّة أو عظة قبل العظات، هي تبدأ بكلام حماسيّ يستقبل فيه كيرلّس المرشّحين لقبول العماد، الذين يستنيرون بنور المعموديّة، مثل الأعمى منذ مولده (يو 9: 1ي) أو بحسب ما قالت الرسالة إلى العبرانيّين: »فالذين أنيروا مرّة واحدة، وذاقوا الهبة السماويّة، وصاروا مشاركين في الروح القدس« (6: 4: هي أسرار التنشئة، المعموديّة والقربان المقدّس والتثبيت). قال لهم: »ها هي رائحة السعادة تغمركم، يا من يتقبّلون النور. وها أنتم تقطفون الأزهار الروحيّة، لتضفروا منها أكاليل سماويّة. شذا الروح القدس يهزّكم، وأنتم على أعتاب الديار الملكيّة. فيا ليتكم تُمثلون أمام الملك! لقد أزهرت الآن الأشجار، فيا ليت الثمر يكون كاملاً! إنّ أسماءكم أصبحت مسجَّلة الآن، بعد أن تطوّعتم في جيش المسيح، حاملين مصابيح موكب العريس، فيلهبكم الشوق إلى المدينة العلويّة، ويحقّ لكم الرجاء« (ص 1).

وشدّد الأسقف على جدّيّة المسيرة التي يقوم بها المرشّحون، على ضرورة التوبة والصلاة، على تدريب الإرادة وتثبيتها، على استقامة النيّة ونقاوتها. كما شدّد على أهميّة السرّ الذي يحفظه الطالب ولا يفشي به لأحد. على ما يقال في الليتورجيّا: لا أقول سرّك لأحد، حتّى للموعوظين العاديّين.

»إذا سألك موعوظ من الخارج (أي الذي لم يُقبَل بعدُ كطالب عماد) عمّا يقوله المعلّمون، فلا تقُل شيئًا، لأنّنا نسلّمك سرٌّا ورجاء في الحياة الأبديّة... أنت الآن على عتبة الباب، فاحذر من أن تقول شيئًا، لا لأنّ ما يُقال لا يستحقّ أن يُقال، بل لأنّ الأذُن غير جديرة بسماعه« (ص 9).

ب - العظات العماديّة (1-18)

في المجموعة الأولى، ثماني عشرة عظة تتوجّه إلى طالبي العماد. تعالج الأولى استعدادات النفس المطلوبة للعماد. وتدعونا إلى إبعاد كلّ اهتمام زمنيّ، إلى نسيان أعدائنا الشخصيّين، إلى تغذية نفوسنا بقراءة الكتب المقدّسة. والثانية تتحدّث عن التوبة وغفران الخطايا. والثالثة، عن المعموديّة والخلاص، عن الطقس العماديّ ومدلوله ونتائجه. وتوجز الرابعة التعليم المسيحيّ، والخامسة طبيعة الإيمان وأصله. والعظات الاثنتا عشرة الأخيرة تشرح على التوالي بنود قانون الإيمان، كما عُرف في أورشليم، وهو قريب من قانون نيقية والقسطنطينيّة (سنة 381) الذي اعتدنا أن نتلوه في القدّاس الإلهيّ.(6)

أمّا قانون الإيمان في أورشليم، فيبدو كما يلي، مع رقم العظة:

نؤمن (4) بإله واحد (6) آب (7) ضابط الكلّ (8) خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى (9)

وبربّ واحد يسوع المسيح (10) ابن الله الوحيد، المولود من الآب، وإله حقّ قبل كلّ الدهور. الذي به خُلق كلُّ شيء (9)

الذي تجسّد وصار إنسانًا من مريم العذراء ومن الروح القدس.

الذي صُلب ودُفن (13)، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب (14).

ويأتي في المجد ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه (15)

وبروح قدس واحد، بارقليط، تكلّم في الأنبياء (16-17).

وبكنيسة واحدة مقدّسة كاثوليكيّة، وبقيامة الجسد والحياة الأبديّة (18)(7)

ج -  العظات الأسراريّة (19-23)

في المجموعة الثانية، نقرأ خمس عظات حول الأسرار الثلاثة التي يتقبّلها المعمّدون الجدد خلال السهرة الفصحيّة. عالجت اثنتان المعموديّة، والثالثة التثبيت، والرابعة تحدّثت عن جسد المسيح ودمه. والأخيرة شرحت القدّاس الإلهيّ.

يبدأ المؤمن فيكفر بالشيطان وبأعماله وبأبّهته وبخدمته، وأعمال خطيئته. أبّهته هي التعلّق بالمسرح وأكل اللحوم المقدّسة للأصنام، وهذا يعني مشاركة الشياطين كما قال بولس الرسول. خدمته هي كلّ ما نقوم به من أفعال نتعبّد فيها للأصنام ونمارس السحر (نضع تعاويذ على الأطفال وعلى المرضى). هذا ما يفعله المعمَّد فيلتفت إلى الغرب. وحين يلتفت إلى الشرق، يُعلن تعلّقه بالمسيح: يسهر لأنّ العدوّ يسهر كالأسود (1 بط 5: 8). وفي النهاية، يقابل كيرلّس إبليس مع فرعون، المسيح مع موسى، وقتالنا مع الشرّ وانتصارنا، مع خروج شعب الله من مصر.

في ممارسة العماد (20) يخلع الموعوظ ثيابه وينزل في الماء، فيعبّر عن تعرّيه من الإنسان العتيق مع خطاياه ليتبع المسيح وينتصر معه. ومسحة الجسد كلّه بالزيت حماية ضدّ هجمات الأرواح الشرّيرة، على غرار الزيت الذي يُصبّ على المتصارعين. ويدلّ الغطس في ماء العماد والخروج من الماء، الذي يتكرّر ثلاث مرّات على أنّ الموعوظين ماتوا مع المسيح، دُفنوا معه، قاموا معه لحياة جديدة. في العماد، انتقلوا بالموت وبولادة جديدة، فكان ماء الخلاص لهم مدفنًا وحشًا أموميٌّا. مات المسيح حقٌّا، أمّا المعمّدون الجدد، ففي الرمز. غير أنّ المسيح اقتنى لهم منذ الآن واقع الخلاص الذي منحهم إيّاه.

وتبدأ العظة الحادية والعشرون (الثالثة بعد الأسرار)، وعنوانها »في مسحة الميرون«، كما يلي: »ها إنّكم اعتمدتم في المسيح ولبستم المسيح، فأصبحتم على مثال صورة المسيح ابن الله. لأنّ الله الذي اختارنا لأن نكون أبناء بالتبنّي، جعلنا على صورة جسد المسيح المجيد. وبما أنّكم أصبحتم شركاء المسيح، فأنتم مدعوّون بحقّ مسحائي... أصبحتم مسحاء بتلقّيكم ختم الروح القدس« (ص 393).

فالميرون زيت الفرح، زيتٌ معطَّر يرمز إلى عطيّة المسيح، إلى الروح القدس. ليس بزيتٍ عاديّ. كما أنّ الخبز الإفخارستيّ لم يَعُد خبزًا عاديٌّا بعد دعوة الروح القدس، بل جسد المسيح، كذلك الميرون لم يَعُد زيتًا عاديٌّا لأنّ المؤمنين مدينون له باسم »المسيحيّين«. وكما مُسِح عظيم الكهنة والملك بالزيت المقدّس، في العهد القديم، كذلك يمنَح الميرونُ المؤمنين الكهنوت والمُلك في المسيح. وأخيرًا يُمسَح المؤمن على جبينه، على أذنيه، على منخريه... وهذا يعني أنّه نال عطايا روحيّة تشكّل له ترسًا ضدّ العدوّ، وتشكّل خطوة نحو امتلاك الجسد الروحيّ.

وشدّد كيرلّس على حضور جسد المسيح ودمه في الخبز والخمر بعد دعوة الروح القدس. وحين يتناول المؤمنون هذا الخبز الروحيّ، يصيرون مع المسيح جسدًا واحدًا مع المسيح. يصيرون حاملي المسيح.

وتنتهي هذه العظة قبل الأخيرة: »الآن وقد تعلّمتَ واقتنعتَ أنّ ما يبدو خبزًا ليس خبزًا، وإن يكن له طعم الخبز، ولكن جسد الربّ. وأنّ ما تبدو خمرًا ليست خمرًا، وإن يكن طعمها كذلك، ولكن دم المسيح. وأنت تعلم أيضًا أنّ داود كان يترنّم بهذا الصدد: »الخبز يُسند قلب الإنسان، والزيت يلمع على وجهه ابتهاجًا« (مز 104: 15)، ثبِّت إذن قلبَك بتناولك هذا الخبز مع أنّه خبز روحانيّ، وأبهج وجهَ نفسك. ليتك بوجه مكشوف كخمير نقي تعكس، كما في مرآة مجد الربّ (2 كو 3: 18)، وتزداد مجدًا على مجد في المسيح يسوع ربّنا، الذي له الإكرام والقدرة والمجد أبدَ الدهور. آمين« (ص 402)

وتشرح العظة الأخيرة المدلول الروحيّ للأفعال والصلوات في القدّاس. يأتي الشمّاس بالماء فيغسل الأسقف والكهنة أيديهم قبل النافور (أو صلاة التقدمة). وغسلُ الأيدي يرمز إلى التطهير من الخطايا، واليدان تدلاّن على الأعمال. وقبلةُ السلام تشير إلى المصالحة بين الإخوة ونبذ كلّ بغض.

ويدعو الكاهن المؤمنين إلى إبعاد كلّ همّ عالميّ، وحفظِ قلوبهم في السماء لدى الآب الرحيم. ويتمّ تحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه بسلطان الروح القدس. وبعد الصلاة الجامعة نتلو الصلاة الربيّة التي يشرحها كيرلّس شرحًا موجزًا: عظيمة رحمة الله التي سمحت لنا بأن ندعوه »أبّا«. نطلب أن يُقدَّس اسمه، أن يملك ملكوته (لا الخطيئة) في أجسادنا المائتة. ننال الخبز الجوهريّ الذي يغذّي النفس ويلج الإنسانَ كلّه. ونغفر لمن أساء إلينا، فيغفر الله لنا خطايانا. ونتمنّى أن لا تقهرنا التجربة فنبقى محرَّرين من عبوديّة الشرّير.(8)

يعلن الشمّاس: الأقداس للقدّيسين، فتجيب الجماعة: قدّوس واحد، ربّ واحد، يسوع المسيح. ويفهمنا كيرلّس كيف نتقرّب لتناول جسد الربّ:

»وعندما تقترب، لا تتقدّم باسط اليدين والأصابع منفردة. ولكن اجعل من يدك اليسرى عرشًا ليدك اليُمنى، لأنّ هذه ستقبلُ الملك. وفي راحة يدك، تقبَّل جسد المسيح قائلاً: آمين. وبعد أن تلمس بعينيك هذا الجسد لتغذّيها، تناول. واحرص أن لا يسقط جزء منه (على الأرض)، لأنّك إذا أسقطت جزءًا منه فكأنّما بُتر أحد أعضائك. قل لي: إن أعطاك أحد بعض شذور من ذهب، ألا تحافظ عليها بكلّ عناية خوفًا من أن تفقد منها جزءًا فيصيبك حزن؟ فكم بالحريّ يجب عليك أن تهتمّ فلا تترك أيّ فتات يسقط من هذا الكنز العظيم الذي هو أثمن ممّا لا حدّ له من الذهب واللالئ الثمينة«.

د- صحّة العظات

طُرح السؤال: هل كيرلّس هو صاحب »العظات« أم آخر؟ اختلفت الآراء في ما يخصّ المجموعة الأولى. ولكن يبدو أنّ التوافق تمّ بين الباحثين، بأنّ كيرلّس تلا هذه العظات وهو بعد كاهن. وربّما حين كان أسقفًا جديدًا. أمّا المجموعة الثانية، فالكودكس اليونانيّ 394 ينسبها إلى خلفه، يوحنّا أسقف أورشليم (368-417). والسبب، على ما يبدو، وجود ألفاظ لاهوتيّة لم تكن معروفة في زمن كيرلّس، بل في بداية القرن الخامس(10). وهناك خمسة مخطوطات تجعل اسم كيرلّس مع اسم يوحنّا. انطلق علماء من هذه المخطوطات فنسبوا المجموعة الثانية (حول الأسرار) إلى يوحنّا، لا إلى كيرلّس. غير أنّ آخرين اعتبروا أنّ الشهادات الخارجيّة لا يمكن أن تكون قاطعة.

وفي النهاية، رأى بعضُهم أنّ يوحنّا شارك كيرلّس في تدوين هذه العظات. والبرهان قرأوه في العظة 18: 33: »وبعد يوم الفصح المقدّس الخلاصيّ تستمعون في كلّ يوم من أيّام الأسبوع، ابتداء من يوم الاثنين، إن شاء الله، وقد أصبحتم في مكان القيامة، حالاً بعد القدّاس، عظات أخرى تتعلّمون فيها أسباب كلّ فعلة أقيمت، والأدلّة عليها مستقاة من العهدين القديم والجديد. أوّلاً كلّ ما سبق العماد مباشرة، ثمّ كيف طهّركم الربّ من خطاياكم بغسل الماء وكلمة الحياة، وكيف على غرار الكهنة، أصبحتم شركاء في اسم المسيح. وكيف أُعطيتم ختمَ موهبة الروح القدس. وتتعلّمون كذلك أسرار العهد الجديد التي جرت في المقدس وابتدأت من هذا المكان، وما أوردتْه الكتُب الإلهيّة عنها، وما هي قوّتها، وكيف يجب عليكم من الآن وصاعدًا أن تتصرّفوا، سواء في أقوالكم أو في أفعالكم، حتّى تستحقّوا النعمة، وحتّى تستطيعوا جميعًا التمتّع بالحياة الأبديّة. كلّ ذلك سيُقال لكم، إن شاء الله« (ص 375).

نلاحظ أنّ مضمون العظات الأسراريّة الخمس، يوافق ما وعد به كيرلّس هنا. ولكن يبقى السؤال: لماذا أعلن عظة في كلّ يوم من أيّام أسبوع الحواريّين (أي بين القيامة والأحد الجديد)، ساعة لا تتضمّن المخطوطات سوى خمس عظات. هذا الاختلاف لا يمنعنا أن نظنّ أنّ »المقالات« الخمس هي من كيرلّس. ولكن قد لا تنتمي إلى السنة التي فيها قيلت العظاتُ العماديّة. ثمّ إنّ كيرلّس وعد مثلاً في 16: 26 أن يعظ عن الروح القدس، ولكنّه لم يفعل. وفي الكلام عن الميرون لا يلمّح إلى وضع الأيدي وإن هو تكلّم عن موسى وهارون (العظة 21).

في هذه الظروف، لا نستطيع أن نجزم في هذا الأمر. فما من برهان يقدّمُ الاستنتاجَ الكافي. فقد نظنّ أنّ كيرلّس تلا هذه العظات، وأعاد كتابتها يوحنّا خلفه على كرسيّ أورشليم، فكيّفها بحسب اللاهوت الذي عرفه عصره في بداية القرن الخامس.(11)

الخاتمة

نودّ أن نختم كلامنا بهذا المقطع الرائع عن الكرستولوجيا، عن شخص يسوع المسيح. قيل عن كيرلّس إنّه مال إلى الأريوسيّة في بداية حياته، بل نقول إنه لبث محافظًا تجاه المقولات الفلسفيّة التي تجعل الخلاف بين الكنائس. وقدّم تعليمًا عمليٌّا يردّ على الأريوسيّة دون أن يتكلّم عنها. قالت الأريوسيّة: كان زمنٌ لم يكن فيه الابنُ موجودًا. هذا يعني أنّه ليس بأزليّ. إذن، هو مخلوق. وقالت الأريوسيّة: »تبنّى الله الكلمة«، لهذا نسمّيه »ابن الله«. فكان جواب كيرلّس في العظة الحادية عشرة حول ألوهيّة المسيح:

»هو ابن الله بالطبيعة لا بالتبنّي، مولود من الآب... وعندما تسمع أنّ الله يلد، فلا تقارنها بتوالد الأجساد، ولا تفكّر في أنّها توالدٌ فاسد، حتّى لا تكون كافرًا. الله روح ومولوده أيضًا روحيّ. الأجساد تلد أجسادًا، والزمان ضروريّ لتكوين الأجساد. أمّا ولادة ابن الله، فلا تحتاج إلى وساطة الزمن. وهناك فالمولود يكون ناقصًا، أمّا ابن الله فوُلد كاملاً. ذاك وُلد في يوم معيّن. أمّا هذا فوُلد منذ الأزل بلا بداية. نحن نولد أطفالاً جهلاء حتّى نصل إلى استخدام العقل. أيّها الإنسان، إنّ مولدك ناقص لأنّك تنمو تدريجيٌّا. ولكن لا تفكّر في شيء من هذا في حالة الابن، ولا تنسب أيَّ ضعف إلى الوالد« (العدد 7، ص 167-168).

إن كانت أنطاكية تفتخر بيوحنّا الذهبيّ الفم، والإسكندريّة بأثناز، فأورشليم عرفت كيرلّس الذي قدّم لشعبه تعليمًا يقود إلى الحياة المسيحيّة اليوميّة، تعليمًا ينبع من الكتاب المقدّس فيرافق المؤمن في احتفالاته الدينيّة، ولا سيّما حين يتقبّل أسرار التنشئة التي هي المعموديّة والتثبيت والقربان المقدّس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM