حرية الإنسان تجاه الله.

حرية الإنسان تجاه الله

الخوري بولس فغالي

 

حين نتحدَّث عن حرّيّة الإنسان في الكتاب المقدَّس، نعتبر نفوسنا في موقع خطر. فعالم الغرب ذكر الضرورة والقدر(1)، وعالم الشرق رأى في قراءة النجوم مصيرَ الإنسان الذي لا يستطيع أن يخرج منه مهما كانت محاولاته، بل العالم القديم كلُّه عاش في ''عبوديّة'' بالنسبة إلى السلطة السياسيّة؛ فجميع الناس من الوزير الأوّل حتّى آخر شخص في البلاد هم ''عبيد'' الملك. وهم يخافون ''الإله'' الذي يمكن أن يدمِّرهم، وخصوصًا ذاك الإله المجهول الذي تحدَّث عنه بولس الرسول، والذي منه خاف أهل أثينة فبنَوا له معبدًا. والخطر يزداد حين نعرف أنَّنا لا نجد لفظ ''الحرّيّة'' في العهد القديم، كما في العربيّة أو السريانيّة (ح ا ر و ت ا)، بل ألفاظ ترتبط بالتملُّص (م ل ط) وبالإرسال، حيث الآخر يطلقنا فنستطيع أن نتحرَّر من سلطته (خر 21: 2، 5).

في مقالنا هذا نحاول أن نطرح موضوع الحرّيّة في الكتاب المقدَس، في عهده القديم. فالحرّيّة تعني أنَّ الإنسان لا يرتبط بسيِّد ''يصنعه فيكون خاتمًا بين يديه''. وهذا السيِّد هو الإله القدير، إيل شدّاي. ننطلق من مناخ يرى الله حاضرًا بحيث تضيع شخصيّة الإنسان، فنصل في النهاية إلى حوار بين الله وشعبه، بين الله وكلِّ مؤمن من مؤمنيه. إذا كان الله في الكتاب المقدَّس هو شخص حيّ يستطيع الإنسان أن يقيم معه حوارًا، فهذا يعني أنَّ الإنسان ليس آلة في يد القدر يتلاعب بها كما يشاء. وإذا كان الخلاص الذي يُعطى لنا جوابًا على نداء الله، فما قيمة جواب لا يكون حرٌّا؟ عندئذٍ، إمّا نكون أطفالاً يقتادنا الله إلى ''سعادته''، وإمّا يكون الله ظالمًا حين يمنع عنّا الخلاص.

 

1- الفأس والمنشار

اعتبر الملك الأشوريّ أنَّه ''السيِّد'' في الأرض، يفعل ما يشاء، ولا أحد يحاسبه، ولاسيّما حين أراد أن يهدِّد أورشليم سنة 701 ق. م؛ فما كان جواب النبيّ المتكلِّم باسم الله:

5   ويل لأشور قضيب غضبي،

وقضيب سخط هو في يدي(2).

6   في أمَّة كافرة أرسلته،

وعلى شعب أغاظني أطلقته.

ويتساءل الربّ بعد ذلك في أش 10: 15:

أتفتخر الفأس على القاطع بها

أو يتعظَّم المنشار على محرِّكه؟

أيحرِّك القضيبُ رافعه

أو ترفع العصا حاملها؟

ظنَّ سنحاريب (705-681) أنّه حرٌّ في تصرُّفاته، وهو الذي قهر الملوك وسيطر على المدن، فإذا هو أداة في يد الربّ، يقودها كما يشاء. وبعد ذلك، يستعدُّ لمعاقبته. أتُرى الله ظالمًا؟ بعد أن منع الحرّيّة عن هذا الملك، ها هو يحاسبه! وحاول الكتاب أن يجد جوابًا، فرأى أنَّ سنحاريب تجاوز الحدود التي وضعها الله له. فهذا يعني بشكل لامباشر، أنَّه استطاع أن يمارس بعض الحرّيّة حين حاول التصرُّف من عنده ولو في طريق الشرّ. أراد أن يكون بعض إله على مثال آدم، فيقرِّر ما يجب أن يفعل.

نحن لا نستطيع أن نقول إنَّ حرّيّة الإنسان مطلقة. الله وحده هو المطلق وما يريده يفعله دون أن يقف إنسان أو شيء في طريقه. نقرأ مز 135: 6:

صنع الربُّ كلَّ ما شاء،

في السماوات والأرض،

والبحار وجميع اللجج.

بل هو قَبِلَ أن تقف في وجهه حرّيّة الإنسان، وذلك منذ أصل الخليقة(3). طلب الربّ من الإنسان المأخوذ من الأرض والذاهب إلى الأرض أن يحفظ ''الوصيّة''. ''وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها'' (تك 2: 17)، ومع ذلك أكل الإنسان. أهو بعدُ أداة تتحرَّك كما يحرِّكها الله؟ وإذا كان النصّ تحدَّث عن ''الخير والشرّ''، فهذا يعني أنَّ الإمكانيّتين حاضرتان. الإنسان يختار، بل هو اختار طريق الشرّ في ثورة من عنده على خالقه، وما خاف العقاب المنتظر. قيل له: ''يوم تأكل منها (= من شجرة معرفة الخير والشرّ) موتًا تموت''. ولكنَّه أكل فما مات في الحال. ورأى المعلِّمون اليهود وآباء الكنيسة أنّ الله لم ينفِّذ ما توعَّد به. هذا يعني أنَّه ليس ''كلّيّ القدرة'' تجاه الإنسان. لا شكّ في أنَّه خلقه كما خلق الكون كلَّه، ولكنَّه خلقه ''تجاهه''. الله شخص، والإنسان شخص. وما يميِّز الشخص البشريّ هو أنَّه يتمتَّع بالعقل والإرادة والحرّيّة(4). من دون هذا، لا يمكن أن يكون إنسانًا. هذا بالرغم ممّا يفعل العنفُ ليجعل من الإنسان ''شيئًا''.

وكلام الكتاب المقدَّس واضح منذ سفر التكوين. توقَّف الله قبل أن يخلق الإنسان. اتَّخذ قرارًا يتميَّز فيه عمّا فعل من قبل: ''نصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا'' (تك 1: 26). نحن أمام فعل إيمان عميق. صار الإنسان على مستوى الله، مهما حاول ''الأقوياء'' أن يحدِّدوه. ومهما اعتبر نفسه ''قصبة مرضوضة'' (كما قال باسكال) في وجه القدر الذي يتجاوز قدرة الآلهة والبشر.

في هذا المجال نتذكَّر دعوة الربّ في سفر التثنية: ''أنظروا. ها أنا اليوم جَعلتُ بين أيديكم الحياة والخير، والموت والشرّ'' (تث 30: 15). وأنتم تختارون لنفوسكم السعادة أو الشقاء. هناك القبول وبالتالي الحياة في قلب مشروع الله: ''فإذا سمعتم'' (آ6). وهناك الرفض: ''إذا زاغت قلوبكم، ولم تسمعوا لي، وضللتم'' (آ17)، يكون العقاب وخيمًا. ما فرض الربّ رأيه، بل كلَّمهم من قلب المحبّة: ''أحبّوا الربَّ إلهكم، واسمعوا كلامه'' (آ20). وحثَّهم: ''اختاروا الحياة لتحيوا'' (آ19). أما يكون الاختيار دلالة على الحرّيّة؟

ونتوقَّف عند مثلين من عدّة أمثلة: فرعون ويشوع بن نون.

في تصرُّف فرعون تجاه الشعب المستعبَد وبالتالي تجاه الله الذي يريد التحرير لجميع البشر، نرى في ''نسخة أولى'' أنَّ الله قسّى قلب فرعون. فقبل أن يمضي موسى إلى فرعون، نفهم أنَّ الله نظَّم مشروعه: ''أنا أقسّي قلبه (= فرعون) فلا يُطلق شعب إسرائيل من البلاد''. ولماذا يفعل الله ما يفعل، وفي النهاية يعاقب الفرعون وجيشه؟ لكي يدلَّ على أنَّه وحده الربّ (خر 14: 4)، وأنَّ آلهة مصر التي تحتمي بها أقوى دولة في ذلك الزمان، ليست بشيء. بدأ السحرة ففهموا أنَّ ''إصبع الله'' (لا حاجة إلى يده كلِّها) هي التي تفعل كلَّ هذه المعجزات.

نبدأ فنفهم الأسلوب الأدبيّ في الكتاب المقدَّس. كلُّ شيء في يد الله. هو يميتُ وهو يُحيي. وهكذا تضيع كلُّ مبادرة لدى الإنسان. كيف نفهم هذا القول؟ اعتاد الفرعون أن لا يجد من يعارضه. هو الإله، والجميع عبيد له، يخضعون لكلِّ أوامره. فمن هذا الذي يجرؤ ويقف في وجهه؟ رجل لا جيش له. يحمل عصا راعٍ وبها يفعل. بشريٌّا، موسى ليس بشيء أمام الفرعون. وقد قال للربّ: ''من أنا حتّى أذهب إلى فرعون؟'' (خر 3: 11). لهذا فهم ملك مصر، أنَّ وراء موسى ''إلهًا'' يتحدّاه ويتحدّى آلهته. لهذا كانت الحرب كما بين خصمين. سقط فرعون في معركة، ثمّ في معركة... وهكذا بالنسبة إليه، لم تنتهِ الحرب إلاّ حين عاد إلى آلهته، إلى العدم، ''فغرق'' هو وجيشه في البحر. فلو أنَّ الله لم يرسل موسى، ولو أنَّه لم يفعل ما فعل بمصر، لما كان تقسّى قلب فرعون. إذًا، في نظرة القدماء، الله هو الذي سبَّب قساوة قلب فرعون.

ولكنَّ الكتاب يعطينا عبارة أخرى تنطلق من فرعون، وتدلُّ على حرّيّته. يقول النصّ في الضربة الأولى، بل قبلها: ''تقسّى قلب فرعون، فما سمع لهما (= موسى وهارون) كما تكلَّم الربّ'' (خر 7: 13). في الأصل، تشدَّد (''ح ز ق'') ليكون شديدًا في وجه الله، الذي استعدَّ أن يخرج شعبه ''بيد شديدة'' وذراع ممدودة. واستخلص الله فقال لموسى: ''صار قلب فرعون ثقيلاً، معاندًا'' (آ14). رفض ما طلبتُه منه، رفض ''أن يطلق الشعب''؛ فالرفض هو الوجه السلبيّ في الحرّيّة. هذا يعني أنَّ الإنسان ليس مقيَّدًا، ليس مجبرًا على العمل، بل هو يختار طريق الشرّ إذا شاء، وطريق الخير إذا أراد. لهذا كان كلام الربّ إلى موسى. قل لفرعون: أقول لك: ''أطلق ابني من مصر ليعبدني. إن رفضتَ أن تطلقه أقتل ابنك البكر'' (خر 3: 12). هي لغة التهديد يقرأها الكاتب على ضوء ما حصل. مات ابن فرعون، فاعتبر الراوي التقيّ أنَّ الله يعاقب هذا الملك العظيم لكي يجعله ''يركع''. وهكذا يصّورون الله ''إنسانًا'' لا إله. مع أنَّه قال في هو 11: 9: ''أنا إله لا إنسان، وقدّوس بينكم، فلا أعود أغضب عليكم''، أي لا أعود أعاقبكم. وسوف يقول النبيّ حزقيال بلسان الربّ: ''أنا لا أريد موت الخاطئ، بل أن يعود عن ضلاله ويحيا''. الخطيئة تحمل الموت في ذاتها. يختارها الإنسان فيدلّ على حرّيّته ويمضي إلى الموت. يرفضها فيدلّ على حرّيّته ويتوجَّه نحو الحياة.

والمثل الثاني نقرأه في خبر يشوع حين مضى يحارب لإنقاذ الجبعونيّين (يش 10: 1ي). دعوه ليدافع عنهم: ''تعال إلينا سريعًا وخلِّصنا'' (آ6). فلبّى يشوع الدعوة. ''انطلقَ من الجلجال... وأمضى يشوع الليل كلَّه صاعدًا من الجلجال، وهجم عليهم بغتة وهزمهم... وضربهم يشوع ضربة عظيمة في جبعون ولحق بهم'' (آ7، 9-10).

ذاك هو عمل الإنسان. ولكنْ أين الله في هذا الكتاب الذي ندعوه ''المقدَّس''؟ هنا، جعل الكاتب الله يفعل بواسطة قوى الطبيعة. بالبرَد أوَّلاً، ''بحجارة عظيمة من السماء'' (آ11). ''والذين هلكوا بحجارة البرد، أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف''. وما اكتفى الربّ بالبرَد، بل جعل النهار يطول ويطول ''إلى أن انتقم الشعب من أعدائهم'' (آ13). أجل، صار النهار طويلاً، طويلاً. امتدَّ سحابة يومين، فما انتهى بالنسبة إلى الأعداء الذين تمنّوا وقوع الظلام لكي يرتاحوا(5).

مثلُ هذا الأسلوب الذي يُبرز عمل الله، ويجعل عمل الإنسان في المركز الثاني، هو أسلوب لاهوتيّ يعيد كلَ شيء إلى الله، ويترك للتاريخ أن يذكر أعمال البشر. ونفهم ذلك من إشارات عديدة في كتاب الملوك. هو يختار ما يشاء من أجل مشروع الله. وأمّا أخبار الملوك الذين تتحدَّث عنهم البلدان المجاورة، فنجدها في وثائق المملكة ''في كتاب أخبار سليمان'' (1مل 11: 11)، أو ''في سفر الأخبار لملوك إسرائيل'' (1مل 14: 19)، أو: ''في سفر أخبار الأيّام لملوك يهوذا'' (آ29). وفي قتال يشوع نفسه يقال: ''ذلك مكتوب في سفر ياشر'' (يش 10: 13): إذا شئتم أن تعرفوا عمل يشوع كقائد يتصرَّف انطلاقًا من قناعاته، إقرأوا ''كتاب ياشر'' (الذي ضاع الآن). أمّا سفر يشوع فيقدِّم لنا في الدرجة الأولى عمل الله. هذا ما يطرح علينا الموضوع اللاهوتيّ الذي شغل الكنيسة طوال القرن السادس عشر، حول العلاقة بين النعمة والحرّيّة(6).

 

2- تحبّ الربّ... فاعلموا

نقرأ سفر التثنية فنلاحظ التمازج بين صيغة المخاطب الجمع وصيغة المخاطب المفرد. نقرأ في تث 11: 1: ''تحبّ الربَّ إلهك، وتعمل بأوامره وسننه وأحكامه ووصاياه كلَّ الأيّام''. أنت تتوجَّه إلى الفرد. وتدعوه إلى المحبّة. هو الربُّ يتوجَّه إلى كلِّ مؤمن من المؤمنين، لا ليفرض عليه الوصايا، بل ليحثَّه على ذلك. ونحن نعرف أنَّ المؤمن يبقى حرٌّا فيقبل أو يرفض.

وحالاً في آ2 ننتقل إلى صيغة الجمع: ''واعلموا اليوم أنّي أكلِّمكم أنتم. لا بنيكم الذين لم يعلموا ولم يروا تأديب الربّ إلهكم وعظمته ويده القديرة وذراعه الممدودة''. جاء الكلام هنا في شكل تاريخيّ، فتوجَّه إلى الشعب، وذكَّرهم ''بمعجزات الله وأعماله'' (آ3)، منذ مصر وصولاً إلى البرّيّة والأرض التي يدخلون إليها (آ10). واعتبر الكاتب الملهم أنَّ ما حلَّ بالشعب من خراب أو دمار، سنة 587ق.م.، سببُه خطيئة الشعب بملوكه(7).

ولكن حين يكون الجميع خاطئين، يبحثون عن مسؤول. في خبرة العجل الذهبيّ، كانت ''الخطيئة'' على الشعب كلِّه، الذين قالوا لهارون: ''قُمِ اصنع لنا آلهة تسير أمامنا'' (خر 32: 1). وفي الحال ''نزع جميعُ الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم'' (آ3). وسأل موسى هارون: ''ماذا صنع بك هؤلاء الشعب، حتّى جلبتَ عليهم خطيئة عظيمة؟'' (آ21). وكان جواب هارون كمن يريد أن يغسل يديه: ''أنت تعرف الشعب أنَّهم من الرعاع'' (آ22). وجاءت قمّة اللامسؤوليّة، وكأنَّ ما حصل كان وليد الصدفة، قال هارون: ''فطرحته (الذهب) في النار، فخرج هذا العجل'' (آ24).

أين خطيئة هارون؟ لن تُذكر في ما بعد. والشعب هو من نال العقاب بسبب عبادته الكاذبة (آ25-29). لهذا، كان سفر التثنية موضع الانتقال من الجماعة إلى الفرد. هذا يعني أنّنا في حقبة متأخِّرة، فيها برز دور الفرد ومسوؤليّته أمام الله. لم يَعُد جزءًا من آلة كبيرة. إن أكل آباؤه الحصرم، ضرست أسنانه. وإن خطئ أبوه، نال هو العقاب، على ما نقرأ في سفر الخروج: ''الربّ الربّ، إله رحيم حنون، طويل النَفس وكثير المراحم والوفاء... يعاقب آثام الآباء في البنين وبني البنين إلى الثالث والرابع'' (خر 34: 6-7).

مع إرميا أوَّلاً بدأ التحوُّل، وذلك في عهد جديد يقطعه الله مع شعبه: ''في تلك الأيّام، لا يُقال بعد: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين تضرس، بل كلُّ واحد بخطيئته يموت، وبالحصرم الذي يأكله تضرس أسنانه'' (إر 31: 29-30). كيف كانوا يعرفون الخطيئة؟ إذا أصابتهم مصيبة أو ضرر، عندئذٍ يُقرّون بخطيئتهم وخطيئة آبائهم بحيث تضيع المسؤوليّة: ''خطئنا نحن وآباؤنا. وفعلنا الإثم والشرّ. آباؤنا في أرض مصر لم يدركوا عجائبك، ولا ذكروا كثرة رحمتك'' (مز 106: 6-7).

بعد اليوم، لا رجوع إلى الآباء لإبعاد المسؤوليّة عن الأبناء. إذا أحسَّ الإنسان ''بالعقاب'' وعرف أنَّه خاطئ، لا يقدر إلاّ أن يلوم نفسه. فالخطيئة ترافقني من ساعة وُلدت، من وقت كنتُ في حشا أمّي. أنا خطئتُ وأنا أطلب الرحمة. أنا فعلتُ الشرّ، لهذا آتي إليك تائبًا، ''فاخلُقْ فيّ، يا ربّ، قلبًا طاهرًا'' (مز 51: 12).

وجاء نصّ حزقيال أكثر وضوحًا. من هو المسؤول عن خطيئة يقترفها المؤمن؟ في الأصل، قال ''الرجل'' للربّ: ''المرأة التي أعطيتني'' (تك 3: 12)، هي السبب. طغَتْني فتبعتُها. ولكن يبقى السبب الأوّل، الله. لو لم يُعطِ المرأة للرجل، لما كانت هناك خطيئة! ولكنَّ خطيئة آدم خطيئتان. ''سمع كلام المرأة'' (آ17)، وما سمع كلام الله: ''أوصيتُك أن لا تأكل منها'' (آ11، 17). والخطيئة الثانية، تجاوز الوصيّة فاستحقَّ العقاب.

والجماعة السامعة لحزقيال، يجب أن تفهم أنَّ كلَّ إنسان مسؤول عن أعماله. فلا حاجة للاختباء وراء الآباء: ''لن تردِّدوا بعد الآن هذا المثل في إسرائيل: الآباء أكلوا الحصرم'' (حز 18: 3). وقال الربّ: ''جميع النفوس هي لي. نفس الأب ونفس الابن. كلتاهما لي. النفس التي تخطأ هي وحدها تموت'' (آ4).

بل إنَّ سامعي حزقيال اتَّهموا الله بأنَّه ليس بعادل، فاعتبروه يحدِّد مصير كلِّ إنسان بشكل اعتباطيّ! ولكنَّ المبدأ هو: ''كلُّ إنسان يجازى بحسب أعماله'' (مز 62: 13؛ مت 16: 27؛ روم 2: 6)(8).

ويتواصل كلام حزقيال: ''إذا كان الإنسان صدِّيقًا، وعمل ما هو حقّ وعدل... وما ظلم أحدًا... وكسا العريان ثوبًا. فهو صدّيق يستحقّ الحياة'' (حز 18: 5-8). ويمكن أن يكون ابنه شرّيرًا، فيكون بعيدًا عن الحياة. هو خيار يضعه الله أمام كلِّ إنسان. ''الخير يعود على صاحبه بالخير، والشرّ يعود على صاحبه بالشرّ. والشرّير الذي يتوب عن جميع خطاياه التي فعلها... فهو يحيا ولا يموت'' (آ20-21).

قال سامعو حزقيال: ''طريق الربّ غير مستقيم''! (آ25). ما هذا الكلام؟ ألأنّه يتبدَّل حسب قلب الإنسان؟ ''إذا ارتدَّ البارُّ عن برِّه وفعل الإثم، فبسبب إثمه الذي فعله يموت'' (آ26). ''والشرّير الذي يتوب عن شرِّه يحيا'' (آ27). والنتيجة قال الربّ: ''أدين كلَّ واحد منكم بحسب أعماله... فتوبوا وارجعوا عن جميع معاصيكم'' (آ30). الله لا يكره أحدًا، بل ينادي كلَّ واحد: أنت تريد الحياة، احفظ الوصايا (مت 19: 17). وإذا اخترت الموت تتَّخذ طريق الخطيئة والعصيان، وبالتالي الموت. فالربّ لا يُسرّ بموت أحد. لهذا ينادي: ''ارجعوا إليّ واحيوا'' (آ32).

 

3- جذبتُهم بروابط المحبّة

نسمع كلام هوشع، فنُبعد عن تفكيرنا كلَّ كلام عن إله ظالم، يفرض نفسه على الإنسان وعلى الجماعة. عن إله لا يسمح للإنسان بالحرّيّة. والسبب في قراءتنا الخاطئة، هي أنّنا ننسى أنَّ النصّ الذي نقرأ ليس تقريرًا صحافيٌّا نقرأه بشكل حرفيّ. هو تأمُّل لاحق في ما حصل، من أجل الدرس الذي ينتظره المؤمن. ونأخذ مثالاً على ذلك دمار سدوم (ف 19). نقرأ النصّ كما هو دون محاولة تفسيره، فنرى أنَّ الله أرسل ملاكين فرأيا الشرّ المستفحل في المدينة وقُراها. فهي تستحقّ العقاب الأكبر. ولكنَّ مثل هذه القراءة تجعل من الله ذاك الحامل العصا لكي يعاقب كلَّ زلّة من زلاّتنا. أمّا القراءة الصحيحة: رأى كاتب مؤمن بركانًا دمَّر مدينة. تساءل: ما هو السبب الذي جعل هذه المدينة تُدمَّر؟ وجاء الجواب: بسبب خطاياها. فأعطى العبرة للمؤمنين: إحذروا مثل هذا الزنى، فهو يحمل الدمار للبيوت. وهكذا كان الخبر نداء إلى حياة بحسب الوصايا الإلهيّة. فماذا يفعل الإنسان؟ هل يأخذ بطريق البرارة مثل لوط فتكون له الحياة؟ أم بطريق الخطيئة، فتكون النهاية له النار والكبريت؟

أجل، نداء الربّ هو نداء المحبّة. ونقرأ هنا النبيّ هوشع (11: 1ي)، حيث الإنسان كلُّ إنسان هو ابن الله:

1   ''يوم كان إسرائيل فتى أحببتُه،

ومن مصر دعوتُ ابني.

2   كلَّما دعوتُه هرب من وجهي

3   وأنا الذي علَّمه المشي

وحمله على ذراعه.

لكنَّه ما اعترف

أنّي أنا أصلحتُ حالَه''.

هو ابن عقوق يستحقّ الموت في منظار البشر (تث 21: 18-21)، بل في منظار والديه، لا في منظار الله. من يجرؤ أن يقول: الربّ تركني، نسيني؟ يأتي الجواب: ''أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ثمرة بطنها؟ لكن لو أنَّها نسيَت فأنا لا أنساك... ها على كفّي رسمتك'' (أش 49: 14-15). وقال مز 27: 10: ''أمّي وأبي تركاني. ولكنَّ الربّ استقبلني''.

ويواصل النبيّ هوشع باسم الربّ: ''جذبتُهم بحبال الرحمة وروابط المحبّة. وكنتُ لهم كأبٍ يرفع طفلاً على ذراعه. يحنو عليه ويطعمه'' (هو 11: 4). ومع كلِّ هذه العاطفة، ''رفضوا أن يتوبوا'' (آ5)، وجواب الربّ: ''كيف أتخلّى عنكم؟ كيف أهجركم؟'' (آ8).

حيث تكون المحبّة هناك تكون الحرّيّة. حيث يكون الله شخص حيّ، لا يمكن أن يفرض القدرُ سلطته. والله ليس ذاك البعيد الذي يعطي الأوامر بشكل لا يراعي أولاده. هو ينصح كلُّ واحد منهم. يدعوهم إلى الحكمة الحقّة بواسطة معلِّمين. وهنا يأتي سفر الأمثال الذي يحاول أن يحرِّك قلب الإنسان:

''إسمع يا ابني مشورة أبيك،

ولا تهمل نصيحة أمّك'' (1: 8).

''إن تعلَّمتَ أقوالي يا ابني،

وصنتَ وصاياي عندك،

فأصغيتَ بأذنك إلى الحكمة،

وملتَ بقلبك إلى الفهم،

وإن ناديتَ إليك الفطنة،

وأرسلتَ وراءها كالفضّة،

وبحثتَ عنها كالكنوز،

تبيّنت مخافة الربّ

ووجدت معرفة الله'' (أم 2: 1-5).

بمثل هذا الكلام، يسير الإنسان مسيرته. يكلِّمه الله. يتفهَّم ويعمل. والمخافة هي عاطفة الإنسان تجاه الله. وهي تختلف عن الخوف من المجهول. وهو أمر جاء الله يحرِّرنا منه. وارتبطت هنا المخافة بالمعرفة التي لا تتوقَّف على مستوى العقل والفكر، بل تصل إلى القلب والحياة كلّها. يرتبط الإنسان بالله، كما في زواج بين الرجل والمرأة. يصير مع الربّ واحدًا، كما يقول الرسول (1كور 6: 17).

وأعطي هنا بعض الأمثلة التي تفهمنا عمق نداء الله، وتمهّله في مسيرته مع الإنسان، متوجِّهًا إلى حرّيّته ليرفعه إليه. أما قال الله لإبراهيم: ''سر أمامي وكن كاملاً''؟ ونقول: كما الابن يسير أمام أبيه.

''وقال الربّ لأبرام'' (تك 12: 1). هو أب يدعو ابنه: ''إرحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمَّة عظيمة'' (آ1-2).

نستطيع أن نقابل هذا الكلام بما قاله إسحق لابنه يعقوب: ''قم إذهب'' (تك 28: 2). ما قال له: إن كنت لا ترحل، يكون لك الشرّ والمصائب، بل دعاه إلى ''العظمة''. ووعده بالبركة التي تنتظره (تك 12: 3). وماذا كان جواب أبرام أو إبراهيم؟ جواب الابن لأبيه: ''فرحل كما قال له الربّ'' (آ4). فالطاعة المطلوبة هنا ليست إكراهًا وظلمًا، وكأنَّ الله يريد أن يسحق أولاده، بل هي دخول في مشروع كبير، يكون الله فيه بجانب الإنسان. معًا يعملان لكي يجعلا الخليقة أكثر جمالاً. نتصوَّر الكتاب يرينا الله يتمشّى مع الإنسان في الجنّة، عند برودة المساء (تك 3: 8). أترى الله يريد عبيدًا حوله لا إرادة لهم ولا قرار؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يتركهم في خدمة فرعون كما تمنّوا هم مرارًا شرط أن يكون لهم الطعام والشراب؟ بل هو انتزعهم من العبوديّة ''من أتون الحديد'' (تث 4: 20) لكي يكونوا أخصّاءه. وفي امتداد هذا، كان كلام يسوع: ''لا أدعوكم عبيدًا بعد''.

وقف إبراهيم قرب الله. دعاه الكتاب: خليل الله. وقد جاء يزوره، لا في الليالي كما اعتاد أن يفعل، بل في ملء الظهيرة، ويشاركه في الطعام، بل ويشاركه في همومه. سدوم الخاطئة! قال الربّ في نفسه: ''هل أكتم عن إبراهيم ما أنوي أن أفعله؟'' (تك 18: 17). أجل، دخل إبراهيم في سرِّ الله، فهل تأتيه أوامر من الخارج تفرض نفسها بحيث لا تترك للإنسان مجالاً؟ هذا غير معقول. وحين مضى إبراهيم إلى مصر، كان الربّ معه هناك، مع أنَّه كاد يدمِّر الوعد حين صارت امرأتُه سارة امرأةَ فرعون (تك 12: 14-20).

وفي الإطار عينه، نتطلَّع إلى شخص موسى. كم كان الربّ طويل البال معه. دعاه إلى مهمَّة كبيرة. حاول موسى أن يتملَّص. قال الربّ: ''تعال أرسلك'' (خر 3: 10). أجاب موسى: ''من أنا حتّى أذهب إلى فرعون؟'' (آ11). أنا ضعيف وهو قويّ. لا أمتلك سوى هذه العصا وهو صاحب الجيوش. أجل، الاعتذار في محلِّه. كيف أجابه الله: ''أنا أكون معك'' (آ12). وكانت محاولة ثانية للتهرُّب. ''إن سألوني عن اسمك!'' آ13). أنا يهوه. أنا هو الذي يفعل. وعاد موسى: هم لا يصدِّقونني (خر 4: 1). قال الربّ: تفعل أمامهم آيات. أنا لا أعرف أن أتكلَّم؟ أجاب الربّ: من خلق الفم؟ ''إذهب وأنا أعينك في الكلام، وأعلِّمك ما تقول'' (آ12).

تهرَّب موسى وتهرَّب. وعمل الربّ على انتزاع كلّ اعتذاراته. ما فرض عليه شيئًا. دعاه إلى عمل عظيم لأنَّ ثقته به كبيرة. أراده أن يساعده لكي يخلِّص إخوته من العبوديَّة، ويعيدهم إلى حرِّيَّة أبناء الله. ومع ذلك، كان جواب موسى الأخير: ''يا ربّ، أرسل أحدًا غيري!'' (آ13). حينئذٍ ''غضب الربّ''. حرفيٌّا: احتدَّ غضب الربّ. وهو غضب يدلّ على التأسُّف. ومع ذلك، لم ''يضرب'' موسى، لأنَّه رفض الانصياع له، بل أرسل إليه أخاه هارون، ''هو يخاطب الشعب عنك'' (آ16).

 

الخاتمة

الله هو القدير. فماذا يكون أمامه الإنسان الضعيف؟ الله الكلّيّ القدرة الذي يجعل حرمون يرقص، الذي يحطِّم أرز لبنان، من يقدر أن يقف في وجهه ويقول له: كلاّ. لا أخضع، لا أطيع. تلك نظرة تعود إلى العالم الوثنيّ حيث القدر سيِّد الموقف. حيث الإله صنم لا يرى ولا يسمع ولا يتحرَّك ولا يفعل. حيث لا وجود لإله شخصيّ يكون أمامه أشخاص مخلوقون على صورته ومثاله. أمّا إله العهد القديم فهو ضعيف أمام الإنسان. يدعو دعوة العريس للعروس، والأب والأم لولديهما. هذا الإنسان الذي خلقه في الحرّيّة، يدعوه لكي يختار بحرّيّة تامّة. ويُفهمه أنَّه مسؤول عن اختياره بحيث لا يحقُّ له أن يجادل الربّ. أنت تختار الحياة فتحيا. تختار السعادة فتنال. أو تختار الموت والشقاء. ومع ذلك يبقى الربُّ معك حتّى الدقيقة الأخيرة في حياتك.

تلك كانت مسيرتنا في الكلام عن حرّيّة الإنسان تجاه الله. ننهي كلامنا بمقطع من إنجيل مرقس هو خبر انطلاق يسوع إلى الشاطئ الشرقيّ من البحيرة. هاج البحر، فهدَّأه بكلمة: أسكت، إخرس. كانت شياطين كثيرة. رماها في البحيرة فما عادت تؤذي المكان بشرِّها. قدرةٌ أعجبت الناس، ولكنَّها صارت ضعفًا أمام هؤلاء الناس. جاء إليهم يحمل كلام الإنجيل. ولمّا جرَّدهم من ''شياطينهم'' رفضوا الاستماع له: ''طلبوا إليه أن يرحل عن ديارهم''. فركب القارب وعاد. قالوا: كلاّ. فاحترم رفضهم. والذي قال نعم، ذاك المجنون، تسلَّم رسالة جعلته ''ينادي في المدن العشر بما عمل له يسوع''.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM