الفصل العشرون: ديودور الطرسوسيّ وآثاره

الفصل العشرون

ديودور الطرسوسيّ وآثاره

ترك ديودور الطرسوسيّ المؤلَّفات العديدة، فكان فاتحًا في مدرسة أنطاكية لتفسير الكتاب المقدَّس، هذا عدا عن المقالات اللاهوتيّة. ولكن على أثر الحُكم على الرؤوس الثلاثة، اعتُبر المعلِّم الكبير هذا معلِّمَ نسطور، فأُتلفت كتبُه أو أُهملت فضاعت. ولم يبقَ لنا منها سوى النذر اليسير. فهل ضاعت حقٌّا آثاره كلُّها؟ أمّا نحن فنحاول أن نبحث عن آثاره في تفسير الكتاب المقدَّس. قبل أن نبدأ بحثنا في المعنى الحصريّ للكلمة، نتعرَّف إلى ذلك الذي اعتُبِر في حياته عمود الأرثوذكسيّة، ولكنَّه بعد موته اتُّهم بالهرطقة واعتُبر أبا النسطوريّة البعيد.

 

1- مسيرة ديودور

نتعرَّف إلى حياته وتعليمه، قبل أن نصل إلى مصير هذا التعليم، ولاسيّما بعد أن تدخَّل كيرلُّس الإسكندرانيّ الذي كان الخصم اللدود لنسطور، وموجِّهَ أعمال مجمع أفسس الذي أعلن في ما أعلن وحدة الأقنوم (أو الشخص) في الابن: ذاك الذي هو إبن الله هو ابن مريم. وبالتالي تعلن الكنيسة مريم والدة الله.

 

أ- حياة ديودور

يرى العلماء أنَّ ديودور وُلد في أنطاكية(1) وهم يستندون في ذلك إلى تيودوريه في كتابه التاريخ الكنسيّ(2). نشير هنا إلى رأي آخر(3)، يستند إلى رسالة من القدّيس باسيل(4) وأخرى من إيرونيمُس(5). فالأولى تقول إنَّ ديودور كان تلميذ سلوان الطرسوسيّ. والثاني تؤكِّد أنَّ ديودور ارتبط بـ»الهراطقة« في طرسوس. وهكذا يستنتج هذا الرأيُ أنَّ ديودور وُلد في طرسوس. ولكنَّنا نبقى على الرأي الأوَّل ونعتبر أنَّ ديودور ارتبط بطرسوس لأنَّه كان أسقفها. كما يمكننا أن نعتبر أنَّ سلوان كان معلِّم ديودور في أنطاكية قبل أن يصبح أسقفًا على طرسوس. وهكذا قد يكون إيرونيمُس قال ما قال عن ديودور في ما يتعلَّق بالحقبة الأولى هذه من حياة معلِّم أنطاكية الكبير(6).

انتمى ديودور إلى عائلة مسيحيّة مشهورة، ودرس الكتب المقدَّسة لدى سلوان الذي صار في ما بعد رئيس الحزب المعترف بالابن الذي هو من جوهر الآب(7) على ما يقول باسيل، والذي كان أسقف طرسوس. بعد هذا، أقام ديودور في أثينة زمنًا نال فيه تكوينًا كلاسيكيٌّا متينًا في الأدب اليونانيّ(8)، هذا ما يؤكِّده الإمبراطور جوليان في رسالة دوَّنها سنة 362 ووجَّهها إلى فوتين أسقف سرميوم. »وصل (ديودور) إلى أثينة، ودرس فيها الفلسفة. وبلغت به الوقاحة مبلغًا حين تدرَّج في تعليم ربّات الشعر، وفي استعمال استنباط البلغاء لكي يسلِّح لسانه الممقوت ضدَّ آلهة السماء«(9).

ما إن أنهى ديودور دروسه حتّى عاد إلى أنطاكية وهناك اعتنق الحياة النسكيّة، فمارسها بصرامة وقساوة، وهذا ما جعل صحَّته تضعُف. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بدأ دفاعه عن المسيحيّة في وجه اتِّهامات جوليان. وفي أثناء مدَّة من الزمن، أسَّس مدرسة نسكيّة(10) التحق بها تيودور أسقف المصّيصة(11) ويوحنّا الذهبيّ الفم. وصار هذا الأخير تلميذه المحبَّب، فاحتفظ لمعلِّمه الحبيب بإعجاب مليء بعرفان الجميل. فامتدحه بشكل علنيّ في إحدى عظاته حين قابله بيوحنّا المعمدان.

قال الذهبيّ الفم في مديح الأسقف ديودور: ''بما أنَّ معلِّمي جعل على رأسي إكليلاً يليق بالعلم، وأنَّه يتشوَّق إلى استعادته، فاسمحوا لي بأن أنتزعه من جبين لا يليق به أن يحمله، وأن أكلِّل به من جديد ذاك الذي يستحقُّه. ما اسمه يوحنّا، هذا ما لاشكَّ فيه. ولكن له روح يوحنّا. أعطي لي اسم هذا التلميذ، أمّا هو فاقتنى فضيلته. لهذا وجب أن يكون هو وارث هذ اللقب المجيد، لا أنا«(12). وبعد أن تحدَّث الذهبيّ الفم عن طريقة حياة المعمدان الشبيهة بحياة إيليّا، قال: »... لنرَ الآن كيف ضاهى أبانا الشهيد يوحنّا المعمدان، لكي تعرفوا أنَّه أجدر منّي بأن يحمل هذا الاسم الشهير. لم يكن للأوَّل على الأرض طاولة ولا سرير ولا بيت. أما كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الثاني؟ أنتم تشهدون وتعرفون كيف عاش دومًا، يبشِّر بلا انقطاع، ليس له شيء خاصّ به، ويحصل من الآخرين على طعامه، مثابرًا دومًا على الصلاة والرسالة«(13).

في أيّام كونستانس الثاني (337-361) ووالنس (364-378)، قام فلافيان(14) وديودور بدور كبير من أجل انتشار الإيمان في أنطاكية. فمع أنَّهما كانا من العوامّ، لا من الكهنة، قد اعتادا أن يجمعا المؤمنين للصلاة في معابد الشهداء المبنيّة على حدود المدينة(15)، ويدفعاهم إلى تلاوة المزامير(16) مع التشديد على المساواة التامّة بين الأقانيم الثلاثة، بواسطة المجدلة: »المجد للآب والابن والروح القدس«. عندئذٍ جازى الأسقف ملاتيوس(17) غيرتهما خير مجازاة فرسمهما كاهنين. وهكذا استطاعا في أثناء غياب الأسقف في المنفى، أن يتابعا العمل الكنسيّ ولاسيّما في الكرازة والوعظ(18).

رُسم ديودور أسقفًا سنة 378. وقبل ذلك الوقت، أي من سنة 363 حتّى سنة 378، لا نعرف الشيء الكثير عنه، سوى أنَّه أقام في أنطاكية، وكان يزور أسقفه المنفيّ في أرمينيا. كما كان له أن يلتقي باسيل الكبير ويرتبط به بصداقة وثيقة وأمينة(19). رسمه على طرسوس الأسقف ملاتيوس، الذي استعاد قيادة كنيسته على أثر موت الإمبراطور والنس. لهذا، شارك ديودور في مجمع أنطاكية المحلِّيّ سنة 379. وفي مجمع القسطنطينيّة المسكونيّ سنة 381، قام بدورٍ كبير حين عمل على إحلال نِكتار في كرسيّ القسطنطينيّة بعد استقالة غريغوار.

وعيَّنه الإمبراطور تيودوز (379-395) مع بلاجيوس أسقف لاودِكية، كأكثر الأساقفة جدارة للدفاع عن الأرثوذكسيّة. متى توفِّي ديودور؟ نحن لا نعرف تاريخ موته بدقَّة، كما لا نعرف سنة ولادته. ولكنَّنا نعرف أنَّه في مجمع انعقد في القسطنطينيّة سنة 394، كان على كرسيّ طرسوس شخص اسمه فاليريوس. كما نقرأ ما قاله عنه إيرونيمُس في الرجال المشهورين سنة 392. هذا يعني أنَّ ديودور توفِّي سنة 390-391(20).

 

ب- تعليم ديودور

بدا ديودور شخصيّة لامعة، ولاسيّما في المجادلات اللاهوتيّة، إبّان القرن الرابع، وهذا ما دلَّ على إيمانه المستقيم، بحيث تساءل بعض المؤرِّخين: أما يمكن أن يحمل هو أيضًا لقب »المعترف«؟

نتوقَّف هنا بشكل خاصّ على تعليم ديودور اللاهوتيّ، حيث اتُّهم بالهرطقة، فضاعت بسبب ذلك كتبُه. نستطيع القول إنَّ تعليمه في شأن السيِّد المسيح هو تعليم مدرسة أنطاكية الذي اعتبره بعضُهم متطرِّفًا.

فالفكرة التي تشرف على كرستولوجيّة مدرسة أنطاكية، هي أنَّ الطبيعتَيْن في المسيح تحتفظان بكلِّ خصائصهما وتبتعدان عن كلِّ مزج. وهكذا تحافظ هذه المدرسةُ على التمييز بين العنصر الإلهيّ والعنصر البشريّ، كما تفسِّر سرّ الإله - الإنسان بالعقل البشريّ.

كيف تتمُّ الوحدة بين الطبيعتَين؟ ليست على مستوى الطبيعة، ولا على مستوى الجوهر(21)، لأنَّ مثل هذه الوحدة تشوِّه اللاهوت والناسوت معًا. إنَّ كلمة الله أخذ جسدًا ولكنَّه لم يصر جسدًا، لم يصر بشرًا. وسُكنى الألوهة في البشريّة ليست جوهريّة(22)، بل بحسب النعمة(23). إذن، يقيم الكلمة في يسوع كما في هيكل. والوحدة بين الطبيعتَين هي وحدة على مستوى العلاقة. هي وحدة أدبيّة مع اتِّصال بين العواطف والقوى والإرادة.

تماهى الأقنوم (أو الشخص) مع الطبيعة. وبما أنَّ في يسوع طبيعتَين، ففيه أيضًا أقنومان أو شخصان. وهكذا، لا يمكن أن تكون مريم أمَّ الله، بل أمُّ يسوع المسيح، أي أمُّ الشخص البشريّ. لن نجد الجواب الكامل عن مستوى وحدة الطبيعتَين في الأقنوم الواحد إلاّ حين يظهر التعليم حول تبادل الصفات(24). ولكنّنا ابتعدنا عن موضوعنا.

وقال أحد الشرّاح عن ديودور ما يلي: »أراد ديودور أن يحافظ على كمال الطبيعتَين في المسيح، فميَّز في شخص المخلِّص بين إبن الله وابن داود. أخذ الأوَّل الثاني وسكن فيه(25). ونحن لا نستطيع أن نقول إلاّ مجازًا(26) إنَّ الله الكلمة، إبن الله، هو ابن داود، وذلك لأنَّ ابن داود كان هيكل الكلمة. فلم يكن لهذا الكلمة ولادتان، واحدة أزليّة وأخرى في الزمن. ولكنَّ ذاك الذي وُلد من الآب، جعل لنفسه هيكلاً من ذلك الذي وُلد من مريم. إذن، الإنسان المولود من مريم ليس إبن الله بالطبيعة، بل بالنعمة. وحده الكلمة هو إبن الله بالطبيعة«(27).

أوَّل من عارض تعليم ديودور كان أبولينار أسقف لاودكيّة(28). ولكنّنا ننتظر الجدالات الكرستولوجيّة التي ظهرت بعد سنة 428، لكي نكتشف أوائل الاتِّهامات التي وجَّهتها الأرثوذكسيّة إلى ديودور، فجعلته أبا النسطوريّة والمسؤول الحقيقيّ عن الضلال الذي قسم شخص (أو أقنوم) المسيح.

في هذا المجال، نقرأ ما كتبه كيرلُّس، أسقف الإسكندريّة: »بعد أن كان ديودور مدَّةً طويلة منكرًا لطبيعة الروح القدس، عاد إلى شركة كنيسة الأرثوذكس. ولمّا ظنَّ أنَّه ترك هرطقة الماقيدونيّين(29)، سقط في داء آخر. ظنَّ فكتب أنَّ ذاك الذي هو من زرع داود ووُلد من العذراء القدّيسة هو ابن آخر، منفصل عن كلمة الله الآب«(30).

حين نعرف السلطة التي كان يتمتَّع بها القدّيس كيرلُّس، نفهم أنَّ كلامه في هذه الرسالة وفي غيرها، شكَّل في نظر ديودور الضربة القاضية. ومع ذلك، ورغم العداوة التي لاحقته إبّان القرن الخامس، فهو لم يُحرم كما حُرِم تيودور مثلاً سنة 553. ومع ذلك ضاعت آثار هذا المعلِّم اللاهوتيّة، كما ضاع الكثير من آثاره التفسيريّة.

 

2- مؤلَّفات ديودور

 

أ- التقليد اليونانيّ

ذكر باسيل كتابَين للكاهن ديودور لم نعرف محتواهما. فكتب إليه ما يلي: »قرأتُ كتابَيك اللذين تكرَّمتَ وأرسلتهما إليّ. سُررت بالثاني سرورًا كبيرًا، لا بسبب إيجازه وحسب... ولكن بسبب تزاحم الأفكار، واعتراضات المجادلين والأجوبة المعروضة بوضوح. بالإضافة إلى ذلك، بدت لي بساطةُ الأسلوب وغياب التكلُّف جديرة بالهدف الذي توخّاه المسيحيّ الذي لا يكتب لإظهار علمه، بل من أجل فائدة الناس«(31).

وتحدَّث إيرونيمُس عن تفاسير (منها أعمال الرسل) دوَّنها ديودور في خطِّ أوسابيوس الحمصيّ(32). كما اعتبر أنَّه فسَّر، كما فعل غيره، الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين والأولى إلى التسالونيكيّين(33). وأشار تيودوريه في تاريخ الهرطقات(34)، في مقطع مخصَّص لفوتين، أن ديودور أخذ القلم وهاجم هؤلاء الأربعة: فوتين، مرقلُّس، سابيليوس، بولس الشميشاطيّ. وهذا ما يقوله برحد بشابا الذي يتحدَّث عن سبع مقالات ضدَّ المتشيِّعين لهؤلاء الهراطقة الأربعة. وهكذا نكون أمام كتاب واحد في سبعة أقسام.

لن نذكر ليونسيوس البيزنطيّ، ولا هرقليان المكدونيّ، ولا فوتيوس (الذي يتحدَّث مثلاً عن كتاب ضدَّ المانويّين)، بل نتوقَّف على لائحة تيودور القارئ(35): الإله الواحد في الثالوث، ضدَّ تبّاع ملكيصادق، ضدَّ اليهود، حول قيامة الموتى، حول النفس وضدَّ البدع في هذا الشأن، ضدَّ علماء الفلك والمنجِّمين والحتميّة، حول الكرة السماويّة والمناطق السبع والمسيرة المعاكسة لدى الكواكب، حول العناية الإلهيّة، حول الطبيعة والمادَّة وتحديد ما هو صحيح، ضدَّ أفلاطون وإلهه وآلهته، ضدَّ أرسطو وحول الأجسام السماويّة، ضدَّ الذين يقولون إنَّ للسماء نفسًا، ضدّ بورفير وحول الحيوانات والذبائح(36).

وهناك تفاسير العهد القديم كلِّه: التكوين، الخروج، المزامير، أسفار الملوك الأربعة(37)، المواضع الصعبة في سفري الأخبار، الأمثال، الاختلاف بين الواقع والمجاز، الجامعة، نشيد الأناشيد، الأنبياء، الأناجيل الأربعة، أعمال الرسل، رسائل يوحنّا الإنجيليّ(38).

أوردنا هذه اللائحة لندلَّ على وسع معارف ديودور، وعلى تنوُّع الموضوعات التي تطرَّق إليها. كما نفهم أنَّ حياة ذاك الذي صار أسقف طرسوس، كانت كلُّها مكرَّسة للكنيسة التي خَدمَها بعمله الرسوليّ وكتاباته. غير أنَّه لم يبقَ لنا من كلِّ هذه المؤلَّفات سوى نذر يسير، ما عدا أجزاء تفسيريّة و»شرح المزامير«.

ونطرح السؤال: لِمَ ضاع كلُّ هذا؟ فديودور أحيط بإكرام كبير في أثناء حياته، ورافقته الشهرةُ والمديح حتّى ساعة موته، بل بعد موته. ذكرنا مديح يوحنّا الذهبيّ الفم(39). أمّا تيودور فسمّاه المدافع السامي عن الإيمان الحقيقيّ الذي لأجله حارب وانتصر. وقال عنه: »إستخرج تعليمه من ينابيع المعرفة الإلهيّة، فكان قناةً مرَّ فيها الروح القدس ليحلَّ على الآخرين«(40).

 

ب- التقليد السريانيّ

نتحدَّث هنا عن التقليد السريانيّ في وجهه النسطوريّ، لا في وجهه المونوفيسيّ(41) الذي حرم ديودور(42)، فأثَّر في فوتيوس(43) الذي اعتبر ديودور محرومًا، شأنه شأن تيودور المصّيصيّ وتيودوريه القورشيّ.

لدينا في التقليد السريانيّ هذا لائحتان تركهما كاتبان نسطوريّان. الأولى تعود إلى القرن السادس: التاريخ الكنسيّ لبَرحَد بشابا عَربايا الذي ذكرناه آنفًا(44)، والذي استقى منه التاريخ السعرديّ(45) الذي وصل إلينا في اللغة العربيّة. اللائحة الثانية تعود إلى القرن الثالث عشر، هي لائحة عبد يشوع التي أوردها السمعانيّ في المكتبة الشرقيّة(46).

ماذا تقول اللائحة الأولى؟ »بعد ذلك بقليل، صار أسقفًا في طرسوس. ألَّف ثلاثة كتب ضدَّ المانويّين، وثلاثة ضدَّ المتشيِّعين لآريوس، وواحدًا عن الروح القدس وضدَّ تبّاع ماقيدونيوس، وثلاثة ضدَّ أبولينار، وسبعة مقالات ضدَّ المتشيِّعين لفوتيوس ومرقلُّس وسابيليوس وبولس الشميشاطيّ، وكتابَين ضدّ اليهود مع البقيّة (بقيّة الكتب). هذا خلا تفسير العهدَين. فلم يترك العهد القديم بدون تفسير (من تك) حتّى سفر راعوت«.

وتذكر اللائحةُ الثانية الكتبَ ذاتها. وفي تفسير العهدَين، تشير فقط إلى تفسير متّى(47). وأشارت النصوص السيانيّة اللاحقة إلى كتاب العناية الإلهيّة الذي استقى منه يوحنّا (يوانيس) الداريّ الذي عاش في القرن الثامن، وكان من أصحاب الطبيعة الواحدة. وذكر عمّانوئيل الذي هو نسطوريّ من القرن العاشر، كتابَ ديودور ضدَّ برديصان.

تعود هذه الترجمات إلى السريانيّة، إلى القرن الخامس، وقد قامت بها مدرسة الرها حين ترجمت أيضًا كتب تيودور المصّيصيّ. وقد قام بالعمل هيبا، طُومِي، بروبوس، معنا الثاني أسقف أرداشير. في أيِّ حال، امتدَّ عمل الترجمة هذا على عدَّة عقود من السنين.

 

ج- تفسير الكتاب المقدَّس

شدَّدنا على لاهوت ديودور ومؤلَّفاته اللاهوتيّة التي جاءت على المستوى العقائديّ والدفاعيّ والهجوميّ، ضدَّ بدع تفشَّت في الكنيسة(48). وتبقى المؤلَّفاتُ التفسيريّة التي لم تُفقد تمامًا، بل وُجدت منها أجزاء حول أسفار الشريعة الخمسة والكتب التاريخيّة وسفر المزامير(49).

ما هي نظرة ديودور إلى التفسير الكتابيّ؟ ما يشرف على نظرته هذه، هو التعليم الكرستولوجيّ الذي يُبرز الطابع البشريّ للمخلِّص. لهذا، شدَّد أسقف طرسوس على التفسير الحرفيّ. فهو يرى أنَّ الأحداث الواردة في الأسفار المقدَّسة، قد حصلت حقٌّا كما رواها النصُّ الكتابيّ. فيجب أن يكون الهمُّ الأوَّل للتأويل أن يدرس الخبر ويهتمَّ كلَّ الاهتمام بالأمور الواقعيّة. بعد ذلك، يبحث المفسِّر، إذا شاء وإذا أمكن، عن معنى سامٍ يفترض الأوَّل ويضاف إليه من دون أن يدمِّره. المعنى السامي هذا يدعوه ديودور »التفحُّص والرؤية«(50). ويعارضه مع المجاز والاستعارة(51) التي أخذت بها بنوع خاصّ مدرسة الإسكندريّة.

كلُّ هذا يوضحه ديودور في مطلع تفسيره سفر المزامير ومقدِّمة مز 119، وقد يكون أوضحه في كتاب يبدو أنَّه ضاع هو الاختلاف بين الرؤية والاستعارة(52). إستعاد تيودور هذا التعليم في كتابه حول المجاز والخبر التاريخيّ(53) الذي ذكره فاكوندُس في الدفاع عن تيودور(54).

وإليك المبادئ التي أسند ديودور إليها »الرؤية والتفحُّص« (تيوريّا): »لا يتعارض الخبر التاريخيّ (هستوريا) مع »التيوريّا«، بل هو أساس وسند النظرات السامية. ولكن يجب أن نحذر شيئًا هامٌّا وهو أن لا تكون ''التيوريّا'' قلبًا للموضوع. حينئذٍ لن تكون »تيوريّا« بل ''ألِّيغوريّا'' أي مجاز واستعارة. فإن طلبنا بجانب النصِّ معنى غريبًا، لا نعود أمام »تيوريّا« بل ''ألِّيغوريّا''... فالمجدِّدون في الكتاب المقدَّس... قرأوا ''الهاوية'' ففهموا ''الشياطين''. وقرأوا »الحيّة«، ففهموا إبليس... وهكذا دواليك... هي سخافات... وفإذ نرذل كلِّيٌّا هذه الشروح، لا نمنع من العبور إلى ''تيوريّا'' سامية ولكن مع احترام (النصّ). مثلاً، نقبل أن نشبِّه هابيل وقايين بمجمع اليهود والكنيسة. فنحاول أن نبيِّن من جهة أنَّ مجمع اليهود رُذل، شأنه شأن ذبيحة قايين، ومن جهة ثانية أنَّ تقدُّمات الكنيسة قُبلت، شأنُها شأن تقدُّمات هابيل... هذه الشروح لا تدمِّر الخبر ولا تقلب ''تيوريّا'' رأسًا على عقب. إنَّ هذا النهج الوسط الذي نحاوله، يسير بحسب الخبر (هستوريا) وبحسب الرؤية (تيوريّا) وينقذنا من الهلِّينيّة«(55).

هكذا ندرك الفرق الجوهريّ الذي يفصل التأويل الاستعاريّ عن التأويل الذي أخذ به ديودور وسمّاه »تيوريّا«. لاشكَّ في أنَّ أوريجان لم يتخلَّ عن المعنى الحرفيّ، وإن اتَّهموه بأنَّه رذله. غير أنَّه فضَّل بشكل خاصّ على المعنى الحرفيّ، المعنى الاستعاريّ (الأليغوريّ) الذي لا أساس له سوى حسٍّ خاصٍّ بالمؤوِّل. فعمقُ الحسِّ المسيحيّ عند أوريجان، وجَّهه التوجيه الصحيح في حالات كثيرة، ومنعه من اتِّباع فذلكات وجدها عند فيلون(56) الإسكندرانيّ. ولكن يبقى أنَّ فيلون هو الموجِّه المفضَّل لأوريجان.

ولكن ديودور يُعمِل العقلَ والتمييز، ويبقى قريبًا من التقليد الأرثوذكسيّ، ويطلب توجيهًا من العهد الجديد الذي يتيح له أن يكتشف الأمور الخفيّة في كتابات الأنبياء. هذا ما شرحه أسقف طرسوس في مقدِّمة مز 119، فعرض موقفه وموقف مدرسة أنطاكية. »فإن قال (الاستعاريّون) إنَّ هذا المزمور الذي تلفَّظ به الله، يليق بالأجيال البشريّة، وينطبق على الأحداث الحاضرة كما على أحداث من نظام أسمى، يكون تفسيرهم صحيحًا. فهذا ما أقوله تقريبًا: حين أَعلن الأنبياءُ مسبقًا الأحداث، كيَّفوا كلامهم مع الحقبة التي قالوه لها، ومع الحقبات التالية. وهكذا بدت كلماتهم، بالنسبة إلى الحقبة المعاصرة، عبارات مجازيّة، ولكنَّها توافقت كلَّ التوافق مع الأحداث التي حقَّقت النبوءات... فهذا خاصّ بالروح الذي يمنح البشر مواهب أبديّة ومطلقة، أعني أقوالاً إلهيّة تستطيع أن تتكيَّف مع كلِّ حقبة حتّى نهاية البشريّة... ليست هذه ''أليغوريّا''، بل حقيقة تحمل تكيُّفات متعدِّدة«(57).

فإن كان داود الكاتب الوحيد لسفر المزامير كلِّه، فهذا لا يمنع أن تطبَّق بعض المزامير على أشخاص آخرين: أشخاص من الماضي مثل موسى. وأشخاص من المستقبل مثل إرميا، حزقيال، المكابيّين، وبشكل خاصٍّ المسيح. »بالنظر إلى نعمة النبوءة، استطاع داود أن يلبس في المستقبل أو الحاضر أو الماضي، شخصيّة فرديّة أو جماعيّة، أن يعيش هذا الوضع التاريخيّ أو السيكولوجيّ أو ذاك، وأن يُعلن من داخل هذه الشخصيّات وبحسب كلٍّ من هذه الأوضاع، أناشيدَ ملهمة ولكنَّها تتكيَّف (مع هؤلاء الأشخاص) بشكل مدهش«(58).

وننهي هذا الكلام على طريقة ديودور في تفسير الكتاب المقدَّس مع مز 110 الذي تعتبره مدرسة أنطاكية مزمورًا مسيحانيٌّا. تعتبره نبوءةً تتحدَّث عن المسيح. »نترك جانبًا ثرثرات الهراطقة ومزحات اليهود ونقول: في الحقيقة، كُتب هذا المزمور بالنظر إلى ربِّنا يسوع المسيح، الابن الوحيد وبكر (الخلائق). فهو هو الوحيد المولود بلا شكّ، لا بصورة واحدة، بل بحسب نظامَين مختلفَين(59). هو البكر بحسب البشريّة، والوحيد بحسب اللاهوت. البكر بما أنَّه من البشر. الوحيد بما أنَّه من الله. ولكنَّه إبن واحد وحيد، وهو هذا وذاك، وهو ربٌّ واحد. تنطبق المزامير عليه، لا من حيث إنَّه الوحيد، بل من حيث إنَّه البكر. فقد نال أمرًا بأن يجلس قرب الآب، من حيث إنَّه البكر والوارث. ومن حيث إنّه الوحيد، فهو حقٌّا أزليٌّ مع الآب. هو معه على عرش واحد. ويمتلك في طبيعته كرامة متساوية ومركزًا متساويٌّا(60). من البطن ولدتك قبل الصبح. أدرك المرتِّل (= صاحب المزمور) هنا إدراكًا حسنًا هذه الطبيعة وتلك في الأقنوم الواحد، (أدرك) البشريّة واللاهوت. إن قال »من البطن« فهذا ينطبق على البشريّة (اللحم والدم). وإن قال »قبل الصبح«، فهو يتكلَّم على اللاهوت. فلفظة »قبل الصبح« تنطبق على الخليقة كلِّها. إذن يريد أن يقول: قبل أن يكون شيء ولدتك. ثمَّ يُنشد التجسُّد منطلقًا من البشريّة«(61).

فالمقطع الأخير هذا يبيِّن لنا توازن ديودور في كلامه على التجسُّد، على المسيح الذي هو أقنوم واحد في طبيعتين مع تشديد على الطبيعة الإلهيّة التي يعبِّر عنها بلفظ »الوحيد«، الابن الوحيد، وتشديد على الطبيعة البشريّة التي يعبِّر عنها بلفظ »البكر«(62) في خطِّ بولس الرسول. ومع ذلك، كان المعلِّمُ الكبير هذا موضوع اتِّهام، فخاف تلاميذُه على آثاره، ولاسيّما التفسيريّة منها، فأخفوها في تضاعيف عظات يوحنّا فم الذهب. ذاك هو الموقف الذي نودُّ المدافعة عنه.

 

3- آثار ديودور

 

أ- نقطة الانطلاق

حين كنتُ أهيّئ تفسير المزامير في سلسلة »القراءة الربّيّة«(63)، أردتُ أن ألحق بالتفسير مقطعًا أو مقاطع من آباء الكنيسة. ولمّا وصلت إلى يوحنّا الذهبيّ الفم، لفت انتباهي تبدُّلٌ في الأسلوب. فالواعظ المشهور هذا يتوقَّف على قضايا التفسير ودراسة نصوص الكتاب المقدَّس في العبريّة أو في اليونانيّة. أحسستُ فجأةً أنَّني انتقلتُ من الأسلوب الخطابيّ إلى البحث العلميّ، وفيه ما فيه من لغة ناشفة.

ونوردُ مثالاً أوَّل في شرح مز 4. »ما معنى العبارة اليونانيّة ''كاتاموناس''؛ ''بشكل خاصّ''؛ أي خارجًا عن الأشرار. قال الملك النبيّ (داود): أذوقُ هذا السلام فيك، وأحيا حياة معزولة ومفصولة بكلِّيَّتها عن مجمع البشر الفاسدين. هو حذر صحيح وأهل للمديح. فبما أنَّ الأجساد تهلك مرارًا بسبب انبعاثات الوباء المنتشرة في الجوّ، تجد النفس أيضًا مرارًا وباءها في التعاطي مع الأشرار والاتِّصال بهم«(64).

ويبدو الجدال الكتابيّ أوسع في شرح مز 47 (48 في العبريّ): »ليفرح جبل صهيون ولتبتهج بنات يهوذا لرؤية أحكامك، يا ربّ«. وترجم مفسِّر آخر: ''بسبب أحكامك''. ''قيسوا محيط صهيون، جولوا في أسوارها''. هناك ترجمة أخرى تقول: »دوروا حول صهيون، أخبروا بهذه الأشياء من علوِّ أبراجها''. وبحسب ترجمة أخرى، »أحصوا عدد أبراجها«. »إهتمّوا بالنظر إلى قوَّتها...« ونقرأ في ترجمة أخرى: ''أسوارها''. وفي أخرى: »غناها. وأحصوا بيوتها«. وترجمت نسخة أخرى: ''قيسوا قصورها فتُعلِموا الأجيالَ الآتية''. وأخرى: ''الجيل التالي''. ''الإله الذي يحميها هو إلهنا، إلهنا إلى الدهر، وهو يملك علينا في جميع الأجيال''. لماذا أمرَ الملكُ النبيّ بالدوران حول المدينة وإحصاء أبراجها، والنظر إلى مبانيها، والتأمُّل في جمالها، وتعداد جدرانها وأسوارها، وقياس بيوتها وقصورها؟ لا نحتاج إلى شرح بعد أن أوردَ لنا السبب. وما هو؟ ''لكي تُعلِموا الجيلَ التالي''. إذن، هذا مو معنى كلمات النبيّ: ''ليغمر الفرح قلوبكم، واستسلموا إلى نشوة الابتهاج. ولكن لا تفعلوا بخفَّة وطيش، بل تطلَّعوا بانتباه إلى قدرة مدينتكم«(65).

قدَّم النصّ أكثر من إمكانيّة إلى قراءة نصِّ المزامير. وهذا ما لا يفعله واعظ مثل يوحنّا الذهبيّ الفم. طرحتُ السؤال على نفسي، ووجدتُ الجواب حين التقيتُ الأب ماري إميل بوامار في مؤتمر كتابيّ، في لوفان من أعمال بلجيكا. أعطاني هذا الأبُ العالِمُ المفتاح: خاف تلاميذ ديودور على تفاسيره، فأقحموها في عظات يوحنّا فم الذهب.

 

ب- دراسة الأب بوامار

كان الأب بوامار يبحث عن إنجيل قبل الأناجيل. فبدأ البحث في دياتسّارون تاتيان(66)، ثمّ عاد إلى الاستشهادات التي يوردها يوحنّا الذهبيّ الفم من إنجيل يوحنّا(67). فوصل إلى نتيجة أخرى، وهي أنَّ عظات الذهبيّ الفم ليست متماسكة ولا متجانسة. فهناك أكثر من مرجع. فالعظة الواحدة تتضمَّن تناقضات واضحة. ثمَّ إنَّ الأسلوب هو تارةً أسلوب عظة حقيقيّة، وطورًا أسلوب التفسير والتأويل. وكان الاستخلاص الأوَّل: نحن هنا أمام مؤلَّفين: العظات والتفسير(68).

وأورد الأبُ مثالاً أوَّل من عظات الذهبيّ الفم حول إنجيل يوحنّا، المقال السادس: »كان رجل مرسَلٌ من الله، اسمه يوحنّا (1: 6). بعد أن كلَّمنا بما فيه الكفاية عن كلمة الله، تقدَّم بنظام فوصل إلى المنادي بالكلمة، إلى يوحنّا (المعمدان). وأنت حين تسمع أنَّه أُرسل من لدن الله، افهم أنَّ لا شيء بشريّ في ما يقول. فهو لا يتكلَّم عما يعنيه، بل عن كلِّ ما يعني ذاك الذي أرسله: فصفة المرسَل هي أن لا يتكلَّم عن نفسه«(69).

وهكذا بدأ الذهبيّ الفم عظته. وقد عاد إليها في ما بعد. وهنا أقحم الناشر مقطعًا تفسيريٌّا نجده عند معلِّم وتلاميذه. »فالفعل »كان« هنا، لا يعود إلى الانتقال إلى الوجود، بل إلى الرسالة نفسها. فالألفاظ ''أرسل من لدن الله'' قد جعلت بدل ''أرسل''. كيف ذلك؟ هاك اتِّفاق بأنَّ العبارة ''وُجد في شكل الله'' (غل 2: 6)، لم تُقَل عن شبهه مع الآب. وهنا أيضًا، نرى أنَّ أل التعريف غائبة أمام »الله«. فهل يعني هذا أنَّ هذا اللفظ لم يُقل عن الآب؟ ولكن ماذا نقول للنبيّ القائل: »ها أنا أرسل رسولي (ملاكي) الذي يهيئ طريقك'' (ملا 3: 1)؟ فالضمير ''الياء'' (رسولي أنا) والضمير ''الكاف'' (طريقك أنت) يدلاَّن على أنّنا أمام شخصين«(70).

ونقرأ في المقال السابع عشر: »لهذا قال: في بيت عنيا. ولكنَّ عددًا من المخطوطات تقول بشكل أدقّ: بيت عبارة. فبيت عنيا لم تكن في عبر الأردنّ، ولا في البرّيّة، بل في موضع ما، قُرب أورشليم. ولكنَّه يشير أيضًا إلى الأمكنة لسبب آخر. بما أنَّه أزمع أن يروي أحداثًا لم تكن قديمة، بل حصلت قبل ذلك الوقت بقليل، فالذين كانوا حاضرين ورأوا، جعلهم شهودًا لما قيل. وإذ تأكَّد في نفسه أنَّه لن يزيد شيئًا عمَّا قيل، وأنَّه يروي ببساطة وبصدق جميع الحقائق، قبلَ شهادةً استخرجها من الأمكنة، وهذا برهان مقبول لا يمكن أن نهمله، عن الحقيقة«.

»في الغد، رأى (يوحنّا) يسوع آتيًا إليه فقال: ''هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم''. تقاسم الإنجيليّون الحقبات. قطع متّى الأوقات التي سبقت سَجن يوحنّا، فأسرع إلى ما يتبع، ساعة توقَّف فيه يوحنّا بشكل رئيسيّ. وذاك (= متّى)، بعد أن جاء يسوع من البرّيّة، أغفل الأمور المتوسِّطة، وقطع ما رواه يوحنّا وما قاله اليهود والباقي، فقفز حالاً إلى السجن: ''حين سمع أنَّ يوحنّا أسلم، مضى من هناك« (مت 4: 12). أمّا يوحنّا فلا ''يفعل'' هكذا. بل هو يُغفل الانسحاب إلى البرِّيَّة بعد أن قاله متّى، ويروي أحداثًا حصلت بعد النزول من الجبل. وإذ يعرف بالتفصيل أمورًا عديدة، يضيف: ''لم يكن يوحنّا قد أُلقي بعدُ في السجن'' (يو 3: 24)(71).

 

ج- تناقضات وتكرارات

نبدأ بتوسُّعات تفسيريَّة تتضمَّن بعض التناقضات، وهذا ما يدلُّ على أنّنا أمام كاتبَين، أو أمام مؤلِّف كتب ما كتب على دفعتَين. هنا نعود إلى المقال السادس، ونتساءل: »مَن أرسل يوحنّا المعمدان«؟ قد يظنُّ بعضهم أنَّه المسيح بدليل غياب أل التعريف أمام »الله«. ولكن في فل 2: 6 مع عبارة »في صورة الله«، لا نجد أل التعريف، أمام لفظ الله الذي يعود إلى المسيح. ويستند النصّ إلى ملا 3: 1، مع ضميرَين مختلفَين (أنا، أنت) يشيران إلى شخصين اثنين. إذن، المرسِل (= الله) هو غير ذاك الذي أُرسل له الملاك (= يوحنّا المعمدان). يريد الكاتب أن يرفض فكرة تقول إنَّ الذي أرسل يوحنّا هو المسيح، لأنَّ لا وجود لأل التعريف أمام »الله«. ولكنَّه قال في ما بعد: »كما أنَّ المسيح لبس الجسد... كذلك أرسل أيضًا رجلاً على أنَّه المنادي«(72).

وفي المقال السابع عشر، نتوقَّف على المعجزات التي أجراها يسوع في طفولته. أمّا نقطة الانطلاق فكلام المعمدان على يسوع: »وأنا ما كنتُ أعرفه« (يو 1: 31، 33). وثمَّة موقفان متعارضان.

الموقف الأوَّل: »وما تأخَّر، بل وضع هنا عبارة ''لم أكن أعرفه''. لماذا؟ فقد كان قريبَه بحسب الجسد. ''فها إنَّ نسيبتك إليصابات، هي أيضًا حبلى'' (لو 1: 36). إذن، لئلاّ يُظنَّ أنَّه أنعم عليه بالنظر إلى قرابته، قال: »لم أكن أعرفه«. وهذا ما حصل بتدبير (من الله)، لأنَّه أقام كلَّ الوقت في البرِّيَّة، وكان خارج البيت الأبويّ. ولكن إن كان لم يعرفه قبل حلول الروح (القدس)، وإن كان عرَّفه به في ذلك الوقت فقط، فكيف يمنعه (من أن يعمِّده) قائلاّ: ''أنا مَن يحتاج إلى أن يعتمد منك'' (مت 3: 15)؟ ذاك هو البرهان أنَّه عرفه كلَّ المعرفة، وإن بدا أنَّه لم يعرفه. فالمعجزات التي حصلت ساعة كان بعدُ ولدًا... حصلت منذ زمن بعيد ويوم كان يوحنّا صغيرًا جدٌّا. ولكن بعد ذلك صار غير معروف لدى الجميع«(73).

أراد الذهبيّ الفم أن يردَّ هنا على اعتراضَين يُقدَّمان تجاه قول المعمدان بأنَّه لا يعرف يسوع. يستخلص الأوَّل من لو 1: 26: أمّ يسوع نسيبة أمِّ المعمدان. وجاء الجواب: أقام المعمدان في البرِّيَّة، وبعيدًا عن البيت الوالديّ. ويستخلص الاعتراض الثاني من واقع يقول إنَّ يسوع أجرى عددًا من المعجزات وهو ولد. ولكان بإمكان هذه المعجزات أن تعرِّف يوحنّا، بل الجموع، إلى يسوع. فجاء الجواب: كان يوحنّا في ذلك الوقت طفلاً، فنسيَ الناسُ، ويوحنّا منهم، تلك المعجزات ولاسيّما ما يتعلَّق بمجيء المجوس.

والموقف الثاني يرتبط بالبرهان التالي: »فلو عُرف لما قال: ''لكي يُعلن لإسرائيل، لهذا جئت أعمِّد'' (يو 1: 31). ثمَّ إنَّه من الواضح لنا أنَّ هذه العلامات التي تُقال عن طفولة المسيح، هي كذب وأعمال أقحمها الناس منذ فترة قصيرة. فلو عمِلَ عمَل مجترح المعجزات منذ نعومة أظفاره، لما كان جهله يوحنّا، ولا كان الشعب احتاج إلى معلِّم لكي يعلنه (= يسوع). ولكنَّه يقول هو نفسه إنَّه جاء ليُعلَن لإسرائيل. فكيف يقول إذن: ''أنا مَن يحتاج لكي يعتمد منك'' (مت 3: 15)؟ وبعد ذلك، لمّا عرف بوضوح، أعلنه للجموع قائلاً: ''هذا الذي قلتُ عنه: يأتي بعدي رجلٌ كان أمامي''(74).

من الواضح أنَّ يسوع لم يُجر معجزات في طفولته. وهكذا قدَّم الذهبيّ الفم حلاٌّ جذريٌّا: هذه المعجزات هي من اختراع البشر. فلو أنَّ يسوع أتمَّها، لما استطاع المعمدان أن يؤكِّد أنَّه لا يعرف يسوع، ولا كانت الجموع احتاجت إلى معلِّم يعلن يسوع. ويتوسَّع الذهبيّ الفم في المقال الحادي والعشرين في موضوع يؤكِّد أنَّ يسوع لم يجرِ معجزات في طفولته(75) وذلك لمناسبة الكلام على معجزة قانا الجليل.

نستطيع أن نذكر أيضًا أمورًا عديدة يبدو التناقض فيها واضحًا. مثلاً، حلول الروح على يسوع(76). ثمّ دعوة فيلبُّس. ما الذي دفعه إلى اتِّباع يسوع؟ رغبته في التعرُّف إلى مجيء المسيح أو تعاليم حملتها كرازةُ المعمدان(77). فإذا كان الخلاف بين مقطع ومقطع داخل العظة الواحدة، نعود فنطرح السؤال: من أين جاء المقطع الأوَّل؟ ومن أين جاء المقطع الثاني؟

في التكرارات، نجد نصَّين يتحدَّثان عن الموضوع الواحد بألفاظٍ تتكرَّر. هنا نعود إلى المقال السادس عشر في العظات حول يوحنّا. نقرأ أوَّلاً: »ثمَّ، لأنَّه قال: لستُ المسيح، أراد هؤلاء الناس أن يُخفوا ما يحكونه، فوصلوا إلى إيليّا وإلى النبيّ«. وبعد ثلاثة أسطر نقرأ: »ثمَّ، إذ أرادوا أن يخفوا (نواياهم)، أبرزوا الآخرين: إيليّا، والنبيّ«(78). وفي المقال عينه نقرأ أوَّلاً: »لو كان هذا كاملاً لما جاء آخر بعده«. وبعد ثلاثة أسطر: »لو كان هذا كاملاً، لما كان هناك موضع لثانٍ«(79). وإذا أضفنا إلى التناقضات والتكرارات، الفنّ الأدبيّ، نكتشف أنّنا أمام نصَّين مختلفين يعودان إلى إطارَين أو إلى كاتبَين. لهذا نعود أيضًا إلى المقال السادس عشر. نبدأ فنقرأ تفسيرًا لما في يو 1: 19-25: »في الحقيقة، لو لم يكونوا ينتظرون ذلك، لما وصلوا حالاً إلى سؤال جديد. بل كانوا لاموه لأنَّه تهرَّبَ من الجواب من دون أن يهتمَّ بالسؤال. ولكانوا قالوا: »ليس هذا الأمر هو الذي ظننّاه«. ولكنَّهم بدوا مدهوشين فوصلوا إلى »سؤال« جديد، فقالوا: »إذن، هل أنت إيليّا« (يو 1: 21)؟ فقال: »كلاّ«. لقد انتظروا مجيء مثل هذا الإنسان كما يقول المسيح(80). ثمَّ سألوا: »هل أنت النبيّ«؟ فقال: »كلاَّ«. (يو 1: 21ب). في الواقع، هو النبيّ. فلماذا ينكره؟ لننظر مجدَّدًا إلى النيّة. فقد كانوا ينتظرون مجيء نبيٍّ خارق بحسب ما قال موسى: »يقيم لكم الربُّ الإله من بين إخوتكم نبيٌّا مثلي«(81). وكان المسيح. »إذن، قل لنا: مَن أنت، لنعطي الذين أرسلونا جوابًا« (يو 1: 22). أنظر كيف يلجُّ عليه هؤلاء ويلحُّون سائلين. أمّا هو (فعاملهم) بصبر. بدأ فأبعد الظنون اللاواقعيّة، ثمَّ طرح ما هو واقعيّ: »أنا صوت ذاك الذي يصرخ في البرِّيَّة: قوِّموا طريق الربّ، كما يقول أشعيا النبيّ« (يو 1: 23). وإذ كانوا يتكلَّمون بصوت عالٍ جدٌّا على المسيح، لجأ، لكي يردَّ على ظنون هؤلاء الناس، إلى النبيّ فجعل كلامه أكثر أهليَّة للتصديق. قال: »والذين أُرسلوا كانوا من بين الفرّيسيّين« (يو 1: 24). فقالوا له: »إذن، لماذا تعمِّد؟«(82).

نجد مثل هذا التفسير عند تيودور أسقف المصّيصة في تفسير إنجيل يوحنّا(83). كما نجد ما يقابله في تفسير المزامير لديودور، أسقف طرسوس. فالكاتب يتبع النصَّ اليوحنّاويّ آية آية. يورده كما في الأصل، ويتوقَّف على كلِّ آية (أو عبارة) فيشرحها شرحًا مقتضبًا(84).

بعد هذا التفسير الذي تكرَّر في ما بعد(85)، تتبدَّل اللهجة كلِّيٌّا، فلا يعود الكاتب يذكر النصَّ الإنجيليّ: »يا للحماقة! يا للوقاحة والفضول المتطفِّل! أرسلتم لتعرفوا منه مَن هو ومن أين جاء. فكأنَّكم تريدون أن تفرضوا عليه شروطكم. كان ذاك وضع أناس يدفعونه لكي يعلن نفسه أنَّه المسيح. مع ذلك، لم يغضب ولم يقل (وهذا أمر عاديّ): هل تعطوني أوامر؟... لا مهرب من اتِّهام اليهود، ولا رحمة في الحكم عليهم! فهم حكموا على نفوسهم. كيف وبأيِّ شكل؟ ظنُّوا أنٌّ يوحنّا أهل للتصديق والصراحة بحيث يصدِّقونه، لا حين يشهد لآخر وحسب، بل حين يتكلَّم على نفسه. فلو لم يكونوا مستعدِّين هذا الاستعداد، لما أرسلوا (وفدًا) ليعرفوا منه ما يخصُّه...«(86).

 

د- الاستنتاجات

بعد هذه التحاليل، نطرح السؤال التالي: هل يمكن أن يكون »تفسير« يوحنّا الذي أُقحم في عظات الذهبيّ الفم، من تأليف ذاك الخطيب الذي سحر الناس بكلامه؟ إذا كان الجواب بالنفي، فمَن يكون الكاتب؟

نستطيع القول بادئ ذي بدء إنَّنا في إطار المدرسة الأنطاكيّة(87) القريبة جدٌّا من حرفيّة النصِّ الكتابيّ. كما نعرف أنَّ المعلِّم الكبير في هذه المدرسة كان ديودور، أسقف طرسوس. فعلى يديه تتلمذ الذهبيّ الفم وتيودور وغيرهما. عندئذٍ تأتي النتيجة الأولى: هذا التفسير يعود إلى ديودور. وقد يكون وضعه يوحنّا نفسه، أو هو الناشرُ جمَع عظاتِ يوحنّا مع تفاسير ديودور، وربط بين الفنَّين الأدبيَّين، مضيفًا ما يراه مناسبًا.

نتذكَّر هنا أنَّ ديودور أدار مدرسة أنطاكية التأويليّة حتّى سنة 372، وهي السنة التي أرسله فيها إلى المنفى الإمبراطورُ والنس. وحينما مات هذا الأخير، سنة 378، صار ديودور أسقف طرسوس في كيليكية. كلُّ هذا يجعلنا ننسب »التفسير« إلى ديودور، بعد أن أشرنا إلى العلاقة الوثيقة بتيودور المصّيصيّ في تفسيره إنجيل يوحنّا.

يبقى على الباحث أن يكتشف في مؤلَّفات الذهبيّ الفم التفسيريّة التي تمتدُّ على عدَّة أجزاء، ما يرتبط بالعظة، وما يعود إلى التفسير. هذا ما حاول أن يقوم به الأب بوامار في ستَّة أجزاء حول الإنجيل السابق ليوحنّا. ونحن نأخذ مثلاً نقرأه في المقال الحادي والثلاثين(88).

ماذا نجد في هذا المقال؟ إنَّ مطلع العظة يبدأ بهذه الكلمات: »نربح الكثير حين نتنازل في جميع أعمالنا«. بعد ذلك يأتي تعليم المعمدان: »هكذا تكلَّم المسيح إلى الجموع في البداية، وهكذا فعل يوحنّا أيضًا في الحالة الحاضرة«. ويهدِّد المعمدان بالغضب الإلهيّ: »يعرف أنَّ قوَّة التهديد عظيمة«. وبعد العظة نقرأ التفسير: »حين أنهى خطبته، لا بالخيرات، بل بالتهديدات«(89). »فذلك الذي لا يؤمن بالابن، لا يرى الحياة، بل يبقى غضب الله عليه« (يو 2: 36). ومع ذلك، فنحن لا نؤكِّد هنا أنَّ الإيمان يكفي وحده من أجل الخلاص. وما يدلُّ على ذلك، كلمات الإنجيل العديدة حول نوع الحياة. لهذا لم يقل »هذا فقط هو الحياة الأبديّة«، بل: »فقط مَن يؤمن بالإبن له الحياة الأبديّة«. ولكنَّه دلَّ في كلِّ مرَّة أنَّ الحياة هي للعمل. »فإن لم يتبع العمل، يكون لنا عقاب كبير«. بعد هذا، يعود إلى العظة: »لهذا، فهو لا يوجِّه هذا التحريض إليهم وحدهم، بل إلى الجميع.

 

خاتمة

وهكذا تعرَّفنا إلى ديودور أسقف طرسوس، إلى حياته وتعليمه. واستعرضنا كتبه التي ضاع أكثرها، إمَّا بسبب  التلف وإمّا بسبب الإهمال، حين جُعل المعلِّم الكبير هذا مع أولئك الذي حكم عليهم مجمعُ القسطنطينيّة الثاني بأنَّهم معلِّمو نسطور الذي فصل الطبيعة الإلهيّة عن الطبيعة البشريّة، ورفض أن تكون مريمُ والدة الله. أمّا نحن فاهتممنا بتفسير ديودور الطرسوسيّ الذي لم يبقَ منه بشكل رسميّ سوى تفسير المزامير. فحاولنا أن نكتشف هذه التفاسير في المزامير وإنجيل يوحنّا بشكل خاصّ. وكان بإمكاننا أن نجول أيضًا في إنجيل متّى أو لوقا كما وعظه الذهبيّ الفم، وأقحم الناشر في عظاته مقاطع تفسيريّة تعود إلى المدرسة الأنطاكيّة. فيا ليت أحد الباحثين ينبري فيدرس هذه النصوص ويمحِّصها، فيعيد إلينا عظات الذهبيّ الفم في نقائها، ويكشف تفاسير ديودور الطرسوسيّ التي نقرأ صدى عنها في تفاسير تيودور، وامتدادًا لها في تيودوريه القورشيّ الذي ترك لنا أوسع مادَّة تفسيريّة من مدرسة أنطاكية.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM