الفصل التاسع عشر: أنطاكية، كما صوّرها ليبانوس

 

أنطاكية، كما صوّرها ليبانوس

 

ليبانيوس، أستاذ البلاغة والفلسفة. وُلد في أنطاكية سورية. كان وثنيٌّا ولبث وثنيٌّا. درس البلاغة في أثينة على يد ديوفانتس(1) الأفريقيّ، مع باسيليوس وغريغوريوس النيصيّ. علَّم في القسطنطينيّة، ثمَّ في نيقوميدية. وأخيرًا في أنطاكية، منذ سنة 354 حتّى وفاته سنة 391 أو 404. امتدح الإمبراطورَ يوليانسَ الجاحد، لا بسبب وثنيَّته، بل لأنَّه أعاد الكرامة إلى العالم الهلّينيّ. تتلمذ على يده أمفيلوك، أسقفُ إيقونية، تيودور أسقف المصيصة، يوحنّا الذهبيّ الفم(2). ترك ليبانيوس عددًا من المؤلَّفات جُمعت في اثني عشر جزءًا(3) فضمَّت الخطبَ والرسائل(4) والتمارين على الفصاحة(5).

عن أنطاكية حدَّثنا ليبانيوس، في الخطبة الحادية عشرة، التي ألقاها موجزة في الألعاب الأولمبيّة، في دفنة سنة 358-359، وذلك بعد عودة هذا »المعلِّم« إلى موطنه. وعاد وتوسَّع في هذه الخطبة، سنة 360. في أيّام الإمبراطور كونستانس الثاني.

صوَّر ليبانيوس المدينة كما رآها في منتصف القرن الرابع، أو بعد ذلك الوقت بقليل. ونودُّ هنا أن نقدِّم امتدادًا لهذه الصورة تصل بنا إلى منتصف القرن السادس. ثارت هذه المدينة على تيودوز، سنة 387، فهدَّدها بالدمار، ولكنَّه لم يفعل شيئًا، بل وسَّعها ومدَّ أسوارها. في القرن الخامس، شيَّد ثيودوز الثاني (408-450) بازيليك أناتوليوس الكبرى. كما غشَّى بالذهب أبواب دفنة. وفي عهد أناستاز (491-518)، شُيِّدت بازيليكُ المدينة، بازيليك روفين. وفي القرن السادس، في عهد يوستين (518-527) ويوستنيان (527-565)، تبدَل وجه أنطاكية. فقبل سنة 520 بقليل، شبَّ حريق كبير في المدينة فأتى على حيِّ كامل، من مرتيريون (معبد الشهيد) اسطفانس حتّى قصر الوالي. وفي سنة 525، أصاب أنطاكية الزلزال الخامس الذي دمَّر المدينة تدميرًا كاملاً. هلك في هذه الكارثة 250000 شخص. وسنة 540، احتلَّ كسرى الفارسيّ المدينة وأحرقها. وانتهت عظمة أنطاكية(6).

عنوان خطبة ليبانيوس: أنطيوخيكس(7)، أي ما يتعلَّق بمدينة أنطاكية.

 

1- المدينة القديمة

196. حان الوقت الآن لكي أتحدَّث عن وضع(8) المدينة وعظمتها(9). أظنُّ أنَّ ما من مدينة موجودة، الآن، بانَت أمام عيوننا بمثل هذه المساحة وفي وضع جميل جدٌّا. هي تمتدُّ في خطٍّ(10) مستقيم من المشرق إلى المغرب، مع أروقة بطابقين(11). فصلتْ هذه الأروقةَ جادةٌ مكشوفة ومبلَّطة بالحجارة(12)، عرضَ الأروقة.

197. امتدَّت الجادة والأروقة امتدادًا، بحيث تحتاج المدينة إلى عدد كبير من العمّال لكي تنظَّف هذه المساحة الواسعة. ويَتعب من يقطع هذه الجادة من أوَّلها إلى آخرها، مشيًا على الأقدام، فيحتاج إلى عون الجياد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، وكلُّ هذا، في أرض سهلة، يتواصل حتّى النهاية، بدون وادٍ ولا منحدرٍ ولا حواجز من نوع آخر(13)، فينطلق إلى الأمام في حرّيَّة تامَّة.

198. من هذه الأروقة تنطلق أسواق(14)، بعضُها يمضي نحو الشمال على أرض مسطَّحة، والبعض الآخر يرتفع بهدوء باتِّجاه الجنوب نحو خواصر الجبل، فيحدّ أماكنَ السكن، ولكن إلى ارتفاع يحافظ على التوافق مع الوجه العامِّ(15) للمدينة، بحيث لا ينفصل هذا الحيّ عن الباقي في ارتفاع مفرط.

199. فالمدينة ما عبرت هوَّة، ولا كانت هاوية في حضنها. ما استفادت من أصغر حرف في فجوة الجبل، بحيث جعلت البيوت تنتصب بعضها فوق بعض(16)، مهدِّدة مثل صخرة سيزيف(17)، ولا حلَّت في موضع إلاّ بقدر ما تنمو نموٌّا متواصلاً. وهكذا حافظت في الوقت عينه على جمالها، كما أمَّنت حاجة العدد الكبير من سكَّانها.

200. فالجبل(18) الذي يمتدُّ على طول المدينة، يرتفع مثل ترس ينتصب عاليًا. والذين يقيمون عند سفحه، في أواخر المدينة، لا يخافون شيئًا لأنَّ سفوحه تحميهم. غير أنَّ كلَّ شيء يعمل من أجل ارتياحهم، من ينابيع وغابات وجنائن ونسائم وزهور وزقزقة عصافير، فيجعلهم ينعمون بالربيع قبل الآخرين.

201. نستطيع أن نشبِّه الأروقة بأنهار تجري قدر الإمكان، والأسواق بسيول تنفصل عنها. من هذه السيول، تلك التي تتَّجه إلى الجبل تقود إلى مباهج الحيِّ عند سفح الجبل. والتي تنطلق في الجهة الأخرى، تمضي إلى شارع آخر لا أروقة له، مع مساكن من جهَّتيه، تُشبه قنوات حُفرت لتُتيح المرورَ من نهر إلى آخر. وهذا الحيُّ الآخر (= الشماليّ) ينتهي هو أيضًا وفي أكثر من مكان، على جنائن جميلة. وهذه الجنائن بدورها، تنتهي عند شاطئ نهر العاصي.

202 امتدَّت هذه الأروقة(19)، كما قلتُ، من المشرق إلى المغرب على مدى طويل يتَّسع لثلاث مدن. وفي وسط الرواق الأيمن(20) مجموعة حنايا تتطلَّع إلى كلِّ جهة مع سقف حجريٍّ واحد، كنقطة انطلاق إلى أروقة أخرى تتَّجه إلى الشمال حتّى النهر. هناك يقوم معبد الحوريّات(21) الذي يرتفع إلى السماء ويجتذب إليه الأنظار جميعها، بلمعان رخامه، بعواميده المتعدِّدة الألوان، ببهاء تصاويره، بوفرة ينابيعه. من هذه الأروقة، كما من سابقتها، تنطلق أسواقٌ أيضًا.

 

2- المدينة الجديدة

203. ذاك منظر المدينة القديمة. أمّا المدينة الجديدة(22) فجزيرة كوَّنها انفصالُ النهر إلى ذراعين. فالنهر الذي يجري منذ البداية في مجرى واحد فيقدِّم القسم الأكبر من مسيرته، ينقسم إلى ذراعين، فيحيط بالأرض فتصبح جزيرة تحيط بها المياه من كلِّ جانب. من هذين الذراعين، واحد يتوسَّط المدينتين، والثاني يجري في الجهة الأخرى من المدينة الجديدة. وبعد أن يكوِّن الجزيرةَ، يضمُّ مجراه إلى الأوَّل ويكوِّن النهر من جديد مع حجم يساوي ما كانه قبل الانقسام.

204. وجهُ هذه المدينة الجديدة هو دائرة(23). حلَّت كلُّها في السهل فأحاطها سورٌ لا يحطّم(24) بشكل إكليل. انطلاقًا من أربع حنيٌّات مركَّبات معًا بشكل مربَّع، كما انطلاقًا من صرَّة الإنسان، تنطلق نحو الجهات الأربع أربعةُ صفوف مضاعفة من الأروقة، وتمثال أبّولون بأذرعته الأربع.

205. من أزواج الأروقة هذه، ثلاثة تمضي نحو السور فتحمل الزينة معها. والرابع أوسع، وبالتالي أجمل، يمضي للقاء قصر الإمبراطور(25) ويتوقَّف عنده فيكون بشكل عمود لهذا القصر.

206. أمّا القصر نفسه فيحتلُّ حيِّزًا كبيرًا في الجزيرة فيأخذ الربع الكامل. فهو يلامس المركز الذي جعلناه »صرّة« ويتقَّدم حتّى الذراع الخارجيّ (في الشمال) للنهر. وهكذا فالسور الذي تسلَّم هنا أعمدة بدل فتحات في السور، ترتَّب لراحة الإمبراطور مثل شُرفة. عنها يُرى النهرُ الجاري عند القدمين، من جهة، ومن جهة، الضواحي التي تُسرُّ العينين في كلِّ اتِّجاه.

207. لو أردتُ أن أتوسَّع بدقَّة تامَّة حول هذا القسم من الجزيرة، وجب عليَّ أن أجعله موضوع عرضي، لا قسمًا من عرض مختلف. ولكن نقول هذا فقط. عمارات موجودة في كلِّ مكان. اشتهرت إمَّا بعظمتها وإمَّا بجمالها. هذه لا تغلبها تلك، فتتفوَّق على الأخريات تفوُّقًا. وبالنسبة إلى الجمال، ليست أقلَّ من أجمل أيَّة عمارة أخرى. بالنسبة إلى العظمة، تنال الظفرَ في كلِّ موضع، بعد أن توزَّعت في عدد من القاعات والأروقة وقاعات الاستقبال، فيضيع فيها حتّى أولئك الذين اعتادوا أن ينتقلوا من باب إلى باب. لو وُجد هذا القصر وحده في مدينة فقيرة كما نرى الكثير في تراقية(26)، حيث بضعة أكواخ تكوِّن حاضرة، ولو وُجد في أحد هذه الأرياف، لأعطى المدينة التي تمتلكها، مناسبةً للافتخار حين تقابل نفسها مع سائر المدن.

208. ولكن أعودُ إلى موضوعي، فالمدينة الجديدة انفصلت عن القديمة بواسطة الذراع المتوسِّط، وارتبطت هاتان المدينتان المنفصلتان بخمسة جسور(27) متينة. إذا كان النهرُ صنع من حاضرتنا حاضرتين، فهذه الجسور لا تتركها اثنتين، بل تربط الثانية بالأولى كالمهر بأمِّه.

209. ونلاحظ هذا الآن. هل يفضَّل للحاضرة أن تمتدَّ في الطول(28)؟ بهذه الطريقة شُيِّدت مدينتنا القديمة. هل يفضَّل تصميم قريب من الدائرة؟ هذا ينطبق على المدينة الجديدة. هل هذا من أجل حاضرة من الحواضر، برهانًا عن العظمة بأن لا يكون التصميمُ واحدًا؟ إن وُجد في مكان ما، ربَّما. ولكن في مدينتنا نجد كلَّ أشكال المدن. وحين يفتخر إنسان بأنَّه يقيم في مدينة مربَّعة الجهات، فليعرف أنَّه يجعل طموحه في الشيء الصغير.

210. في الزراعة يعتني الفلاّح بأرض صغيرة كما الرسَّام بلوحته. أمّا حقول الأغنياء التي تمتدُّ واسعة، فهناك جزء بارز وآخر يبقى في الظلّ. وهكذا في المدن. ما نقصته العظمةُ يرتبط بمخطَّط واحد. وما هو مميَّز يخرج من الحدود بحسب الظروف.

211. وبما أنِّي أذكر العظمة، لا أريد أن أهمل النقطة التالية: نفترض إنسانًا يقف عند طول الأروقة التي ذكرتُ، والتي تنطلق وتجري نحو النهر، فيجمع طولاً إلى طول إذا أمكن. ونفترض أيضًا أنَّه ربط بهذا الطول الفريد، أروقةَ المدينة الجديدة، فامتدَّ الطول الأوَّل. إذا إنسان، كما قلت، جمع رواقا إلى رواق، أو بالأحرى لو تطلَّع بالعقل لوجد أنَّ أروقتنا تحتلُّ مسافة 150 فرسخًا(29).

212. وحين تقطع كلَّ هذه المسافة، تكوِّن مساكنُ الخاصَّةِ كتلَّةً متواصلة، فتمتزج البيوت الخاصَّة بالعمارات العامّة: هنا الملعب، هناك الحمّامات. في قياسات محدَّدة بحيث تكون قريبة من الذين يستعملونها(30)، في كلِّ حيٍّ من أحياء المدينة. ثمَّ إنَّ الأبواب تنفتح كلُّها على الأروقة(31).

 

3- فائدة الأروقة

213. إلى أين أصلُ في كلامي؟ وإلى أين يقود هذا التوسُّع الطويل حول الأروقة؟ في رأيي، ففي كلِّ مباهج مدينة من المدن، مواضعُ اللقاء حيث نمتزج بعضنا ببعض، هي أكثر ما يُسرّ. وأضيف أيضًا: أكثر ما يفيد. وأحلف بزوش (إله الآلهة) أنَّ المدينة لا تكون مدينة إلاّ إذا وُجدت فيها وفرةُ مثل هذه الفوائد(32).

214. فما ألطف حديثًا حلوًا. نسمع الأفضل، نقدِّم نصيحة، نحمل إلى الأًصدقاء في حظِّهم الصالح أو التعيس، عونًا صادقًا في كلام فرح أو عزاء، ونتقبَّل منهم مبادلة علامات التعاطف عينها. فالفوائد لا تُحصى من اللقاءات مع أمثالنا.

215. فإن لم يكن أمام البيوت أروقة ممتدَّدة، فالطقس السيِّئ يفصل الناس: نظريٌّا هم يقيمون في المدينة عينها. ولكن في الواقع، هناك انقسام بينهم كما بين مدينتين مختلفتين. وهم يستعلمون عن جيرانهم وكأنَّهم غابوا عن البلاد. يُشبهون سجناء حصرَهم المطرُ والبرَد والثلج، بحيث إنَّ بعض الخدم الذين تمرَّسوا في الشدَّة طويلاً، يُلقون نظرة سريعة إلى الساحة العامَّة (أغورا) ويقفزون بعدها إلى البيت. وما أن تصحو السماء قليلاً، حتّى يقبِّل الناس بعضهم بعضًا ويُحيِّي الواحد الآخر، وكأنَّهم عادوا سالمين من سفرة طويلة في البحر: أخلَفوا في عدد من واجبات تفرضها قواعد الصداقة، ولكنَّهم يعتذرون عن الظروف التي منعتهم من القيام بها.

216 أمّا عندنا، فليس الأمر هكذا. فزوش لا يرسل برَدًا(33)، ولا ثلجًا كثيفًا، ولا مطرًا غزيرًا يقطع التواصل في العلاقات. لا شكَّ في أنَّ السنة تتبدَّل مع الفصول، ولكن لا تبدُّل في الاجتماعات العاديّة. فالمطر لا يُزعج سوى السطوح: أمٌّا نحن فنتنزَّه مرتاحين في ظلِّ السطوح، ونجلس معًا حيث نجد مناسبة.

217. أمّا الذين يقيمون في الأسواق البعيدة، فلهم على مدِّ الجدارين، شُرفٌ بارزة تحميهم من المطر وتقودهم إلى الأروقة دون أن يتبلَّلوا. فعند الآخرين، وبقدر ما هم منفصلون بعضهم عن بعض، تضعف الحياة في المجتمع. أمّا عندنا، فالتماسُّ اللامنقطع يجعل الصداقة تُزهر. بقدر ما تنقص عند الآخرين، فهي تنمو عندنا.

4- حلبة السباق، المسرح، الحمّامات

218. وإنَّ طول أروقتنا يعمل من أجل أثمن الفوائد في الحياة الاجتماعيّة، لا من أجل ارتياحنا فقط. فيمتزج بهذه الأروقة، حلبةُ السباق، المسرح، الحمّامات. فالحلبة(34) واسعة من أجل المتسابقين، وتمتلك فيضًا من الدرجات لتؤمِّن مقاعد لحشود المواطنين. والمسرح(35) يردِّد صدى المسابقات في الناي والقيثارة والنشيد، ويساعد مجموعة الناس الذين يجلبون السرور بالتمثيل على المسرح.

219. ولكن من يستطيع أن يصف سائر القاعات: بعضها لصراع المقاتلين. والبعض الآخر للقتال بين الرجال والوحوش. كلُّها في وسط المدينة(36)، فلا تُكرهنا لكي نتعب بطول الطريق للوصول إليها، قبل أن ننعم بها.

220. ومن لا تسحره الحمّامات(37)؟ بعضُها مُعدٌّ للشتاء والآخر للصيف. الأولى هي بمنأى عن الرياح العاصفة، وهذه معلَّقة كما في الجوِّ وكأنَّها لا تتَّصل بالأرض.

221. أمّا البيوت(38)، فبعضُها يرتفع نحو السماء، فيدلُّ على الحقبة الحاليّة المزدهرة. والبعضُ الآخر يعود إلى الأجيال السابقة فيتجنَّب في الاعتدال، العجرفةَ والدناءة.

 

5- نظام الرياح في أنطاكية

222. إذا كان يجب أن لا أسكت عمّا جاء الآن على فكري، ارتأي أن زيفير(39) (النسيم) أقنع السكّان القدماء بأن لا يجعلوا كلَّ اهتمامهم بالحياة بين أربعة حيطان. فحيث نظام الرياح لا يوافق، نطلب بعض التسليات بمنأى عن لسعاتها. أمَّا نحن فننعم بالريح الطيِّبة، ونمتلك النسيم كما قال هوميرُس (الأوذيسة 11: 7؛ 12: 149) كرفيق صالح. لا نحتاج إلى مثل هذه الاستعدادات: فالإله يعطينا الحياة الحلوة.

223. بورياس(40) حارب الأثينييّن على البحر (هيرودوت 7/189؛ رج 6: 44)، وأهداهم مهرًا لقاء العذراء التي خطفها. وهو مهر لا يمنحه هذا الصهر بقدر بسيط. أمَّا زيفير فما جعل خيراته يسبقها ذنبٌ. هو يحبُّ حبٌّا أبديٌّا، لا عذراء فقط، بل مدينة بكاملها. يحفظ نفسه في الشتاء حين يعرف أنَّه يسيء إلينا إن جاء إلينا. ولكنَّه يأتي مع الصيف ليمنع حريق الشمس.

224. هو لا يعاشر مدينة أخرى قبل مدينتنا. ولا يكتفي بأن يعبر مدينتنا ليمضي إلى مكان آخر. بل يبدأ عندنا، وعندنا يتوقَّف أيضًا على مثال الذين يكتفون بغرض واحد يحرِّك العاطفة عندهم، بحيث إنَّ جسمًا آخر جاء فجأة لا يجعلهم يميلون بنظرهم.

225. تجري نسمتُه عبر المدينة كلِّها وحولها، ولا يترك جزءًا محرومًا من عونه. هو لا ينتشر فقط على مساكن الأغنياء بثلاثة طوابق(41) فيترك تحته بيوت الفقراء الوضيعة. كلاّ. فكما أنَّنا، في الديموقراطيّة، نشارك معًا بالشرائع، كذلك نشارك بالتساوي بنتائج النسيم الصالحة، فلا يعطش أحد. ولا يشتكي لأنَّه أحسَّ بالسوء بسبب جيرانه. فالنسيم يمرُّ ويتغلغل عبرَ كلِّ شيء. ويجعل طريقه في أيِّ فتحة وضع عليها يده.

226. وحصل أنَّ أناسًا حُرموا من شعاعات الشمس لأنَّ بيتًا قريبًا حجب النور عنهم. أمَّا النسيم فما مُنع أحدٌ يومًا من حسناته العامَّة: يرفع قميص المتنزِّهين ويدور حول فخذهم، ويغلغل نسمته تحت غطاء النائمين وينفخه على جسمهم. والليل يصير بفضله راحة مضاعفة، حين يمتزج النومُ بالنسيم.

 

6- تجديد متواصل للأبنية

227. من أجل هذا نفهم أن تكون المدينة مشغولة دائمًا بأعمال البناء(42): هنا يضعون السطح. هناك ترتفع الطوابق نصف ارتفاع. وُضعت الأساسات لهذا البيت. وفي أيِّ موضع تُسمَع صرخات الذين يحثُّون البنَّائين على العمل. وحيث فُلحت الأرض في السنة الماضية من أجل البقول(43)، صارت اليوم بناء. فكلُّ واحد يعرف أنَّ كلَّ الخيرات التي وعدَ بها الشعراء للأبرار بعد موتهم، نستطيع أن نمتلكها هنا ونحن أحياء.

228. نلاحظ الآن أنَّ مدينتنا كانت أربع مرّات أكثر ممّا هي الآن، لو لم تدمَّر في أربع مناسبات سابقة(44). فكما أنَّ هيكل أبوّلون(45) نال أكثر من خراب وها هو ينتصب الآن على دمارات سابقة، هكذا مدينتنا، وهي مدينة بشر، خُربت. ولكن بما أنَّها كانت عزيزة على قلب الآلهة، وقفت في كلِّ مرّة على قدميها. توجَّعت مثل زيتونة أثينة (الإلاهة) وفعلت كما فعلت. هاجمت تلك الزيتونةَ نارٌ بفعل أحشويروش (الفارسيّ)، حين دمَّر ذاك القائد أكروبول(46) الأثينيّين. ولكن في الغداة، خرج من الجذع المحروق نبتةٌ طريّة طولها ذراع. والأمر هو هو بالنسبة إلى مدينتنا: ساعة كانت تترك موضعَها، كانت تستعيده.

229. واليوم، إن نحن حفرنا الأرض لنضع أساسات، نجد في كلِّ مكان أثر أساسات سابقة: فالعدد الكبير تركوا مواصلة مشاريعهم، فاستعملوا هذه البقايا فأضافوها وأقاموا بيتهم على القديم. فلو لم يُصب الدمار شيئًا، ولو أضيفت بيوت على بيوت، ولو أنَّ ما يُعطى لنا اليوم من أجل الإصلاح ما كنّا أعطيناه من أجل نموٍّ متواصل، لكان عددٌ من الناس حُرموا من أرض يزرعونها.

 

7- ضواحي أنطاكية

230. إن كانت المدينة مدهشة في كلِّ جانب، فالريف الذي يحيط بها لا يقلُّ جمالاً: فهو يدلُّ حقٌّا أنَّه ريف تلك المدينة. من جهة، هي قرى هامّة(47) وكثيرة السكّان، فتتفوَّق على عدد من الحواضر. فيها الصنّاع كما في المدن. يُوصلون نتاجَهم بواسطة الأسواق الشعبيّة. فالقرية تدعو أختها، وتتقبَّل دعوتها، فتفرح هذه وتلك، وتجد السرور والفائدة، وتعطي جزءًا ممّا تملك بكثرة وتقتني ما ينقصها. تبيع هذا وتشتري ذلك. وسعادتهم تفوق سعادة الأشخاص المنشغلين بالتجارة البحريّة. فبدل النوِّ والعواصف، يربحون المال وسط الضحك والتصفيق. هم لا يحتاجون كثيرًا إلى المدينة، لأنَّهم يتبادلون نتاجهم فيما بينهم.

231. وإذا تفحَّصنا أيضًا الأحياء أمام أبواب المدينة(48)، فلا نظنُّ أنَّنا أمام نُزُل وفنادق، بل أمام أجزاء من الحاضرة(49)، وهي لا تنتمي إلاّ إلى هذه الحاضرة، أنطاكية. فعددٌ من الأحياء الخارجيّة  يُقابل حقٌّا مجدَ المدينة الداخليّة، بالرفاه والحمّامات وحوانيت الصنعات وكثافة السكّان. ولو فرضنا أنَّنا جمعنا في رسمة واحدة ما جُعل في ثلاثة أقسام(50)، لكفَت اليوم الأحياءُ الواقعةُ أمام المدينة لكي تكوِّن حاضرة.

232. سبق ورأينا أنَّ الحيَّ الواقع أمام القصرِ، يشارك في بهجة الداخل، وإن كان أدنى من الداخل، إلاَّ أنَّه يتيح أن نفترض الأكبر منطلقين من الأصغر: ومع ذلك، فقد أصدَرَ عن الحاضرة باتِّجاه الأحياء أمام السور، نوعًا من تجمُّع. وهكذا، حين نخرج من المدينة نظنُّ أنّنا نرى في نموذج أصغر ما سبق وتركنا. والذي يدخل إلى المدينة، تمنحه الضاحية مُسبقًا فكرة عن داخل المدينة.

 

8- دفنة(51)

233. مع أنَّ كلَّ هذه الأحياء جاءت في نمط واحد، فالذي هو إلى المغرب يتغلَّب على الباقي كلِّه ويتحدَّى كلَّ وصف، أُقسم بهرقل(52). ما يهمُّ فقط هو أن تراه. وإن سُررتَ سرورًا حين تسمع وصْفه، فاعرف أنَّك لم تسمع شيئًا قريبًا من حسناته.

234. ما إن تعبر الباب إلاّ وتجد إلى الشمال جنائن بألوان مختلفة، مساكنَ ناعمة، ينابيعَ وافرة، بيوتًا مخفيّة في الأشجار، عمارات أعلى من الأشجار، حمّامات رائعة، موضعًا مخصَّصًا لأفروديت(53) ولابنها القوّاس. وإذ أنت تمشي، ترى عن جانبَي الطريق الكروم الغنيّة، والفيلاّت الرائعة، حقول الورد وكلّ أنواع النبات، والسواقي: تُجذَب هنا ثمَّ هناك، ووسط هذه الإحساسات المفرحة، تصل إلى دفنة الجميلة جدٌّا.

235. ما من أحد حتّى الآن تكلَّم حسنًا عن دفنة، ولن يتكلَّم أحدٌ، إلاّ إذا فكَّر بإله ينشد هذا الموضع بمساعدة ربّات الشعر.

236. هذه الطريق التي تقود من المدينة إلى الضاحية، لا أستطيع أن أعطيها اسمًا أجمل من هدب الكنف الذي به غطّى هوميرُس الإلاهة أثينة. هي كلُّها ذهبٌ دفنة. أجل، وهي تؤول إلى الذهب النهائيّ. حين تراها، لا تقدر إلاّ أن تصرخ وتقفز وتثب وتصفِّق بيديك وتفرح بهذا المشهد وتطير لذّة. كلُّ غرض يجتذبك إليه: واحد يسحرك. آخر يدهشك. واحد يحتفظ بك. آخر يجذبك إليه. بهاء لامع يجتاح العينين ويقلب المُشاهد في كلِّ جهة: معبد أبّولون(54)، هيكل زوش، الملعب الأولمبيّ(55)، مسرح ولا أروع، السرو(56) الكثير والكثيف والمنتصب عاليًا، ممرّات مظلَّلة، أجواقُ عصافير موسيقيّة، نسيم معتدل، روائح أحلى من العطور، مساكن كبيرة، كروم مفلوحة تصل إلى قاعات الوليمة، حدائق ألكينوس(57)، مائدة صقليّة، قرن أمالتيا(58)، وليمة تامّة، سيباريس(59). وحين نختار حمّامًا، نهمل حمّامًا آخر أحلى.

237. هذا الموضع يوافق الصحّة بحيث يتحسَّن لون وجهك ولو أقمتَ فيه وقتًا قصيرًا. وإن سُئلت عن الذي أفرحك، فلا يسعك الجواب. ففي الحقيقة يتزاحم كلُّ شيء لكي يسحرك. ما من مرض قويّ، مستعصٍ، مستمرّ، إلاّ وتطرده دفنة: ما إن تصل إلى هناك إلاّ ويزول ما يتعبك. فإذا صحَّ أنَّ الآلهة يتركون السماء ويأتون على الأرض، فهنا يجتمعون، كما أظنُّ، ويكوِّنون حلقة، لأنَّ لا مكان ساحرًا لهم غير ذلك فيه يقيمون.

238. ولا يظنُّ أحد أنَّ معجزات هذا الموضع هي بكبيرة، ولكنَّها قليلة. وبما أنَّها نادرة فهي تدمِّر الدهشة التي تحرِّكها العماراتُ الجميلة، وكأنَّ هناك فقط خمس فيلات وسبع حدائق، 300 سروة، ثلاثة حمّامات: لا. كلُّ الأشياء جميلة جدٌّا وليس مثلها في مكان آخر. وبقدر ما هي جميلة فهي كثيرة.

239. وهذه الحسنات التي تمتلكها دفنة هي كثيرة. وهي لا تريد أن تُخجل الحاضرة. لهذا تحتفظ بدرجة الضاحية. فلو أرادت أن تتخاصم مع إحدى المدن، فالنصر يكون من جهتها في أكثر من مجال. فهي ظفرت على جميع الرومان الذين جاؤوا ليشاهدوها، لأنَّها أقنعتهم أن لا يمتدحوا بعد إيطاليا على أنَّها الظافرة في هذا المجال.

 

9- ينابيع دفنة، القناة وعيون أنطاكية

240. تيجان جمالات دفنة، بل الأرض كلِّها، كما أظنُّ، هي ينابيع دفنة(60). ما من مكان في الأرض ولَّد مياهًا حلوة للنظر، صالحة للاستعمال. هنا يقوم قصر الجنيّات، وأنقى هديَّة وأطهر من قبل الجنيّات.

241. (سقط هذا المقطع).

242. فحين تقف عند تفجُّر بداية هذه المياه، وتراها تجري بمحاذاة جدارَي الهيكل(61)، فمن لا يفرح بكثرتها، ولا يندهش ويعجب لرؤية جمالها، ولا يكرمها كأنَّها غرض إلهيّ، ولا يحسُّ باللذة حين يلمسها، وبلذّة أكبر حين يستحمُّ فيها، وأكثر من ذلك حين يشرب منها. فهي في الوقت عينه باردة، صافية، لذيذة في الفم، ناعمة، حلوة حين تُلامس الجسم.

243. غير أنَّ هذا الماء لم يبقَ لدى أمِّه وحدها: فبعد أن ولدته دفنة، لم تنعم وحدها بهذه العطيّة: لا شكَّ في أنَّ دفنة أخرجته إلى النور، ولكنَّ الحاضرة شاركت تلك التي ولدَته. فمن بيت إلى بيت(62) جرت المياه لا من أرض غريبة. فهذا يفترض مجهودًا كبيرًا، ويعرف الخطر الكبير، لأنَّ العون الآتي من لطف الآخرين ليس بأكيد. »فبرك« المواطنون للتيّار قناة مسقوفة عبر لحف الجبل. هنا حفروا الجبل بشكل تجويف. وهناك أضافوا بناء صغيرًا. وفي موضع آخر، رفعوا القناة في الجوّ، وأمرُّوها على جسور، ساعةَ الهوّة تفرض عليهم ذلك. وهكذا أوصلوا إلى المدينة الماء الذي قدَّمته الضاحية(63).

244. وها هو الوضع الذي يجعلنا من الغالبين: فالمياه تسيل في أنطاكية. قد تخجل في مجالات أخرى. أمَّا في مسألة المياه، فالكلُّ يخضعون لها. أتريد عيون ماء جميلة؟ ننتصر بالعدد. والعيون العديدة؟ بالجمال. أو بالأحرى، إن كان الكلام عن الوفر، فنحن نتفوَّق بالكثرة، كما بالجمال. فكلُّ حمّام بَنتْه الحاضرةُ يصبُّ حجمَ نهر من الأنهار. وبين الحمّامات التي بناها الأفراد، لبعضها الحجم عينه. والأخرى أقلُّ بقليل.

245. إن كانت لنا الإمكانيّة بأن نبني الحمّامات(64)، بالإضافة إلى الموجودة الآن، فنحن نبنيها واثقين بسبب غزارة سيول المياه. لا نخاف حين تنتهي العمارة إلى آخر نقطة في الجمال، أن تبقى عطشى بسبب غياب الجنيّات. يميل الإنسان عن المشاريع بسبب ندرة المياه، أمّا هنا فالمياه تشجِّع حتّى الذين كانت غيرتهم صغيرة. بعد ذلك، يفتخر كلُّ جزء في المدينة بما يزيِّنه من حمّامات شيَّدها أفراد كثيرون، يصعب علينا تسميتُهم. وهناك خلاف بين سكّان الأحياء بقول الواحد بأنَّ الحمّام لديهم هو الأجمل.

246. ونستطيع أن نحكم على غنى الينابيع بحسب عدد البيوت. فعدد البيوت كعدد عيون الماء. أو بالأحرى أكثر من عين للبيت الواحد. وحتّى بين المصانع، أكثرهم ينعمون بهذه الزينة.

247. لهذا لا تجد عندنا قتالاً حول عيون الماء العامّة: من يستقي قبل جاره. فهذا حرمان يؤلم أكثر من مدينة غنيّة بالذهب: هناك يتزاحمون قرب الماء، يبكون لجرار مكسورة، هذا بالإضافة إلى الضرب والجروح. أمّا عندنا، ولأنَّ لكلِّ واحد عين مياه في بيته(65)، لا تجرى العيون العامّة إلاّ للمظهر.

248. أمّا صفاء المياه، فنختبره حين نملأ الوعاء ثمّ نوقف الماء. فنظنُّ أنَّ اللكن فارغ، لأنّنا نرى عمقه واضحًا تحت الماء. وهكذا لا أدري إن كانت رؤية هذا الماء تشعل العطش أو تهدئه: هو في الوقت عينه، يحثُّنا على الشرب ويُبهجنا قبل أن نشرب.

9- جمال مختلف الأحياء في أنطاكية

249. أمّا النقطة التي اعتدتم أن تقيموا حولها نقاشًا هادئًا، فيستحيل القرار، لأنَّ المساواة حاضرة في كلِّ مكان. تنتصرون على الآخرين، بدون شكّ. ولكنَّكم في ظروف مشابهة، يقف الواحد تجاه الآخر.

250. فالذين يسكنون الحيَّ الشرقيَّ(66) يقولون إنَّ القسم الأكبر من الحبوب يمرُّ عندهم. وفي الوقت عينه، يُبرزون عين ماء الإسكندر(67). والذين يقيمون في الغربيّ(68) يستندون إلى غنى حيِّهم بالأشجار، إلى نظافة أكبر، إلى اقتراب من أحلى المواضع، من دفنة. والذين يقيمون على جانب الجبل يفتخرون بالنسائم الطيِّبة، بابتعادهم عن الأمور التجاريّة، وأنَّهم يقدرون أن يروا المدينة بمجملها. والذين يسكنون المدينة الجديدة يُنشدون سورَهم، الجزيرة، القصر، الترتيب في الحيِّ كلِّه. والذين يقيمون في الوسط، أنَّهم في الوسط. فمن يقدر أن يختار حين يسمعهم، ساعة هؤلاء وأولئك يتوازنون على هذه الصورة؟

 

10- ازدهار سوق البيع والشراء

251. فروح التزاحم هذا، يحرِّك في كلِّ حيٍّ رغبة بأن يكون عند الواحد أكبر عدد من المنافع، فلا يأخذه منّا أبدًا إله من الآلهة. ولكن ماذا نقول الآن عن كثرة البضائع؟ هل من وفرة مشابهة؟ أين نجد مثل هذه الكفاية؟ فهي منتشرة في المدينة كلِّها، بحيث إنَّ اسم »سوق البيع والشراء« لم يُحفظ لجزء واحد من المدينة(69)، وبحيث لا حاجة إلى الاجتماع في موضع واحد من أجل المشتريات. بل كلُّ واحد يجدها تحت رجليه، أمام بابه، ويكفي أن يمدَّ يده ليأخذها.

252. فلا نقدر أن نكتشف شارعًا مهملاً أو ضائعًا في طرف المدينة، يرسل سكّانه إلى حيٍّ آخر ليشتري الطعام الضروريّ. فالمركز مزدحم وكذلك الأطراف. وكما أنَّ الكلَّ مملوء أناسًا، كذلك امتلأ الكلُّ من أشياء تُباع.

253. وقد حصل أن تمرَّ أمام عدد من هذه البضائع دون أن تلقي نظرة لأنَّك لست بحاجة: ولكن لا نموذج يَقول إنَّ شخصًا خرج ليشتري شيئًا وما وجده في السوق. فالأغراض المستنبطة للرفاهيّة، تزاحم الضروريّ، وفي الحاضرة موضعٌ لهذا الجيب ولذاك: تكفي الفقير وتخدم رغبات الغنيّ. يريدان التنعمُّم فتقدِّم لهما الطعام الشهيّ، كما تقدِّم للمساكين الطعام المناسب. ليست أدنى من طلبات البعض ولا أغلى بالنسبة إلى الآخرين. وما هو محبوب عندها هي أنَّها تعتني بالفقير وتهيِّئ له وليمة غنيّة، ولا تتيح له أن يعيش خاملاً، بل تضيف اللذّة إلى العيش.

 

11- حوانيت أنطاكية

254. ونلاحظ سمة تدلُّ على ما في سوقنا من أمرٍ خارق. فالمدن التي اعتادت أن تفتخر بغناها، لا تُبرز صفٌّا من البضائع، التي هي أمام البيوت، وما من أحد يتاجر في فسحات العواميد. أمّا عندنا، فهناك حوانيت للبيع بحيث إنَّ كلَّ بيت يجد أمامه(70) دكّانًا كوخًا مع سطح من بلاَّن. وما من موضع إلاّ واحتلَّته هذه الأبنية المصنوعة بالأيدي. بل إن وضعَ أحدٌ يده على جزء من حافّة (الرواق)(71)، يقيم هناك دكّانًا للخياطة أو غيرها. ويتعلَّق التجّار بهذه المواقع كما بحبال، على مثال عولس بتينته (الأوذيسة 12: 632).

 

12- سوق مفتوح نهارًا وليلاً، ووفرة السمك

255. مهما كان رائعًا تنظيم السير، فنحن نُعجَب بتواصله الذي لا ينقطع. فالذين يذهبون صباحًا للتبضُّع، لا يجدون بضاعة أكثر ممّا يجد أولئك الذين يشترون مساء. فكما أنّنا نجد في كلِّ ساحة حجم الماء عينه، كذلك نجد البضائع حاضرة(72) دائمًا في السوق. بل الوصول في الليل(73) لا يوقف النشاط التامّ. فنجد عندنا أفضل ممّا يفتخر به الأحباش (هيرودوت 3/17-18).

256. فهؤلاء يقدِّمون عند طلوع الشمس مائدة الشمس(74) وعليها اللحوم. في الحقيقة، كان ذلك عملَ الحكّام الذين وضعوا في الليل اللحوم على الطاولة. ولكنَّهم يتخيَّلون هذا الخبر اللامعقول وكأنّنا أمام نتاج طوعيّ من الأرض. أمّا عندنا، فلا نعرف الوقت الذي فيه ترتَّبت البضائع. ما نراه فقط هو عظمتها. فالنهار لا يتغلَّب على الليل، بل ليلاً ونهارًا كلّ شيء هو هنا بوفرة متساوية.

257. فإن حصل أن أتى مسافرون ليلاً في المراحل الأخيرة، فهم لا يخافون أن يمضوا إلى المدينة لأنَّهم أكيدون بأن يجدوا الرفاهيّة في قلب الليل(75). فهم يستطيعون أن يستحّموا ويتعشّوا أفضل من أناس دُعوا إلى وليمة القصر، وكأنَّ طبّاخين أُرسلوا من قبل ليهيِّئوا هذا الطعام.

258. كلُّ شيء هو في متناول اليد. وبالأخصِّ لا حاجة للركض طلبًا للسمك في كلِّ جهة: يكفي أن تسمع الشارين الذين ينادون. فنحن أبناء الأرض اليابسة نمتلك وفرة سمك أكثر من العائشين على شاطئ البحر: فمع أنَّ المسافة كبيرة بيننا وبين البحر، فالصيّادون يحملون إلينا ثمار شباكهم، وتدخل تلال السمك(76) كلَّ يوم إلى المدينة.

259. إنَّه لأمر طيِّب، في أنطاكية، أن لا يُحرَم الفقراء من هذا الطعام. فالقدَر(77) يمنح كلَّ إنسان الطعام المناسب: يوزِّع للأغنياء نتاج البحر(78)، وللآخرين نتاج البحيرة(79). ويعطي للطبقتين نهرًا مشتركًا، فيغذِّي الأغنياء بسمك يصعد من البحر إلى النهر، والآخرين بكميّة كبيرة من الباقي كلِّه.

 

13- سهولة النقل في النهر وفي البحيرة

260. بالنسبة إلى الحاضرة، فمنفعة النهر والبحيرة لا تنحصر في إغناء المائدة: كلُّ ما تعطيه الأرض يحملانه إلى المدينة، لأنَّهما يسهِّلان النقل ولا يفرضان علينا أن نكتفي بنقل الحبوب على الدواب. فالنهر والبحيرة اقتسما البلاد(80). واحد يجري بين الأراضي التي لا تجد عونًا في البحيرة، وأخرى تمتدُّ في منطقة لا تعرف مساعدة النهر. وهكذا بسفن تجري على النهر، يحملان نتاج الحقول إلى المدينة.

261. أوَّلاً ينقلانها فيتقاسمان المهمّة، ثمّ يحلُّ النهر محلَّ الاثنين: يتسلَّم في سفنه ما تسلِّمه البحيرة ويحمله إلى وسط المدينة، فيوصل حزمة البضائع أمام باب كلِّ إنسان، بحيث تتمكَّن النساء والأولاد من أخذ المحاصيل. هذا يختلف كلَّ الاختلاف عمَّا يحصل في تاسبروتيد(81). هناك يصبُّ النهر في المستنقعات. أمّا هنا، فالنهر يأتي بعد المستنقعات.

262. وتلك هي الفائدة الكبرى، لأنَّ مجرى النهر بين الحاضرة والبحر(82)، يبقى صالحًا للملاحة بالرغم من الرمل، كما هو الأمر في النيل مرارًا. وهذا القسم الأخير من النهر لا يبقى لنا بدون نشاط بل يستحقّ مديحًا استعمله بندار(83) من أجل هيباريس في كمارين(84): »مجراه السريع يجمع غابة من البيوت المتينة«، لأنَّه يمنح الخشب(85) (لبناء البيوت) الآتي من كلِّ جهة لكي يصل إلى المدينة.

14- مرفأ أنطاكية

263. ها أنا أفكِّر في مصبِّ النهر. لهذا أذكر المرفأ(86). حوَّله الإمبراطور(87)، وما اهتمَّ للعوائق التي يمكن أن تكون في طريقه. حُفر مرفأ في صخر سلوقية. حُفر لفائدة أنطاكية بثمن غالٍ من الذهب لم يحتفظ كريزوس(88) بمثلها.

264. منذ ذلك الوقت، كلُّ أنواع السفن التجاريّة(89) تحطُّ من كلِّ جهة فتحمل منتوجات البلدان كلِّها: ليبيا، أوروبّا، آسيا، الجزر، القارّات. أجمل ما في كلِّ مكان، يأتون به إلى هذا المكان، لأنَّ حسَّهم التجاريّ يجتذب إلى هذه البلاد عقولَ التجّار. فبفضلهم نحصل على الثمار من الأرض كلِّها. وأكثر الأشرعة التي بُسطت في البحر، قد طواها هذا المرفأ.

 

15- الحياة في أنطاكية عيد متواصل(90)

265. فهل نعجب بعد ذلك إن شابهت حاضرتُنا أقرب ما يكون، عيدًا كاملاً(91)، لأنّنا نقيم في مثل هذه الأرض، وننعم بهذا المرفأ، ونستعين ببحيرة، ونشارك في مجرى النهر.

266. فأين نجد في موضع آخر عيدًا تتوافر فيه كلُّ المنافع كما هو الحال هنا في كلِّ وقت؟ من لا يفكِّر في أوَّل نظرة يلقيها على المدينة أنَّه وصل إلى العيد الشهريّ(92)؟ من يكون حزين الروح ولا يدفعه هذا المنظر إلى البهجة؟ أين نجد في مكان آخر هذا الفيض من الملذّات؟ أيُّ شيء يكون مناسبة للذّة: حلاوة الهواء. سحر الحمّامات. بهاء السوق التجاريّ. والشتاء يمنحنا دومًا حرارة الشمس. والربيع يشعُّ بالزهور. والصيف(93) يحمل ألوان الثمار ويجعل من المدينة مرجًا مزهرًا بالرياحين التي ينشرها. والنزهة وسط كثرة هذه الأشياء التي نشتري، هي أطيب من الطيور في الحديقة، واللقاءات في الساحة العامّة، والحياة داخل المنزل. أما يكفي بهجة العين، جمهور يجري كالموج في المدينة؟ أما يلومون هوميرُس لأنَّه امتدح هبنوس(94) وأكثر؟

267. فليس بصحيح، أقلَّه هنا، أنَّ (هبنوس) »ملك البشر« يجتذبهم إليه »رغمًا عنهم« وينيِّمهم بالقوّة. أمّا نحن فوحدنا بين الجميع حرَّكنا التسلِّط الذي يمارسه على الجفون: فبعد شعلة الشمس تأتي الأنوار التي تتفوَّق على عيد المصابيح في مصر. والليل عندنا لا يختلف عن النهار إلاَّ بطبيعة النور(95). ومن أجل ممارسة صنعة من الصنعات، على الأقل، هناك تساوٍ بين الليل والنهار: بعضهم يجهدون في الأعمال اليدويّة، والآخرون يضحكون ضحكًا محبَّبًا ويستسلمون للأغاني. فالليل حصّة الجميع: هيفايستس(96) وأفروديت. بعضهم يضربون الحديد، والآخرون يقومون بالرقص. في أيِّ حال، يكرِّمون أنديميون(97) في بلد آخر.

268. كم فئة من الناس لا تخدمهم حاضرتُنا؟ أما هنا كلُّ سهولة لأصحاب البنوك(98) لكي يغتنوا، للماهرين في فن الكلام ليبلغوا إلى المجد، للذين يرغبون في التنعُّم لكي يجدوا نعيمهم؟ فالمدينة توافق حياة من الجهد تتكيَّف مع حياة من اللذة. عندنا سباق الجياد دون أن يزعجنا زمرة الحرّاس(99)، وتسليات المسرح. ومناسبات الفرح توازي الهموم. أما نقلنا إلى هنا عظمة الألعاب الأولمبيّة، وتجاوزنا الذين علَّموها للناس بإكرام نؤدِّيه لزوش؟

269.

270. أيَّ مدينة يحقُّ لهم أن يقابلوها مع مدينتنا؟ هي أكثر سعادة من المدن القديمة (مثل أثينة). وتتفوَّق على الأخرى بكبرها، وتتجاوز الغير بنبلها، وأخرى بخصب أرضها بكلِّ محصول. إن سبقتها مدينة بمحيط أسوارها(100) (لا شكّ، القسطنطينيّة)، فهي تتفوَّق عليها بكثرة الماء، بنعومة الشتاء، بمدنيّة السكّان، بممارسة الحكمة. وتظفر بالجمال أيضًا على مدينة أكبر (ربَّما، رومة) بأجمل شيء، وهو الحضارة اليونانيّة وفنُّ الخطابة.

271. وبكلمة، إن قابلناها نجد البعض صغيرة، والأخرى بلا نعمة في الاتِّساع. أمّا هنا، فالإلاهة أم إيروس قد أفاضت النعمة على الاتِّساع. وحين تترك هذه المدينة لتمضي إلى مكان آخر، يلاحقك ذكرُ هذه. هل جئت من موضع آخر إلى هنا، تنسى كلَّ الأشياء السابقة. لهذا يجب أن نسامح أولئك الذين يتركون الوالدين والوطن بعد أن أثَّر عليهم شراب أنطاكية: رأوا مدينة ما رأوا مثلها، وعرفوا أنَّهم لن يجدوا ما يشبهها(101).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM