ا لفصل الثامن عشر: أنطاكية القديمة ونشأة المسيحية فيها

ا لفصل الثامن عشر: أنطاكية القديمة ونشأة المسيحية فيها

 

احتلّت أنطاكية، عاصمة السلوقيّين، مكانة هامّة في العالم القديم، فضاهت الإسكندريّة ورومة. أمّا اليوم فهي مدينة صغيرة في تركيّا، لا يصل عدد سكّانها إلى أربعين ألف نفس. ساعة قال سترابون المؤرّخ (63 ق م - 25  ب م) إنّ عدد سكّانها يتعدّى نصف مليون نسمة. هذه المدينة التي يمرّ نهر العاصي اليوم في وسطها فيعطيها بعض البرودة، قُسمت اليوم قسمين: عن يمين نهر العاصي المدينة الحديثة، والمدينة القديمة أو بالأحرى التي تعود إلى القرون الوسطى، على منحدرات جبل سيلفيوس. عن هذه المدينة سنتحدّث منذ تأسيسها على يد سلوقس نيكاتور، إلى قمّة عظمتها في بدايات المسيحيّة. نُنهي بكلام عن الآثار التي ما زالت تدلّ على تلك التي فيها دُعيَ تلاميذ يسوع للمرّة الأولى »مسيحيّين« (أع 11: 26).

 

1- تأسيس أنطاكية

تأسّست أنطاكية سنة 300 ق. م. على الضفّة اليسرى لنهر العاصي، على سفح جبل سيلفيوس. أسّسها سلوقس نيكاتور (358- 281) بعد انتصاره على أنطيغونس في إبسوس، وسمّى المدينة الجديدة باسم أبيه أنطيوخس، الذي رافق الإسكندر الكبير في حملاته العسكريّة. كان موقع أنطاكية مميّزًا على المستوى الجغرافيّ، فاغتنت سريعًا وازدهرت، فصارت مدينة التجارة والثقافة.

ولمّا احتلّ بومبيوس الرومانيّ سورية، سنة 64 ق. م.، صارت أنطاكية عاصمة مقاطعة سورية الرومانيّة. فكانت المدينة الثالثة بعد رومة والإسكندريّة. بلغ عدد سكّانها 300,000 نسمة، يضاف إليهم 200,00 من العبيد. امتزج فيها العنصر اليونانيّ والعنصر الساميّ، كما كانت فيها جالية يهوديّة هامّة(1).

هنا نتذكّر السلالة السلوقيّة التي جاءت بعد انقسام مملكة الإسكندر الأكبر، سنة 312، فحاولت أن تكون مركز إشعاع يونانيّ وسط »برابرة«. فامتدّت هذه المملكة من البوسفور (تركيّا) إلى الهند، وعرفت الأعراق واللغات والديانات المختلفة، كما عرفت أنماطًا عديدة من التنظيم السياسيّ: شعوب هندوأوروبيّة أو ساميّة، لغة فارسيّة ولغّة آراميّة ولغّة يونانيّة. عُبد في هذه البلدان زرادشت، ويهوه وبعل سورية وأرطاميس في أفسس وغيرها من الإلاهات. ما الذي وحّد كلّ هذه الأصقاع؟ شخص الملك. فبجانب الحروب المتواصلة التي مات فيها عشرة ملوك سلوقيّين من أصل أربعة عشرة، هناك عهود مع ملوك »صغار« وشعوب ومعابد وحواضر. وما تميّز به السلوقيّون بشكل خاصّ، هو بناء المدن الجديدة التي تسمّت أنطاكية باسم أنطيوخُس أو سلوقية باسم سلوقس. ونذكر على سبيل المثال أنّ سلوقس الأوّل أسّس سبعين مدينة، منها ستّ عشرة باسم أبيه. مدن في آسية الصغرى أو تركيّا الحاليّة، على الطريق المؤدّية من سورية الشماليّة إلى الخليج الفارسيّ. غير أنّ قلب المملكة ظلّ سورية الشماليّة مع أربعة مراكز، أنطاكية على العاصي، مرفأ سلوقية، أفامية أو قلعة المضيق، ولاذقيّة البحر. وتُذكر أيضًا بيرويه (أي حلب)، قورش، خلقيس(2)...

كيف بدت أنطاكية في بداياتها؟ بدأ سلوقس، كما يقول سترابون (16: 2) فبنى قسمًا أوّل. بعد ذلك، بنى حيٌّا ثانيًا وأسكن فيه أناساً من اليونان. وبنى حيٌّا ثالثًا سلوقُس الثاني كالينيكوس (246-225) في جزيرة داخل نهر العاصي، ودعاها نيابوليس أو المدينة الجديدة. وارتفع حيّ رابع على سفح جبل سيلفيوس بيد أنطيوخس الرابع إبيفانيوس (174-164). كان لكلّ من هذه الأحياء الأربعة تحصيناته الخاصّة، وهذا ما جعل سترابون يسمّي المدينة ''تاترابوليس'' أو المدن الأربع (رج طرابلس أو المدن الثلاث). وبما أنّه كان أكثر من مدينة اسمها أنطاكية، سمّيت أنطاكية هذه تلك التي على دفنة. ارتبط هذا الاسم بغابة من الغار تبعد أربعين فرسخًا عن المدينة مع هيكل الإله أبّولون والإلاهة ديانا، وهناك كان أهل أنطاكية يحتفلون بأعيادهم. هنا نشير بطريقة عابرة أنّ رئيس الكهنة اليهوديّ أونيّا الثالث الذي حطّه أنطيوخس إبيفانيوس من وظيفته لجأ إلى دفنة. وما إن خرج من السور المقدّس حتّى قُتل (2 مك 4: 30-35).

سُمّيت أنطاكية »العظمى«(3) واحتفظت زمنًا طويلاً بهذا الاسم. في الحقبة البيزنطيّة، سمّيت في عهد يوستينيانس تيوبوليس أو مدينة الله. بهذا الاسم سوف يدعوها المؤرّخون العرب المسيحيّون(4).

عرفت المدينة إدارة مستقلّة، قسّمت 18 قصبة ومجلس بلديّ، وامتدّت في أحياء جانبيّة حمل بعضها اسمًا سريانيٌّا. هذا يعني أنّ المدينة تكلّمت اليونانيّة، أمّا الضواحي فالأراميّة والسريانيّة. هنا نتذكّر أنّ الليتورجيا كانت تتمّ، داخل المدينة، في اللغة اليونانيّة، مع عظة في اليونانيّة. أمّا في الضواحي، فكانت الليتورجيا سريانيّة مع قراءة النصوص المقدّسة في اليونانيّة والسريانيّة مع عظة في السريانيّة.

هذه المدينة التي دمّرتها الزلازل، وأكمل عليها كسرى سنة 538، خسرت من أهمّيتها. ومع الاحتلال العربيّ، سنة 637، انحطّت انحطاطًا سريعًا. احتلّها الصليبيّون سنة 1098 فصارت مركز ولاية، مع بطريرك لاتينيّ. استعادها بيبرس، سلطان مصر سنة 1268، قبل أن تنتقل إلى السلطنة العثمانيّة، بحيث عدّت سنة 1990، سبعة وثلاثين ألف نسمة.

يعطينا كارالفسكي صورة عن مدينة أنطاكية حوالي سنة 1920. مدينة حزينة، تضمّ بين 20,000 و30,000 نسمة، منها 12,000 مسلم، 10,000 نصيريّ، 4,500 ملكيّ أرثوذكسيّ، مع أرشمندريت وثلاثة كهنة متزوّجين، 50 لاتينيٌّا ومارونيٌّا يخدمهم أبوان كبّوشيّان، ويهتمّان بمدرسة للصبيان، مع مدرسة للبنات تديرها ثلاث أخيّات من القدّيس يوسف. وهناك 400 أرمنيّ أرثوذكسيّ، و20 من الملكيّين الكاثوليك(5).

 

2- أنطاكية المسيحيّة

حمل الإنجيل إلى أنطاكية مسيحيّون من أورشليم، شتّتهم الاضطهاد الذي حصل على أثر مقتل اسطفانس (أع 11: 19-20). أقام بولس وبرنابا سنة كاملة (سنة 43) في هذه المدينة، حيث دُعي المؤمنون هزءًا واحتقارًا »مسيحيّين«. فالمسيحيّون يرتبطون بالمصلوب، والصليب جهالة في نظر الوثنيّين (1 كور 1: 23)، والقيامة التي تحدّث عنها بولس أمام اليونانيّين في أثينة، جعلت الناس يتركون هذا »الثرثار« (أع 17: 18) ويهزأون به (آ 32). وسوف تكون أنطاكية نقطة الانطلاق في الرسالة بالنسبة إلى بولس والفريق الرسوليّ. انطلق منها في الرحلة الرسوليّة الأولى (أع 13: 1) عبر مرفأ سلوقية ( آ 4) برفقة برنابا ومرقس. وعاد إليها فقدّم تقريرًا روى فيه كيف فتح الله باب الإيمان للوثنيّين (أع 14: 26-27). وإلى أنطاكية وصلت أوّل ما وصلت مقرّرات »مجمع أورشليم« الذي عُقد سنة 49-50 (أع 15: 22). بعد ذلك، كان انطلاق في رحلة رسوليّة ثانية (أع 15: 35) جعلتهم يجولون سورية وكيليكية (آ 41) قبل أن يصلوا إلى أوروبّا. وبعد محطّة سريعة في أنطاكية (أع 18: 22)، انطلق فريق بولس الرسوليّ في رحلة رسوليّة ثالثة. ولكنّه لن يعود إلى أنطاكية، بل إلى أورشليم حيث يُقبض عليه ويُرسل مخفورًا إلى رومة.

هنا نفهم كيف أنّ أنطاكية صارت مركز المسيحيّة الهلّينيّة، أي المرتبطة بالحضارة اليونانيّة، تجاه أورشليم التي لبثت مركز المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ. وبدا هذا الصراع على أشدّه خلال عشاء أخويّ ضمّ جميع المسيحيّين من أصل يهوديّ والمسيحيّين من أصل وثنيّ. ولكن لمّا جاء أناس من عند يعقوب، أي من أورشليم، اعتزل بطرس وتبعه برنابا والآخرون، وهكذا كانت القسمة تامّة بين مسيحيّين يرتبطون بأنطاكية ومسيحيّين يرتبطون بأورشليم، بحيث قُسمت حقول الرسالة بين بطرس وبولس: الأوّل بين اليهود، والثاني بين الوثنيّين (غلا 2: 11-21).

وهكذا اتّخذت أنطاكية مكانة كبيرة في العالم المسيحيّ. فإليها توجّه إنجيلُ    متّى، على ما يبدو، وفيها المسيحيّون من أصل يهوديّ الذين يجدون نفوسهم مثلاً في خطبة يسوع إلى الرسل (متّى 10: 5-8). والمسيحيّون من أصل وثنيّ فهموا أهميّة الإيمان، فاعتُبروا من أهل البيت مثل السوريّة الفينيقيّة (متّى 15: 28) التي كان لها ما أرادت من شفاء لابنتها. ومثل قائد المئة الذي تجاوز إيمانه كلّ إيمان وجده يسوع في إسرائيل (متّى 8: 10). ويبدو أنّ إنجيل لوقا توجّه أيضًا إلى الطبقة المثقّفة في أنطاكية، ومع سفر الأعمال، بدليل التشديد على هذا المركزِ الرسوليّ الجديد الذي قابل المركز القديم، أورشليم. ما سمّاه متّى ومرقس جليل الأمم حيث التقى يسوع تلاميذه بعد قيامته، صار في نظر لوقا أنطاكية، حيث بدأت الكنيسة بشكل عام تبشّر المسيحيّين. فسفر الأعمال يخبرنا أنّه بعد تشتّت المسيحيّين من إورشليم، كانوا يعلنون الكلمة فقط لليهود (11: 19). ولكن سوف يتحوّل الوضع سريعًا. »فلمّا قدموا أنطاكية، أخذوا يكلّمون اليونانيّين (= الوثنيّين) أيضًا ويبشّرونهم بالربّ يسوع« (آ20).

من أنطاكية انطلق بولس نحو الغرب. ومن أنطاكية انطلقت البشارة نحو الشرق، فوصلت إلى بلاد الرافدين، بل إلى بلاد فارس . وقد لعب أسرى الحروب بين بيزنطية وبلاد فارس دورًا كبيرًا، وكان يرافقهم الأساقفة مرارًا(6). غير أنّ المرسلين وصلوا إلى الرها ونصيبين، وعبر العالم السريانيّ سيصلون إلى الهند، بل إلى الصين ومنغوليا، بدليل وجود الكتابات السريانيّة في تلك الأصقاع.

مرّ بطرس في أنطاكية حوالي سنة 48-49 كما تقول الرسالة إلى غلاطية (2: 2-11). واعتبر التقليد أنّه كان أوّل أسقف فيها. قال أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ (3/36: 2): »وعُرف بابياس أسقف هيرابوليس... واغناطيوس الذي كان أسقف أنطاكية بعد بطرس«. ذكرنا اغناطيوس الذي سيموت شهيدًا في رومة حوالي سنة 107. ونذكر تيوفيلس الذي كتب دفاعًا إلى أوتوليكوس حوالي سنة 180. وبولس الشميشاطي الذي شارك في مجمع نيقية سنة 325. والقانون السادس في مجمع نيقية ثبّت مكانة أسقف أنطاكية وامتيازاتها، بعد أسقف رومة وأسقف الإسكندريّة. والاضطرابات التي تلت الآونة الأريوسيّة بلبلت كنيسة أنطاكية التي انعقد فيها أكثر من مجمع محلّيّ، منها مجمع سنة 341 الذي ألغى لفظ »مساوٍ في الجوهر«. وبعد سنة 361، وُجد ثلاثة أساقفة على أنطاكية، اثنان كاثوليكيّان وواحد أريوسيّ. وسيمتدّ انشقاق أنطاكية حتّى سنة 415.

نتوقّف عند هذا القدر من الكلام عن المسيحيّة التي نمت في أنطاكية وانتشرت منها، لنتطرّق إلى ما بقي من آثار في مدينة عرفت تقلّبات الطبيعة واضطرابات الحروب، إلى أن صارت ما صارت إليه اليوم بعد أن حلَّت على حدود تركيّا.

 

3- آثار مدينة أنطاكية

يذكر المؤرخون الزلازل العديدة التي ضربت المدينة، ولا سيّما بين القرن الرابع والقرن السادس، سنة 341، 365، 396، 458، 526، 528، 531، 577، ..588. واحترقت أكثر من مرّة: سنة 70، 138، ..525. وكانت تحت الحصار. هذا يعني أنّ الآثار التي ظهرت في أبهى جمالها حتّى القرن الرابع زالت كلّها. ولكن إن لم يبقَ من الحجر شيء، فالكتب تحدّثنا عن هذه المدينة التي كانت عاصمة مملكة واسعة الأطراف.

ونبدأ مع رجل البلاغة ليبانيوس (314-393) الذي كتب أنطيوخيكوس، أي ما يتعلّق بأنطاكية. أخذ بفنّ أدبيّ خاصّ يقوم بوصف مدينة أو تحفة فنّيّة في إطار خطبة(7). ماذا قال ليبانيوس؟ في الشارع الكبير الذي في وسط المدينة، والمنطلق من الشرق إلى الغرب مع أروقة بطابقين، ارتفع معبد الحوريّات برخامه اللامع وعواميده المتعدّدة الألوان وبهاء جدرانيّاته وغنى سبله. ففي جزيرة تكوّنت بفصل النهر إلى رافدين، وارتبطت بخمسة جسور بالأرض، ارتفع قصر الإمبراطور الذي غطّى ربع المسافة، وترك الباقي لتسكن الأفراد. ووُجدت أيضًا المباني العامّة والمعابد والحمّامات. كلّ هذه نستطيع الدخول إليها من الأروقة. ويتوسّع ليبانيوس في الكلام عن الأروقة، لأنّها كانت جميلة جدٌّا، ولأنّها أتاحت علاقات إنسانيّة بين أجزاء المدينة. هناك يُسمع خبر حلو، تُعطى نصيحة، تقدّم كلمة عزاء لصديق في الحزن، أو تشجيع لرفيق يئس من الحياة. »فحين لا تكون أروقة أمام المنازل، يفصل الزمن الرديء البشر بعضهم عن بعض: في الأصل، هم يقيمون في مدينة واحدة. وفي الواقع، هناك الانقسام بينهم كما بين سكّان مدن مختلفة«.

هذه النظرة إلى تنظيم المدينة، وزّعت الأماكن التي يمكن أن يلتقي فيها الأنطاكيّون: موضع سباق الخيل بمدرّجاته الواسعة للمواطنين. المسرح وما فيه من مشاهد... ويشدّد ليبانيوس على ما تمّ من بناء في أيّامه، حيث كانوا يزرعون البقول، ارتفع البناء. هذا يعني أنّ سكّان الريف بدأوا يتوافدون إلى المدينة. كادت تكون المدينة أربعة أضعاف ما كانت عليه، لو لم تضربها الزلازل ثلاث مرّات (يذكر ما حصل سنة 148 ق.م.، سنة 37، 115 ب. م.) وعلى حدود هذه المدينة الفتيّة والنشيطة، نجد ضواحي مليئة بالسكّان. ولكن تبقى دفنة أجمل موضع في أنطاكية وجوارها.

أنت تصل إلى دفنة من جهة الشرق. »ما إن تجتاز العتبة حتّى تجد إلى الشمال حدائق ذات ألوان مختلفة، ومساكن ناعمة، وسبلاً غزيرة وبيوتًا مخفيّة بين الأشجار، وعمارات ترتفع فوق الأشجار، وحمّامات رائعة. هو مكان يليق بأفروديت وحامل قوسها«. ويتابع ليبانيوس: »أمّا دفنة نفسها، فما من أحد أحسن التكلّم كما يليق بها«. ويعدّد هذا الخطيب الشهير جمالاتها: معبد أبولّون، هيكل زوش، المسرح، أشجار السرو بعطرها. وأهم ما في المكان هو الماء الذي ينساب في كلّ مكان، فيَصل إلى قلب المدينة.

فأنطاكية بلدة المياه بسبب نهر العاصي، ومدينة التجارة كلّها، ولا ينحصر التبادل في حيّ من أحيائها. وهي مدينة موضع الأعياد المتواصلة حيث حياة البذخ والترف. فهي المدينة المضاءة في الليل، على شبه بعيد مع مدننا الحديثة. وقد قيل: الليل يخصّ هيفايستوس وأفروديت. فأصحاب هيفايستوس يعملون في الحديد، وجماعة أفروديت تمارس الرقص. فإله النوم لا مكان له في أنطاكية.

بما أنّ ليبانيوس لم يكن مسيحيٌّا، فهو لم يتحدّث عن الأبنية المسيحيّة التي وُجدت في أيامه، سواء الكنائس في وسطها أو الأديرة في جوارها، وكلّها تكاثرت بعد السلام وقرار ميلانو سنة 313.

أمّا أقدم كنيسة فبدأوا ببنائها في أيام قسطنطين، سنة 327، وانتهوا من العمل فيها بعد عشر سنوات في أيّام كونستانس خلفه. وقد وصفها أوسابيوس مرّتين، في حياة قسطنطين، ثمّ في خطبة امتداح ألّفت في الذكرى الثالثة عشرة للأمبراطور. تظهر هذه الكنيسة بشكل عمارة كبيرة جداً وذات جمال لا يوصف. كانت ذات ثمانية أضلاع، تحيط بها بشكل الغرف وقاعات الاجتماع على ما كان في المعابد الوثنيّة التي اعتاد أن يجتمع فيها أصحاب مهنة من المهن كي يناقشوا أمورهم أو يحتفلوا بعيد »شفيعهم«. كانت القبّة من خشب وكانت عالية جداً كما قال الذهبيّ الفمّ. غُطّيت الأرضُ بصفيحات من حجر والسقف بوريقات من ذهب. كانت الجدران والعواميد من الرخام يزيّنها النحاس والذهب. لم يعد من أثر لهذه الكنيسة. ولكننا نظنّ أغلب الظنّ أنّها كانت نموذج كنيسة مار سمعان العموديّ(8). فما تبقّى من آثار يدلّ على جمال الهندسة. سمّاها الشعب تارة »الكنيسة المثمّنة الأضلاع« أو »الكنيسة الكبرى« أو »الكنيسة المذهّبة«. ودُعيت أخيراً »الكنيسة الجديدة« كي تتميّز عن الكنيسة القديمة أو الكنيسة الرسوليّة التي قيل فيها إنّها كانت قاعة تعود الى زمن الرسل.

هذه الكنيسة التي بُنيت قرب قصر الإمبراطور، كما كان قصر سليمان قرب الهيكل في أورشليم، تضمّنت مضافة للغرباء. ولا شكّ في أنّه كان بقرب الكنيسة جرن العماد بشكل يشابه ما وُجد قرب كنيسة مار سمعان العموديّ. فالهندسة صارت شبه كلاسيكيّة، وقد كُشف مثلها في جرش (في الأردنّ) في حلبيه (على الفرات) وفي قبرص.

وبُنيت في أنطاكية كنائس أخرى، بجانب الكنيسة الكبرى. وهكذا وُجدت المباني المسيحيّة بجانب المباني التي صوّرها ليبانيوس. هنا نشير الى أنّ والياً اسمه روفينس بنى معبداً على اسمه في المدينة القديمة. وإذ أراد أن يوسّعه، هدم معبد هرمس الذي كان بجانبه. وسيأتي وقت تصبح فيه أنطاكية مدينة الكنائس. وقد أحصيَ منها عشرون، داخل أنطاكية أو في الضواحي، سواء كانت »مرتيريون« أو موضعاً تجعل فيه رفات القدّيسين أو ذخائرهم، مثل ذاك الذي تكشف آثارُه قرب كنيسة مار سمعان. فهناك مرتيريون القدّيسة أوفامية، والقديس إسطفانس، والقدّيس ليونيوس. وتُذكر كنائس القدّيس ميخائيل ومريم العذراء، ويوحنا المعمدان، والقدّيسين كوزما ودميان والقدّيس سمعان العموديّ. بُنيت كنيسة لتضمّ رفاته، ولكنها لم تصل هذه الرفات الى أنطاكية. وهناك كنيسة على اسم القدّيس اغناطيوس، أسقف أنطاكية، التي كانت في الأصل هيكل إله الحظّ، وكنيسة المكابيّين كانت في الأصل مجمعاً يهودياً، ضَمّت على ما يبدو رفاتَ الأم مع أبنائها السبعة الذين قتلهم أنطيوخس الرابع إبيفانيوس. إذا قرأنا سفر المكابيين الأوّل، نفهم أنّ مقاومة المكابيّين تمّت في أورشليم وجوارها (3: 37؛ 11:20). وفي سفر المكابيّين الثاني، نفهم أنّ ألعازار استُشهد في أورشليم، بل في الهيكل (ف 5-6). ويذكر الفصل السابع من السفر عينه »سبعة أخوة مع أمهم« (آ1). ولكنّ تقليداً يعتبر أنّ هؤلاء ماتوا في أنطاكية، حيث يقيم الملك السلوقيّ، لا في أورشليم. وأعطيَ اسم للأم: شموني(9).

إنّ عددًا من هذه المعابد المسيحيّة نعمت بصوت يوحنّا الذهبيّ الفم الذي كان تلميذ ليبانيوس. هو لم يكتب، شأنه شأن معلّمه، وصفًا لهذه الكنائس التي اعتادت أمّه أنتوسة أن تقوده إليها منذ صغره، ولكنّه رسم في عظاته لوحة عن جماعة المؤمنين، عن الطبقات الاجتماعيّة، عن رذائل المدينة، وعن الصعوبات التي عرفتها. ولا سيّما في علاقاتها مع العاصمة بيزنطية. يكفينا أن نذكر ما عمله يوحنّا، وهو بعد كاهن، ليدافع عن مدينته من غضبة تيودوسيوس الكبير، بعد أن كانت ثورة المدينة حطّمت تماثيل الإمبراطور وعائلته.

هذه الأنطاكية المسيحيّة زالت، كما زالت معها الأنطاكيّة الوثنيّة التي وصفها ليبانيوس. فلم يبقَ سوى كنيسة صغيرة تذكّرنا بالقدّيس بطرس وأخرى ببطرس وبولس. هما تعودان إلى القرن التاسع عشر، وقد شيّدتا حسب أسلوب الصليبيّين. أمّا كنيسة القدّيس بطرس فتلفت النظر بما ترمز إليه، لا بجمالها. فهي تحتلّ مغارة تذكّر المؤمنين بالموضع الذي اعتاد بطرس أن يجمع فيه المسيحيّين. من أجل هذا، يقول التقليد المحلّيّ، هي أقدم كنيسة في العالم المسيحيّ. أمّا الحفريّات التي تمّت في إنطاكية، فقدّمت لنا بعض الفسيفساء، يتوزّع بين القرن الأوّل والقرن السادس ب.م.، فيدلّ على غنى تلك الكنائس. كما كشف مرتيريون القدّيس بابيلاس الذي توفّي سنة 250، مكان الدفن في سلوقية. فنُقل إلى دفنة في عهد القنصل قيصر غالوس (351-354). وسيبني الأسقف ملاتيوس معبدًا للقدّيس بابيلاس، في دفنة، بشكل صليب(10).

 

خاتمة

تلك محطّات سريعة عن أنطاكية العظمى التي لم يبقَ من عظمتها سوى نتف من الحجارة، ومسيحيّين قليلين ظلّوا في المدينة بعد أن تركها الكثيرون حين انتقلت إلى حضن تركيّا سنة 1938. أمّا عظمتها اليوم فما تحمل من ذكريات تجعل أكثر من بطرك يُسمّي نفسه باسمها. ومدرستها التأويليّة امتدّت في الشرق إلى بلاد فارس. ولعب لاهوتها دورًا كبيرًا في الجدالات الكرستولوجيّة. ويبدو أنّه كان لأنطاكية تأثير على رومة لم تعرفه كنيسة الإسكندريّة، سواء على مستوى الليتورجيا والموسيقى أو على مستوى التنظيم الكنسيّ. فبولس انطلق في رحلاته الرسوليّة من أنطاكية ليحمل الإنجيل إلى الأمم، وأنهى حياته في رومة. وبطرس مرّ في أنطاكية ومات شهيدًا في رومة(11). وعلى مثاله سيموت اغناطيوس. ألم يحمل كلّ هؤلاء شيئًا من أنطاكية إلى رومة؟ بل حملوا الكثير على ما فعل إيريناوس الذي كان امتدادًا لصوت الشرق المسيحيّ في الغرب، في القرن الثالث المسيحيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM