يعقوب، الصراع مع الله.

 

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin-top:0in; mso-para-margin-right:0in; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0in; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

يعقوب، الصراع مع الله

إذا كانت الصلاة حالة فيها يتَّصل الإنسان بالله وبإخوته، فيعقوب أبعد ما يكون عن الصلاة. وإذا كانت الصلاة مناسبة يتقرَّب فيها الإنسان من الله ومن أقاربه، فيعقوب هو البعيد عن الله في تصرُّفاته. ابتعد عن البيت الوالديّ وعن أخيه. وسوف يبتعد عن خاله. على المستوى البشريّ، ما ترك صديقًا له، بل معنى اسمه تبدَّل. في الأصل، يعقوب إيل. أي ذاك الذي يسانده الله. صار ذاك الذي يتعقَّب أخاه. يتتبَّعه ليأخذ منه ما له. هذا ما يرويه الكتاب: »خرج يعقوب ويده قابضة على عقب عيسو« (تك 25: 26). يريد أن يسبقه أو يأخذ محلَّه، وهذا ما يجعل العداوة بين الاثنين. وسيقول عيسو في يعقوب: »ألأنَّ اسمه يعقوب تعقَّبني مرّتين؟ أخذ بكوريّتي، وها هو الآن يأخذ بركتي!« (تك 27: 36). كيف يكون مثل هذا الرجل ابن الصلاة؟ صارع أخاه. صارع خاله. وفي النهاية صارع الله. ولكنّ هذا الصراع انقلب في حياة يعقوب رأسًا على عقب، وذلك على أثر الصراع مع الله. تبدَّل اسمه. تبدَّلت حياته. لن يكون اسمك بعد اليوم يعقوب، ذاك الذي يلاحق أخاه، يزاحمه وربَّما يعاديه، بل إسرائيل، يسرئيل، ذاك الذي يلين وينقاد لله. ذاك الذي يُسِرّ الله بعد أن صار سهلاً في يد الله.

1- باركته ويكون مباركًا

نعمَ يعقوب بمحبّةِ أمِّه رفقة. ولكنّه كان الثاني في البيت، لا البكر. فالبكر له كلُّ الامتيازات. وخصوصًا له البركة. كان عيسو عارفًا بالصيد، فاستطاب إسحق والده صيده، فأحبَّه. وكان يعقوب تامٌّا كاملاً، صاحب تعقُّل وسلام. صفاته البشريّة جعلته يلزم الخيام (تك 25: 28). هو راعٍ مثل سائر الرعيان في الكتاب المقدَّس. مثل إبراهيم ولوط. مثل موسى وداود. يهتمّ بعياله ومواشيه. هؤلاء يختارهم الله ولو كانوا ضعفاء مثل هابيل. في النهاية، الربُّ يقوّيهم.

وأخذ يعقوب من أخيه البكوريّة بالحيلة. لقاء بعض الطعام. وتحسَّر عيسو على ما خسر. ثمّ أخذ منه أيضًا بركة أبيه. قال إسحق: »ها رائحة ابني كرائحة حقل باركه الربّ. يعطيك الله من ندى السماء، ومن خصوبة الأرض، فيضًا من الحنطة والخمر« (تك 27: 27-28). ماذا كانت صلاة يعقوب في هذا الوقت؟ صلاة شكر.

»شكرًا لك يا ربّ لما أعطيتني. باركتني وما سمحتَ بأن تأتي اللعنة عليّ بالرغم من خداعي. أنا سرقتُ وأمّي علَّمتني. ومن خلال كلِّ هذا اكتشفت أنَّك دعوتني. هذا في نهاية حياتي، حين رأيتُ إلى أين وصلتَ بي. في ذلك الوقت، ما تجرَّأتُ أن أناديك: ''إلهي''. ما أسرع صيدك! أجبته: ''الربّ إلهُك وفقّني''. أنت إله أبي وأنا لا أستحقُّ أن أدعوك إلهي. ومع ذلك أعطيتني بركة الوالد، مع أنَّه تردَّد أكثر من مرّة. شكرًا لك يا ربّ.

»هي الآن مهمّةٌ، هي مسؤوليّة على كتفي. أن أحمل البركة من إبراهيم عبر أبي وأُوصلها إلى أبنائي. لو كنتَ تنظر إلى برارتي، لما كنتَ فعلتَ. فحبُّك مجّانيّ. تختارنا مع خطايانا. وبالرغم من خطايانا. تحبُّنا أبرارًا وتحبُّنا خطأة«.

هنا بدأ الصراع حادٌّا بين الأخوين. مَنْ سوف ينتصر؟ يقول الكتاب: »حقد عيسو على يعقوب بسبب البركة التي باركه بها أبوه« (تك 27: 41). قال: »أقتلُ أخي يعقوب« . وهكذا ابتعد عيسو عن البيت الوالديّ. راح في خطّ لا يرضي إسحق ولا رفقة: أخذ امرأتين من بني حثّ (آ46). تغرَّب عن الإيمان بالله. أمّا يعقوب فكان طائعًا لوالديه. أعطاه والده وهو لا يدري، وها هو يكرّر له العطاء والبركة بكامل وعيه: »يباركك الله القدير، وينمّيك ويكثِّرك. وتكون عدّة شعوب. ويعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك من بعدك« (تك 28: 3-4).

»صلاتي يا ربّ صلاة الفرح، وفي الوقت عينه صلاة الضيق والحزن. نلتُ بركة أبي. وهو الذي أرسلني مانعًا إيّاي من أن آخذ امرأة من بنات كنعان الشرّيرات (آ1، 8). أطعتُ يا ربّ أبي وأمّي. أُجبرتُ على الهرب من وجه أخي. صرتُ وحدي. وما قيمة الإنسان وحده؟ هو يحتاج إلى من يكون بقربه. إن وقع فمن يسنده. ولكنَّك أنت يا ربّ بقربي. أنت سندي ورفيق دربي، وعلى بركتك أنطلق.

»باركتُه ويكون مباركًا. ذاك كلام أبي. أعطاني البركة. تمنّى لي الخير. وها هو يخبرني ببركتك. هل هو بعدٌ نهائيّ عن البيت الأبويّ، عن حضور أخي بجانبي؟ هذا ما لا تريده أنت. في أيِّ حال، أضع مسيرة حياتي بين يديك. فافعلْ بي ما تشاء.

»لماذا أخاف حين يكون الربُّ معي. حين يكون عوني ذاك الذي صنع السماوات والأرض. ذاك الذي لا ينعس ولا ينام، فيحمي رجليَّ من الزلل. في الليل هو حارسي. وفي الليل، ظلُّ من حرِّ النهار. فلا تضربني الشمس. والقمر لا يؤذيني. أنت يا ربّ تحفظ حياتي. تحفظني في رواحي ومجيئي من الآن وإلى الأبد (مز 121: 1-8).

»أنا أقيم في كنف العليّ. أبيتُ في ظلِّ القدير. أنت ملجأي وحصني، يا الله، وعليك اتّكالي. تنجّيني من فخّ الصيّاد. تجعل لي من أجنحتك ظلاٌّ فأحتمي في كنفك، من هول الليل، لا أخاف. ومن سهم يطير في النهار لا أرتعب. ولو سقط بجانبي الألوف وعشرات الألوف، فأنت يا ربّ حماي. وأنت معيني أيّها العليّ. توصي ملائكتك بنا. يحرسوننا في طرقنا، يحملوننا على أيديهم (مز 91: 1-12).

ويقول التقليد: مضى يعقوب من بئر سبع، في الجنوب. ووصل إلى بيت إيل حيث بنى إبراهيم مذبحًا لله. بل يقول: وصل حالاً إلى حاران. تقلَّصت الأرضُ أمامه. كأنَّ الربَّ أرسل ملائكته فحملوه. وهكذا أثمرت البركة التي نالها من والده. مهما رافقها من شبهات في تصرُّف يعقوب، فمشروع الله سابق لتحرُّكات البشر. فهو يستطيع أن يُخرج الخير من الشر. وفي أيِّ حال، مشيئة الله تتمّ. إن مشينا معها، كنّا من الرابحين. وإلاّ نبقى خارجًا. هكذا ابتعد لوط عن بركة عمِّه إبراهيم وكاد يموت مع أهل سدوم لولا تشفُّع أبي الآباء. و»راح إسماعيل إلى البرّيّة«. وكذلك فعل عيسو حين ابتعد عن والده وعن عادات القبيلة. أمّا يعقوب، فسار على بركة الله كما حملها من والده. وكاد يتعب. توقَّف عند المساء. في الليل. هو وحده. بل الربّ في انتظاره. والإنسان المتَّكِل على الله لا يمكن أن يكون وحيدًا.

2- إن كان الله معي

الطريق طويلة بين بئر سبع، في جنوب فلسطين، وبين حاران، في شمال العراق (تك 28: 10). أما يمكن أن يتيه؟ وحده، نعم. ولكن لا، إذا كان الله معه. على مثال ما حصل ليوسف الذي أرسله والده يسأل عن »حال إخوته وحال الغنم« (تك 37: 12-14). يقول الكتاب: »صادفه رجل وهو تائه في البرّيّة« (آ15). من يكون هذا »الرجل« الذي يأتي إلى لقاء يوسف؟ إنه يعرفه. يعرف إخوتَه. قيل هو ملاك. أرسله الله إلى حبيبه. ولماذا لا يكون الله نفسه؟ بحيث لا يسمح أن تصدم بحجرٍ قدم المؤمن (مز 91: 12).

ووصل يعقوب في منتصف الطريق. هو غياب الشمس. الليل، بات هناك. فأتاه الله كما اعتاد أن يأتي إلى أصفيائه في العتمة، في الصمت والسكون. وما أجمل ذاك اللقاء، وحالُ يعقوب هي على ما هي. صلّى.

»ما أجملها ساعة يا ربّ. رافقتني وترافقني وتأتي إليّ، فتعزّيني في غربة صرت بها، بعد أن تركت الوالدين والأقارب. ما معي سوى هذه العصا (تك 32: 11). أنا فقير. فقير إليك. وأرجو أن أغتني بك. حضورك يكفيني. لهذا أستلقي وأنام في سلام. وفي الصباح أفيق وأنا بألف خير، لأنَّك يا ربّ سندي (مز 3: 6). لا أخاف من عشرات الألوف الذين يمكن أن يحاصرونني كما حاصروا إليشع فخاف خادمه جيحزي: ''ماذا نفعل؟'' (2مل 6: 15). فكان جواب إليشع: ''لا تخف. فالذين معنا أكثر من الذين معهم'' (آ6). وأنا لا أخاف. وأنت معي أقوى من جيش يصطفُّ للقتال. وأتطلَّع إلى داود. جيش كبير. جليات الجبّار. حجر في مقلاع كان كافيًا. وأتطلَّع إلى موسى. حمل بيده العصا، وفعل ما فعل من أجل شعبه. وأنا أحمل هذه العصا التي ستصنَعُ بها أنت المعجزات.

»أرسلتَ إليّ يا ربّ الملائكة. هم يصعدون السلم وينزلون (تك 28: 12). وأنت على رأس السلَّم (آ13). تدعوني للصعود إليك. أنت تنتظرني. لأنَّك لا تنزل إلى الأرض لتبقى هناك. بل تقف في السماء وتدعوني إلى هناك. ترفع قلبي وعقلي وفكري إليك. ماذا يكون المستقبل؟ لا تسمحُ لي بأن أطرح هذا السؤال.

»قلتَ لي: ''أنا معك. أحفظك أينما اتَّجهت. أردُّك إلى هذه الأرض. لا أتخلّى عنك'' (آ15). هل أطلب الفضّة؟ لا حاجة بي إليها ولا إلى الذهب. هل أطلب الظفر على من يعاديني، وأوَّلهم أخي؟ كلاّ يا ربّ. فأنت نصيبي وميراثي (عد 18: 20). فعمَّ أبحثُ بعد؟ وها أنا أنشد مع المرتِّل: ''الربُّ منيتي وحظّي ونصيبي، وفي يده مصيري. ما أحلى قسمةً قسمتها لي، وما أجمل ميراثي'' (مز 16: 5-6).

»وعدتَ آبائي ووفيتَ بما وعدتَ. وأنا بدوري أعدك. أنذر لك نذرًا (تك 28: 20). بعد أن اكتشفت حضورك في هذا الموضع. بعد أن اختبرتك عاملاً في حياتي، موجِّهًا لي أنظاري، أستطيع أن أكلِّمك (آ16). ولكنّ الرهبة تمسكُني. وأودُّ أن أخلع نعليّ من رجليّ كما فعل موسى، لأنّ هذا الموضع مقدَّس. هو بيت الله وباب السماء. وهنا تقيم يا الله، وكنتُ في ضيافتك وأنشدتُ لك: ''يوم في ديارك خير لي من ألف. فاخترت الوقوف في عتبةِ بيتك'' (مز 84: 11).

»أنا بكثرة رحمتك، أدخل بيتك يا ربّ '' (مز 5: 8). بل أنا في بيتك، وعلى باب سمائك لهذا أنشد: ''من لي في السماء سواك، وعلى الأرض لا أريد غيرك... القرب منك يطيب لي. وفيك وحدك جعلتُ حماي. لأحدِّث بجميع أعمالك'' (مز 73: 25، 28). وبما أنّني يا ربّ، أحببتُ بيتًا تحلُّ فيه، ومقامًا يسكن فيه مجدك (مز 26: 8). لهذا يطيب لي أن أعود، حين أكون بعيدًا، وأسكن في بيتك إلى مدى الأيّام (مز 23: 6).

»أنت نوري يا ربّ، أنت خلاصي. فلا أخاف شيئًا (مز 27: 1). أنت حصني، فلا أرتعب من أهل السوء. يصطفُّ عليَّ جيش، تقوم عليّ حرب. أبقى مطمئنًا. ''لي طلبة ولا ألتمس سواها: أن أقيم في بيتك جميع أيّام حياتي. فأعاين النعيم'' الذي تهيِّئه لأحبّائك (آ4).

»وها أنا أنذر لك نذرًا«. »إن كان الله معي«. هذا ما قاله يعقوب. وكان جواب الله: ''قلتُ لك قبل أن تتكلَّم أنا معك. أحفظك. أنا الإله الأمين. كما كنت مع آبائك أكون معك. لماذا تسأل؟ لماذا تضع شرطا. أتحسب الله إنسانًا من الناس تقطع معه عهدًا. ''أنا إله لا إنسان. أنا القدّوس بينكم« (هو 11: 9). »وحفظني في الطريق«. فواصل الربّ جوابه: »أما زلت تتساءل؟ إذا كان للعصفور قيمة في نظري، فما تكون قيمة الإنسان، وقد جعلتُه أقلّ من الإله قليلاً (مز 8: 6). إذا كنتُ أهتمّ بالزهرة، بالعشبة، ألا أهتمّ بالذي دعوته وأَنتظر منه أن يواصل المسيرة التي بدأها إبراهيم؟«. وقال يعقوب: »ورزقني خبزًا آكله، وثيابًا ألبسه«. فجاء الجواب: »أما يهتمّ الأب بأولاده والأمّ بأطفالها؟ فلماذا لا أهتمّ بك، ولا سند بشريٌّا لك. وإذا كنت لا أنسى زنابق الحقل مع أنَّها لا تغزل ولا تتعب (مت 6: 8). وإذا كنتُ أُلبس عشب الحقل (آ30)! وإذا كنت أطعم طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن (آ26)، ماذا لا أفعل لك، بعد أن كتبتُ اسمك على كفِّ يدي!«.

هكذا كلَّم الله يعقوب في أعماق قلبه. وقد يكون »نبيّ« تحدَّث باسم الله، فأوصل إلى هذا المسافر كلام الله. كما نقرأ مثالاً في المزامير: »يعينك الربّ في يوم الضيق. يُرسل لك النصر. يشدِّد ساعدك. يعطيك رغبات قلبك، ويتمِّم كلَّ مقاصدك (مز 20: 2-5). فماذا يبقى لك سوى أن ترنِّم فرحًا بالله مخلِّصك.

ومضى يوم وما تعب. نسيَ طول الطريق بعد هذا اللقاء الرائع مع الله. كلَّمه الله. وهو تكلَّم معه. ما شكّ في ذلك منذ البداية. وسيتأكَّد إيمانه في النهاية حين »يعود سالمًا« إلى بيت أبيه (تك 28: 21). مثله كان إيليّا حين خاف من الملكة إيزابيل التي هدَّدته بالموت (1مل 19: 2). وراح يتيه في الصحراء، هاربًا من الخطر. ولكنّ الإنسان الذي اسمه إيليّا، الذي هو رجل الله ومعنى اسمه »يهوه هو إلهي«، مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يتيه. إذا كان الإنسان أضاع الهدف، فالله يعرف الهدف. جاء الملاك. قدَّم له طعامًا. فسار ووصل إلى حوريب (آ8). وكان له لقاء مع الربّ.

ووصل يعقوب إلى حاران. وجاءت صلاته شبيهة بصلاة خادم إبراهيم، صلاة كلُّها ثقة واستسلام لمشروع الله. قال الخادم: »يا ربّ، يا إله سيِّدي إبراهيم. وفِّقْني اليوم وأحسن إلى سيِّدي إبراهيم. ها أنا أقف على عين الماء، وبنات أهل المدينة خارجات يستقين ماء. فليكن أنّ الفتاة التي أقولُ لها: أميلي جرَّتك لأشرب، فتقول: إشرب وأنا أسقي جمالك أيضًا، تكون هي التي عيَّنتها لعبدك إسحق. وهكذا أعرف أنَّك أحسنتَ إلى سيِّدي« (تك 24: 12-14).

طلب خادم إبراهيم نعمة وطلب معها علامة. فأعطاه الله ما طلب. عرف أنَّ الله »سهَّل له طريقه« (آ21). وكذا صلّى يعقوب.

»ها أنا وصلتُ يا ربّ إلى حيث أرسلني أبي. ولكن كيف أتصرَّف؟ لا أعرف«. سأل عن راحيل. فإذا راحيل أتت. وهي التي ستكون له زوجة. »هي راعية وأنا راعٍ« (تك 29: 9). هي تعرف بأمور الغنم. وها أنت أرسلتها إليّ«. ودحرج يعقوب الحجر مع أنَّه كان كبيرًا (آ2). هو القويّ. ولكنَّه بدأ يعرف أنّ طرق الله غير طرق البشر. كانت راحيل المحبوبة على قلبه، ولكن لم يكن لها أولاد. قال لها: »هل أنا مكان الله؟« (تك 30: 2). وليئة المكروهة صار لها الأولاد العديدون (تك 29: 31).

3- في فنوئيل رأيت الله

بعد عشرين سنة، استعدَّ يعقوب للعودة إلى أبيه.

»شكرًا لك يا ربّ لهذه السنوات التي قضيتُها في حاران. كانت الصعوبات كثيرة، وأوَّلها من خالي. لو لم تكن يا ربّ معي، لكان صرفني فارغ اليدين. ولكنَّك، يا الله، نظرتَ إلى عنائي وتعب يديّ (تك 31: 42).

»شكرًا لك يا ربّ على هذه العائلة الكبيرة. هي أعظم بركة من لدنك. قلتَ: ''مثل أغراس الزيتون يكون بنوك حول مائدتك'' (مز 128: 3). وأفهمتَنا أنّ البنين ميراث من لدنك. ثواب من عندك، وأفضل سلاح في يدنا (مز 127: 3-5). شكرًا لأنَّك خلَّصتني من تسلُّط خالي الذي أرادني عبدًا عنده طول العمر. بل أراد أن يستعيد بناته. ومن حسد أبناء خالي الذين اعتبروا أنّني أخذت هذا الغنى من أبيهم، بحيث جمعتُ كلَّ هذه الثروة. بينما البركة هي منك. كم مرّة غيَّر في أجرتي. وأنتَ رأيتَ يا ربّ.

»شكرًا لك يا ربّ، لأنَّك منعتَ خالي من أن يعاملني بالسوء. هو أخبرني بأنَّك أتيتَ إليه ليلاً وحذَّرته. فأنت ملجأ الضعفاء والمساكين. أنت تقضي للعالم بالعدل، وتدين الأمم بالاستقامة. أنت ملجأ المقهورين، ملجأهم في زمن الضيق (مز 9: 9-10). تحنَّنت يا ربّ عليّ ونظرت إلى شقائي (آ14)، وهذا ما أراه الآن بعد أن صرتُ بعيدًا عن الخطر. قلتَ إنَّك تقوم، ''لأنّ المساكين في شقاء، والبائسين يئنّون ظلمًا، فأمنحهم الخلاص الذي يشتهون'' (مز 12: 6). قُلتَ وفعلتَ. فلا أريد بعدُ شيئًا سوى أن تتواصل حمايتُك لي من كلِّ شدّة وخطر.

»كان صراع بيني وبين خالي لابان. زال كلُّ شيء بقدرتك. ''كنتَ الشاهد بيني وبينه''« (تك 31: 44). في جلعاد، في كومة الحجارة التي رُفعت لتذكرَ الواحد بما وعد به وأخذه على عاتقه. في المصفاة صفّيتَ القلوب (آ47-49). وفي النهاية، كانت الوليمة المقدَّسة. صار بيننا خبز وملح. توثَّق العهد. وعاد التضامن. شكرًا لك يا ربّ.

»وكان صراع مع أخي، فابتعد الواحد عن الآخر. أحسّ أخي أنَّه ظُلم وأحسستُ أنا أني مهدَّد بالقتل. وكما قرّبتني من خالي، جئت تقرِّبني من أخي. لا صراع بعد الآن، لا عداء«.

وقبِلَ الأخُ الأكبرُ هديَّة الأخ الأصغر (تك 33: 11). وتصافت القلوب. فحين رأى عيسو أخاه، »أسرع إلى لقائه، وضمَّه، وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله« (آ4). والاثنان بكيا. كما دُهشَ عيسو بالأولاد وبالخيرات التي حملها أخوه من حاران (آ5). كلّ هذا نعمة من لدنه تعالى، أجاب يعقوب. وفي النهاية، التقى عيسو ويعقوب عند فراش إسحق. فدفناه (تك 35: 29).

هيّأ الله الأمور. نزع العوائق التي تمنع الاتّصال بين الشابّ وخاله. بين الأخ وأخيه. عادت المحبّة بحيث يستطيع الواحد أن يقول: أنا أحبّ الله، ولا يكون كاذبًا. بدأت البشريّة بالابتعاد عن الله. ثمّ ابتعد قايين عن هابيل. أمّا هنا، فانعكست الطريق. فما بقي ليعقوب سوى الصراع مع الله. من ينتصر؟ الإنسان بكذبه وحيَله ودهائه، أم الله الذي هو البرارة بالذات؟

واستعدَّ يعقوب للدخول إلى أرض كنعان. بالقوّة؟ لا يقدر. بالحيلة؟ لم يعد لها مكان هنا. سجد أمام عيسو سبع مرّات طالبًا رضاه، فماذا يفعل أمام الله؟ ما بقي له سوى أن يفي بوعده. »إن عدتُ سالمًا«. وها هو قد عاد. وتذكّر ذاك اللقاء (تك 35: 7). أجل، وجه الربّ رافقه حتّى الساعة هذه.

ووصل يعقوب إلى مخّاضة يبّوق (تك 32: 23). هناك الماء قليل والعبور سهل. ولكن بدا هذا الموضع وكأنَّه حدود أرض الربّ، الأرض المقدَّسة. لا يحقّ ليعقوب أن يمرَّ دون أن تتبدَّل حياته. هو وحده. وجهًا إلى وجه مع الله. صراع دام طوال الليل. طوال الصعوبة والضيق. إنَّه صراع روحيّ، صراع المؤمن أمام سرِّ الله. ما أراد يعقوب أن يتراجع أمام ذاك »الرجل«. يريد أن يعرفه، أن يعرف اسمه. ولبث الصراع حتّى طلوع الفجر.

هكذا يحضر الله على الذين يدعوهم في الليل. صُوِّر هذا الحضور في شكل مبارزة، فبدا الله »رجلاً« تجاه رجل آخر هو يعقوب. ولكن في العمق، كان ذلك الوقت ليلة صلاة وجهاد. ويعقوب وحده.

»ها أنا يا ربّ، بضعفي وخطيئتي. والرسالة الجديدة التي تحمِّلني إيّاها. بعد أن أشرقت عليّ بوجهك (آ31). بعد أن رأيتُك وجهًا لوجه ونجوت بحياتي. ماذا تريد منّي أن أفعل؟ ها أنا رهن مشيئتك. حسبتُ أنّي أقدر أن أبني حياتي بقوّتي البشريّة. وها أنا فهمتُ اليوم أنَّك إن لم تبنِ أنتَ، فعبثًا يتعب البنّاؤون. إن لم تحرس أنت المدينة، فعبثًا يتعب الحارس (مز 127: 1). عرفتُ أنّي ببركتك وصلتُ إلى ما أنا عليه الآن. من خيرات مادّيّة، من الأولاد العديدين. من هذا السلام الذي أنعم به.

»مغامرة طويلة عشتُ. منذ تركتُ البيت الوالديّ حتّى المجيء إلى بيت إيل. تدعوني إلى الصعود هناك (35: 1). وتذكرني باسمي الجديد (آ10). لا مجال للعودة إلى حياتي الماضية. أعرفُ أنّي في الماضي كنتُ ظلمة. وأنا اليوم نور (أف 5: 8). بعد أن مررتَ في حياتي، يبقى عليّ أن أسير سيرة أبناء النور. عملتُ في الخفية وأخذت البركة من أبي، فشاركتُ في أعمال الظلام. ولكنّني أستحي الآن من نفسي. في الماضي، سرتُ سيرة الجهلاء. وها أنت تدعوني لكي أسير سيرة العقلاء (آ15). في الماضي، كنتُ أصمّ فما بحثتُ عن مشيئتك، بل تجاهلتها وبدوت كمن سكر من الخمر (آ18).

»علِّمني ما يرضيك يا ربّ، وباركني فأُثمر ثمر النور (آ9) في الصلاح والحنان، في البرّ والعدالة، في الحقّ والحقيقة«.

نقرأ اليوم سيرة يعقوب، فيبدو لنا ذلك المخادع، »السارق«. هذا ما لا شكّ فيه. ولكنَّه ما بقي كذلك. مثله مثل الخطأة الذين عادوا إلى الربّ، مثل بولس الذي كان مضطهدًا ومجدِّفًا، فرحمه الربّ لأنَّه لم يكن يعرف ما يفعل. ولكن حين آمن، فاضت عليه نعمة ربِّنا بما فيها من إيمان ومحبّة (1تس 1: 13-14). ومع ذلك، قال بولس: »قوّاني، اعتبرني أمينًا. دعاني إلى خدمته« (آ12). مثل أوغسطين الذي بدأ حياته في الشرّ والخطيئة، قبل أن يسمع ذلك الصوت في أعماقه: خذ واقرأ. حينئذٍ تحوَّلت حياته.

وهذا ما نقوله عن يعقوب، قبل لقاءاته بالربّ التي تكرَّرت، ولاسيّما ذاك الصراع في مخّاضة يبّوق، كان يعمل أعمال الجسد (غل 5: 19). همُّه النجاح البشريّ مهما كانت الوسائل المتاحة له. بعد ذلك، بحث عن ثمر الروح الذي هو المحبّة. ومنها يتفرَّع »الفرح والسلام والصلاح والأمانة« (آ22).

فمن كانت حياته انقلابًا على الذات، كانت صلاته كذلك. بل موقفه أيضًا. ترك حكمة البشر، وأخذ طريقة الصمت الذي فيه يحاول أن يكتشف إرادة الله في الأشخاص الذين حوله. روى يوسف حلمين (تك 37: 1ي). حسده إخوته. أبغضوه. تركوا كلَّ مودّة تجاهه. »وأمّا أبوه فحفظ هذا الكلام في قلبه« (آ11). وسيأتي يوم يفهم فيه مخطّط الله بالنسبة إلى يوسف.

وتعامل إبناه شمعون ولاوي بالعنف. ما كان راضيًا عنهما: »كدَّرتماني« (تك 34: 30). وسوف يقول عنهما: »شمعون ولاوي أخوان. سيوفُهما سلاحُ العنف. مجلسهما لا أدخله. وفي صحبتهما لا أبتهج« (تك 49: 5-6).

وقمَّةُ التبدُّل في حياة يعقوب ظهرت عند الذهاب إلى مصر. ما أراد أن يفعل شيئًا قبل أن يسأل الله. فقبله الله. ذبح ذبيحة وقدَّم نفسه مع الذبيحة. استعدَّ للقاء الربَّ في سكون الله، فجاء إليه الربّ في الرؤية. ناداه مرَّتين، فكان جواب الطاعة والاستعداد. نعم، أنا هنا (تك 46: 2).

»أنا إيل. أنا إله أبيك«. أنا سامع يا ربّ، ومتأكِّد أنّك حاضر وإن كنت لا أراك بعينَي الجسد. كنتَ مع أبي. وأنت معي اليوم. فقد اعتدتُ على إحساناتك. اعتدتُ على أنوارك. ماذا تريدني أن أفعل؟ هل أنزل إلى مصر وأترك هذه الأرض المقدَّسة. أبي منعَته مع أنّ الجوع كان شديدًا (تك 26: 1-2). ووعدَته بالبركة. فحصد في تلك السنة مئة ضعف (آ12). أمّا جدّي إبراهيم، فمغامرته إلى مصر انتهت بالفشل. لست أدري ماذا أفعل، ها أنا أنتظر الجواب«.

تكلَّم يعقوب. فأجابه الله. »لا تخف«. لو أنتَ وحدك تخاف. أمّا وأنا معك فأنت لا تخاف. حين تنزل أنزل معك. وحين تصعد أصعد معك. وارتاح يعقوب بعد أن سمع صوت الله، وهو بعد اليوم يعيش على وقع هذا الصوت.

الخاتمة

الصلاة علاقة بالله. فيها نخبره بحياتنا، بهمومنا، بصعوباتنا. نخطأ فنهرب منه. هذا منتهى الخطأ. فلماذا لا نعود كما عاد الابن الضال حيث ينتظرنا الفرح والعيد. في النجاح، ولو كان بشريٌّا، نتطلَّع إلى الربّ ونعتبر أنَّ كلَّ ما نلناه هو من جوده تعالى. وفي الفشل نقدِّم له فشلنا وضعفنا. ونحن نتأكَّد أنَّه يكمِّل نقصنا، ويُنجح سبيلنا، وفي النهاية يكون غايةَ حياتنا. تلك كانت مسيرة يعقوب. ضمَّخناها بالصلاة التي يمكن أن تنبع من قلب كلِّ إنسان عرف ما عرفه يعقوب. مضى ولا شيء معه، فصلّى إلى الله. وعاد بالغنى الكبير فصلّى إلى الله الذي تراءى له أكثر من مرّة. والبركة التي نالها وزَّعها على أولاده لينموا ويكثروا، لا على مستوى الجسد، بل على مستوى الإيمان، في خطّ إبراهيم الذي »تتبارك به كلُّ عشائر الأرض« (تك 12: 3).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM