القدّيس أوغسطين المقال السابع.

القدّيس أوغسطين

المقال السابع

أودُّ أوَّلاً أن أفرح معكم لعددكم الكبير، ولأنَّكم أتيتم إلى هنا بحماس يتجاوز كلَّ آمالنا. هذا ما يُفرحنا ويعزِّينا في كلِّ أتعاب هذه الحياة ومخاطرها: حبُّكم لله، تقوى غيرتكم، ثبات رجائكم وورعكم. سمعتم قراءة المزمور أنَّ البائس والمسكين صرخا إلى الله في هذه الحياة (مز 74: 21). هذا الصوت سمعتموه يتكلَّم مرارًا ويجب أن لا تنسوه، بل تتذكَّرونه. ليس صوت إنسان ومع ذلك هو صوتُ واحدٍ. ليس صوتَ واحد بسبب كثرة المؤمنين، الذين هم حبّات عديدة ممزوجة في التبن، يئنُّون وهم منتشرون في المسكونة كلِّها. هو صوتُ واحدٍ، لأنَّهم كلُّهم أعضاء المسيح بحيث يكوِّنون جسدًا واحدًا...

* * *

شهد يوحنّا لأنَّه رأى. أيَّ شهادة أدَّى؟ »أنَّ هذا هو ابن الله«. فينبغي إذًا عليه أن يعمِّد ابن الله الوحيد، بالطبيعة لا بالتبنّي. فالأبناء المتبنّون هم خدّام الابن الوحيد. للابن الوحيد السلطان، وللأبناء المتبنّين الخدمة. ومع أنَّ العماد يعطيه خادمٌ ليس في عداد الأبناء المتبنّين، بسبب حياته الرديئة وسلوكه الرديء، أيُّ عزاء يبقى لنا؟ »هذا الذي يعمِّد«.

وفي الغد، يوحنّا كان بعدُ هنا واثنان من تلاميذه معه. فنظر إلى يسوع وهو ماشٍ، فقال: »ها هو حمل الله«. من الأكيد أنَّ هذا الحمل وحيدٌ باسمه، مع أنَّ تلاميذه دُعوا بهذا الاسم. »ها أنا أرسلكم كالحملان بين الذئاب« (مت 10: 16). قيل إنَّهم النور. »أنتم نور العالم« (مت 5: 14). ويسوع أيضًا نور العالم ولكن بشكل مختلف كلَّ الاختلاف إذ قيل عنه: ''كان النورُ الحقيقيّ الذي ينير كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم« (يو 1: 9). كما هو الحمل. غير أنَّ هذا الحمل وحيد، وهو الوحيد الذي لا وصمة فيه، الوحيد الذي لا خطيئة فيه. فيه ما من نجاسة مُحيَتْ لأنَّه لا يحمل أيَّة نجاسة. ماذا؟ ألأنَّ يوحنّا قال عن المخلِّص: »ها هو حمل الله«، أما كان هو الحمل؟ أما كان صحيحًا؟ أما كان صديق العريس؟ على يسوع وحده انطبقت حقٌّا هذه الكلمات: »ها هو حمل الله«، لأنَّ البشر لم ينالوا الفداء إلاّ بدم هذا الحمل الوحيد.

إذا اعترفنا بأيِّ ثمنٍ فدْيتُنا هي دم الحمل، فبأيِّ اسم نسمّي المحتفلين اليوم بعيد الدم لأمٍّ من الأمَّهات؟ كم هم بعيدون عن المنطق! يقولون: أُخذت حلقة من أذن امرأة، فسال الدم. جُعل الذهب على طبق أو في ميزان، والدم الذي تشرَّب الذهب منه ازداد وزنه. إذا استطاع دمُ امرأة أن يجعل دفَّة الميزان، حيث الذهب، تميل، فأيَّ وزن يُضيف دمُ الحمل الذي خلق العالم؟ لا أعرف أيَّ روح تهدَّأ بهذا الدم فأضاف على وزن الذهب. فالأرواح النجسة عرفوا مجيء يسوع المسيح المقبل، عرفوه من الملائكة والأنبياء. وما ارتابوا أنَّه آتٍ، فلو ارتابوا، هل كانوا صرخوا: ماذا »بينك وبيننا؟ هل جئت لتهلكنا قبل الوقت؟ نحن نعرف من أنت، قدّوس الله« (مر 1: 24). عرفوا أنَّه آتٍ، ولكنَّهم جهلوا زمن مجيئه.

ولكن ماذا سمعتم من قول المزمور حول أورشليم؟ »لأنَّ حجارتها سَرُّوا عبادَك، وترابها حرَّكهم، تقوم يا ربّ وترحم صهيون لأنَّ زمن الرحمة أتى« (مز 102: 14-15). فحين جاء الوقت الذي فيه الله يرحم، كان مجيء الحمل. مَن هو هذا الحمل الذي خافته الذئاب؟ من هو هذا الحمل الذي قتل الأسد وهو مائت؟ قيل عن الشيطان أنَّه أسدٌ متلفِّق، زائر، يطلب فريسة (1بط 5: 8). هذا الأسد غُلب بدم الحمل. ذاك هو المشهد الذي يشاهده المسيحيّون. وهو مشهد سامٍ بحيث إنَّ العيون البشريَّة لدى الآخرين لا ترى سوى الباطل. أمّا هنا فلا حقيقة تنبسط على عيني قلبنا. لا تظنُّوا، يا إخوتي، أنَّ الله حرمنا من هذا المشهد. فإن لم يكن من مشهد، لماذا أنتم هنا اليوم؟ ما قلناه واضح لكم فردَّدتم أقوالنا. هل كنتم ردَّدتم لو لم تروا شيئًا؟ بالتأكيد كلاّ.

هو مشهد عظيم أعطيَ في الكون كلِّه. مشهد الأسد يغلبه دمُ الحمل، مشهد أعضاء المسيح المنتزعين من فكَّي الأسد، والمنضمِّين إلى جسد المسيح. لهذا، لا أعرف كيف يقتدي بالحقيقة، فكرٌ شرّير يريد أن تُشتَرى صورتُه بالدم. لأنَّه عرف أنَّ دمًا ثمينًا سيفتدي في يوم من الأيام الجنسَ البشريّ. هكذا تأخذ الأرواح الشرّيرة بعض كرامة لكي تُضلَّ الذين يتبعون المسيح. بل إنَّ الذين يغوون الآخرين بالشعوذة والسحر وكلّ أعمال العدوّ، يمزجون في كلِّ هذا اسم المسيح. فبما أنَّهم لا يقدرون أن يُغووا المسيحيّين بحيث يقدِّمون لهم السمَّ نقيٌّا، يضيفون إليه بعض العسل. وهكذا تزول مرارة الشراب بفضل ما مزجوا فيه من حلاوة. فيشربه المسيحيّون لهلاكهم. في الماضي عرفتُ كاهنَ كاستور (بطل عُبد مع بوليكس في رومة) الذي اعتاد أن يقول: كاستور هو أيضًا مسيحيّ. لماذا يا إخوتي يكون هذا؟ لأنَّ المسيحيّين لا يُمكن أن يغووا بوسائل أخرى.

إذًا، لا تبحثوا عن المسيح إلاّ حيث أراد أن يبشَّر به، وكما أراد أن يُكرَز به، احفظوه في قلوبكم واكتبوه. هو السور الذي يحميكم من كلِّ الجهات ومن كلِّ فخاخ العدوّ. فلا تخافوا شيئًا، لأنَّ هذا العدوّ لا يقدر حتّى أن يجرِّبكم إن لم ينل السماح من الله...

»كان يوحنّا هنا، واثنان من تلاميذه معه«. ها مع يوحنّا اثنان من التلاميذ. كان يوحنّا صديقًا صادقًا للعريس، فما طلب مجدَه الخاصّ، بل شهد للحقّ. هل ظنَّ أنَّه يرى تلاميذه يبقون معه ولا يتبعون الربّ؟ بل دلَّهم هو نفسُه على ذاك الذي ينبغي أن يتبعوا. نظروا إليه كأنَّه الحمل. فقال لهم: لماذا تعتبرونني كذلك؟ فأنا لست الحمل. »ها هو حمل الله«. ما الذي يفيدنا حمل الله؟ »هو يمحو خطيئة العالم«. حين سمع التلميذان اللذان كانا مع يوحنّا هذا الكلام، تبعا يسوع المسيح.

ونتابع. »ها هو حمل الله«. يوحنّا هو الذي يتكلَّم. سمع التلميذان كلامه فتبعا يسوع. التفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: »ماذا تطلبان؟« فأجاباه: »رابّي أي يا معلِّم، أين تقيم؟« ما تبعاه وكأنَّهما سيتعلَّقان منذ الآن بشخصه: فالظرف الذي فيه تعلَّقوا به معروف: حين جعلهم يتركون القارب. فواحد من هذين التلميذين كان أندراوس، كما سمعتم. وأندراوس هو أخو بطرس. ونحن نعرف في الإنجيل بأنَّ الربَّ جعل بطرس وأندراوس يتركان القارب، حين قال لهما: »اتبعاني فأجعلكما صيّادَي بشر« (مت 4: 19). ومنذ ذلك الوقت تعلَّقوا به وما تركوه. بما أنَّ التلميذين تبعاه في ذلك الوقت، فهذا لا يعني أنَّهما تبعاه وما تركاه. بل أرادا أن ينظرا أين يقيم ويعملان ما كُتب: »إن رأيتَ عاقلاً أسرع إليه، ودَعْ خطاك تمتحن درجَ بابه. تأمَّلْ في أوامر الربّ، وفكِّر في وصاياه كلَّ حين« (سي 6: 36-37). دلَّهما يسوعُ أين يقيم. فجاءا وقضيا ذاك النهار يتحادثان معه. أيَّ يوم سعيد قضيا؟ أيّ ليلة سعيدة! من يقول لنا ماذا سمعا من فم المخلِّص؟ لنبنِ، نحن أيضًا، في قلبنا، لنصنعْ بيتًا يأتي إليه فيعلِّمنا ونتحدَّث معه.

»ماذا تطلبان؟« قالا: »رابّي...«. أنظنُّ أنَّ الإنجيليّ قال لنا عن الساعة من دون سبب؟ هل يمكن أن لا يكون أرادنا أن نلاحظ شيئًا؟ كانت الساعة العاشرة. هذا الرقم يعني الشريعة، لأنَّ الشريعة أُعطيَت في عشر وصايا. وها قد جاء الوقت لتَكمل الشريعةُ بالمحبَّة. فاليهود لم يستطيعوا أن يكمِّلوها في المخافة. وهذا ما جعل يسوع يقول: »ما جئت لأهدم الشريعة، بل لأكمِّلها« (مت 5: 17). فبحقّ، وبناء على كلام صديق العريس، سار التلميذان وراء يسوع في الساعة العاشرة. وفي الوقت عينه دُعيَ المخلِّص »رابّي« أي يا معلِّم. إذا كان الربُّ سمعهما يدعوانه: »رابّي« في الساعة العاشرة، وإن كان الرقم عشرة يدلُّ على الشريعة، فمعلِّم الشريعة هو الذي أعطى الشريعة. وهكذا لا يقول أحد: ذاك الذي أعطى الشريعة هو غير ذاك الذي يعلِّمها. من أعطاها يعلِّمها. فهو معلِّم الشريعة وملقِّنُها، وأقواله انطبعت بالرحمة. لهذا يعلِّم الشريعة في مناخ الرحمة كما قيل عن الحكمة: »تحمل الشريعة والرحمة على لسانها« (أم 31: 26). فلا تخف إذا لم تقدر أن تتمَّ الشريعة. فالجأ إلى الرحمة. فإن كان كثيرًا عليك أن تتمَّ الشريعة، إستعمل هذا العقد الذي عنوانه الصلاة التي أعطاك هذا المشرِّع السماويّ وألَّفها من أجلك.

قلنا لماذا الساعة العاشرة. ونرى ما يلي: وكان أندراوس، أخو سمعان... وجدنا الماسيّا أو المسيح. »مشيح« في العبريَّة، أي كريست، وممسوح في اللاتينيَّة. مسحة فريدة، مسحة خاصَّة يشارك فيها جميع المسيحيّين. ويشارك هو فيها أيضًا ولكن بشكل متسامٍ. فاسمعوا ما يقول المزمور: »لهذا مسحك الله إلهُك بدهن الفرح فوق جميع الذين يشاركونك« (مز 45: 8). أمّا المشاركون فهم القدّيسون. وهو في شكل خاصّ، قدّوس القدّيسين. نال مسحة خاصَّة به وحده. إنَّه المسيح بشكل فريد.

»وأتى به إلى يسوع«. قال له يسوع: أنت سمعان وتُدعى بطرس. ليس بغريب أن يقول المخلِّص بطرس ابن من هو. فما من كبير بالنسبة إلى المخلِّص. عرف اسم جميع القدّيسين الذين أعدَّهم منذ تكوين العالم، وتندهش أنتَ إن قال لإنسان: أنت ابن فلان، وتُدعى بهذا الاسم. فالعجيب في كلِّ هذا هو أنَّه بدَّل له اسمه ودعاه بطرس. فاسم بطرس (صخر) أُخذ من صخر. وهذا الصخر هو الكنيسة. وهكذا صوَّر بطرس الكنيسة مسبقًا. ومن يبني بمتانة إلاّ ذاك الذي يبني على الصخر. فماذا يقول الربّ؟ »من يسمع كلامي ويعمل به يشبه رجلاً حكيمًا بنى بيته على الصخر (فما سقط في التجارب). سقط المطر، أتت الأنهار، نفخت الرياح وارتمت على هذا البيت فما سقط، لأنَّه مؤسَّس على الصخر. ومن يسمع كلامي ولا يعمل به (ليرتعد كلُّ واحد وليكن حذرًا) يشبه رجلاً جاهلاً بنى بيته على الرمل: سقط المطر، أتت الأنهار، نفخت الرياح وارتمت على هذا البيت فسقط، وكان سقوطه عظيمًا« (مت 7: 24-27).

ما الفائدة من الدخول إلى الكنيسة إذا أردنا أن نبني على الرمل؟ إذا كنّا لا نسمع شيئًا، فنحن لا نبني شيئًا. أمّا إذا كنّا نسمع فنحن نبني. ولكن ينبغي أن نعرف أنَّ كلَّ من يسمع ويعمل يبني على الصخر، وأنَّ من يسمع ولا يفعل يبني على الرمل. إذًا هناك نوعان من البشر يبنون: بعضهم يبني على الرمل، والآخرون يبنون على الصخر. وماذا نقول عن الذين لا يبنون. هم بدون ملجأ، معرَّضين للرياح وللأنهار. وحين تصل العاصفة، ترفعهم قبل أن تقلب بيوتهم. إذًا، لا طمأنينة إلاّ في بناءٍ وفي بناء على الصخر. إذا أردت أن تسمع دون أن تفعل شيئًا، فأنت تبني ولكنَّك تهيِّئ الخراب. وحين تفاجئك التجربة فهي تقلب بيتكِ وتبتلعك تحت الأنقاض. إن كنت لا تسمع، فأنت من دون ملجأ، فتكون أوَّل من تقتلعك التجربة. فاسمع إذن واعمل، ذاك هو الدواء الوحيد...

ماذا كان نتنائيل هذا؟ سنبيِّنه بما يلي. اسمعوا ما كانه: الربُّ نفسه شهد له. فكما عرَّفتنا شهادة يوحنّا، المخلِّص كبير جدٌّا. وبدا لنا نتنائيل سعيدًا، بحسب شهادة الحقّ. لا شكَّ في أنَّ الربَّ لم يحتج إطلاقًا أن تُوحي به شهادة يوحنّا. فهو يشهد لنفسه. والحقّ يشهد لنفسه وهذا يكفيه. ولكن بما أنَّ الناس عجزوا عن اكتشاف الحقيقة. طلبوها بواسطة سراج. لهذا أُرسل يوحنّا ليدلَّ على الربّ... وأدّى يسوع لنتنائيل شهادة لم يؤدِّها لأندراوس ولا لبطرس ولا لفيلبُّس، بل لنتنائيل وحده: »هذا إسرائيليّ حقيقيّ لا غشَّ فيه«.

ماذا يعني هذا يا إخوتي؟ أما وجب أن يكون أوَّل الرسل؟ فنحن لا نجده فقط في الصفِّ الأوَّل بينهم، ولا نجده في صفٍّ وسط، ولا في الأخير، هذا النتنائيل الذي أدّى له ابن الله شهادة كبيرة جدٌّا... يجب أن نفهم أنَّ نتنائيل كان متعلِّمًا وحاذقًا في الشريعة. ومع ذلك لم يجعله الربُّ في عداد تلاميذه، لإنَّه أراد أن يختار الجهّال ليُخزيَ الجميع. وإليكم ما يقول الرسول: »تذكَّروا، أيُّها الإخوة، كيف كنتم حين دعاكم الله. فما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر، ولا من الأقوياء أو الوجهاء. إلاَّ أنَّ الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعيفًا ليُخزيَ الأقوياء«، واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنُّه لا شيء، ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا« (1كو 1: 26-28). فلو اختير نتنائيل الذي كان عالمًا، لظنَّ ربَّما أنَّ علمه جعله أهلاً، غير أنَّ الربَّ أراد أن يحطِّم تشامخ الكبرياء، فما أخذ الخطباء ليقنع الصيّادين، بل ربح الإمبراطور بواسطة صيّاد (هو بطرس)، قبريانس (أسقف قرطاجة) هو خطيب كبير، ولكن جاء قبله بطرس الصيّاد، الذي به آمن الخطيب، ولا هو وحده بل الإمبراطور.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM