النبيّ في طريقه إلى الله.

 

النبيّ في طريقه إلى الله

1مل 19: 3-17

النبيّ هو إيليّا. ووجهته جبل حوريب (سيناء) جبل الله. هناك قضى موسى أربعين يومًا في صلاة إلى الله. هناك ظهر الله لشعبه وسط البروق والرعود. وأعطاهم وصاياه وأوّلها: أنا هو الربّ إلهك، لا يكن لك إله غيري. لا تصنع صورة ولا تمثالاً. وإيليّا يرى الناس حوله، انطلاقًا من الملك والملكيّة، يؤدّون العبادة لبعل، بحيث أحسّ النبيّ أنّه صار وحده بعد أن هُدمت مذابح الربّ وقُتل كهنته. أترى هذا الإله نائمًا؟ أهو بعيد أو في سفر؟ هل نسي شعبه ووصاياه؟ ماذا ينتظر ليفعل، وكيف يترك نبيه يصارع وحده؟ قتلوا أنبياءك وبقيت أنا وحدي. إيليّا الرجل الغيور على الإيمان، يحتاج الآن إلى بعض الإيمان. لهذا مضى إلى حوريب، إلى النبع الذي انطلق منه شعب الله بقيادة موسى. وسيكون له أن يلتقي الله في الصمت، في النسيم الخفيف ويسمع كلامه. وها نحن نقرأ النصّ الكتابيّ (1مل 19: 3-13):

3 فخاف (إيليّا) وهام على وجهه حتّى وصل إلى بئر سبع، في يهوذا، وترك خادمه هناك (ليكون وحده).

4 وسار (إيليّا) في البرّيّة مسيرة يوم حتّى بلغ شجرة وزّال. قعد تحتها وتمنّى الموت وقال:

»كفاني الآن يا ربّ، فخذ حياتي. فما أنا خيرٌ من آبائي«.

5 ثمّ نام تحت الشجرة. وبغتة لمسه ملاك الله وقال له:

»قُم فكُلْ«.

6 فالتفت فرأى عند رأسه رغيفًا وجرّة ماء، فأكل وشرب، ثمّ عاد ونام.

7 فعاوده ملاك الربّ ثانية، ولمسه وقال:

»قُم وكُلْ. فالطريق بعيدة أمامك«.

8 فقال وأكل وشرب، وسار بفعل تلك الأكلة أربعين يومًا وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب.

9 ودخل المغارة (كانت معروفة. يحجّ إليها الناس) هناك وبات فيها. فخاطبه الربّ:

»ما بالك هنا، يا إيليّا؟«

10 فأجاب:

»بمرارة من أجلك وقفتُ، أيّها الربّ الإله القدير، لأنّ بني إسرائيل نبذوا عهدك، وهدموا مذبحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي، وها هم يطلبون حياتي«.

11 فقال الربّ:

»قفْ على الجبل أمامي«.

ثمّ عبر الربّ. وهبّت ريح عظيمة وشديدة شقّت الجبال وكسّرت الصخور، ولم يكن الربّ في الريح. وبعد الريح زلزال، ولم يكن الربّ في الزلزال.

12 وبعد الزلزال نار. ولم يكن الربّ في النار. وبعد النار صوت هادئ خفيف.

13 فلمّا سمع إيليّا الصوت، ستر وجهه بعباءته. وخرج ووقف بمدخل المغارة.

1- أخبار الأنبياء

في 1مل 19، يتركّز الكلام على لقاء بين النبيّ الذي سحقته الرسالة، وبين الربّ الذي كلّفه بالرسالة. ونستطيع نحن اليوم أن نجد جوابًا على ضيق قد يساورنا، بحيث لا نعرف كيف نلتقي بالله، ولا أين هي الطريق التي تقود إليه. هو ضباب كثيف، نتابع فيه الرسالة منذ فترة من الزمن. فكيف الخروج؟

أ- دورة إيليّا والتاريخ

نحن نقرأ هنا فقط حدثًا ممّا دُعي »دورة إيليّا« (1مل 17- 2مل 2) و»دورة أليشع« (2مل 2-13). هذه المقاطع الطويلة تعطينا الكثير عن تاريخ الملوك الذين عاصروا هذين النبيّين، وتخاصموا مع رجال الله. ومع ذلك، هي تتميّز عن التاريخ السياسيّ لشعب إسرائيل. وكيف دخلت دورتا إيليّا وأليشع هاتان في هذا الإطار التاريخيّ المتشعّب، وفي سفري الملوك الأوّل والثاني؟ هو تقليد يعود إلى الأنبياء، وقد ارتبط بتذكّرات دينيّة في مملكة الشمال. وشخصيّة إيليّا وأليشع، وعمل رجلَيْ الله هذين، فرضا على المدوِّن الأخير لكتاب الملوك أن يصبح خبرُ »الأنبياء« (ومنهم إيليّا وأليشع) جزءًا من خبر الملوك.

تدخّل هذان النبيّان مرارًا لدى الملوك، وخصوصًا آخاب ملك السامرة (869-850 ق.م.) وامرأته إيزابيل. كان خيار دينيّ أشرفت عليه سياسة التقارب مع فينيقية. ورافق هذا الخيارَ رغبةُ الملك والملكة من أجل عبادة بعل. وحتّى ثورة ياهو التي قلبت سلالة عمري، بإيحاء من أليشع الذي دفعه إيليّا وهو الذي لم يستطع أن يقوم شخصيٌّا بالمهمّة التي تلقّاها من السماء (1مل 19: 15-16). حتّى تلك الثورة التي قام بها واحد من ملوك إسرائيل، لم يكن أمينًا للربّ، سائرًا في طريقه المستقيمة. كلّهم ركضوا إلى الأصنام. يورام، يوآحاز، يوآش (2مل 3: 2؛ 13: 2؛ 13: 11). ولكنّ ياهو امتُدح من أجل عبادته اليهويّة (2مل 10: 30)، مع أنّه احتفظ في المملكة بأشكال إضافيّة »لعبادة الله«: ما زالوا يمثّلون الله بشكل عجل كما اعتادوا أن يفعلوا على مثال ما يُعمل في المعابد المجاورة. في هو 8: 5-6 نقرأ:

5 زنخ عجلُك أيّتها السامرة

وحميَ غضبي على بنيك

فإلى متى لا تتطهّرون.

6 صانع من إسرائيل

صنع عجلك أيّتها السامرة،

فكيف يكون إلهًا؟

وهكذا »بيت إيل« بيت الله، صارت »بيت أون« بيت الإثم. وكلّ هذا يعود إلى يربعام، أوّل ملك بعد انفصال القبائل على أثر موت سليمان. صنع عجلين »ووضع أحدهما في بيت إيل، والآخر في دان« (1مل 12: 29) ليمنع رعاياه من التوجّه إلى أورشليم. وعن ياهو الذي »قضى على عبادة البعل من إسرائيل« (2مل 10:28 قيل: »ما حاد عن خطايا يربعام... فأبقى على عجلَيْ الذهب في بيت إيل وفي دان« (آ29). في هذا الإطار، دُوّن خر 32: 1ي وعبادة العجل الذهبيّ في البرّيّة. كان عقاب موسى مريعًا في ذلك الوقت. فما يكون عقاب الله اليوم؟

ذاك كان الوضع داخل المملكة. وفي السياسة الخارجيّة، صاروا يحسبون حسابًا لمملكة آرام: أُرسل إيليّا ليجعل حزائيل ملكًا على دمشق (1مل 19: 15). ولكنّ أليشع سوف يقوم بالمهمّة (2مل 8: 7). ثمّ إنّ سياسة المعاهدات في إطار الزواجات مع أميرات فينيقيّات، جعل مملكة السامرة خاضعة لصور وصيدون، وهذا ما أثّر على السياسة الداخليّة كما على التوجّه الدينيّ، فكانت »حروب دينيّة حقيقيّة« فيها بدأت إيزابيل فقتلت أنبياء يهوه (1مل 18: 3). فكان الردّ بيد إيليّا حين قتل أنبياء البعل على جبل الكرمل (1مل 18: 40).

ب- إيليّا والأنبياء الذين بعده

تطلّع التقليد إلى ما فعله إيليّا وأليشع، قبل التوقّف عند خطبهم، ولكن إن لم يبقَ لنا منهم كتاب، كما هو الحال مع أشعيا وإرميا وهوشع. هذا لا يعني أنّهم جاؤوا على هامش الأنبياء في العالم العبريّ. فهناك سمات عديدة في وجه إيليّا تذكّرنا »بالأنبياء الكتّاب«. ونبدأ بغيرته (1مل 19: 10، 14) لمجد الله ونقاوة إيمانه. ثمّ حربه على أصناميّة البلاط الملكيّ والشعب. نقرأ في عا 8: 14: أولئك الذين يقسمون بآلهة السامرة، والذين يقسمون قائلين: »حيّ إلهك يا دان، وإلهك يا بئر سبع، يسقطون ولا يقومون من بعد«. وفي الخطّ عينه نقرأ هو 2: 7، 10:

7 لأنّ أمّهم زنت،

تلك التي حبلت بهم،

عملت أعمالاً شنيعة:

أتبع عشّاقي...

10 فهي لا تعرف

أنّي أنا أعطيتها القمح والخمر والزيت،

وأكثرتُ لها الفضّة والذهب،

فصنَعْت تمثالاً لبعل.

وحارب إيليّا جور الحكّام. وبّخ آخاب لأنّه قتل نابوت وأخذ منه أرضه (1مل 21): »بعتَ نفسك، وفعلت الشرّ أمام الربّ« (آ20). فالتقى مع عا 2: 6-8:

6 لأجل معاصي بيت إسرائيل،

حكمتُ حكمًا لا رجوع عنه

لأنّهم يبيعون الصدّيق بالفضّة،

والبائس بنعلين،

7 ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب،

ويزيحون المساكين عن طريقهم،

ويدخل الرجل وأبوه على صبيّة واحدة،

فيدنّسون اسمي القدّوس.

8 يستلقون على ثياب مرهونة،

بجانب كلّ مذبح،

ويشربون خمر المدينين لهم،

في بيت إلههم.

وراح هو 4: 2 في الخطّ نفسه، لا رحمة ولا معرفة الله، بل »اللعنة والغدر والقتل والسرقة والفسق. هذه كلُّها تجاوزت كلَّ حدّ. والدماء تلحق الدماء«. وتدخّل إيليّا (1مل 19: 15-16)، شأنه شأن أليشع (2مل 8: 7-15؛ 9: 1-13)، في السياسة الداخليّة في بلاده، فالتقى مع هوشع (ف 7):

6 قلوبهم تتّقد بالكيد كالتنّور،

وغضبهم يَخمد الليل كلّه،

ويتأجّج في الصباح كنار ملتهبة.

7 كلُّهم حامون كالتنّور.

ويأكلون قضاتهم

ملوكهم جميعًا يَسقطون،

ولا أحد فيهم يدعوني.

وفي الخطّ عينه قال هو 8: 4:

ينصّبون ملوك ولا يستشيرونني،

يقيمون رؤساءَ وأنا لا أعلم

ومن فضّتهم وذهبهم،

يصنعون أصنامًا لفنائهم.

وما تورّع الأنبياء من التدخّل في السياسة الخارجيّة. فقال عا 6: 13-14:

13 تفرحون بانتصاركم على لودبار:

بقوّتنا أخذنا قرنايم.

14 أقيم عليكم، يا بيت إسرائيل،

أمّة تضايقكم،

من ليبو حماة إلى وادي العربة.

وفي الحرب الآراميّة الأفرائيميّة، ساعة ارتجف آحاز، ملك أورشليم وشعبه، ارتجاف الشجر في وجه الريح (أش 7: 2)، وقف أشعيا ودعا الشعب إلى الإيمان إذا أرادوا لنفسه الأمان والسلام (آ9). رصين هو ملك دمشق فقط، لا ملك السماء والأرض. وابن رمليا قوّته محدودة تجاه قوّة الربّ القَدير. فلماذا الخوف على أورشليم وعلى السلالة الملكيّة؟ وكما شجّع أشعيا ملك يهوذا، شجّع أليشعُ ملكَ إسرائيل.

وأبرز النقدُ الكتابيّ التوازي بين خبر إيليّا وخبر أليشع. كلاهما رجلا الله. أقاما الموتى. أسعفا الفقراء والمحتاجين، وقفا في وجه الملك وما خافا. وتمجّد إيليّا في إطار النار الإلهيّة، وأليشع من خلال عظامه التي أقامت الميت الذي لمسها (2مل 13: 21).

2- شخصيّة إيليّا

أ- هو رجل سرّيّ

اكتفى كتاب الملوك بأن يدعوه رجل تشبيّ في جلعاد، في شرق الأردنّ (1مل 17: 1). فاستعمل المرجع النبويّ بالنظر إلى الملك آخاب، حيث لا نقرأ شيئًا يتيح لنا أن نحدّد موقع إيليّا في حياة إنسان ووجوده. من هو والده ووالدته، كما اعتاد كتاب الملوك أن يفعل في كلامه عن أحدهم، فيقول: هو ابن فلان. أمّه اسمها فلانة. ولكن لا شيء عن إيليّا. »هو بلا أب ولا أمّ وبلا نسب« (عب 7: 3) على مثال ملكيصادق. كلّ كلام عنه يرتبط برسالته. رماه روح الربّ (1مل 18: 2)، فوصل إلى سهل كريت، ثمّ إلى الكرمل، وبعده في فينيقية. وصل إلى حوريب ومنه انتقل إلى دمشق ثمّ إلى قصر آخاب. حتّى إنّ آخاب لم يعرف كيف يلتقي به. قال مرسل الملك: »حيّ هو الربّ إلهك. ما من أمّة ولا مملكة إلاّ أرسل إليها سيّدي الملك يسأل عنك« (1مل 18: 9). ولمّا قال إيليّا: قل له أنا هنا، أجاب: »فماذا لو أنّ روح الربّ، بعد ذهابي من عندك، أخذك إلى حيث لا أعلم« (آ12)

وفي النهاية، نجد إيليّا يعبر نهر الأردنّ، فينتهي أمره في الرمال بحيث لا يعرف أحدٌ مدفنه، مع أنّهم بحثوا عنه كثيرًا. لا شكّ في أنّه مع الله، شأنه شأن الأبرار، بعد أن زاره الله زيارة أخيرة وهو »على مركبة ناريّة وخيول ناريّة« (2مل 2: 11). ولكنّه اختفى فجأة كما ظهر فجأة.

هذا النبيّ يرتجف أمام غضبة العظماء، وفي الوقت عينه يقف في وجههم ويوبّخهم على سيّئاتهم. نقرأ في 1مل 19: 3 أنّه عرف بتهديد إيزابيل له »فهام على وجهه«، لأنّه خاف. ولكنّه هدّد آخاب وزوجته إيزابيل فألقى عليهما الحرم. وما نلاحظ هو أنّ توبيخ إيليّا نفع أخاب، أقلّه لبعض الوقت، »فمزّق ثيابه، ولبس مسحًا ونام فيه، وصام ومشى منكَّس الرأس« (1مل 21: 27).

احتفظ ابن سيراخ من إيليّا بهذه الصورة (ف 48):

9 أُصعدت إلى السماء في مركبة ناريّة،

وسط عاصفة من نار

10 وجاء أنّك تأتي في الوقت المحدَّد،

لتهدّئ غضب الربّ

وتردّ عطف الأب إلى الابن،

وتصلح أسباط بني يعقوب.

11 هنيئًا لمن يحيا ليراك،

ولمن يموت شوقًا إليك.

ونسمع هنا بعض ما قالته تقاليدُ المعلّمين التي عادت إلى ملا 3: 23-24:

23 أرسل إليكم إيليّا النبيّ،

قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم

24 فيصالح الآباء مع البنين،

والبنين مع الآباء.

ووصل صدى هذه الأقوال إلى العهد الجديد، في كلام عن »السابق« يوحنّا المعمدان الذي »يسير أمام الله بروح إيليّا وقوّته، ليصالح الآباء مع الأبناء، ويُرجع العصاة إلى حكمة الأبرار، فيهيئ للربّ شعبًا مستعدًا« (لو 1: 17). ولمّا سأل التلاميذ يسوع، بعد خبرة التجلّي عن مجيء إيليّا، أجابهم: »ولكنّي أقول لكم: »جاء إيليّا فما عرفوه، بل فعلوا به على هواهم...«. ففهم التلاميذ أنّه كان يكلّمهم عن يوحنّا المعمدان (مت 17: 10-13).

ب- إيليّا التصوّفي

واهتمّت الروحانيّة المسيحيّة بوجهة أخرى لدى إيليّا الذي نعم بسرّ أحاط بداية حياته ونهايتها. فرأت فيه ذاك التصوّفيّ، الناسك، العائش في البرّيّة. وهكذا لبث إيليّا رجل الوحدة: اعتزل عند وادي كريت حيث جاءه العرب (لا الغربان) فحملوا إليه الطعام (1مل 17: 3-6). واعتزل على جبل الكرمل (1مل 18: 41) فاختاره الرهبان الكرمليّون مثالاً لهم. وكان خاضعًا كلَّ الخضوع، مستسلمًا بين يدي الله. قيل له: إذهب إلى صرفت صيدا. فذهب (1مل 17: 8). أما هكذا قال الربّ لإبراهيم؟ وقال له الربّ: »إذهب إلى آخاب« فذهب، مع أنّ الوضع كان متأزّمًا (1مل 18: 1-2). وهرب إيليّا إلى جبل حوريب. وتمنّى أن يبقى هناك، شأنه شأن التلاميذ على جبل التجلّي. قال له الربّ: »إرجع في طريقك« (1مل 19: 15). فرجع (آ19).

هذا التصوّفيّ عرف خبرة رائعة على الجبل. عاش حياة حميمة مع الله، فكانت خبرة رافقته طوال حياته، وحتّى مماته. حين أمسكه الربّ بيده اليمنى وأصعده في المجد (مز 73: 23-24). هذا ما نتأمّله الآن في النصّ الذي نقرأ.

3- قراءة النصّ (19: 1-13)

أ- المسيرة إلى حوريب (آ3-8)

خبر إيليّا يشبه إلى حدّ بعيد خبر موسى الذي كان أوّل »نبيّ« للربّ، وقائد الشعب في مسيرته. عنه قال تث 34: 10: »ولم يَقُم من بعدُ نبيٌ في إسرائيل كموسى، الذي عرفه الربّ وجهًا لوجه«.

أوّلاً: هرب

هرب النبيّ من غضب إيزابيل وآخاب، لأنّه أحسّ أنّه مهدَّد في شخصه (19: 2). فقبله أنبياء عديدون قُتلوا (18: 13). وسبقه موسى حين هرب من غضبة الفرعون ومضى إلى البرّيّة (خر 2: 13-15). وإلى هناك اقتاد الشعب ليخلّصه من العبوديّة وعبادة الأوثان (خر 3: 16-17). وكما غلب موسى سحرة مصر بقدرة الله، هزم إيليّا، بالقدرة عينها، أنبياء بعل. عند النبيَّين، كان صراع معلن بين أقوياء هذا العالم ورجال الله.

هرب موسى إلى مديان حيث تراءى الله له في نار العلّيقة (خر 2: 15؛ 3: 1). ومضى إيليّا إلى الجنوب، إلى »أرض يهوذا«. وهكذا أفلت من سلطة ملك السامرة. توقّف في بئر سبع (حيث كان إبراهيم وإسحق)، فكان حاجزٌ بينه وبين بلاط السامرة. وغاص في رمال النقب ووحدتها، حيث عرف الجوع والعطش. ولكنّ الربّ اعتنى به، فشعر أنّه قريب منه من دون أن يدري. حمل إليه، ربّما أحد الرعيان، »رغيفًا وجرّة ماء«. فأكل وشرب (آ6). وفهم أنّ الله لم يتركه. فهو يرافقه. بل يعيش معه حياة حميمة على جبل حوريب.

بدا لنا إيليّا (آ4) رجلاً فقَدَ عزيمتَه، فطلب الموت لنفسه. وموسى عرف مرارة شبيهة. خاب أمله، فحمل ثقل رسالته، وطلب الموت لنفسه. هذا ما نقرأه في عد 11: 10-15:

10 فلمّا سمع موسى الشعبَ يبكون، كلُّ عشيرة على باب خيمتها، والربّ غاضب جدٌّا، ساء ذلك موسى.

11 فقال موسى للربّ:

»لماذا تسيء إلى عبدك؟

ولماذا لم أجد حظوة عندك حتّى وضعتَ أثقال هؤلاء الشعب عليّ؟

14 لا أطيق أن أحمل هذا الشعب كلّه، لأنّه ثقيل عليّ.

15 فإن كان هذا ما تفعله بي، فاقتلني إن كان لي حظوة عندك، حتّى لا أرى بليّتي«.

وكان نبيّ آخر. اسمه إرميا. هو أيضًا عرف هذا الضيق. فقال: »ويل لك يا أمّي، لأنّك ولدتني في خصام ونزاع، وكلّ واحد يلعنني« (إر 15: 10). واشتكى إرميا في 20: 14-18:

14 ملعونٌ اليومُ الذي ولدتُ فيه:

اليوم الذي ولدتني أمي فيه

لا يكون مباركًا.

15 ملعون من بشّر أبي:

»وُلد لك ولد«، ليُفرحه.

17 ليت الربّ قتلني في الرحم

حتّى تكون لي أمّي قبرًا

18 لماذا خرجتُ من الرحم،

لأرى البؤس والحزن،

وتفنى أيّامي في العار.

في هذا المجال، قال إيليّا: ما أنا خيرٌ من آبائي. أتراه يفكّر بالأنبياء ولا سيّما بأولئك الذين قتلتهم إيزابيل الملكة؟ أتراه يتطلّع إلى موسى وإلى الذين نالوا الروح فتنبّأوا وأعانوه في تدبير شعب »رقبته قاسية«. كلّهم ماتوا. واعتبر إيليّا أنّه ليس أفضل منهم: لماذا لا يأخذ الربّ حياته أيضًا؟

ثانيًا: ملاك الربّ

تراءى له ملاك الربّ. مرسل من عند الربّ. أو هو الربّ نفسه الذي يخاطبه في آ9. يقدّم العهد القديم مرارًا الملائكة الذين يوكّلون بمهمّة لدى البشر، ولا سيّما في الكتب المتأخّرة. في سفر طوبيّا (12: 15). في سفر دانيال (14: 34-35). في نبوءة زكريّا (2: 2). ولكن عبارة »ملاك الربّ« تدلّ في أغلب المرّات على الربّ نفسه. و»ملاك الربّ« هذا سوف يتراءى مرّة أخرى على إيليّا ليحمّله مهمّة صعبة لدى أخزيا: »إذهب إلى مرسل ملك السامرة وقل له« (2مل 1: 3).

أعدَّ الربّ لإيليّا طعامًا: خبزًا نضج على الحجر، وأبريق ماء. قبل ذلك، أمّن له الربّ طعامًا بواسطة العرب، بدو الصحراء، عند وادي كريت (1مل 17: 16). برّيّة بئر سبع جافّة. ولكنّ الربّ أطعم في الماضي شعبًا يسير فيها، وسقاه من ماء الصخر (خر 17: 6-7؛ عد 20: 9-11)، أو حلّى له مياه مارّة (خر 15: 22-25). كما أعطاه المنّ والسلوى (خر 16: 9-16). وهكذا كانت مسيرة إيليّا شبيهة بمسيرة شعب الخروج بقيادة موسى.

وأعطيَ هذا العون الإلهيّ لإيليّا، لا دعوةً له لكي يعود إلى الوراء، إلى مملكة إسرائيل من حيث أتى، بل ليواصل الطريق حتّى حوريب حيث سيكون له لقاء مع الله وبعد اللقاء سيُقال له بأن يرجع (آ15) ويواصل المهمّة. أمّا الآن، فهو يعيش ما عاشه الشعب الأوّل بعد الخروج من مصر. وإيليّا »خرج« من السامرة التي لا تتميّز كثيرًا عن مصر بأصنامها، وبالحكم الاستبداديّ فيها. وكما أنّ الشعب لم يبقَ في سيناء، بل انطلق متزوّدًا بوصايا الله وكلماته، هكذا يُطلب من إيليّا أن يفعل.

توخّى الخروج من مصر أن يخلّص الشعب من تسلّط فرعون وعبوديّته، ومن المناخ الأصناميّ المصريّ الذي يهدّد أمانته لإيمان الآباء. وتوخّى بشكل خاصّ أن يؤمّن اللقاء بين الله وشعبه. فأمّن الربّ زاد الطريق للذين يطلبون رؤية وجهه. وفعل لإيليّا ما فعل لهم بعد قرون من الزمن.

3- جبل حوريب

اسم جبل الله هو »حوريب«. هناك أعطيَتْ الشريعة. وهناك موسى تلقّى رسالة (خر 3: 10). ومثله سيُعطى إيليّا أمرًا بأن يمسح حزائيل، ملكًا على آرام. وراح بعضهم يماهي بين موسى وإيليّا (كانا معًا على جبل التجلّي مع يسوع) كوسيطَيْ العهد على حوريب، لا سيّما وأنّ حوريب هو سيناء. نتذكّر أنّ التقاليد رفضت تسمية »سيناء« لارتباط الاسم بالإله »سين«، القمر، في الأدب السومريّ. فجبل الله يدلّ على تسامي الله، فلهذا يرفض رفضًا جذريٌّا ما يتعلّق بالآلهة المتعدّدة. »لا يكن لك إله غيري«.

فسّرت الكرازة المسيحيّة هذا النصّ على أنّه صورة مسبقة عن الإفخارستيّا، التي هي زاد المؤمن خلال حجّه على الأرض. خاف بعض الآباء من وجود الماء قرب الخبز، لا سيّما وأنّ بعض »الهراطقة« الذين رفضوا شرب الخمر، اعتادوا أن يحتفلوا بالإفخارستيّا مع »الخبز والماء«. المهمّ هو أنّ ملاك الربّ أعطى إيليّا القوت المقوّي، وهكذا استطاع أن يتوجّه إلى حوريب ويمشي »أربعين يومًا وأربعين ليلة«، على مثال بني إسرائيل الذين قضوا في البرّيّة أربعين سنة (عد 14: 33؛ 32: 13؛ تث 8: 2؛ 29: 4). فبعد رفض الجواسيس، قال الربّ: »بعدد الأيّام التي نجّستم الأرض فيها، وهي أربعون يومًا تتحمّلون عاقبة آثامكم، أربعين سنة. كلَّ يوم بسنة« (عد 14: 34). إذًا، هو زمن المحنة الذي ينتهي في اللقاء بالربّ.

في تلك المسيرة الطويلة، نال العبرانيّون المنّ من السماء، والماء من الصخرة، زادًا لهم في السفر. وإيليّا أيضًا وجد بقربه رغيفًا من الخبز وجرّة ماء. وحين ذكر المسيح »الخبز النازل من السماء« (يو 6: 58)، جاء الرباط طبيعيٌّا بين أحداث الخروج وهذا الحدث في حياة إيليّا، وتدبير العهد الجديد. في الحالات الثلاث، دلّ الربّ على عنايته: تجاه الذين أطلقهم في الطريق إلى الحرّيّة مع موسى. تجاه إيليّا الذي اختار الحرّيّة في عبادة الله على عبوديّة في خدمة إيزابيل واجتماع حول مائدتها. تجاه المسيحيّين بطريقهم الطويلة من أجل اللقاء بالله. لهم جميعًا، كان الخبز الذي قدّمه الله »خبز الحياة«. تلك هي كلمة يسوع. والخبز الذي تكاثر في معجزة أجراها، والخبز الإفخارستيّ. في خبر إيليّا، نقرأ استباقًا لاهتمام المسيح الذي يمنح أخصّاءه الطعام الحيّ والمحيي، جسده ودمه »للحياة الأبديّة«، وهناك يكون اللقاء النهائيّ مع الله.

ب- تجلّي الربّ على حوريب (آ9-13)

أوّلاً: إيليّا موسى آخر

اكتشفنا التوازي بين رجلَيْ الله، وها نحن نكتشفه في لقاء الربّ وخادمه إيليّا. توسّع الكتاب في ذكر الظروف التي فيها تمّت لقاءات موسى مع الله: قرب العليقة الملتهبة (خر 3: 1-6)، اختبر موسى قداسة الله في تساميها. وعلى جبل سيناء، في بروز بهاء لا مثيل له، رأى نفسه معيَّنًا كوسيط عهد وشريعة بين الربّ وشعبه (خر 19: 3-25؛ 24: 1-18؛ 32: 18). عبر هذه النصوص كلّها، برز وجه موسى في تصوّفه: هو صديق الله وخليله. ولكن سيطر أيضًا عليه الخوفُ والإعجاب. أراد أن يرى الربّ في مجده، في طريقة حضوره وتجلّيه، وفي الوقت عينه حدّد موقعه في مناخ الثقة والصداقة.

وكما بالنسبة إلى موسى وأنبياء آخرين، اهتمّ التقليد أيضًا باللقاء بين الله وإيليّا، وبالكلمات التي قيلت في تلك الظروف. في 1مل 17: 3-4:

3 »إذهب من هنا نحو الشرق واختبئ عند نهر كريت، شرقيّ الأردنّ.

4 فاشرب من النهر، وأنا أمرتُ بعض العرب (الغربان كما قال اليونانيّ) أن يطعموك هناك.

وفي 17: 8، وبعد أن جفّ نهر كريت، قال الربّ لإيليّا:

»إذهب إلى صرفت صيدا وأقم هناك، وأنا أمرت أرملة أن تطعمك«.

وقبل الحرب على بعل، سمع إيليّا نداء الربّ في 18: 1:

»إذهب إلى آخاب واحضر أمامه فقريبًا آتي بالمطر«.

أمّا في 18: 46، فنقرأ: »كانت يد الربّ مع إيليّا، فشدّ وسطه بزنّار، وجرى أمام مركبة آخاب حتّى إلى يزرعيل«. في 19: 15، فهم إيليّا أنّ عليه أن يرجع في طريقه. وفي 21: 17، أنّ عليه أن يمضي إلى كرم نابوت ويحمل إلى آخاب ما يقوله الله له.

أحاط السرّ بموت موسى. دُفن في الوادي. وقال النصّ إنّ الله دفنه. وانتهت رسالة إيليّا في السرّ. قد يكون دُفن جسمه في الرمل. ولكنّ الله أخذه إليه، وترك أليشع يواصل الرسالة (2مل 2: 1). كلُّ هذه النصوص المتعلّقة بإيليّا تبدو صدًى لما عاشه موسى الذي حضر أمام الله الرهيب.

ب- إيليّا وعلامات من الله

في أيّ ظروف التقى إيليّا بالله؟ بعد أن هرب خائفًا، التجأ إلى مغارة، وهناك كان له حوار (آ9-10) مع الله، الذي بادر فسأله: »ما بالك هنا يا إيليّا«؟ ماذا تعمل هنا؟ هل رسالتك في مملكة إسرائيل، أم في هذه المغارة؟ وتكلّم إيليّا وتكلّم، واشتكى وندب الواقع. بعد ذلك، سيكون إيليّا صامتًا. وأورد المدوِّن العلامات الكونيّة التي تسبق التجلّي الإلهيّ (آ11-12). ولكنّه أعلن: هي لا تكفي لتدلّ على حضور الله.

الريح أوّلاً. لا يذكرها الظهور في سيناء (خر 19: 16-19). ولكنّ مز 29: 3-9 يماهي بينها وبين صوت الربّ. تمرّ على المياه. تكسر أرز لبنان، تهزّ الأشجار وتعرّيها فتجعل المؤمن يهتف: المجد لك يا الله:

3 صوت الربّ على المياه...

4 صوت الربّ يكسّر الأرز،

يكسّر الربّ أرز لبنان

9 صوت الربّ يهزّ الأشجار،

يعرّي الربّ أشجار الغابة.

اعتاد الكتاب أن يرى صوت الله في ضجيج الرياح التي تهيّج البحر وتحرّك الغابة. أمّا هنا، فإيليّا لم يرَ الله في الريح. وكان زلزال كعلامة لحضور الله الرهيب. هو إله العاصفة كما تصوّره الكنعانيّون مع بعل أو هدد. هذا ما وجدناه في ظهور سيناء (خر 19: 16-19):

16 وحدث في اليوم الثالث عند الصباح، أن كانت رعود وبروق وسحاب كثيف على جبل سيناء، وصوت بوق شديد جدٌّا، فارتعد جميعُ الذين في المحلّة.

17 فأخرجهم موسى من المحلّة للقاء الله. فوقفوا عند أسفل الجبل.

18 والجبل يلفُّه دخان، لأنّ الربّ نزل عليه بالنار، فتصاعد دخانُه كدخان الأتون، واهتزّ الجبل اهتزازًا شديدًا.

19 وكان صوت البوق يرتفع جدٌّا، وموسى يتكلّم، والله يجيبه بقصف الرعد.

هل تذكّر الكاتب خروج بركان، أو تصوَّر قدرة الله في انقلاب كونيّ يدلّ على »دينونة الله« في نهاية الكون؟ الأمران معقولان. وجاءت النار، كما على سيناء، وقبل ذلك في العلّيقة الملتهبة حيث نفهم أنّ الله نار آكلة. قال تث 4: 11-12:

11 اقتربتم، ووقفتُم في أسفل الجبل، والجبل مضطرم بالنار إلى أعالي السماء، وعليه الظلام والسحاب والضباب،

فكلّمكم الربّ من وسط النار، فسمعتم صوته، ولكن لم تروا صورة.

شدّد هذا النصّ على حضور الله في النار، مع برهان لا يقبل الشكّ بأنّ الربّ يرفض أن يصوَّر بشكل إنسان أو بشكل حيوان. ارتبط انتظار تجلّي الله في النار، بتقليد سيناء أو استقلّ عنه، ولكنّنا نجده في أكثر من موضع في الكتاب المقدّس. ففي سفر التكوين (15: 17) ظهر الله لإبراهيم في »تنّور دخان ومشعل نار« لكي يقيم معه عهدًا (آ18). وتجلّى الله أيضًا في النار العاصفة، نقرأ مز 18:

13 من البريق الذي أمامه،

تفجّرت الغيوم بردًا وجمر نار.

14 أرعد الربّ من السماء،

وأسمع العليُّ صوته،

بردًا وجمر نار

15 أرسل السهام فانتشرت،

والبروق فتطايرت بكثرة.

وتحدّث يوء 3: 3 عن البرق والنار وأعمدة الدخان، وصوّر حبقوق (ف 3) مجيء الله القدّوس من تيمان، من جبل فاران:

3 غطّى جلاله السماوات،

وامتلأت الأرض من تهليله

4 يجيء كلمعان البرق،

ومن يده يسطع النور،

وفيها تستتر عزّتُه.

أشار عنصر اسكاتولوجيّ يرتبط بنهاية العالم، وبتطهير الأرض (كما المعدن في البوتقة)، إلى عقاب الأشرار، كما قال أش 30: 30:

يُسمع الربُّ جلال صوته،

ويُري كيف تهوى ذراعُه،

للغريب في هيجان غضبه،

ولهيب ناره الآكلة،

في الرعد والمطر وحجارة البرَد.

ويتدخّل الله أيضًا بناره لكي يتحقّق من قيمة ايماننا (1كور 3: 12-13):

12 فكلّ من بنى على هذا الأساس (= يسوع المسيح)، بناءً من ذهب أو فضّة، أو حجارة كريمة، أو خشب، أو قشّ، أو تبن،

13 فسيظهر عمله، ويوم المسيح يعلنه، لأنّ النار، في ذلك اليوم تكشفه وتمتحن عمل كلّ واحد.

ومع كلّ هذا الذي رآه إيليّا، لم يكن الله في النار.

ج- حضور العمق والهدوء

استبعد الكاتب كلَّ تلاقٍ بين الربّ وتجلّيات قدرته، مهما فيها من انقلاب، وإن هي بدت في فكر شعب الله علامة على سيادة الربّ في الكون، وسلطانه في شعبه. هو يأتي ويمنح عهدًا ويفرض شريعة. وإن رفضت الأمم دُمِّرت. والبشريّة سوف تُدان في إطار من البروق والرعود والزلازل. لا شيء من هذا له قيمة حين الكلام عن ظهور لله لنبيّ خائف من الملكة، ومرتعب من غضبها. وهكذا استُبعد تفسير قوى الطبيعة كما في الديانات الكنعانيّة. وغياب الله، أو بالأحرى »صمته« فتح إيليّا على التصوّر الحقيقيّ لتسامي الله. إنّها خبرة مشاهدة تصوّفيّة، وتطهير ضروريّ عبر الغياب ورفض الملموس الذي نحمّله معنى.

هو »نسيم هادئ« شبيه بنسيم المساء الذي رافق زيارة الربّ لآدم في جنّة عدن (تك 3: 8). عند ذلك استشفّ إيليّا حضور الله، و»عرفه« من خلال الكلمات التي وجّهها الله إليه حين وصوله إلى المغارة (آ9-10). وتحدّث إيليّا، كما سبق له وفعل، عن غيرته، وعن مرارته حين رأى انهيار الديانة اليهويّة وموت رفاقه. حينئذٍ كلّف الله نبيّه الذي ما زال خائفًا، بمهمّة لدى »سبعة آلاف« لم يتركوا الإله الحقيقيّ للسجود أمام البعل (19: 15).

حين استشفّ إيليّا حضور الله »ستر وجهه بعباءته«، كما يفعل رجال الله حين يقترب اللاهوت منهم. مرّات عديدة طلب الربُّ نفسُه من الذين اختارهم، أن يحفظوا المسافة التي تدلّ على تساميه. »فما من أحد يستطيع أن يرى الله ويحيا« (خر 33: 20)، أي يبقى على قيد الحياة. كذلك، كان موقف موسى وردّة الفعل عنده، كما في خر 33: 21-23:

21 وقال الربّ:

»هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة.

22 وحين يمرُّ مجدي، أجعلك في فجوة الصخرة، وأغطّيك بيدي حتّى أمرّ.

23 ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري. وأمّا وجهي فلا تراه.

وخاف أشعيا (6: 4) فقال:

»ويل لي! هلكتُ، لأنّي رجل دنس الشفتين، ومقيم بين شعب دنس الشفاه، والذي رأته عيناي هو الملك الربّ القدير«.

ومنوح والد شمشون، كان له الحوار التالي مع امرأته، بعد ظهور الربّ لهما (قض 13: 21-23):

21 لم يعد ملاك الربّ يتراءى لمنوح وزوجته، فعلم منوح من ذلك أنّه ملاك الربّ.

22 فقال لامرأته:

»سنموت لأنّنا رأينا الله«.

23 فأجابته امرأته:

»لو أنّ الربّ أراد أن يُميتنا، لما قبل من أيدينا محرقة وتقدمة، ولا كان أرانا جميع ما رأينا، ولما أسمعَنا ما سمعناه الآن«.

وإن بدا الله أنّه وافق موسى على طلبه حين أراد أن يرى مجده، وإن بدا أنّ موسى كان يتحدّث في خيمة الاجتماع وجهًا لوجه مع الربّ، كما الإنسان مع صديقه (خر 34: 34)، إلاّ أنّ الله ما زال يؤكّد أنّه القدير، المتسامي. أنّه غير البشر. أنّه إله لا إنسان. كان إيليّا وموسى معه في تجلّي تابور (مت 17: 3)، في شكل حميم. هم ما عادوا من هذه الحياة. أمّا الرسل فسجدوا بوجههم إلى الأرض حين سمعوا الصوت السماويّ، وفهموا مقصد الله بأن يمجِّد عباده وأصدقاءه: رافقوه في مهمّتهم على الأرض، وها هم يرافقونه في السماء.

وهكذا نرى في هذا الخبر نيّة الكاتب الملهم في أن يُبرز رحمة الله تجاه دالّة الذي حارب من أجل قضيّته، وتألّم من وضع يعيش فيه شعبه. وفي الوقت عينه، هذا الإله المتسامي له متطلّباته، وهكذا تأكّد النبيّ أنّ عون الله القدير حاضر معه في رسالته الجديدة.

الخاتمة

تكون الخاتمة طويلة، لأنّها تقدّم النظرة المسيحيّة لخبرة إيليّا مع الله.

أ- اللقاء بالله

ويُطرح السؤال: هل من مكان بعدُ، في عالمنا المسيحيّ، لإيليّا ولجبل حوريب؟ فاللقاء بالله، في حياة موسى وإيليّا، ليس بالأمر المجّانيّ، وهو لا يتوخّى فقط بأن يُغني غنى روحيّا، حياة تصوّفيّة شخصيّة، ولا أن يجازي حياة من الاستقامة. لسنا هنا أمام نهاية تطهير للإيمان من الرواسب، كما يمكن أن نستنتج ممّا يقوله الكتاب عن أخنوخ الذي جاء »صعوده« إلى الله شبيهًا بصعود إيليّا: »سلك أخنوخ مع الله، وما عادوا يرونه لأنّ الله أخذه« (تك 5: 24). غير أنّ التقاليد القديمة لا تقول شيئًا عن أخنوخ، وكيف »سلك مع الله«.

أمّا إيليّا فهو رجل مهمّة ورسالة. التزم في وسط تقلّبات الحياة الدينيّة لدى قسم من شعب الله، في مملكة الشمال. وإن أردنا أن نشدّد على الخارق في حياته، ونتوقّف فقط عند الوجهات السرّيّة، نشوّه معنى الظهور الإلهيّ الذي نعِم به. فكلّ مرّة ظهر الله له، أو كلّمه، فلكي يرسله إلى العمل، لكي يسلّمه مهمّة خطيرة. هو إنسان التصوّف، ولكنّه تصوّف الطرقات الصعبة، ونحن لا نستطيع اللحاق به. من جلعاد إلى فلسطين، إلى دمشق، إلى فينيقية. تارة يظهر وطورًا يختفي.

في عصرنا، ساعة الأصنام تجذبنا وتعِدُنا بالكثير، بعد أن حلَّت محلَّها الأبعال التي عرفتها مملكة إسرائيل. ساعة قوى الإعدام والدمار تحاول أن تُلغي كلّ حضور علويّ وناشط لله في حياة البشر، فتخدمها اعتدة نفسيّة، اجتماعيّة، أين منها سيوف إيزابيل وآخاب ومركباتهما الحربيّة، نُخطئ خطأ كبيرًا إن اعتبرنا أنّنا لا نحتاج بعد إلى أنبياء يتجرّأون فيقولون: »إلى متى تعرجون بين الجنبين؟ إن كان الربّ هو الله فاتّبعوه. وإن كان البعل (المال، الفجور، المخدِّرات التي تبعد البعض من الواقع وتغني البعض الآخر، الكبرياء وحبّ العظمة، العنف) فاتبعوه«. فأنا أبقي وحدي عابد الربّ (1مل 18: 21).

بالنسبة إلى إيليّا، وبالنسبة إلينا نحن أيضًا، اللقاء بالله يبدأ بخدمة العدالة وإحقاق الحقّ لدى البشر. ويوحنّا المعمدان كان هو أيضًا في زمن يسوع، خادم القضيّة التي دافع عنها إيليّا. لهذا قال عنه المسيح: إنّ إيليّا جاء. وإن عاد إيليّا أيضًا، فبأسماء أخرى ولكن من أجل حروب أخرى. ونحن لا نحتاج إلى إعمال المخيّلة لنجد أنّ بيننا أكثر من إيليّا. ما عرفوهم، بل ما عرفوا يسوع لأنّه كان شبيهًا بهم (يع 5: 17)، فخضع لما خضعوا له من ألم.

ب- على جبل حوريب

كما فعل الله مع إيليّا على جبل حوريب، هو يتجلّى الآن في الصمت، أكثر منه في عناصر الطبيعة الهائجة، كما كان الأمر في سيناء مع موسى. قد نتوق إلى اللقاء بالله بطرق المشاهدة التصوّفيّة. هكذا كانت تريزيا الأفيليّة أو يوحنّا الصليب. ولكنّ اللقاء بالله ممكن للجميع، ونحن كلّنا فيه راغبون. فأين نجد جبلنا، جبل حوريب؟ والجواب: »هناك برّيّة صامتة للذين هم أهل لها«. نستطيع دومًا أن نصل إلى الله، فهو ليس بغائب عن عالمنا. ما رأى إيليّا وجه الله، بل سمع صوت »ملاك الربّ«. أحسّ بنسمة ناعمة، نسمة الروح عبر الشراع (شراع السفينة، العباءة) الذي ستر به وجهه.

عرف إيليّا، على مدّ صراعه غيرة على الإيمان، أنّ الله معه، لا ليعطيه طمأنينة كاذبة، بل ليدفعه أيضًا إلى الأمام. لا توقّف مع الله. وحوريب كان محطّة ولم يكن الهدف الأخير. كان نقطة ماء شرب النبيّ ومضى. وهذا اللقاء الذي لم يتوقّعه إيليّا، فرض عليه أن يخرج من أرضه، من ذاته، من أفكاره السوداء لأنّها التحفت بالخوف. وهكذا اختبر اللامنتظر، وعرف أهميّة الجهوزيّة. نحن لا نحدّد ساعة اللقاء بالربّ، ولا المكان. بل هو. وقد يأخذ طرقًا ما خطرت ببال أحد. ثمّ إنّ الاتّصال بالله يكون عاديٌّا بدون انخطاف يغرّبنا عن ذواتنا. له وحده المبادرة ونحن نتجاوب مع الشروط التي يضعها لنا. ويكون لنا »خبز الله وماؤه« الغذاء في طريقنا اليوميّة الطويلة. طريق إلى الله، وطريق البشر. طريق نبيّ حامل كلمة الله، وعلامة لعالم ضائع، يائس. وحده رجل الله يستطيع أن يعيد إليه الأمل، ويكون النجم الذي يضيء له الطريق.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM