إيليّا يقيم ابن الأرملة.

 

إيليّا يقيم ابن الأرملة

1 مل 17: 17-24

حين نقرأ خبر المعجزات، نحاول قبل كلّ شيء أن نبيّن قدرة الله، أو قدرة يسوع المسيح. هو موقف دفاعيّ وكأنّ المعجزة مهمّة لكي تُصمت الآخرين في ما يتعلّق بلاهوت المسيح. المعجزة تعليم هي أيضًا. فيسوع يكلّمنا بنعمه، كما يكلّمنا بيده حين يُجري معجزة من المعجزات. وأطلّت علينا نظرة أخرى إلى المعجزات: ما الذي حصل في الحقيقة؟ وكيف تجاوز صاحب المعجزة نواميس الطبيعة؟ كلّها أسئلة تبعدنا عن مخطّط الله وندائه إلى البشر. فنحن لا نقرأ المعجزة وكأنّها واقع مستقلّ في ذاته. هي تدخل في حياة يسوع، فتقدّم لنا دليلاً نسير فيه. شفى يسوع ابن أرملة نائين (لو 7: 11-17) فدلّ قبل كلّ شيء على أنّ قلبه قلب أمّ، لا يمرّ دون أن يهتمّ بمثل هذه الأرملة التي خسرت ابنها الوحيد. فماذا بقي لها؟ الربّ. فهو قال لها: لا تبكي. وهذا الشفاء سبقه شفاء مماثل، قام به إيليّا. أقام ابن الأرملة في صرفت صيدا. وهكذا دلّ هذا النبيّ أنّه »رجل الله«، ذاك المؤمن المتعلّق بالربّ، الحامل كلمته والمعلن حضوره وقدرته.

وها نحن نقرأ ما فعله هذا النبيّ في 1مل 17: 17-24. استقبلت الأرملة النبيّ أجمل استقبال. فرأت أنّ النتيجة موت ابنها! ولكنّ الربّ إله الحياة لا إله الموت.

17 وبعد ذلك، مرض ابن الأرملة، صاحبة البيت، مرضًا شديدًا حتّى الموت

18 فقالت لإيليّا:

»ما لي ولك، يا رجل الله، جئتني لتذكّرني بذنوبي وتُميت ابني!«

19 فقال لها إيليّا:

»أعطيني ابنك«.

وأخذه من حضنها إلى العلّيّة التي يُقيم فيها، ومدّده على سريره،

20 وصرخ إلى الربّ وقال:

»أيّها الربّ إلهي، لماذا أسأتَ إلى الأرملة التي أضافتني فأمتَّ ابنها؟«

21 وتمدّد على الصبيّ ثلاث مرّات، وصرخ إلى الربّ وقال:

»أيّها الربّ إلهي، لتَعُدْ روحُ الصبيّ إليه«.

22 فاستجاب الربّ له، فعادت روحُ الصبيّ إليه وعاش.

23 فأخذ إيليّا الصبيّ، وأنزله من العلّيّة إلى البيت، وسلّمه إلى أمّه، وقال لها:

»أنظري، عاش ابنك«.

24 فقالت المرأة لإيليّا:

»الآن علمتُ أنّك رجل الله، وأنّ كلام الربّ في فمك صادق حقٌّا«.

1- دورة إيليّا (1مل 17: 1-2مل 2: 13)

نقرأ في كتاب الملوك (1مل + 2مل) سلسلة من الأخبار تكوّن ما دُعي »دورة إيليّا«. هذه المجموعة لا تبدو موحَّدة ولا متماسكة، كما تشاء البلاغة اليونانيّة. فنبدأ ونضع جانبًا ف 20 الذي يتحدّث عن حملتين على الآراميّين. ثمّ ف 22 الذي يقدّم لنا شخص نبيّ آخر، اسمه ميخا بن يملة، في إطار الحرب مع الآراميّين. في هذين الفصلين، يبدو آخاب في وجه عرضيّ، عكس ما تقول أخبار إيليّا. فهذا النبيّ لم يرضَ يومًا عن آخاب الملك الذي اعتبره »باع نفسه للشرّ«، ولا عن الملكة إيزابيل.

دخل النبيّ على »مسرح الأحداث« (17: 1) فجأة وفي شكل لا يتوقّعه أحد، فجاءت الفجوات عديدة في أخبار دورة إيليّا. فنستنتج أنّ صاحب كتاب الملوك ما توخّى أن يعطينا رواية متواصلة وتامّة عن حياة إيليّا ونشاطه، بل أراد أن يرسم سلسلة من اللوحات التي تُشير إلى حياة النبيّ، فأخذ عناصر من سيرته واكتفى بها.

وبين هذه اللقطات السريعة، نجد عددًا من الأحداث العجائبيّة التي تشبه ما في سيرة أليشع، تجعلنا نفكّر بأدب يُدعى »زهيرات أو مقتطفات نبويّة«، ومنها إقامة ابن أرملة صرفت صيدا، التي تحتلّ مكانة خاصّة في حياة إيليّا.

2- السياق المباشر

جاء خبر إقامة ابن الأرملة في حقبة لاحقة.

- فعبارة »بعد ذلك«، أو »بعد هذه الأحداث« عبارة تدوينيّة.

- بدت »سيّدة (صاحبة) البيت« وكأنّها تجهل معجزة الحنطة والزيت، التي تسبق حالاً ما نقرأ في هذا النصّ.

- تسمية »سيّدة البيت« (آ17) توافق وضع »المرأة القديرة« (2مل 4: 8) التي أقام لها أليشع ابنها، لا تلك الأرملة الفقيرة التي لم يبقَ لها سوى القليل لتأكله قبل أن تموت مع ولدها. خبران يتواصلان في النصّ، ولكن يبدو في الواقع أن لا علاقة للواحد بالآخر، وكأنّنا أمام امرأتين مختلفتين.

- التوازي الأدبيّ بين خبرَيْ القيامة اللذين أجراهما إيليّا وأليشع، يجعلنا نفترض أنّ الخبر الأوّل دوّنه تلاميذ أليشع وأضافوه هنا.

- هذا الخبر لا يلمِّح إطلاقًا إلى الجفاف الذي هو الموضوع الرئيسيّ في ف 17-18.

3- تحليل النصّ

»مات« (آ17). ما بقيت فيه نسمة (ن ش م ه) حياة. ما عاد يقدر أن يتنفّس. قد يعني هذا موتًا ظاهرًا. ولكنّنا أمام موت حقيقيّ، وهذا ما تدلّ عليه ردّة الفعل لدى الوالدة (آ 18: وتميت ابني)، وصلاة إيليّا (آ20: فأمتَّ ابنها). وفي آ22 نقرأ أن »نفس الولد عادت إلى داخله، فصار حيٌّا (و ي ح ي).

»ما لي ولك« (آ18). جاء من يفسِّر هذه العبارة على أنّها تدلّ على تهذيب واحترام وإكرام. بل المعنى هو العكس. هي تدلّ دومًا على اللامبالاة أو اللاتوافق. حين يُدعى إنسان لكي يتدخّل في ما يرى أنّه لا يعنيه، قد يجاوب: ما لي ولك. أي، تدبَّر أمرك. هذا ما نقرأ مثلاً في جواب أليشع إلى ملك إسرائيل (2مل 3: 13).

»ما لي ولك.

إذهب إلى أنبياء أبيك وإلى أنبياء أمّك«.

ويتواصل أليشع وكأنّه ينفض يديه من كلّ عمل. »لولا احترامي ليوشافاط (ملك يهوذا)، لما تطلّعتُ إليك ولا قابلتُك« (آ14).

وفي هو 14: 9، ينبّه هوشع بيت أفرائيم:

»ما لكم وللأوثان، يا بيت أفرائيم

عاينتكم وراعيتُكم كشجرة خضراء

وأنتم لي تتحسّرون«.

فهل فهموا أن لا علاقة لهم بعد بالأصنام، بعد أن عرفوا الإله الواحد. وفي معنى آخر، قد يكون شخصٌ نال إساءة من آخر (آ18)، فيشعر أنّه يشكّل خطرًا عليه. أيّة علاقة بيني وبينك. انقطعت العلاقات وليمضِ كلُّ واحد في طريقه. ويمكن أن يقول: »ماذا فعلت لك حتّى تعاملني بهذه الطريقة؟« هنا نقرأ قض 11: 12:

وأرسل يفتاح رسلاً إلى ملك بني عمّون قائلاً:

»ما لي ولك. أنتَ جئتني للحرب في أرضي«.

أي جئتَ تطلب عداوتي. جئت تحاربني. الأفضل أن يبتعد الواحد عن الآخر. هنا نتذكّر ما قال يسوع لأمّه في عرس قانا الجليل (يو 2: 1-12). »ما لي ولك يا امرأة، ما أتت ساعتي بعد« (آ4). المرأة هنا تمثّل شعبها، الشعب اليهوديّ. وفي الحقيقة، ما جاءت مريم مع يسوع، بل سبقته فأتى مع تلاميذه. وهكذا دلّ الإنجيليّ يوحنّا على المسافة البعيدة بين العهد القديم (مثّلته مريم) وبين العهد الجديد الذي سوف تنتقل إليه في النهاية. آمن التلاميذ (آ11) ومضوا مع يسوع في رفقة أمّه وإخوته (آ12).

»رجل الله« (آ18). عبارة بيبليّة تدلّ غالبًا على النبيّ. موسى هو »رجل الله« (يش 14: 6). وهم الآن يتذكّرون كلامه. وشمعيا هو »رجل الله« (النبيّ) كلّمه الله وقال له (1مل 12: 22). وفي 13: 1: »ها رجل الله أتى من يهوذا إلى بيت إيل، ساعة كان يربعام واقفًا بقرب المذبح«. وفي 13: 11 روى أحد الأنبياء الشيوخ »ما فعل رجل الله في بيت إيل«. ودُعيَ إيليّا رجل الله، ومثله أليشع مرارًا (2مل 1: 9؛ 4: 7؛ 5: 8). نقرأ مثلاً في المرجع الأخير عن أليشع: »فلمّا سمع رجل الله بأنّ ملك إسرائيل مزّق ثيابه، أرسل إليه يقول«.

»لتذكّرني بذنوبي«. النبيّ هو رجل الله، وبالتالي يدلّ على حضور الله الذي يكشف الخطيئة ويجعل الإنسان يعي ما اقترف من ذنوب. مثلاً، وقف أشعيا في حضرة الله، فهتف: »ويل لي، هلكتُ. أنا صاحب شفتين نجستين« (أش 6: 5).

»وتميتُ ابني« (آ18). حسب مبدأ المجازاة الذي لبث حيٌّا في أرض إسرائيل، قرونًا من الزمان، لا عقاب من دون خطيئة. ولا خطيئة، من دون عقاب. أمام الأعمى منذ مولده، تساءل تلاميذ يسوع طوعًا: »رابّي، من أخطأ هو أم والداه ليولَد أعمى«؟ (يو 9: 2).

وقدّمت المعجزة (آ19-22) توازيًا واضحًا مع إقامة ابن الشونميّة. نقرأ في 2مل 4: 34: »ثمّ صعد (أليشع) إلى السرير، واستلقى على الصبيّ. ووضع فمه وعينيه وكفّيه على فم الصبيّ وتمدّد عليه، فسخن جسدُ الصبيّ«. ونقرأ ما يقابل هذا في سفر الأعمال كيف أقام بولس الرسول أفتيخُس الذي غلب عليه النوم، فوقع من الطبقة الثالثة إلى أسفل وحُمل ميتًا (20: 9). ويتواصل الكلام في آ20: »فنزل بولس وارتمى عليه وحضنه، وقال: لا تقلقوا، فهو حيّ«. هي الفعلة ذاتها، التي تقوم بأن يتمدّد »رجل الله« على الجثّة، فيعيد إليها الحياة. كرّر إيليّا الفعلة ثلاث مرّات، وأليشع مرّتين، وبولس مرّة واحدة، فعادت نسمة الحياة إلى الميت.

مهما يكن من »سحر« في عمق هذا الطقس، فإيليّا يعرف كلّ المعرفة أنّ الله وحده يعيد الحياة إلى الموتى. لهذا، وجّه إليه صلاة حارّة. فهذه القيامة تشتمل، شأنها شأن الأسرار السبعة في الكنيسة، عنصرين اثنين: عمل رمزيّ ثمّ كلمة تختمُها الفاعليّة الإلهيّة. وكما أنّ الذين نعموا (أو شاهدوا) بمعجزات المسيح اعترفوا به أنّه المسيح والله، كذلك قالت الأرملة: »أنت رجل الله«. فتعرّفت إلى الطابع النبويّ لدى إيليّا وحقيقة ما قال لها من كلام.

4- قيامة الموتى

أ- أقوال في القيامة

لا شكّ في أنّ هناك أقوالاً تشير إلى قيامة الموتى، من خلود النفس إلى حياة الجسد. ونقرأ مز 16: 10-11:

10 لا تتركني في عالم الأموات،

لئلاّ يرى تقيُّك الفساد.

11 عرّفني سبُلَ الحياة،

واملأني فرحًا بحضورك،

فمن يمينك دوام النعم.

أمّا مز 49 الذي يعالج مسألة المجازاة، فيقول في آ 16:

لكنّ الله يفتدي حياتي،

من يد الموت حين يأخذني.

وراح مز 73 في خطّ مز 49. بعد أن رأى سعادة الأشرار، أعلن في فعل إيمان رائع:

23 وأنا معك كلَّ حين،

تُمسكني بيدي اليُمنى.

24 بمشورتك تهديني،

وإلى المجد تأخذني من بعد.

25 من لي في السماء سواك،

وفي الأرض لا أريد غيرك.

وفي قراءة لسفر أيّوب (ف 19):

25 أعرفُ أنّ شفيعي حيّ،

سأقوم آجلاً من التراب

26 فتلبس هذه الأعضاء جلدي،

وبجسدي أعاينُ الله

27 وتراه عيناي إلى جانبي،

ولا يكون غريبًا عنّي.

ويُطلق أشعيا نشيد النصر على أعداء الله وشعبه في ف 26:

19 يحيا أمواتُك وتقوم أشلاؤهم،

فاستفيقوا ورنّموا يا سكّان القبور،

نداك ندى النور يا ربّ،

يسقط على أرض الأشباح (فيحيون).

ب- ظهر متأخّرًا

ولكن يبقى أنّ الإيمان بالحياة الأخرى لم يظهر بشكل نهائيّ وصريح إلاّ في الأزمنة الأخيرة من العهد القديم. كما في دا 12: 2-3:

2 وكثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون،

بعضهم للحياة الأبديّة،

وبعضهم للعار والذعر الأبديّ.

3 ويضيء العقلاء كضياء الأفلاك في السماء،

والذين هدَوا كثيرًا من الناس إلى الحقّ،

يُضيئون كالكواكب إلى الدهر والأبد.

هذا حصل في زمن اضطهاد السلوقيّين والحقبة المكّابيّة. وقد صارت هذه العقيدة جزءًا من إيمان الشعب. فالشبّان السبعة وأمّهم أعلنوا إيمانهم بقيامة الأجساد. هذا ما نقرأ في 2مك 7: 9 (الأخ الأكبر)، 11 (الأخ الثاني)، 22-23 (الأمّ):

9 وفيما كان (الأخ الأكبر) في الرمق الأخير، قال للملك:

»أيّها المجرم، بإمكانك أن تأخذ منّا حياتنا هذه، ولكنّ ملك العالمين سيقيمنا لحياة أبديّة. إذا متنا في سبيل شريعته«.

11 وقال (الثاني) بكلّ جرأة:

»من ربّ السماء هذه الأعضاء، ومن أجل شريعته أضحّي بها الآن، وآملُ أن أستردّها منه فيما بعد«.

22 وممّا قالته (الأمّ) لهم (= لأولادها):

»لا أعلم كيف نشأتُم في أحشائي، فأنا لم أمنحكم الروح والحياة، ولا أنا كوَّنتُ أعضاء جسد كلِّ واحد منكم.

23 بل الذي فعل ذلك هو خالق العالم، فهو الذي جبل الإنسان وأبدع كلَّ شيء، وهو لذلك سيُعيد برحمته الروح والحياة، لأنّكم تضحّون بأنفسكم لأجل شريعته«.

ج- الشيول أو مثوى الأموات

هل أنكر بنو إسرائيل الحياة بعد الموت قبل ذلك الزمان؟ بل اعتقدوا أنّ جميع البشر، أشرارًا كانوا أو صلاّحًا، يمضون إلى الشيول، إلى مثوى الأموات الذي يقع تحت الأرض، أو إلى الأماكن السفلى عند اليونان (هاديس). هناك تتواصل حياتُهم الضبابيّة والمنقوصة. هم »ظلال«، لا حقيقة، لا قوام لهم ولا نشاط. ففي الشيول لا يمدحون الله، كما قال مز 6: 6:

في الموت لا ذكرَ لك،

وفي القبر من يمدحك؟

وإذ أنشدَ المؤمن عودة الحياة إليه بعد مرض طويل، قال للربّ في مز 30: 10:

أيّ نفع لك من موتي،

من هبوطي إلى الهاوية،

هل التراب يُسبّح بحمدك،

ويحدّث فيخبر بحقّك؟

وشدّد مز 115 على عظمة الربّ وخلاصه، فقال في آ16-17:

16 السماء سماء للربّ

والأرض منحها لبني البشر.

17 الأموات لا يهلّلون للربّ،

ولا الهابطون إلى أرض السكون.

وفي ملحمة الأوذيسة اليونانيّة (11) قال أخيل لعولس:

أن تكون راعيًا لدى الأحياء،

خيرٌ من أن تكون ملكًا وسط الموتى.

على هذه الخلفيّة العقائديّة البدائيّة التي ما توسّعت كثيرًا، برزت معجزتا القيامة عند إيليّا وأليشع، وأفادت الفكر اللاهوتيّ. نحن في الواقع أمام حدثين منعزلَين، ثمّ إنّ هذه المعجزة تبقى على هذه الأرض، بحيث أنّ من أقيم من الموت (مثلاً لعازر) لا بدّ له أن يموت أيضًا. هي الروح تعود إلى الإنسان. أمّا القيامة بحصر المعنى، فهي واقع خاصّ بالمسيحيّة. وفي أيّ حال، هذه العودة إلى الحياة، والعمل السرّيّ الذي به أخذ الله أخنوخ (تك 5: 24) وإيليّا (2مل 2: 11)، يدلاّن على إيمان بني إسرائيل بإله، هو سيّد الحياة، يستطيع أن يميت. وخصوصًا، يستطيع أن يُحيي.

د- عبادات في الشرق القديم

في المقولات حول سلطة الله ووحدته، على أنّه سيّد الموت والحياة (1صم 2: 6؛ تث 32: 39)، نكتشف خلفيّة هجوميّة على عبادات عناصر الطبيعة (المطر، الخصب) في الشرق القديم. في 1صم 2: 6-7، أنشدت حنّة أمّ صموئيل:

6 الربّ يُميتُ ويحيي،

وإلى عالم الموت يُسقِط ويعلي.

7 الربّ يُفقر ويُغني.

يحطّ من يشاء ويرفع من يشاء.

وأنشد موسى في نهاية سفر التثنية (32: 39):

أنظروا الآن، أنا هو،

ولا إله يقفُ أمامي.

أميتُ وأحيي، وأجرَحُ وأشفي.

ولا من يُنقَذ من يدي.

فواقع الموت والحياة في دورة الطبيعة مرّة في السنة، حرّك الإنسان القديم، فاعتبر أنّه اكتشف في هذه الظاهرة، تدخّل القوى الخفيّة، المؤلَّهة تحت أسماء عديدة: أوزيريس في مصر، تمّوز في بلاد الرافدين، بعل في كنعان، أدونيس عند الفينيقيّين. جميعُ هذه الآلهة تشرف كلَّ سنة على عيد رأس السنة، حيث يُمثَّل موت الطبيعة وقيامتها كما في عمل دراميّ.

تجاه هذه النظرة الوثنيّة، أكّد الإيمانُ اليهويّ بقوّة، سلطةَ الربّ المطلقة على الطبيعة. والأشفيةُ والإقامات والمعجزات التي قام بها إيليّا وأليشع، تفسَّر في هذا الإطار من الهجوم على بعل، إله الخصب لدى الكنعانيّين. فقد أعلمنا الأدبُ الأوغاريتيّ أنّ الكنعانيّين عبدوا البعل كإله الخصب، وانتظروا منه المطر والحنطة والخمر والخصب والصحّة والقيامة.

هذا ما قاله هوشع، وقد تضمّن قوله أنّ بني إسرائيل انتظروا من بعل كلّ هذا الخير، بينما الربّ هو الذي يُعطي (2: 10ي):

10 هي (أمّة إسرائيل) لا تعرف أنّي أنا أعطيتُها

القمح والخمر والزيت

وأكثرتُ لها الفضّة والذهب

11 فلذلك أستعيدُ منها قمحي في وقته،

وخمري في موعده.

وأنزعُ عنها صوفي وكتّاني،

اللذين تكسو بهما عورتها.

23 وفي ذلك اليوم أغني السماوات،

والسماوات تُغني الأرض

والأرض تغني القمح والخمر والزيت،

وهذه كلّها تغني إسرائيل.

والحدث المذكور في 2مل 1: 2-17 يدلّ بوضوح أنّ بني إسرائيل وملكهم اعتادوا بسهولة أن يلجأوا إلى بعل كينبوع صحّة.

2 وسقط أخزيا من شرفة قصره، في السامرة، وأُصيب بجرح بليغ. فأرسل يسألُ بعلَ زبوب، إله عقرون، إن كان يُشفى من جرحه.

3 فقال ملاك الربّ لإيليّا التشبيّ:

»إذهب إلى رسل ملك السامرة، وقل لهم:

ألا يُوجَدُ إلهٌ في إسرائيل حتّى تسألوا بعلَ زبوب، إله عقرون؟«

وهكذا حكم إيليّا النبيّ على أخزيا، لأنّه طلب الصحة من بعل. وحده الربّ هو طبيب شعبه. قال خر 15: 26: »أنا أمنحكم الصحّة، (لا »أرأف بكم«، كما يُقال). وهذا الحدث يلقي الضوء على شخص إيليّا ورسالته المحاربة عبادة البعل والدفاع اليهويّة. وتدخّلاتُه ومعجزاتُه تطلّعت إلى هذا الهدف.

5- التعليم الذي نستخلص

أ- الربّ سيّد الحياة والموت

تجاه مدِّ الوثنيّة الصاعد، الذي يهدّد إيمان بني إسرائيل، جسَّد إيليّا الدفاع عن اليهويّة. لا يعطي بعل الصحّة والقيامة والخصب، بل الربّ الإله وحده، هو سيّد الحياة والموت. وشدّد العهد القديم في هو 6: 1-2 على سلطة الربّ المحيية في مناخ روحيّ وفي إطار اجتماعيّ:

1 تعالوا نرجع إلى الربّ:

يمزّق ويشفينا

يضرب ويضمّد جراحنا.

2 يحيينا بعد يومين،

وفي اليوم الثالث يُقيمنا،

فنحيا أمام وجهه.

إنّ رؤية العظام اليابسة التي تتقارب بعضُها من بعض، وتستعيد الحياة حين ينفخ فيها روحُ الربّ، تترجم هذا الوعد بالقيامة، كما في حز 37: 1-14:

3 فقال لي:

»يا ابن البشر، أتعود هذه العظام إلى الحياة؟«

فقلت:

»أيّها السيّد الربّ، أنت وحدك تعلم«.

4 فقال لي:

»تنبّأ على هذه العظام وقل لها:

5 هكذا قال السيّد الربّ لهذه العظام

سأُدخل فيك روحًا فتحيين،

6 أجعل عليك عصبًا، وأكسيك لحمًا، وأبسطُ عليك جلدًا، وأنفخُ فيك روحًا، فتحيين وتعلمين أنّي أنا الربّ«.

وإذ تحدّث بولس الرسول عن إبراهيم قال في روم 4: 17-19:

17 هو أبٌ لنا عند الذي آمن به إبراهيم، عند الله الذي يحيي الأموات، ويدعو اللاموجود إلى الوجود.

19 وكان إبراهيم في نحو المئة من العمر، فما ضعُفَ إيمانُه حين رأى أنّ بدنَه مات، وأنّ رحم امرأته سارة مات أيضًا.

فالعمل والتقنيّة والتطوّر، حيث يضع الإنسان ثقته، لا تستطيع أن تحرّره من الموت. وحده المسيح أتاح لنا بأن نتغلّب على الموت فنبلغ إلى بشريّة جديدة: »قام المسيح من بين الأموات، وهو باكورة الراقدين« (1كور 15: 20).

ب- باكورة الأمم

وينتهي خبر إقامة ابن أرملة صرفت صيدا، بفعل إيمان: »الآن علمتُ أنّك رجل الله، وأنّ كلام الله في فمك صادق حقٌّا« (آ24). حين رأى نعمان السوريّ أنّه شُفيَ من برصه بعد أن اغتسل في الأردنّ بحسب توصية أليشع، أعلن إيمانه في كلام مشابه لكلام الأرملة: »منذ الآن أعرف أنّ لا إله في كلّ الأرض إلاّ في إسرائيل« (2مل 5: 15). وفي الخطبة البرنامج التي جعلها لوقا على شفتي يسوع في بداية رسالته الجليليّة، أشار إلى أرملة صرفت صيدا وإلى نعمان، قائد جيش آرام، على أنّهما باكورة الأمم الوثنيّة التي تلقّت الإنجيل ودخلت في الكنيسة. هنا نقرأ لو 4: 25-27:

25 وبحقّ أقول لكم:

»كان في إسرائيل كثيرٌ من الآرامل في زمن إيليّا، حين توقّف المطر ثلاث سنوات وستّة أشهر، فحدثَتْ مجاعةٌ في البلاد كلِّها.

26 وما أرسل الله إيليّا إلى واحدة منهنّ، بل أرسله إلى أرملة في صرفت صيدا

27 وكان في إسرائيل كثير من البرص في زمن النبيّ أليشع، فما طهّر الله أحدًا منهم إلاّ نعمان السوريّ«.

ج- فاعليّة الصلاة

مع أنّ الخبر يحتفظ بنكهة قديمة فيجعلنا قريبين من طقوس سحريّة، يبدو من الواضح أنّ القيامة تمّت بتدخّل من الله الذي توسّل إليه إيليّا في صلاة حارّة. وإحدى الإقامات التي أجراها يسوع (إقامة صديقه لعازر) سبقتها صلاة (يو 11: 41-42):

41 ورفع يسوع عينيه وقال:

»أشكرك يا أبي لأنّك استجبتَ لي،

42 وأنا أعرفُ أنّك تستجيب لي في كلّ حين«.

وهذا بالرغم من أنّ الربّ تكلّم حالاً بسلطان: »لعازر، أخرج« (آ43). وتكون سلطة يسوع هي هي في الإقامتين الأخريين. قال لابنة يائيرس: »طليتا (يا صبيّة) لك أقول: قومي« (مر 5: 41). ولابن أرملة نائين، قال: »أيّها الشابّ، أقول لك: قم« (لو 7: 14). وشدّد آباء الكنيسة على سلطان الربّ، فبيّنوا أنّ أمرًا واحدًا من يسوع كان كافيًا، ساعة النبيّان قاما بمجهود كبير لتتمّ على يدهما هاتان المعجزتان.

الخاتمة

معجزة إقامة ميت لدى إيليّا ولدى أليشع، صارت صورة مسبقة عمّا نقرأ في العهد الجديد، وهيّأت المؤمنين لمعجزات يسوع. فكلّها تعلن قيامة المسيح، أساس قيامة المؤمنين الأخيرة وكافلها. قال الرسول في روم 8: 11:

»وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات، يسكنُ فيكم، فالذي أقام يسوع من بين الأموات، يبعث الحياة في أجسادكم المائتة بروحه الذي يسكن فيكم«.

ورأى الآباء في ما فعله إيليّا حين تمدّد على الصبيّ الميت، رمزًا لسرّ التجسّد. به تنازل الله فاتّصل بالبشر، بل هو صار واحدًا منهم. هو عمانوئيل الذي صار إنسانًا شبيهًا بنا في كلّ شيء عدا الخطيئة. وكلّ هذا لكي نشابهه فنصبح بدورنا أبناء الله، أبناء مع الابن ووارثين معه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM