ملك العالم يقيمنا.

 

ملك العالم يقيمنا

2مك 7: 1-14

هل تحيا موتاك وتقدّم أشلاؤهم؟ سؤال قضَّ مضجع المؤمنين. هل يستطيعون أن يسبّحوا الربّ بعد أن صاروا أشباحًا تائهين تحت الأرض في حياة قريبة من البخار؟ والجواب نعم. دعاهم أشعيا في صرخة رجاء: »استفيقوا يا سكّان التراب ورنّموا« (26: 19). ويتابع النصّ: »نداك ندى النور يا ربّ، يسقط على أرض الأشباح«. فإذا سقط الندى على العشب أخضرّ، وإذا جاء النور عادت الحياة. هل تحيا موتاك؟ نعم. هل تقوم الأشلاء؟ نعم. هذا ما أعلنه سفر المكابيّين الثاني مع دانيال، فانفتحت الطريق في كلام عن القيامة. فالذين ماتوا في سبيل الربّ، لا يمكن أن ينفصلوا عن الربّ، لا قبل الموت ولا بعد الموت. لهذا راح الشبّان السبعة يتقدّمون إلى الموت، لأنّهم رأوا القيامة أمامهم. في هذا الإطار نقرأ 2مك 7: 1-14

1 وفي حادثة أخرى (بعد موت ألعازر شهيدًا) أنّ الملك (أنطيوخس الرابع) أمر بالقبض على سبعة (عدد الكمال) إخوة مع أمّهم. فأخذ يُجبرهم على تناول لحوم الخنزير المحرّمة (بحسب الشريعة اليهوديّة)، ويجلدوهم بالسياط وغير ذلك من أدوات التعذيب.

2 وأخيرًا، قال له أحد الشبّان:

»لن ينفعك هذا كلّه. فنحن نموت ولا نحيد عن شريعة آبائنا«.

3 فغضب الملك، وأمر بأن تُحمّى الطناجر والقدور بالنار،

4 ولمّا حميَتْ، أمر بقطع لسان الشابّ الذي تكلّم، وبسلخ جلد رأسه، وبقطع أطراف جسده، أمام عيون إخوته وأمّه.

5 وبعد ذلك، أمر الملك بأن يؤخذ إلى النار وفيه بقيّة من الحياة ويُلقى في أحد الطناجر ويُسلَق. وفيما البخار يتصاعد من الطنجرة، كان الإخوة وأمّهم يشجّعون بعضهم بعضًا على الموت بشجاعة، قائلين:

6 »الربّ الإله يرانا ويرحمنا، كما يقول موسى في نشيده، الذي يدين فيه مَن يتخلّى عن الربّ، ويقول:

أمّا الربّ فيرحم عباده« (تث 32: 36)

7 ولمّا مات الأخ بهذه الطريقة، ساق الجنود الأخ الثاني، وأخذوه للتعذيب. ثمّ سلخوا جلد رأسه مع شعره، وسألوه إن كان يأكل لحم الخنزير، قبل أن يعذّبوه عضوًا عضوًا.

8 فأجابهم بلغة آبائه (العبريّة، الآراميّة): »أبدًا«!

فعذّبوه كأخيه الأوّل.

9 وفيما كان في الرمق الأخير، قال للملك:

»أيّها المجرم! بإمكانك أن تأخذ منّا حياتنا هذه، ولكنّ ملك العالمين سيقيمنا لحياة أبديّة، إذا مُتنا في سبيل شريعته«.

10 وبعد ذلك، أخذوا يعذّبون الأخ الثالث، وما كادوا يأمرونه بمدّ لسانه حتّى مدّه وبسَط يديه برجولة.

11 وقال بكلّ جرأة:

»من ربّ السماء هذه الأعضاء، ومن أجل شريعته أضحّي بها الآن، وآمل أن أستردّها منه فيما بعد«.

12 فتعجّب الملك والذين معه من شجاعة هذا الفتى الذي لا يبالي بالعذاب.

13 ولمّا مات الثالث، عذّبوا الرابع كإخوته الذين سبقوه.

14 ولمّا أشرف على الموت، قال للملك:

خير للإنسان أن يُقتَل بيد الناس، آملاً أن يقيمه الله من الموت. أمّا أنت أيّها الملك، فلا قيامة لك من الموت إلى الحياة«.

1- السياق

أ- السياق البعيد

المكابيّون هم المدعوّون للدفاع عن الإيمان. إمّا بقوّة السلاح كما فعل متتيا وأولاده، ولا سيّما يهوذا (1مك). وإمّا بالمقاومة الروحيّة وقبول الموت شهداء في سبيل كلمة الله وشريعته (2مك).

فسفر المكابيّين الثاني يروي كيف كانت هذه المقاومة، ويربطها بالتاريخ وصولاً إلى إرميا وما قبل، بل عائدًا إلى موسى في نشيده حيث الكلام عن المشاركة في ذبائح الوثنيّين وولائمهم المقدّسة (تث 32: 36). أرسل الملك أنطيوخس الرابع من يسلب كنوز الهيكل، فماذا فعلت الجماعة. نقرأ 2مك 3: 15-20:

15 وانطرح الكهنة أمام المذبح بلباسهم الكهنوتيّ يتضرّعون إلى الله، الذي قضى أن تصان الودائع لأصحابها،

16 وكلّ من رأى وجه الكاهن الأعظم، كان ينكسر قلبه لمنظره وشحوب لونه، ممّا يكشف عمّا كان يعانيه من الاضطراب.

18 كان الناس يسرعون من بيوتهم للابتهال معًا أن لا يتدنّس الهيكل.

19 وكانت النساء يزدحمن في الشوارع، وهنّ يتّزرن بالمسوح تحت أثدائهنّ. والعذارى اللواتي لم يكن يُسمَح لهنّ بالخروج من البيوت، يسارعن، بعضهنّ إلى الأبواب، وبعضهنّ إلى الأسوار، وأخريات يتطلّعن من النوافذ.

20 وكنّ جميعًا يرفعن أيديهنّ إلى السماء متضرّعات.

لا يستطيع المؤمنون سوى البكاء، أمّا الله فيفعل. دخل هليودورس (موفد الملك) ليسلب الهيكل، »فظهر عليه حصان وعليه راكب مخيف تحته سرجٌ مزيَّن أجمل زينة. فوثب وضرب هليودورس بحوافره، وبدت عدّة الراكب من ذهب« (آ25). ويتواصل النصّ في آ26-29:

26 وتراءى أيضًا لهليودورس أنّ شابّين في غاية القوّة والحماس وحسن الهندام وقفا إلى جانبه يجلدانه جلدًا متواصلاً.

27 فسقط بغتة إلى الأرض فاقدَ الوعي. فرفعه مرافقوه إلى حمّالة.

28 فإذا بمن دخل إلى الخزانة المذكورة في موكب حافل وحرّاس كثيرين، يخرج منها محمولاً وبلا قوّة، فظهرت للجميع قدرة الله

29 الذي بقوّته الإلهيّة جعل هليودورس مطروحًا، أبكم، لا أمل له بالخلاص.

وتحوّل الخوف إلى سرور، والضعف إلى قوّة. وصلّى الكاهن الأعظم، فظهر الشابّان من جديد على هليودورس وقالا له (آ33-34):

33 »عليك أن تشكر الكاهن الأعظم جزيل الشكر، لأنّ الربّ أنقذ حياتك إكرامًا له.

34 وأنتَ ترى أنّ ربّ السماء هو الذي عاقبك. فأعلن للجميع عن قدرة الله الفائقة«.

وقدّم هليودورس ذبيحة للربّ وودّع الكاهن شاكرًا. تلك صعوبة أولى. أمّا الصعوبة الكبرى فجاءت من رئيس الكهنة الذي لم يعرف أن يحافظ على متطلّبات الشريعة، بل راح يجامل الملك أنطيوخس الذي سيسلب الهيكل ويذبح الرجال ويبيع النساء والفتيان (5: 24). وبعد ذلك، أرسل الملك أحد مساعديه ليجبر اليهود أن يرتدّوا عن تقاليد آبائهم وشريعة الله، »وأوصاه أن يدنّس الهيكل ويكرّسه للإله زوش، كبير آلهة الأولمب اليونانيّين« (6: 2). في هذا الجوّ، أمسكوا ألعازر، »من كبار علماء الشريعة، وكان متقدّمًا في السنّ« (آ18). فاختار أن يموت بكرامة على أن يعيش ملطّخًا بالدنس (آ19). قالوا له بأن يتظاهر بحيث »ينجو من الموت« (آ22). فأجاب في ف 6:

24 »لا يليق بمن يكون كبير السنّ مثلي أن يفعل غير ذلك، لئلاّ يظنّ كثير من الشبّان أن ألعازر وهو ابن تسعين سنة، قبل مذهب الغرباء،

25 فيضلّون بسببي حين يرون نفاقي وتعلّقي بحياة قصيرة، فأجلب على شيخوختي الرجس والعار

27 أمّا إذا فارقتُ الحياة بشجاعة وشهامة...

28 أبقيتُ للشبّان مثلاً صالحًا للموت طوعًا وبشهامة في سبيل الشريعة المقدّسة«.

ب- السياق المباشر

هنا يأتي خبر استشهاد الإخوة السبعة مع أمّهم. الإطار تاريخيّ كما نقرأه في 1مك 1: 59-63:

59 وفي الخامس والعشرين من كلّ شهر، قُدّمت الذبائح على مذبح الأصنام الذي أقيم فوق مذبح الربّ.

60 وبأمرٍ من الملك قُتلت النساء اللواتي ختنَّ أولادهنّ.

61 وعُلّق الأطفال المختونون بأعناقهم، وقُتل جميع أفراد عائلاتهم والذين ختنوهم.

62 غير أنّ كثيرين من أرض إسرائيل، أصرّوا على أن لا يأكلوا لحمًا نجسًا بحسب الشريعة.

63 وفضّلوا الموت على ذلك، لئلاّ يدنّسوا العهد المقدّس.

أمّا الرواية، فهي تأليف أدبيّ في أسلوب بلاغيّ يتوخّى أن يحرّك العاطفة، ويشهد لشجاعة الشهداء، ويبرز قساوة الجلاّدين. ماذا نشاهد؟ شجاعة الإخوة السبعة. ثباتهم رغم العذابات. استعدادهم للموت على أن يتجاوزوا شريعة الآباء (آ2)، تعلّقهم بشريعة الآباء (آ2، 11، 23-24، 30، 37)، الاهتمام بلغة الآباء (آ8، 21، 27)، بالشعب (آ16، 38)، وخصوصًا، الإيمان بالقيامة وبالحياة الأبديّة (آ9، 11، 14، 23، 29، 36).

ما خاف هؤلاء الشبّان. بل تحدّوا الملك ومن يمثّله. هدّدهم المضطهدون بمختلف العذابات، فما تراخوا. بل هدّدوا الملك بما ينتظره من عذاب لدى الله. دعوه »المجرم« (آ9)، بل قال له الرابع: »أمّا أنت أيّها الملك، فلا قيامة لك من الموت إلى الحياة« (آ14). هم وحدهم يقومون لأنّهم تعلّقوا بالربّ. أمّا الملك فيبقى في الموت. والتفت الأخ الخامس إلى الملك (آ15) وقال (آ16-17):

16 »أنت لك سلطان على البشر، مع أنّك صائر إلى الفناء، وتقدر أن تعمل ما تشاء. ولكن لا تظنّ أنّ الله تخلّى عن شعبنا.

17 إصبر قليلاً فترى جبروته، وكيف يعذّبك أنت ونسلك«.

وشجّعت الأمّ ابنها الصغير: خالق العالم يعيد إليكم برحمته الروح والحياة، لأنّكم الآن تضحّون في سبيل شريعته (آ23). وحاول الملك إقناع الأصغر »بأن يغنيه ويُسعده إذا ترك شريعة آبائه، وأن يجعله من خلاّنه، ويعيّنه في أعلى المناصب« (آ24). ولجأ إلى الأمّ لكي تقنع ثمرة أحشائها، كلّمته بلغة آبائها (بحيث لا يفهم الملك): »لا تخف من هذا الملك السفّاح، وكنْ شجاعًا كإخوتك، ورحِّب بالموت لألقاك برحمة الله« (آ29).

2- قراءة النصّ

أ- عقيدة القيامة

آمن بنو إسرائيل بالقيامة وترجّوها، شأنهم شأن سائر الشعوب. ولكنّ ذلك طلب منهم وقتًا طويلاً لكي يُصبح هذا الإيمان عقيدةً ويعبَّر عنها بطريقة واثقة. فقد كانوا يضعون الجثث بإحترام، في المقابر، ويجعلون معهم »طعامًا رمزيٌّا« به يدلّون على الحياة في ما وراء القبور. فالآباء الذين ماتوا، انضمّوا إلى الذين سبقوهم. »مات إبراهيم وانضمّ إلى آبائه« (تك 25: 8). ونقرأ أيضًا في تك 35: 29: »وفاضت روح إسحق ومات، وانضمّ إلى آبائه شيخًا شبع من الحياة، ودفنه عيسو ويعقوب ابناه«. كان مع آبائه على الأرض، ويبقى معهم بعد الحياة على هذه الأرض. ونقرأ عن يعقوب أنّه »ضمّ رجليه على السرير، وأسلم الروح، وانضمّ إلى آبائه« (تك 49: 33). أمّا يوسف فحُنّط ووُضع في تابوت في مصر (50: 26) ولكنّه سيُدفن في شكيم، بعد أن حمل بنو إسرائيل عظامه معهم (يش 24: 32).

بل يقبل الكتاب المقدّس، بأن يقوم صموئيل ويعود إلى الحياة ويأتي إلى شاول. مع أنّ العرافة كانت ممنوعة لدى بني إسرائيل، غير أنّ شاول مضى إلى إحدى العرّافات، فأطلعت له صموئيل الذي قال للملك: »لماذا أزعجتني وأطلقتني«؟ ولمّا أخبر شاول بما فيه من ضيق، كلّمه صموئيل: الربّ أهملك. انتزعَ المملكة منك. فأنتَ ما أطعتَ الربّ (1صم 28: 16ي). فكيف يتكلّم وهو ميت؟ بل هو حيّ مع الله، على مثال أخنوخ وإيليّا. أمّا أليشع، فلمسه ميتٌ فقام ذلك الميت على قدميه (2مل 13: 21). أترى الميتُ يعطي الحياة؟ بل أليشع الحيّ في الله، نقل الحياة إلى من وُضعت عظامه قرب عظام هذا النبيّ.

نجد أنّ هذه الحياة في القبور، كما تصوّرها العبرانيّون، لم تكن مجيدة على مثال ما كان للمصريّين العائشين في مملكة أوزيريس. فالبابليّون والعبرانيّون وغيرهم، تحدّثوا عن الآخرة على أنّها حياة أدنى ممّا على الأرض. هم شبه أحياء. لا يسبّحون الله. والكلب الحيّ أفضل من الأسد الميت. هنا يأتي عمل الإله المحيي، فيتجلّى ويسطع. بالنسبة إلى البابليّين، يمارس الآلهة عمل الإخصاب في الحقول التي يُفرخ فيها النبات ويزهر. أمّا الآلهة السياسيّون والوطنيّون، فيعظّمون أبطالهم وسط الشعوب. والآلهة الرفيعة تدلّ على سلطانها بالظواهر الكونيّة. وإذ يتّحد الإنسان بهذا الإله أو ذاك يستطيع أن يمارس بعض قواه. ولكنّ المفجع يدخل في حياة الميت وفي حياة البطل، فيجعل الناس يبكون حتّى في موت أشوربانيبال الجنائزيّ الفخم. وغلغامش البطل الأسطوريّ الذي بنى أسوار أوروك في بداية التاريخ، واراه التراب فأنشده أش 14:

8 حتّى السرو وأرز لبنان

يشمتان بما صرت إليه

يقولان لمن قطع منهما:

لن يصعد علينا قاطع.

9 عالم الأموات من أسفل يهتزّ لك

ويستقبل قدومك بترحاب

أنهضَ لأجلك الأشباح،

أشباح عظماء الأرض

وأقام ملوك الأمم عن عروشهم

10 ليقولوا كلّهم لك:

»ها أنت أيضًا ضعيف مثلنا،

وصرت مماثلاً لنا«.

11 جلالك أُنزل إلى عالم الأموات

على أنغام أوتارك

تحتك فراش من السوس

وفوقك غطاء من الدود«.

ب- الربّ الإله الديّان

ولبث العبرانيّون يعتقدون بالشيول، أو مثوى الأموات. هناك يكون الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء. الملوك والعظماء وعبيدهم. وظنّوا زمنًا طويلاً أنّ يد الله لا تستطيع الوصول إلى أرض الموت. أمّا على الأرض، فالربّ هو إله شخصيّ بالنسبة إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب. عرف كيف يحمي أحبّاءه في الأرض الغريبة، ويفرض على الملوك الغرباء مراعاتهم، على ما كان من أبيمالك مع إبراهيم (تك 20: 6) الذي »هو نبيّ فيصلّي لأجلك فتحيا«. ومع إسحق: »رأينا أنّ الربّ معك« (تك 26: 28).

أعطوا إبراهيم ابنًا ثمّ إسحق. وتكاثرت القبائل مع يعقوب، فوصلوا إلى أرض الموعد وأسّسوا الملكيّة. والله حاضر معهم، بواسطة عرشه، أي تابوت العهد رمز حضوره. يكون في الهيكل. ولكن في زمن الحرب، حتّى أيّام داود، كان التابوت حاضرًا هناك ساعة كان الملك في أورشليم. الربّ هو الملك الحقيقيّ. هو القائد الحقيقيّ. وقد دُعيَ الربّ الجبّار، إله الجنود، إله القوّات، الربّ القدير. هكذا ظهر لأشعيا: »الأرض كلّها مملوءة من مجده« (6: 3) وإن رفضت نالها الخراب والدمار فتصبح بلا ساكن (آ11).

هذا الإله إله إبراهيم. ثمّ إله القبائل. وأخيرًا إله السلالة الداوديّة. وفوق ذلك هو إله العدالة. إنّه الملك الحقيقيّ والملك الداوديّ يقوم مقامه على الأرض هو عبده. بمعنى أنّ الله صنعه (ع ب د: صنع). ما كان شيئًا. فصار ملكًا. أتى بداود من وراء الغنم. هو عبد الله. وهو تابع له.

في الهيكل، كلّ شيء يتمّ باسم الله: ينشدون الأناشيد والترانيم. يأتون إلى الكهنة ويسألونهم. كلّ حياة الشعب ترتبط بتلّة صهيون حيث الهيكل. بل أورشليم صارت مقدّسة، وفلسطين كلّها، هي »أرض الأحياء«. ومن مات، ترك هذه الأرض إلى حيث لا يكون مديح للربّ، على ما قال الملك حزقيّا الذي مرض واقترب من الموت (أش 38):

9 قلتُ في عزّ أيّامي:

أنا ذاهب إلى عالم الأموات،

لأنّ الربّ حرمني بقيّة أيّامي

10 قلت: لن أرى الربّ

في أرض الأحياء

ولن أنظر البشر بعدُ

عند سكّان الفانية.

12 انقلع مسكني وانتقل عنّي،

كخيمة الراعي.

وكالحائك طويتُ حياتي

وقطعتُها من النول.

نهارًا وليلاً تفنيني.

15 ماذا أقول لتستجيب

وأنت الذي فعل؟

أقضي جميع أيّامي

بنفس كلّها مرارة.

16 قلبي لأجلك يحيا،

لأجلك وحدك يا ربّ.

فاشفني وأطِلْ حياتي.

وأشار مز 115 إلى الموتى الذين إلى القبور، إلى الشيول، إلى عالم الموتى أو العالم السفليّ:

17 الأموات لا يهلّلون للربّ،

ولا الهابطون إلى أرض السكوت.

18 أمّا نحن (الأحياء) فنبارك الربّ

من الآن وإلى الأبد.

ج- الربّ يميت ويحيي

وكان فعل إيمان قرأناه في 1صم 2: 6، في نشيد حنّة أمّ صموئيل، وفيه نفهم أنّ الربّ سيّد الموت كما هو سيّد الحياة. سيّد الظلمة كما هو سيّد النور. لا تفلت من يده البحار مهما كانت بعيدة. إلى هناك وصلت يده، فأعاد يونان إلى رسالته. قالت حنّة أمّ صموئيل:

الربّ يميت ويُحيي

وإلى عالم الأموات يُسقط ويعلي.

وتحدّث عاموس النبيّ في 5: 8 عن الربّ:

خلق الثريّا والجوزاء،

حوّل ظلّ الموت صباحًا،

والنار ليلاً مظلمًا

دعا مياه البحر،

فأفاضها على وجه الأرض،

اسمه الربّ.

حين دُمّرت المملكة الداوديّة بضربات نبوخذنصّر، ملك بابل، سنة 587 ق.م.، انكشفت صفات الله التي حُصرت زمنًا طويلاً في أرض محدودة، وفي شعب واحد دون سائر الشعوب. بل الله ليس فقط ربّ الأرض. إنّه إله الكون. إله السماوات والأرض (مز 19):

2 السماوات تنطق بمجد الله،

والفلك يُخبر بعمل يديه

3 فيعلنه النهار للنهار،

والليل يخبر به الليل،

بغير قول ولا كلام

ولا صوت يسمعه أحد.

وهكذا دخلت في الفكر البيبليّ كلّ الآمال الآتية من الشعوب المجاورة بعد أن تنقّت وتصفَّت بمصفاة الإيمان بالله الواحد. قالت بابل: هناك مائت نجا من الطوفان (أوتونفشيم= نوح) ونال نعمة الخلود. وذلك بموهبة خاصّة من الله. وعشتار نزلت إلى عالم الأموات وأقامت فيه ثلاثة أيّام وثلاث ليال قبل أن تتحوّل وتعود. وقبل انتصارات كورش التي أنشدها أشعيا الثاني، رأى حزقيال نهضة الشعب وكأنّها قيامة من الموت (37: 4-5):

4 أيّتها العظام اليابسة،

اسمعي كلمة الربّ.

5 هذا ما قال السيّد الربّ:

»أُدخلُ فيك روحًا فتحيين.

6 أجعلُ عليك عصبًا

وأكسيك لحمًا

وأبسط عليك جلدًا

وأنفخ فيك روحًا فتحيين

وتعلمين أنّي أنا هو الربّ.

وعابد الربّ في أش 53 مات وجعل قبره مع الأغنياء والأشرار. ولكنّه تشفّع من أجل الخطأة بعد أن نال نسلاً جديدًا، وقدّم له برّ الله:

8 بالظلم أُخذ وحُكم عليه،

ولا أحد في جيله اعترف به.

انقطع من أرض الأحياء،

وضُرب لأجل معصية شعبه.

9 وُضع مع الأشرار قبره،

ولحده مع الأغنياء.

12 لذلك أعطيه نصيبًا مع العظماء

وغنيمة مع الجبابرة.

بذل للموت نفسه،

وأحصي مع العصاة

وهو الذي شفع فيهم،

وحمل خطايا كثيرين.

»أمواتك يحيون، أشلاؤك يقومون«. هذا ما يجعلنا في »رؤيا أشعيا« التي تتضمّن ف 24-27 وفيها الأناشيد الليتورجيّة والأقوال الجليانيّة (تكشف السرّ. مثل الرؤيا) والرثاءات والصلوات وأفعال الشكر. قال 26: 14: »بما أنّ الموتى لا يحيون بعد، بما أنّ الراقدين لا ينهضون، عاقبتَهم ودمّرتهم، وأبدَت كلَّ ذكر لهم«. ولكن عاد في آ19 فقال:

تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم

فاستفيقوا يا سكّان التراب.

إذًا، تتجلّى قوّة الحياة والخصب في أرض التراب وظلال الموت. فقدرة تعمل بعد هذه الأرض التي يقيم عليها الأحياء، تصل إلى »رفائيم«، الظلال، الأشباح. ناموا فاستيقظوا. رقدوا فقاموا. ما عادوا »أرواحًا« يعيشون في عالم سرّيّ، بل أناس من لحم ودم تستعيد أشلاؤهم الحياة. فالإله الذي ولد الإنسان بشرًا، يستطيع أيضًا أن يعيد الحياة إلى هذا البشر، إلى هذا الإنسان الذي أحبّه، لا سيّما وأنّ هذا الإنسان تألّم ومات أمانة له.

د- الشهداء يقومون

هذا الكلام نفهمه في إطار الاضطهادات، بحيث إنّ التعليم عن القيامة لم يبقَ محصورًا في بعض الكتابات، ولدى بعض الفئات، بل وصل إلى الطبقات الشعبيّة الواسعة. ذاك هو أساس الرجاء بالربّ. فبعد حقبة طويلة من الهدوء، أو الطمأنينة النسبيّة في نظم الشريعة، إذ اعترف الفرس ثمّ اليونانيّون بشريعة (ت و ر ه، وثيقة قانونيّة ببنودها)، تفجّرت أزمة هائلة مع اضطهاد أنطيوخس الرابع أبيفانيوس. ظنّ هذا الملك أنّ الشعب اليهوديّ تهليَن (أخذ بالحضارة الهلّنيّة، اليونانيّة) بما فيه الكفاية، بحيث يترك توراته وتقاليده الدينيّة. وحين أراد أن يؤمّن وحدة الدولة اليونانيّة بوحدة الدين، منع الختان، أحرق لفائف الكتب المقدّسة، ألقى الأعياد والدورة الليتورجيّة، ونجّس الهيكل، وجعل على المذبح تمثال جوبيتر (زوش) الأولمبيّ، فكان كلام عن »رجاسة الخراب«. هنا نقرأ 1مك 1:

41 وأمر الملك أنطيوخس جميع رعايا مملكته بأن يكونوا شعبًا واحدًا،

42 فيترك كلُّ واحد منهم شريعة مذهبه. فأطاعت الأممُ كلُّها هذا الأمر.

43 بل إنّ كثيرين من بني إسرائيل عملوا بدِين الملك، وذبحوا للأصنام، ولم يحفظوا تقاليد السبت فدنّسوه.

وفي مرحلة ثانية، أرسل الملك بلاغًا على أيدي رسله في أورشليم ومدن يهوذا

44 وفيه يأمر سكّانها باتّباع شرائع الغرباء في البلاد

45 وبعدم تقديم المحرقات وسكيب الخمر في الهيكل، وأن لا يمارسوا تقاليد السبت والأعياد،

46 وأن يدنّسوا المكان المقدّس وما فيه من قدسيّات.

47 وأن يبنوا مذابح وهياكل ومعابد للأصنام، ويذبحوا الخنازير والحيوانات النجسة،

48 وأن يتركوا بنيهم بدون ختان، ويلطّخوا نفوسهم بكلّ نجاسة،

49 حتّى ينسوا الشريعة ويغيّروا جميع وصاياها.

وما اكتفى أنطيوخس بالكتابة، بل أرسل من يلاحق تنفيذ أوامره:

51 فعيّن رقباء على الشعب، وأمر مدن يهوذا أن يقدّموا الذبائح للأصنام، في مدينة ومدينة،

52 فأطاعه الكثيرون من اليهود الذين نبذوا الشريعة فأغاظوا بذلك الربّ.

53 أمّا المخلصون فاختبأوا وبحثوا عن مكان يلجأون إليه.

وما توقّف أنطيوخس عند هذا الحدّ، بل جعل مذبح زوش فوق مذبح الربّ. هذا المذبح الوثنيّ يبعث على القرف. اعتُبر تكريمًا »لبعل شميم«، بعل السماء. فإذا هو يدلّ على الخراب الآتي وما يحمل وراءه من رجاسة (آ54). ومُزِّقت أيضًا أسفار الشريعة، وأحرقت بالنار (آ56). »كلّ من وُجد عنده نسخة من كتاب العهد، أو اتّبع أحكام الشريعة، كان يُقتل بأمر الملك« (آ57).

وطال الاضطهاد بضعة أشهر (آ58). عُذِّب من عذِّب، وقُتل من قُتل لأنّه خَتن أولاده، أو احتفظ بكتاب الشريعة، أو رفض أن يأكل الأطعمة المحرّمة... حينئذٍ قامت »ثورة السلاح«. هي حالة من العنف تكلّم عنها دا 12: 1: »لا مثيل له منذ كانت الأمم إلى ذلك الزمان«. ويواصل دا 12 كلامه:

1 في ذلك الزمان،

ينجو من شعبك

من وُجد اسمه مكتوبًا في الكتاب

2 وكثير من الراقدين

في تراب الأرض يستيقظون

بعضهم للحياة الأبديّة،

وبعضهم للعار والذعر الأبديّ.

أجل، مات الشهداء، ولكنّ اسمهم مسجّل في كتاب الله. فشلوا ولكنّ فشلهم ظاهر. إنّهم يضيئون »كالأفلاك في السماء« (آ3). ما قال الله كلمته الأخيرة. لأنّه سيعيد الحياة إلى هذه »الأشلاء«، وتكون لمؤمنيه حياة أبديّة.

هنا جاءت شهادة الإخوة السبعة وأمّهم، لتذكّر المؤمنين بالقيامة. فالحشمونيّون (خلفاء المكابيّين) توصّلوا بانتصاراتهم المحدودة ودبلوماسيّتهم أن يطهّروا الهيكل ويعيدوا شعائر العبادة. وأرادوا أن يقيموا سلالة وطنيّة جديدة مع حدود ما وصل إليها سليمان في أيّامه. أمل يصارع الأمل، ورجاء حيث لا مكان للرجاء. هذا يعني أنّ التعليم حول القيامة خبا نوره في حلقات عديدة في يهوذا، وصاحب 1مك الذي تعلّق بالسلالة الحشمونيّة، لا يقول كلمة في هذا المجال. وتبعه الصادوقيّون الذين لم يكونوا يؤمنون بالقيامة. بل إنّ الأسيانيّين أنفسهم ما تكلّموا كثيرًا عن هذا الموضوع.

أمّا الفرّيسيّون بتيّارهم المتنامي فآمنوا كلّ الإيمان بالقيامة. وسفر المكابيّين الثاني قدَّم هذه العقيدة بشكل مؤثِّر. والاضطهاد حصل في أنطاكية، عاصمة السلوقيّين، وذكرُ الإخوة ما زال حاضرًا في مجمع يعود إلى القرن الرابع المسيحيّ.

تعذّب الأوّل. فما تزعزع الآخرون. وتبعه إخوته، الواحد بعد الآخر. وانتهى كلّ شيء مع أمّهم، التي تعيّدها كنيسة أنطاكية مع أولادها. هم ماتوا على رجاء القيامة. حسبَ أنطيوخس أنّه انتصر، فإذا المؤمن يعلن له أنّ لا حياة له في القيامة. والأشرار في سفر الحكمة، ظنّوا أنّهم تغلّبوا على البارّ. نقرأ حك 3:

1 أمّا نفوس الأتقياء فهي بيد الله فلا يمسّها العذاب.

2 لكنّ الجهلاء يعتقدون خطأً أنّ الأتقياء إذا ماتوا يعانون الموت في شقاء عظيم

4 ومع أنّهم في نظر الناس يعاقَبون، فرجاؤهم أكيد بأنّهم خالدون.

الخاتمة

ثلاثة أخطار هدّدت عقيدة القيامة. الأول آتٍ من العالم المصريّ. حيث الحياة في الآخرة تكون على مثال الحياة في هذه الدنيا: الملك يبقى الملك، والحشم والجنود يحرسونه. تضيء عليه الشمس، ويؤمَّن له الطعام والشراب. وتمتدّ الحياة وتمتدّ بحيث يضجر الإنسان منها، على ما قال يعقوب: »أيّام غربتي (في هذا العالم) مئة وثلاثون سنة. قليلة وسيّئة« (تك 47: 9). ما زالت هذه النظرة حاضرة في أيّامنا مع بعض الشيع. وهناك أناس كثيرون لا ينظرون إلى الآخرة، بل يقولون: نأكل ونشرب اليوم وغدًا نموت. أهذا هو الإنسان؟ مستوى هذا الفكر يجعلنا أقلّ من مستوى الإنسان.

والخطّ الثاني يأتي من بابل وفينيقية. يموت الإله، ومعه الإنسان، في الشتاء، ويقوم في الربيع. وهكذا يتكرّر الموت والقيامة سنة بعد سنة. فإن كان الخطر الأوّل جعل الإنسان على مستوى الحيوان، فهذا الخطر يجعله على مستوى النبات. بئسَ المصير مثل هذا المصير.

والخطر الثالث هو الذي عاشه المؤمنون المضطهدون تجاه المكابيّين الذين أرادوا أن يبنوا ملكوت الله على الأرض. نعيش باطمئنان في بعض أرض فلسطين والبعيدون نأتي بهم ليكونوا حول أورشليم وهيكلها. غيتو كما يُقال في العالم اليهوديّ، مثل هذه الحياة موت قبل الموت، ولا نافذة منها إلى القيامة.

أمّا العقيدة الحقّة فترى أنّ القيامة عطيّة من الله. هو يمسك الإنسان بيد تقيّه في هذه الحياة، ويمسكه أيضًا في الآخرة. يرافقه على هذه الأرض، ويأخذه معه في مجد السماء. فالإنسان كلّه الذي مات على الأرض في سبيل الله، يكون كلّه في السماء مع الله. لا كأشلاء. ولكن كجسد ممجَّد على مثال يسوع المسيح. هو صعد ونحن نصعد معه. وهكذا فالتعليم عن القيامة التي بدأت تمتماته منذ زمن بعيد، توضّح في الحقبة الأخيرة من العهد القديم، بانتظار أن يشعّ بملء ضيائه في العهد الجديد في يسوع المسيح »الذي قام من بين الأموات فكان بكر الراقدين« (1كور 15: 20).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM