داود يُمسح ملكًا.

 

داود يُمسح ملكًا

1صم 16: 1-13

حين نقرأ كتاب صموئيل (1صم + 2صم) نفهم أنّ داود مُسح في حبرون بيد رجال يهوذا (2صم 2: 4) ثمّ بيد شيوخ إسرائيل (2صم 5: 3)، أي قبائل الجنوب وقبائل الشمال. واعتبر الكتاب حتّى النهاية أنّ شاول هو »مسيح الربّ« حيث قال داود مرّة أولى: »حرام عليّ أن أفعل هذا بسيّدي شاول، وأرفع يدي على من مسحه الربّ ملكًا« (1صم 24: 7). وإذ قال أبيشاي لداود: »أسلم الله اليومَ عدوَّك إلى يدك، فدعني أطعنه برمحه وأسمّره إلى الأرض طعنةً واحدة لا غير« (1صم 26: 8). حينذاك قال له داود: »لا تقتلّه. فمن الذي يرفع يده على الملك (المسيح) الذي مسحه الربّ ويكون بريئًا« (آ9). في هذا الإطار، كيف نفهم أن يكون صموئيل مسح داود ملكًا؟ وما هي هذه المسحة التي لم يعرف بها إخوته، فما حدّثوه يومًا على أنّه »ممسوح الله«؟ غضب عليه يومًا ألياب، أخوه الأكبر وسأله: »لماذا جئتَ إلى هنا؟ ومع من تركت تلك الغنمات القليلة في البرّيّة؟ أنا أعرف غرورك وخبثَ قلبك. جئتَ لترى الحرب« (1صم 17: 28). ومع ذلك يقول 1صم 16 إنّ صموئيل أتى إلى بيت يسّى ومسحَ داود ملكًا. ولكن لن يكون بعدُ كلام عمّا حصل لداود، ذاك الفارّ من وجه شاول. أما يكون الكاتب الملهم قرأ أخبار داود، وجعلها في خطّ التدبير الإلهيّ؟ كلّ نشاط داود، من إقامته في بلاط شاول، من شجاعته وإقدامه في الحرب، من تأسيس الدولة الجديدة مع عاصمتها أورشليم، كلّ هذا، باركه الله منذ البداية وكرّسه حين كرّس ذلك الفتى وأخذه من وراء الغنم ليكون رئيسًا على شعبه. هي نظرة لاهوتيّة، قبل أن تكون حدثًا تاريخيٌّا، ساعة »فهمَ« صموئيلُ أنّ الله رذل شاول واختار داود.

ونقرأ النصّ الكتابيّ (1صم 16: 1-13)

1 وقال الربّ لصموئيل:

»إلى متى تتأسّف على شاول، وأنا رفضتُه ملكًا على إسرائيل؟ فاملأ القرن بالزيت، وتعال أرسلك إلى يسّى في بيت لحم، لأنّي اخترتُ من بنيه ملكًا«.

2 فقال صموئيل:

»كيف أذهبُ؟ إن عرف شاول يقتلني«.

فقال الربّ:

»خذ معك عجلة من البقر وقل:

3 جئتُ لأقدّم ذبيحة للربّ.

وادعُ يسّى إلى الذبيحة، وأنا أشير عليك بما تفعل، وامسحْ ملكًا من أسمّيه لك«.

4 ففعل صموئيل كما أمره الربّ. وجاء إلى بيت لحم. فاضطرب شيوخ المدينة عند لقائه، وقالوا له:

»ألخير (سلام) مجيئك«؟

5 فقال: »نعم (سلام).

جئتُ لأقدِّم ذبيحة للربّ، فتطهّروا وتعالوا معي إلى الذبيحة«.

وأمر يسّى وبنيه أن يتطهّروا أيضًا. ودعاهم إلى الذبيحة.

6 فلمّا حضروا، نظر صموئيل إلى ألياب بن يسّى، فقال في نفسه:

»هذا هو الملك الذي اختاره الربّ«.

7 فقال الربُّ لصموئيل:

»لا تلتفت إلى منظره وطول قامته. فأنا رفضته، لأنّ الربّ لا ينظر كما ينظر الإنسان. فالإنسان ينظر إلى المظهر. وأمّا الربّ فينظر إلى القلب«.

8 ثمّ دعا يسّى ابنَه أبيناداب للمرور أمام صموئيل. فقال صموئيل:

»وهذا أيضًا لم يختره الربّ«.

9 ثمّ طلب يسّى من ابنه شمّة، أن يمرّ به، فقال صموئيل:

»وهذا أيضًا لم يختره الربّ«.

10 وهكذا حتّى مرّ سبعة من بنيه أمام صموئيل. فقال صموئيل ليسّى:

»لم يختر الربّ أحدًا من هؤلاء«.

11 ثمّ قال صموئيل ليسّى:

»أهؤلاء جميعُ بنيك؟«

فأجابه:

»بقي الصغير وهو يرعى الغنم«.

فقال صموئيل ليسّى:

»أرسلْ فجئنا به، لأنّنا لا نأكل حتّى يأتي إلى هنا«.

12 فأرسل (يسّى) وجاء به، وكان حسن العينين، وسيم المنظر. فقال الربّ لصموئيل:

»قم، إمسحه ملكًا. فهذا هو«.

13 فأخذ صموئيل قرن الزيت، ومسحه ملكًا من بين إخوته، فحلَّ روحُ الربّ على داود من ذلك اليوم فصاعدًا. ونهض صموئيل وعاد إلى الرامة.

1- مسائل مطروحة

أ- هذه المسحة التي تمّت في وسط العائلة، »في وسط إخوته«، تجهلها الأخبار الأخرى التي لا تقول من هو »الرجل« الذي نال منه داود المسحة. بل ما ذُكر إنسان واحد. تارة »رجال يهوذا« وطورًا »شيوخ إسرائيل«. ولكنّ وجود صموئيل ضروريّ لكي يبرّر صعود داود على العرش بعد ثورة دامت زمنًا طويلاً فاستنفدت قوى المملكة الناشئة. وقيل إنّ المخطئ هو شاول. بينما الواقع، هو أنّ الخطأ يقع على شاول وعلى داود، لا سيّما وأنّ الأخير، لجأ إلى الفلسطيّين، إلى العدوّ التقليديّ، لا هربًا فقط من شاول، بل ربّما طلبًا للمعونة. وها هذه المسحة أتت بقلم الكاتب الاشتراعيّ لتُفهمنا أنّ الله أعدّ داود لهذه المهمّة الملكيّة ساعة لم يكن هو يفكّر فيها، ولا أحد من رجاله. وبدا اختياره شبيهًا باختيار الله ليوسف بن يعقوب. فحسده إخوته. وشاول حسد داود وأراد أن يقتله. فاختيار الله سابق لكلّ مشاريع البشر، وقد قال لإرميا: »قبل أن أصوّرك في البطن اخترتُك، وقبل أن تخرج من الرحم، كرّستك (قدّستك) وجعلتك نبيٌّا للأمم« (إر 1: 5). لا شعب إسرائيل فقط. الربّ يبادر ويدعو، وما على الإنسان إلاّ أن يتجاوب مع هذه الدعوة في ظروف الحياة اليوميّة. وهو لا يرى يدَ الله الفاعلة إلاّ في النهاية. ولا يفهم طرق الربّ إلاّ حين يصل إلى الخاتمة. فبعد موت داود، بل بعد نهاية سلالة داود في المنفى البابليّ، فهم المؤرّخ الاشتراعيّ صنائع الله، وتحدّث عن مسحة قام بها رجل الله. هو مسح شاول باسم الربّ. وباسم الربّ رذله. وها هو يمسح داود الذي اختاره الربّ من بين إخوته.

ب- في آ 13، كان ألياب، بكر يسّى، شاهدًا لما حصل لداود. أمّا حين مسح صموئيل شاول، فلم يكن أحد معه. هنا نقرأ 1صم 9:

26 وبكّر صموئيل عند بلوغ الفجر، فدعا شاول عن السطح وقال له:

»انهض. سأرافقك مسافة قصيرة«.

فقام شاول وخرج مع صموئيل.

27 وبينما هما نازلان عند طرف المدينة، قال له صموئيل:

»قلْ لخادمك أن يسبقنا، وقفْ أنت قليلاً فأُسمعك كلامَ الله«.

فسبقهما الخادم.

ما أراد صموئيل أن يكون أحد معهما ليسمع ما يقول الربّ لشاول. أو يشهد ما يفعله صموئيل من مسحة. فيتابع 1صم في ف 10: 1:

فأخذ صموئيل قارورة الزيت، وصبَّها على رأس شاول، وقبّله وقال:

»الربّ مسحك رئيسًا على شعبه إسرائيل«.

أمّا داود فمُسح في احتفال كبير. خلال ذبيحة قدّمها صموئيل في بيت لحم. وما كان يسّى وأولاده وحدهم حاضرين، بل شيوخ المدينة الذين أتوا مع صموئيل بعد أن تطهّروا. الجميعُ شاهدوا ما فعله صموئيل وظهر، بلا شكّ، أثر حلول روح الربّ على داود. فكيف لم يهتمّ أحدٌ بما حصل له؟ بل عادت الأمور كما كانت من قبل. عاد داود »يرعى الغنم« (1صم 16: 19). كما طُلب منه أن يضرب بالعود لكي يُبعد »الروح الشرّير« عن شاول. أترى الروح انتقل من شاول إلى داود؟ صار روحَ شرِّ لهذا فلا يعرف كيف يتصرّف، وروحَ خير لذاك فانفتحت الطريقُ أمامه بالرغم من الصعوبات والعوائق.

ج- كان ليسّى، على ما يبدو، سبعة بنين مع داود، أي ثمانية بنين. العدد سبعة هو عدد الكمال، هذا يعني بركة تامّة ليسّى. ومع داود، الثامن، تبدأ سلسلة بركة جديدة. لا يكون نسل داود بعد اليوم مقتصرًا على بيت يسّى، بل يكون نسله مباركًا في سلالة تصل إلى يسوع المسيح.

في 16: 10 يقال لنا إنّ ليسّى ثمانية أولاد. وفي 17: 22، يُذكر العدد ثمانية أيضًا، مع الإشارة بأنّ يسّى كان شيخًا في أيّام شاول. ولكن في آ13-14، تُذكَر ثلاثة أسماء: »ألياب وهو البكر، وأبيناداب الثاني، وشمّة الثالث«. »تبع الثلاثة الكبار شاول«، أمّا داود فكان أصغرهم. »وكان يذهب (إلى الحرب) ويعود إلى بيته ليرعى غنمَ أبيه في بيت لحم«. ونشير هنا إلى أنّ يسّى أمرَّ فقط أمام صموئيل الثلاثة الكبار، فما اختار الربّ أحدهم. ولكنّ النصّ يتواصل: »وهكذا مرّ سبعةٌ من بنيه أمام صموئيل«.

أمّا 1أخ 2: 13-15، فعدّ سبعة بنين ليسّى:

13 ويسّى ولد سبعة بنين هم حسب أعمارهم: بكره ألياب، وأبيناداب الثاني وشمعا (بدل شمّة) الثالث،

14 ونتنئيل الرابع، ردّاي الخامس، أوصم السادس، داود السابع.

سبعة بنين وداود هو السابع، أي رقم الكمال. كما كان أخنوخ سابع الآباء، »سلك مع الله« (تك 5: 24). وذكر 1أخ ثلاثة أسماء لا نقرأها في أيّ مكان آخر. هذا يفهمنا أنّ الخبر الذي نقرأ نال لمسات بسيطة في 17: 12، كما عرفه كتاب الأخبار. غير أنّ ما نقرأ في 1أخ 11: 1-3 لا يُشير أبدًا إلى مسحة نالها داود من صموئيل:

1 وأقبل جميعُ بني إسرائيل إلى داود في حبرون وقالوا له:

»ها نحن لحمك وعظمك

2 حين كان شاولُ علينا ملكًا، كنتَ تخرج للحرب وتعود على رجال إسرائيل. والربّ قال لك:

أنتَ ترعى شعبي إسرائيل، وأنتَ تكون قائدًا لهم«.

3 وأقبل كلّ شيوخ إسرائيل إلى الملك في حبرون، فقطع لهم داودُ عهدًا في حبرون أمام الربّ، فمسحوا داود ملكًا على إسرائيل، بحسب كلام الربّ بيد صموئيل.

فالتاريخ الكهنوتيّ (1أخ + 2أخ + نح + عز) له نظرته اللاهوتيّة في ما يخصّ مملكة داود. ترك جانبًا 2صم 2: 4 (رجال يهوذا مسحوا داود) واحتفظ فقط بما في 2صم 5: 1-3 (شعبُ إسرائيل كلّه)، وأضاف عبارة: »الربّ قال لك«. ثمّ إنّ هذه المسحة تمّت في حبرون »حسب كلمة الربّ بيد صموئيل«. ولكنّه لا يقول كلمة عن مسحة نالها داود من صموئيل.

اختار الربّ داود »من بين إخوته«. هو الأصغر والأضعف والذي لا ينفع كثيرًا في الحرب، بل فقط في رعاية الغنم. ما اختار صموئيل رجال الحرب الثلاثة، بل الراعي الذي هو صورة بعيدة عن الملك، في الاهتمام بكلّ خروف من خرافه. تطلّع صموئيل إلى ألياب »بطول قامته«. فتذكّر شاولَ الذي زاد الشعب »طولاً من كتفه فما فوق« (1صم 10: 23). وقال صموئيل: »أرأيتم أنّ الذي اختاره الربّ لكم، لا مثيل له فيكم جميعًا«؟ (آ24). ولكن رُفض الأكبر مهما كانت له صفات خارجيّة. فالربّ لا يتطلّع إلى المظهر، بل إلى القلب. وهكذا كان داود »بحسب قلب الله«.

هذه الملاحظات الثلاث جعلتنا نرى في خبرنا »اعتبارات متأخّرة« أدرِجت في أخبار سبق فتكوّنت، بحيث بيّنت أنّ الحقبة الداوديّة ارتبطت بالأنبياء وبكلام الله. وهذا التقليد الذي يعلن المعنى الدينيّ العميق لسلطان احتفظ به شعب إسرائيل، لا علاقة له بالتاريخ المباشر. ويُطرح السؤال: متى دخل هذا التقليد في سياق الخبر؟ قد يكون ذلك في القرن السابع أو ربّما بعد ذلك التاريخ.

2- نصوص متوازية

سبق ولاحظنا أنّ هذا الخبر لم يترك أثرًا في العهد القديم، أقلّه في ما يخصّ المسحة التي نالها داود بيد صموئيل بشكل شخصيّ. فإنّ 2صم 2: 4 لا يقول شيئًا عنها. في 2صم 3: 9-10، 18، تحدّث الكتاب عن قسَم الربّ لداود، ولكنّه لم يقل شيئًا عن الظروف التي تمّ فيه. قال أبنير لأشبوشت بن شاول والمنتظر أن يخلف أباه:

9 »ويل لي من الله إن لم أحقِّق لداود ما حلف الربّ له،

10 من نقل المملكة من بيت شاول، وإقامة عرش داود على إسرائيل ويهوذا من دانَ إلى بئر سبع«.

استعادت قبائل الشمال هذه العبارة، وما أعطوا تحديدًا في 2صم 5: 2. أمّا في 2صم 7: 8 (أنا أخذتك من وراء الغنم لتكون رئيسًا على شعبي) الذي يُبرز أصل داود، على أنّه كان راعيًا، فيمكن أن يفسَّر بما في 1صم 17: 20-28، 34، دون اللجوء إلى 16: 11 (بقي الصغير وهو يرعى الغنم). ونقرأ 1صم 17:

20 فبكّر داودُ في الصباح، وأوكل الغنم إلى من يحرسها...

28 فقال له ألياب:

»مع من تركت الغنمات القليلة في البرّيّة؟«

34 وقال داود لشاول:

»كنتُ يا سيّدي أرعى غنم أبي. فإذا خطف أسدٌ أو دبّ شاة من القطيع،

35 خرجتُ وراءه وضربتُه وخلّصتُها من فمه...«.

أمّا التاريخ الكهنوتيّ فيقول إنّ كلمة الربّ حول ملكيّة داود، نقلها صموئيل. وفي مز 78: 70ي نقرأ تلميحًا إلى 1صم 16: 11-12. ولكن قد يكون التلميح في هذا المزمور إلى 1صم 13: 14؛ 2صم 7: 8. ماذا يقول المزمور؟

70 واختار داود عبده،

وأخذه من حظائر الغنم.

71 من خَلْف النعاج جاء به

ليرعى بني يعقوب شعبه،

بني إسرائيل ميراثه.

72 فرعاهم بسلامة قلب.

وبيد ماهرة قادهم.

وفي الخطّ عينه نقرأ مز 89: 20ي:

20 يوم كلّمتَ (أيّها الربّ) أتقياءك في رؤيا،

قلتَ له: »نصرتُك أيّها الجبّار.

اخترتُك ورفعتُك من الشعب.

21 وجدتُ داود عبدي

وبزيت قداستي مسحتُه.

22 معه تكون يدي،

وذراعي تؤيِّده.

»الأتقياء« (لا التقيّ كما في الترجمات). أي صموئيل وناتان. ونلاحظ أخيرًا أن أع 13: 22 تعود إلى 1صم 16: 12-13، كما يمكن أن تعود إلى 1صم 13: 14.

3- قراءة متواصلة

أ- ملاحظات نصوصيّة

في آ1، نقرأ »اخترتُ«. من بين إخوته. من بين الشعب. من قبيلة يهوذا في الجنوب، مع أنّ الملك شاول، آتٍ من الشمال، من قبيلة بنيامين. وهكذا تأمّنت المؤسّسة الملكيّة.

في آ6-7، بدا ألياب »بمنظره وطول قامته«، كأنّه أهل ليخلف شاول. ولكنّ نظرة الله غير نظرة الناس. وهناك تعارض بين الوجه والمنظر (هي نظرة سطحيّة) من جهة، وبين القلب الذي لا يُرى، الذي يبقى خفيٌّا إلاّ على الربّ. وحده يعرف الكلى والقلوب. ونحن لا ننسى أنّ القلب هو مركز الفهم والحكمة والإرادة. كما هو موضع الأفكار الباطنيّة. فمعنى القلب في الماضي، أوسع من المعنى الذي اعتاد الناس أن يروه في أيّامنا.

في آ8، عاد فعل »اختار« الذي يبدو بشكل »ردّة تتكرّر« في آ9 (لم يختره) وآ10 (لم يختره). هو كلام عن الاختيار الإلهيّ. فالله حرّ في اختياره، واختياره مجّانيّ، دون أن يكون أيّ استحقاق من قبل الشخص المختار. لم يقُم الربّ بتحقيق كما يفعل أهل الأرض، وبعد ذلك يختار من يختار. يكفي أنّ يجعل نظره عليه. فيبقى على الإنسان أن يتجاوب مع هذه النظرة وهذه النعمة الفريدة.

في آ 11، نقرأ »لا نأكل«. لا نجلس إلى المائدة. لسنا أمام طعام مادّيّ، بل أمام مأدبة ذبائحيّة ذُكرت في آ2-5 (لأقدِّم ذبيحة).

في آ 12، نقرأ »أ د م و ن ي«، لونه لون الأديم، لون التراب. أي أسمر. يمكن أن نقول: شابّ أسمر.

في آ 13، بدت المسحة طقسًا »سرّيٌّا« يقوم بها »خادم الله«، صموئيل النبيّ، فيحلّ على داود روحُ الربّ بشكل دائم، لا عابر، كما كان الوضع مع شاول (1صم 10: 6، 10). ولكن لا كلام عن ظواهر تلفت النظر. نقرأ »فحلَّ«. حرفيٌّا: انقضّ كالنسرُ على فريسته. نزل بقوّة، هذا يعني أنّ الربّ امتلك داود، صار له. فلا يستطيع بعد أن يُفلت من قبضته.

ب- اكتشاف المعاني

آ1، »رفضتُه«. جاء كلام الربّ قاسيًا على شاول، مع أنّه سبق واختاره. فهذا الملك لم يكن بحسب قلب الله، ولا هو عمل مشيئته. فضّل أن يسمع للجيش، للشعب، ولا يسمع لله. إذًا، ليذهب إلى الشعب. وليخضع للجيش. وأراد أن يُخفي خطيئته بذبيحة يقدّمها للربّ. فكان جواب صموئيل في 1صم 15: 22-23:

22 أبالمحرقات مسرّة الربّ والذبائح،

أم بالطاعة لكلامه؟

الطاعة خير من الذبيحة،

والإصغاء أفضل من شحم الكباش.

23 فالتمرّد خطيئة كالعرافة،

والعناد جريمة كعبادة الأوثان.

بما أنّك رفضتَ كلام الربّ،

رفضك الربُّ من المُلك.

»فاملأ القرن«. القرن وعاء خاصّ، مكرّس للأمور الدينيّة فقط. استُعمل القرن لمسح سليمان ملكًا، بيد صادوق الكاهن (وعاء الزيت، 1مل 1: 39). في 1صم 10: 1، مُسح شاول »بقارورة الزيت«. وكذا نقول عن مسحة ياهو، الذي أفنى عائلة آخاب. نقرأ 2مل 9: 1:

ودعا أليشع النبيّ أحد جماعة الأنبياء وقال له:

»خذ قارورة الزيت هذه وأسرع إلى راموتَ جلعاد...«.

»يسّى«. هو حفيد بوعز، الذي كان من بيت لحم في يهوذا. هذا ما نقرأه في سفر راعوت (4: 17-22): »فارص ولد حصرون... وبوعز ولد عوبيد، وعوبيد ولد يسّى، ويسّى ولد داود«.

»اخترت«. حرفيٌّا: رأيت (ر ا ي ت ي) من أجل مشروعي. فكّرتُ ورأيت. أو كما في تك 22: 8: يرى، يدبّر، يؤمّن. أجل، رأى الربّ داود، فاعتبر أنّ تدبيره يتكلّل بالنجاح.

آ2. »كيف أذهب«؟ تردّد صموئيل في القيام برسالته، شأنه شأن الأنبياء. هكذا فعل إرميا (ف 1):

6 فقلت: »آه، أيّها السيّد الربّ،

أنا لا أعرف أن أتكلّم لأنّي صغير«.

7 فقال له الربّ: »لا تقُل إنّي صغير،

أينما أرسلك تذهب،

وكلّ ما آمرك به تقوله

8 لا تخف من وجه أحد،

لأنّي معك لأنقذك.

في الواقع، خاف صموئيل بعد أن صار شاول رجلاً شرّيرًا، يخاف من الذين حوله، يخاف من داود الذي جاء به هو نفسه. وربّما يكون تردّد لدى صموئيل، وكأنه يتراجع، لأنّه هو الذي مسح شاول ملكًا. فهل يمسح شخصًا آخر؟ أهكذا يتخلّى الله بسرعة عمّا فعل؟

آ3، »خذ معك عجلة«. علّمه الربّ كيف يفعل، وهو ابن الصلاة العميقة. فصباه قضاه قرب تابوت العهد ورمز حضوره وسط شعبه. وساعة كانت الرؤى نادرة، تراءى له الربّ. وساعة لم يعرف الكاهن صوت الله، قال صموئيل للربّ: تكلّم فإنّ عبدك يسمع. وقيل فيه: »لم يهمل شيئًا من جميع ما كلّمه به الربّ« (1صم 3: 19). ويواصل النصّ: »وعاد الربّ يتراءى في شيلو، لأنّه تجلّى هناك لصموئيل وكلّمه« (آ21). وها هو يكلّمه الآن: »أنا أشير عليك بما تفعل«.

آ4، »بيت لحم«، بيت الخبز. هي في يهوذا، وقرب أورشليم. لا شكّ في أنّ هناك بيت لحم أخرى في قبيلة زبولون القريبة من جنوب لبنان، وقد ذُكرت مرّة واحدة في الكتاب المقدّس، في سفر يشوع (19: 15). ويبدو أنّ فيها أقام القاضي آبص. أمّا بيت لحم يهوذا، فهي مدينة كنعانيّة معروفة منذ القديم، فذكرتها نصوص تلّ العمارنة في مصر على أنّها من أرض أورشليم. أقامت فيها عشيرة أفراته. وفيها وُلد يسوع كما يقول متّى ويحدّد: »ولمّا وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة« (2: 1)، ويجعل المجوس يأتون إلى أورشليم حيث يقيم الملك هيرودس (آ3). وإذ يورد الإنجيليّ نصّ النبيّ ميخا (5: 1) يقول: »يا بيت لحم أرض يهوذا. ما أنت الصغرى في مدن يهوذا« (مت 2: 6). أمّا لوقا، فجعل يوسف ينتقل من الناصرة التي في الجليل، إلى بيت لحم التي في اليهوديّة. فهناك بيت داود وعشيرته (لو 2: 4). وأعلن الإنجيل الرابع عن يسوع: »أما قال الكتاب إنّ المسيح يجيء من نسل داود، ومن بيت لحم مدينة داود«. وهكذا دُعيَ يسوع »ابن داود« ومن سلالته الملكيّة.

»فاضطرب شيوخ المدينة« (آ4). اعتاد صموئيل خلال جولاته في البلاد (بيت إيل، الجلجال) أن يقضي في الناس. وأصلح عددًا من الانحرافات. لهذا خاف شيوخ المدينة من تدخّلٍ يكون قاسيًا. كما خافوا من استقبال صموئيل وكأنّهم يسيرون وراءه تاركين شاول، فيتورّطون ويتعرّضون للخطر.

ونقرأ آ5: »فتطهّروا«. حرفيٌّا: تقدّسوا. أي انفصلوا عن كلّ ما يبعدكم عن الله، من أصنام ونجاسات. فالذهاب للمشاركة في الذبيحة، يفترض أن يكون المؤمن »طاهرًا، نقيٌّا« (خر 19: 10؛ يش 3: 5) لا سيّما أنّ عددًا من الناس اعتادوا أن يمضوا إلى المعابد الكنعانيّة، ثمّ يمضون ليشاركوا في الذبيحة إكرامًا للربّ. ولكن أين تمّت الذبيحة؟ لا في معبد من المعابد، بل في بيت يسّى وجواره.

آ6، »فلمّا حضروا«. أتوا إلى بيت يسّى ليكونوا شهودًا على ما سيحصل. فكأنّهم يشاركون في مسح داود ملكًا. ومرّ أولاد يسّى. ألياب: الله هو أب. أو: إلهي هو أب. أبيناداب: أبي كريم سخيّ. وشمّة أي شمعة يرتبط بسماع الكلمة. ولكنّ الربّ اختار، لا هؤلاء الكبار، الأقوياء، بل الصغير، الضعيف، حسب المبدأ الذي أعلنه بولس الرسول: »ما هو ضعيف اختاره الله ليخزي ما هو قويّ« (1كور 1: 26-29). والكلام عن »رفض« ألياب، يحيلنا إلى تقليد لا ينظر إليه نظرة الرضى، بسبب ما قاله في 1صم 17: 28 وكأنّه نسي أنّه يتكلّم مع »مسيح الربّ«. أما كان شاهدًا لما حصل لأخيه الأصغر؟ أم هو حسده، وهو البكر، كما حسد يوسفَ إخوتُه. وكانت الترجمة السريانيّة في آ7: »أنا لا أدين كما يرى الإنسان«.

»الربّ ينظر إلى القلب« (آ7). هذا ما نقرأه مرارًا في الكتاب المقدّس. في 1مل 8: 30 نقرأ ما قاله سليمان في صلاته:

»فاسمع من السماء، من مقامك، واغفرْ وأعنْ مجازيًا كلَّ واحد بحسب عمله، ومعرفتك ما في قلبه، لأنّك أنت وحدك تعرف قلوب جميع بني البشر«.

وصلّى إرميا حين عرف أنّهم يدبّرون عليه مكيدة، فيُتلفون الشجرة مع ثمرها، ويقطعونه من أرض الأحياء بحيث لا يُذكر اسمه من بعد (إر 11: 19). قال في آ20:

فيا ربّنا القدير،

الذي يحكم بالعدل،

ويفحص الكلى والقلوب

دعني أرى انتقامك منهم،

فإليك رفعتُ دعواي.

وأنشد مز 7: 10، الإله الذي »يمتحن القلوب والكلى، أو القلوب والأكباد، أو أعماق القلوب بما فيها من أسرار وأفكار ونوايا وعواطف.

ج- أبعاد النصّ في العهد القديم

بدا 1صم 16: 1-13، مقدّمة أضيفت إلى تقاليد أولى في سيرة داود. هي لا تعارض مؤسّسة الملكيّة كما كان الأمر بالنسبة إلى كلام صموئيل (1صم 8: 6-9). بل توخّت أن تقدّم الملكيّة في إطار مواهبي، وأن تربطها بعالم الأنبياء. فالربّ هو من يدعو، ولا يتوقّف عند السلالة الملكيّة. لماذا ابن الملك يحلّ محلّ أبيه الملك؟ ولهذا كان الكلام القاسي عن إشبوشت، أي انسان (رجل) الخزي. ودُعيَ إشبعل، أي إنسان بعل. وصوِّر زَمِنَ الرجلين، معاقًا. فهل يملك على الشعب لأنّه ابن ملك، ابن شاول؟

اختير شاول بسبب مواهب تمتّع بها، فقال صموئيل: هل رأيتم نظيره؟ والذي اختار شاول هو الذي اختار داود. والناس أتوا إليه الواحد بعد الآخر: يهوذا أوّلاً ثمّ إسرائيل وأخيرًا أبنير قائد جيش شاول. وذلك لأنّ الله »حلف له«. اختاره، مسحه بالزيت قبل أن يفكّر فيه أحد، ولو كان أبوه! بل اعتبره إخوتُه كلا شيء.

بدأ شاول في الطاعة، فرضي الله عنه. ولكن حين عصى، اختار داود. وبدا المقطع وكأنّه تنبيه لداود. ذاك الذي اختار شاول ثمّ رذله، يستطيع أن يرذلك أيضًا إن رفضتَ الطاعة للربّ. والروح الذي حلّ على شاول، حلّ أيضًا على داود. فكان هذا الحلول نتيجة مسحة من الله بيد صموئيل، لا نتيجة اختيار الشعب.

أجل، الملك هو مختار الله، قبل أن يختاره البشر. وحتّى إن انتقل الملك من الأب إلى ابنه، فالله هو الذي يختار. فسليمان الذي عيّنه داود ملكًا، مسحه الكاهن صادوق بالزيت المقدّس.

والملك هو الممسوح، هو المسيح. اقتبل المسحة، شارك في طقس مقدّس يقوم به شخص من قبل الله، سواء كان نبيٌّا أو كاهنًا. لا يقول النصّ إنّ المسحة تُشرك الإنسان في قداسة الله، بحيث لا يُسمَح لشخص بأن يمسّه. ولكنّ صراع شاول وداود، سيفهمنا هذا الأمر، حيث لا يجسر داود أن يرفع يده على مسيح الربّ. ولا يقول إنّ المسحة تتيح للملك أن يقوم ببعض الأعمال الدينيّة. ولكنّ تصرّف داود يدلّ على ذلك.

والمسحة تمنح الملك روح الربّ، لا بشكل ظاهر، بل بشكل عميق ومستمرّ، لا كما كان مع القضاة عتنئيل (قض 3: 10: حلّ روح الربّ عليه، فتولّى القضاء، بشكل موقّت ومن أجل رسالة محدّدة) ومع جدعون (قض 6: 34) ويفتاح (قض 11: 29). هؤلاء حملوا الخلاص للشعب، لا بقدرتهم، بل بفعل الروح الذي »انقضّ« عليهم. وبقوّة الروح هذا سيكون داود نفسه »مخلّصًا«. قالوا عنه: »أنقذنا من معادينا، وخلّصنا« (2صم 19: 10). ولكنّ الملك لا يخلّص الشعب فقط بسلاح يحمله بيده، بل يخلّصه أيضًا حين يسوسه بالحكمة والعدالة. هكذا يرى أش 11: 1-2 المستقبل في سمات الملك الداوديّ. يجدّده روحُ الربّ الذي يحلّ على الملك المثالي، فيستعيد صفات »الآباء الكبار«. يأخذ الحكمة والعدالة من سليمان، الشجاعة والتقوى من داود. قال أشعيا (11: 1-2):

1 يخرج فرعٌ من جذع يسّى،

وينمو غصنٌ من أصوله،

2 روح الربّ ينزل عليه،

روح الحكمة والفهم والمشورة،

روح القوّة والمعرفة والتقوى.

الخاتمة

ما وصلنا بعد إلى داود الجديد الذي تحدّث عنه الأنبياء، »الذي يكسر النير عن عنقهم، ويقطع ربطهم فلا يستعبدهم الغرباء« (إر 30: 8). وقال حز 37: 24:

رجل كعبدي داود يكون ملكًا عليهم

وراعٍ واحد يكون لهم جميعًا،

ويسلكون في أحكامي

ويحفظون شرائعي.

وسبق حزقيال فقال في كلامه عن راعي شعبه، في 34: 23-24:

23 وأقيم عليها راعيًا واحدًا كعبدي داود،

فهو يرعاها ويكون لها راعيًا صالحًا

24 وأنا الربّ أكون لغنمي إلهًا،

ويكون لها رئيسًا، الراعي الذي كعبدي داود

أنا الربّ تكلّمتُ.

وتحدّثت المزامير عن الملك المسيحانيّ، ومزامير سليمان (مز 17) عن الملك الآتي. كلّ هذا تحقّق في شخص يسوع الذي أعلن هدفه منذ مجيئه إلى العالم »ليعمل مشيئة الآب«. فأعلنه الآب في العماد: أنت ابني الحبيب. تلك كانت المسحة التي نالها الابن فتحقّق فيه خلاص البشريّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM