دعوة صموئيل.

 

دعوة صموئيل

1صم 3: 1-19

كلامنا اليوم حول شخص كبير، ومن أكبر الأشخاص في تاريخ الكتاب المقدّس. رأى فيه تقليد متأخّر رجل الصلاة، وصلاته كانت فاعلة، فصار على مستوى موسى وهرون كما قال مز 99: 6 (موسى وهرون بين كهنته، وصموئيل بين الداعين باسمه)، كما بدا متشفّعًا مثل موسى من أجل الشعب (إر 15: 1). موسى »عاد« حيٌّا في شخص صموئيل. فأطلّت من جديد مواهب المشترع الكبير في عالم العبرانيّين.

والأخبار المتعلّقة بصموئيل تعود إلى أكثر من مرجع وتحمل دلالات متشعّبة. إنّها، في معظمها، ثمرة التأمّل لدى كتّاب لم يهتمّوا كثيرًا بدقّة دقيقة لدى من أخذ التاريخ مهنة. بل اعتنوا بالأحرى أن يبيّنوا مدلول هذا الواقع بالنسبة إلى مفكّري عصرهم. وهكذا نرى صموئيل يأخذ بتصرّفات ومواقف لا توافق عصره. بل تبيّن أنّ هذا الشخص البعيد عن عصر الكاتب، يستطيع أن يحمل شهادة توافق الأزمنة الجديدة.

إنّ الآيات التي نقرأ طُبعت بهذا الاهتمام. فإذا أردنا أن نلج مضمونها، نكتشف أوّلاً الواقع التاريخيّ وموضع صموئيل فيه. وقبل أن نتعرّف إلى هذا الشخص المميّز، نقرأ النصّ الكتابيّ، ونتوقّف عند عناصره (1صم 3: 1-19):

1- النصّ الكتابيّ

أ- صموئيل يخدم (آ1)

1 أمّا صموئيل الصبيّ، فكان يخدم الربّ بإشراف عالي. وكانت كلمة الربّ نادرة، والرؤى قليلة في ذلك الزمان.

تحدّث النصّ عن عالي الكاهن، الشيخ. وتجاهه صموئيل الصبيّ. في العبريّة: »ش م و ا ل«. يعني اسم الله. كما نقول: اسم الله عليه. صار مُلك الله: يشبه إرميا الذي كان هو أيضًا »ن ع ر« حين دعاه الربّ (إر 1: 5). يعني لم يبلغ بعد إلى ملء العمر، على مثال الشيوخ. منع الربّ إرميا من أن يقول إنّه صبيّ. ثمّ أرسله بعد أن وضع في فمه كلامه.

هذا »الصبيّ« هو خادم. »م ش ر ت«. هو الخادم على المستوى الكهنوتيّ. وهو ينتظر نداء الربّ. هنا يقدّم لنا النصّ ما سبق وقيل عن صموئيل. في 2: 11: »وأمّا الصبيّ فظلّ يخدم الربّ عند عالي الكاهن«. وفي آ18: »وكان صموئيل يخدم الربّ وهو صبيّ. وكان يلبس أفودًا (ثوب الكهنة خلال خدمته) من كتّان«. نلاحظ هنا أنّ صموئيل ليس كاهنًا ابن كاهن. بل هو يتمرّس على الكهنوت مع من هو أقدم منه. تلك كانت العادة في الكنيسة حتّى تأسيس الإكليريكيّات، وفيها ينقطع طالب الكهنوت عن محيطه.

الصفة الأساسيّة لصموئيل: أن يكون خادمًا. وهذا يكفيه. جاء في وقت صارت فيه الكلمة نادرة. على ما قال عا 8: 11-12:

11 ستأتي أيّام،

أرسل فيها الجوع على الأرض،

لا الجوع إلى الخبز ولا العطش إلى الماء،

بل إلى استماع كلمة الربّ.

12 فينزحون من بحر إلى بحر،

ومن الشمال إلى المشرق،

ويطوفون في طلب كلمة الربّ فلا يجدون.

وقال مز 74: 9 على أثر دمار الهيكل:

لا نرى علامة ولم يبق نبيّ،

ولا عندنا يعرف إلى متى

وفي الخطّ عينه، قال صاحب المراثي (2: 9):

غاصت في الأرض أبوابها،

دمَّر وحطَّم أقفالها.

ملكها ورؤساؤها في الغربة

ولا شريعة هناك.

حتّى أنبياؤها لا يرون

رؤيا من عند الربّ.

لا كلمة. لا رؤيا. يعني لا اتّصال بعدُ مع الربّ. سواء في الحلم أو بأسلوب آخر. هذا الغياب للكلمة يدلّ على أنّ الله ليس راضيًا، كما قال حز 7: 26:

نكبة على نكبة تأتي،

وخبرٌ على خبر يرد،

يلتمسون رؤيا من نبيّ،

وما من رؤيا.

الكاهن يفقد الشريعة،

والشيوخُ الحكمة.

ولو تكاثرت كلمة الله، لكان ذلك علامة بركة. كما قال هو 11: 10-11:

10 يسيرون وراء الربّ،

وهو يزأر كالأسد.

فيُسرع البنون إليّ من جهة البحر

11 من مصر يسرعون إليّ كالعصافير،

ومن أرض أشور كالحمام،

فأعيدهم إلى بيوتهم،

أنا الربّ.

ب- وفي إحدى الليالي (آ2-9)

2 وفي إحدى الليالي، كان عالي الكاهن نائمًا في غرفته، وابتدأت عيناه تضعفان فلم يقدر أن يُبصر.

3 ومصباح بيت الله لم ينطفئ بعد، وصموئيل نائم في الهيكل حيث تابوت العهد.

4 فدعا الربّ صموئيل. فأجاب:

»ها أنا يا سيّدي«.

5 وأسرع إلى عالي، وقال له:

»دعوتَني، فها أنا«.

فقال له:

»ما دعوتُك، إرجع ونمْ«.

فرجع صموئيل ونام.

6 فعاد الربّ ودعا صموئيل ثانية، فقام وأسرع إلى عالي، وقال له:

»دعوتني، فها أنا«.

فقال له:

»ما دعوتك يا ابني. إرجع ونمْ«.

7 ولم يكن صموئيل عرف الربّ، ولا كلامه انكشف بعدُ له.

8 فعاد الربّ ودعا صموئيل ثالثة، فقام صموئيل وأسرع إلى عالي، وقال له:

»دعوتني، فها أنا«.

9 فقال له:

»إذهب ونمْ. وإن دعاك صوتٌ فقلْ:

تكلّم يا ربّ لأنّ عبدك سامع«

فذهب صموئيل إلى فراشه ونام.

لا خبرة لصموئيل. فهو ما »عرف« (ي د ع) الله بعد. إنّه يحتاج إلى خبرة روحيّة عميقة، كان بالإمكان أن يأخذها من عالي. ولا »تجلّت« (ي ج ل ه) له كلمة الربّ. بل بقيت غامضة في ذهنه، تنتظر من يحرّكها. ثلاث مرّات ناداه الربّ. وفي المرّة الثالثة فهم عالي أنّ الربّ هو الذي يكلّم »الصبيّ«. علّمه الموقف المطلوب للاستماع. في كلّ مرّة من المرّات الثلاث، كان صموئيل يُسرع إلى عالي. »دعوتَني« (آ5، 6، 7). في الحقيقة، الربّ هو الذي يدعو صموئيل ويُلحّ طالبًا منه السماع.

الكاهن نائم. وبالإضافة إلى ذلك، شحّت عيناه. وصموئيل نام. والسهر هو مصباح الله. فالنور أمامه يرمز إلى الحضور. وقت النوم هو وقت ظهور الله وكلامه. لهذا بدا صموئيل مستعدٌّا: »ها أنا«. ردّد ذلك ثلاث مرّات. نشير هنا إلى أنّ آ4 أضافت النداء في اليونانيّة: فدعا الربّ: صموئيل، صموئيل. وتردّدُ الاسم دلالة على رسالة مهمّة تنتظر المدعوّ.

بدأ صموئيل »خادم« المعبد. وفي آ20، هو »النبيّ« الذي عُرف في البلاد كلّها، من دان إلى بئر سبع: هو يسمع الكلمة، ثمّ ينقلها. هكذا فعل مع عالي. سوف نرى كيف أنّ الكاتب كيّف الألقاب العديدة، لكي يرينا في صموئيل ذاك الوسيط بين الله والشعب.

ج- فجاء الربّ (آ10-14)

10 فجاء الربّ واقترب من صموئيل، ودعاه كالمرّات السابقة:

»صموئيل، صموئيل«!

فأجاب صموئيل:

»تكلّم يا ربّ، فإنّ عبدك سامع«.

11 فقال له الربّ:

»سأعمل في إسرائيل عملاً يُذهل كلَّ من سمع به.

12 في ذلك اليوم، أنفّذ بنسل عالي كلَّ وعيدي من أوّله إلى آخره.

13 فأنا أنذرتُه بأنّي ساقضي على نسله إلى الأبد، لأنّه علم أنّ بنيه أثموا، وما ردَعهم.

14 ولذلك أقسمتُ أن لا ذبيحة ولا تقدمة تكفّران عن إثم عالي ونسله إلى الأبد«.

ناداه الربّ باسمه مرّتين. المهمّة صعبة وملحّة. فالربّ القدير هو الذي يعمل. فيبدأ ويطهّر الأرض من الخطيئة. ولا سيّما خطيئة عالي. والسبب بنوه. خطئوا فما ردعهم. وخطيئتهم كبيرة ولا سيّما على مستوى الطقوس. كانوا يسبقون الله في اتّخاذ حصّتهم من الذبيحة. قال فيهم 1صم 2: 12-15:

12 وكان بنو عالي حقيرين (أبناء بليعال) لا يعرفون حقّ الربّ،

13 ولا حقّ الكهنة على الشعب. فكلّما ذبح رجلٌ ذبيحة، أرسلوا خادم الكاهن عند طبخ اللحم، وبيده شوكة لها ثلاث شُعُب

14 فيضربها في المرجل... ويأخذ ما خرج بها للكاهن.

15 بل كان خادم الكاهن يجيء قبل حرق الشحم...

وما اكتفى الربّ بأن يدعو صموئيل لكي ينذر عالي، بل أرسل إليه نبيٌّا فقال له (ف2):

27 »أما تجلّيتُ لسلفك هرون وهو بأرض مصر؟

29 فلماذا نظرتم بنهم إلى ذبائحي وتقدماتي التي أمرتُ بها في بيت قدسي؟

لماذا فضّلتَ بنيك عليّ حتّى يتسمّنوا بأفضل ما يقدّمه لي بنو إسرائيل شعبي؟«

وهكذا جاء الحكم قاسيًا، ووجب على صموئيل أن يحمله، على مثال إرميا الذي سوف يشتكي على الربّ إلى الربّ. أجبر على التهديد، فعاداه الشعب وطلبوا قتله. تحدّث إرميا عن كلام الربّ وكأنّه نار في أمعائه، بحيث لا يستطيع أن يحتفظ به. ومثله سيقول صموئيلُ الحقيقةَ لعالي.

د- وبقي صموئيل نائمًا (آ15-18)

15 وبقي صموئيل نائمًا حتّى الصبح، ثمّ فتح أبواب بيت الربّ، وخاف أن يكشف الرؤيا على عالي،

16 فدعاه عالي وقال له:

»يا صموئيل ابني«.

فأجابه صموئيل:

»ها أنا«.

17 فقال له:

»ماذا قال الربّ لك؟ عاقبك الله وزاد عقابك، إن أخفيتَ عنّي كلمة من كلماته لك«.

18 فأخبره صموئيل، وما أخفى عنه شيئًا. فقال عالي:

»هو الربّ! ليفعل ما حسن في عينيه«!

استعدّ عالي أن يتقبّل كلّ شيء من يد الربّ. بهذه الطريقة دلّ أنّه أقرّ بخطيئته. لا شكّ في أنّ الكاهن نبّه أولاده. ولكنّه لم يكن قاسيًا، فما ارتدعوا (2صم 2: 25). وما اكتفوا بالتعدّي على ذبائح الربّ، بل أيضًا على »النساء اللواتي يخدمن عند باب خيمة الاجتماع« (آ22). ونقرأ ما قال لهم في 2: 23-25:

23 »لماذا تعملون هذه الأعمال؟ وما هذا الخبر القبيح الذي أسمع عنكم من جميع هذا الشعب؟

24 لا، يا أبنائي، فهذه السمعةُ غير حسنة، وأنتم تدفعون شعب الربّ إلى المعصية.

25 إذا خطئ إنسان إلى آخر، فالله يحكم. وأمّا إذا خطئ إنسان إلى الربّ، فمن يكون حكمًا؟

بما أنّهم أبناء الكاهن، فهم كهنة مثله. وسلوكهم السيّئ يدفع الآخرين إلى الخطيئة. كما قال الإنجيل (مت 18: 6): »من أوقع أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي في الخطيئة، فخيرٌ له أن يُعلّق في عنقه حجر الرحى ويُرمى في أعماق البحر«.

ه- وكبر صموئيل (آ19-21)

19 وكبر صموئيل. وكان الربّ معه، فما أهمل شيئًا من ما كلّمه به.

20 وعلم بنو إسرائيل، من دان إلى بئر سبع، أنّ الربّ اختار (ن ا م ن: جعله أمينًا. صار الشعب أمانة في عنقه. سلّم، استودع) صموئيل نبيٌّا.

21 وعاد الربّ يتراءى في شيلو، لأنّه تجلّى هناك لصموئيل وكلّمه.

»وكبر«. أي صار مسؤولاً عن نفسه. لم يعد »مرتبطًا« بعالي. فالربّ معه، ويرافقه بحمايته القديرة. هكذا كان الربّ مع إسحق فتراءى له وقال (تك 26: 2-3):

2 »لا تنزلْ إلى مصر، بل اسكن في الأرض التي أدلّك عليها.

3 وتغرَّب في هذه الأرض، وأنا أكون معك وأباركك. فأعطي لك ولنسلك جميع هذه البلاد.

وإذ كان يعقوب في بيت إيل، ماضيًا إلى حاران، قال له الربّ: »وها أنا معك، أحفظك أينما اتّجهت« (تك 28: 15). وإذ خاف موسى أن يمضي إلى مصر ويقابل فرعون، قال له الربّ: »أنا أكون معك. وهذه علامة على أنّي أنا أرسلك: إذا أخرجتَ الشعب من مصر، فاعبدوا الله على هذا الجبل« (خر 3: 12). كان الربّ مع يشوع (يش 1: 5)، مع جدعون (قض 6: 12: الربّ معك أيّها الجبّار)، وكان مع صموئيل، فما ترك كلمة من كلمات الربّ تسقط على الأرض. الله يعد ووعدُه يتمّ. فلا تسقط كلمة منه (يش 21: 45). وقال 1مل 8: 56-57 مشدّدًا على أهميّة كلمة الله:

56 »تبارك الربّ الذي وهب الراحة لشعبه، كما تكلّم على لسان موسى عبده، ولم تسقط كلمةٌ واحدة من جميع أقواله الصالحة«.

ولكن بسبب الإنسان، يؤخّر الربّ إنجاز مواعيده. فهو يطلب مشاركة من يدعوه لكي تتمّ أقواله. وهكذا التقى صموئيل مع يشوع وسليمان وجدعون، وسائر الكبار في شعب إسرائيل. أمّا الآن، فحضور الربّ في حياته. نقرأ فعل »رأى« في صيغة المجهول. هو الربّ يسمح لصموئيل أن يراه، وبالتالي يستنير بنوره، فيسلك كما يريد الربُّ له أن يسلك. كانت الكلمة نادرة، فصارت متواترة، لأنّ هناك من يسمعها ولا يهملها. وكانت الرؤى قليلة، لأنّ الشعب يسير في الظلام، وقائده لا يقدر أن يُبصر بعينيه الضعيفتين. ومع صموئيل، كشف الله عن ذاته، وسمح للنبيّ أن يراه.

2- صفات صموئيل

نترك جانبًا المرمى الذي رمى إليه الكاتب الملهم، ليبيّن أنّ كهنوت عالي زال في شخص أبياتار الذي أُرسل إلى المنفى بعيدًا عن أورشليم، ونجا من القتل لأنّه حمل »تابوت العهد أمام داود« (1مل 2: 26). السبب: خطيئة أبنائه. فكيف يرثون والدهم وهم ما عليه من سوء السمعة. ونتوقّف عند صفات صموئيل. هو خادم المعبد. هو القاضي. هو النبيّ.

أ- خادم المعبد

في البداية، كان صموئل خادم المعبد، شأنه شأن موسى الذي أقام قرب خيمة الاجتماع، بعيدًا عن الشعب. نقرأ خر 33: 7-9:

7 وكان كلّما نزل بنو إسرائيل في مكان، أخذ موسى الخيمة المقدّسة، ونصبها في خارج المحلّة، على بُعد منها، وسمّاها خيمة الاجتماع. فكان كلُّ من طلب مشورة الربّ يخرج إليها.

8 وكان موسى إذا خرج إليها، يقومُ كلُّ واحد من الشعب، ويقف على باب خيمته، وينظر إلى موسى حتّى يدخل الخيمة.

9 وكان موسى إذا دخل الخيمة، ينزل عمودُ السحاب ويقف على باب الخيمة، ويكلّم الربُّ موسى.

في الخيمة كان موسى. وقدَّم شروط الدخول إلى المعبد، والمشاركة في شعائر العبادة. هكذا كان عالي أيضًا. وخصوصًا صموئيل، الجالس، النائم، قرب تابوت العهد، لئلاّ يقترب أحد منه.

يُذكَر دورُ صموئيل العباديّ أكثر من مرّة. في المصفاة، قرَّب محرقة للربّ ودعا باسمه (1صم 7: 9: أخذ حملاً رضيعًا). في الرامة، بارك الذبيحة، وما أكل الشعب قبل أن يعطي البركة (13: 9). دعا الشعب إلى الجلجال، فجاؤوا ليعلنوا شاول ملكًا »أمام الربّ«، ساعة كانت تُنحَر ذبائحُ السلامة (11: 15). وقال 13: 8-15: لا يحقّ لأحد أن يقدّم مثل هذه الذبائح إلاّ صموئيل. قال شاول: »هاتوا لي المحرقة وذبائح السلامة«. وقدَّم المحرقة (آ9). فقال له صموئيل: »بحماقة تصرّفت« (آ13). لا يحقّ لك ذلك. ولأنّك فعلت ما فعلت »لن يدوم ملكك« (آ14).

والخبر الذي جعل صموئيل يعيش في شيلو منذ صباه، استلهم تقليدًا رأى فيه خادم المعبد. ولكنّ عددًا من المعابد طالبت بصموئيل: صبيّ في شيلو. اعتاد أن يُقيم في الرامة (7: 17). جمع الشعب في الجلجال. وهكذا أراد كلُّ معبد أن يرتبط بشخصه النافذ، وأن يحتفظ منه بإحدى الذكريات. أتُرى خافت هذه المعابد من الزوال مع إصلاح يوشيّا، سنة 622، فارتبطت بشخص صموئيل؟ ربّما. ومع ذلك، لم يبقَ سوى المعبد المركزيّ، في أورشليم، حيث أراد الله أن يقيم.

ب- صموئيل القاضي

القاضي هو من يهتمّ بأمور الناس. منذ إقامة العدالة، حتّى تنظيم الحياة الاجتماعيّة والدينيّة. سبق صموئيلَ اثنا عشر قاضيًا، فبدا وكأنّه يبدأ حلقة جديدة. ولكنّه في الواقع، أغلق على هذه الحقبة التي فيها »كان كلّ واحد منهم يعمل على هواه« (قض 21: 25). كانت الحاجة إلى ملك، فأسّس صموئيل الحقبة الملكيّة حين مسَحَ شاول ثمّ داود.

فهذا الكاهن وحارس المعبد، يعلن قرارات الله. من أجل الشعب الذي يأتي إلى الربّ، ويطرح أسئلة تتعلّق بكلّ ما يرتبط بشعائر العبادة. فيعطي صموئيل الأجوبة التي يمليها عليه التقليد حيث يكون كلّ كاهن خبيرًا. ولكنّ وظيفة صموئيل أوسع من هذا. فالشعب الآتي إلى الربّ يطرح أيضًا أسئلة حول العدالة. وكما قيل عن موسى إنّه كان »يقضي« في الناس، ويحكم باسم الله في الخلافات بين أعضاء الشعب (خر 18: 15: يجيء الشعب ليعرفوا إرادة الله)، هكذا قيل عن صموئيل إنّه قضى في بنى إسرائيل، في المصفاة (7: 6). بل كان »القاضي« طوال حياته (7: 15). وهكذا أتمّ النشاط القضائيّ في أماكن مختلفة: في بيت إيل، الجلجال، المصفاة، وخصوصًا في الرامة حيث كان بيته (7: 15-17).

هو قاضٍ يحمل السلام، على مثال موسى، الذي جلس في قادش قرب عين مشفاط (تك 14: 7) »عين القضاء«، أو دبورة التي قضت في إسرائيل تحت النخلة (قض 4: 5). وهو عالم بالوضع السياسيّ، فيعرف النتائج الوخيمة لحضور الفلسطيّين، على أمانة الشعب الدينيّة. وفي هذه الأزمنة المؤلمة للاحتلال، لبث الشاهد الواثق بتحرّر قريب، والواعظ المقتنع بالرباط الوثيق بين حرّيّة تُستعاد وإيمان يُثبَّت. وضمّ إلى وعظه المستمرّ، صلاة »عنيدة«. فطلب أن تأتي ساعةُ الاستقلال التي هي أيضًا ساعة الأمانة للربّ. هنا نقرأ 1صم 7: 2-9:

2 وبقيَ تابوت العهد في قرية يعاريم مدّة عشرين سنة. صرخ بعدها جميعُ بني إسرائيل إلى الربّ.

3 فقال صموئيلُ لبني إسرائيل:

»إذا رجعتُم إلى الربّ بكلّ قلوبكم، أزيلوا الآلهة الغريبة وتماثيل عشتروت من بينكم، وثبّتوا قلوبكم في الربّ، واعبدوه وحده، فينقذكم من أيدي الفلسطيّين«.

4 فأزال بنو إسرائيل تماثيل بعل وعشتاروت، وعبدوا الربّ وحده.

5 فقال لهم صموئيل:

»اجتمعوا كلّكم في المصفاة، فأصلّي لأجلكم إلى الربّ«.

8 وقالوا لصموئيل:

»لا تكفّ عن الدعاء لأجلنا إلى الربّ إلهنا، ليخلّصنا من أيدي الفلسطيّين«.

9 فأخذ صموئيل حملاً رضيعًا، وقدّمه محرقة للربّ، وصلّى إليه لأجل بني إسرائل. فاستجاب له الربّ.

وكما انتصر يشوع على عماليق بفضل صلاة موسى (خر 17: 9-13)، كذلك انتصر بنو إسرائيل، بفضل ما قدّم صموئيل من صلاة مستمرّة، وما قدَّم من ذبيحة أرضت رائحتها الربّ. التزم صموئيل بالحرب على الفلسطيّين، فتدخّل كما فعلت دبورة قبله (قض 4: 6-9: دعت باراق. الربّ الإله أمرك. وقالت له: أذهبُ معك) لتدفع الرجل الذي يجمع القبائل المقسّمة، ويحرّك الشعب الذي خاب أمله بسبب ما لقيَ من هزائم. ما الذي فعل صموئيل في الضبط؟ هذا ما يصعب تحديده. ولكنّنا نعرف أنّه حاضر، ناشط، ساعة تحمّس الشعب بنجاح شاول، فعزم على المناداة به ملكًا. إن لم يكن صموئيل لعب دورًا حاسمًا في تسمية »المرشّح« الذي حمله الحماسُ الشعبيّ، إلاّ أنّه ذكّرهم بأنّ الملكيّة الفتيّة يجب أن تتحقّق بحسب دعوة شعب الله.

ج- صموئيل نبيّ

حين يتكلّم الكتاب المقدّس للمرّة الأولى عن العلاقات بين صموئيل وشاول، لا نكون أمام القاضي، ولا أمام الكاهن. بل أمام شخص معروف تُطرَح عليه الأسئلة المختلفة، بما فيها وجهة انطلاق قطيع من الأتن هربت من الحظيرة. »كلّ ما يقوله يتمّ« (9: 6). مثل هذا الرجل يُدعى »الرائي«. وجاءت حاشية تشرح: الرائي هو النبيّ.

المعادلة بسيطة وأكثر من بسيطة. فصموئيل اشتهر بموهبته كراء، وهي موهبة تماهت مع موهبة الأنبياء. قال أشعيا (6: 1): »رأيتُ السيّد الربّ«. وسأل الربّ إرميا: »ماذا ترى يا إرميا؟« (إر 1: 11-13). غير أنّ هذا الرائي يتمتّع بمواهب خارقة، ويرتبط بعلاقات وثيقة مع »ن ب ي ي م« أي الأنبياء. فيشاركهم بعض المرّات في تقواهم وما فيها من حمّى جامحة، وفي انخطافاتهم (19: 20-24). كما يقاسمهم حماسهم السياسيّ والدينيّ.

صموئيل نبيّ. تلك صورة تأمّل فيها بعضُ التقليد الذي دعا موسى نبيٌّا (تث 18: 15)، بل إبراهيم نفسه (تك 20: 7). تكوّنت هذه الصورة في زمن رغب عالمُ النبوءة أن يبرّر تدخّلاته الجريئة، فتحدّث عن موسى ثمّ عن صموئيل اللذين كانا نبيّين في أيّامهما. ذاك كان هدف الخبر الذي قرأنا: أن يجمع حول شخص صموئيل العناصر التي تصف النبيّ وطبيعته ورسالته في مدلولها. وكلّ هذا ينبع من حياة حميمة مع الربّ.

هذا النبيّ دعاه الله، فتميّز عن »ن ب ي ي م«، تلك الجماعة التي تشبه »إخويّاتنا«. فالله اتّخذ المبادرة. والإنسان لا يختار رسالته، بل يتسّلمها من الله، ويكتشفها بتدخّل خاصّ من لدنه تعالى. هذا ما نقول عن صموئيل وموسى وجدعون وشمشون وعاموس وإرميا.

هذا النداء لا يتوقّعه الإنسان. فالصبيّ صموئيل تأخّر قبل أن يدرك أصل البلاغ الموجّه إليه. »ما عرف بعدُ الربّ، ولا وصلت بعدُ إليه كلمة الربّ« (3: 7). وموسى الراعي تردّد أمام العلّيقة المشتعلة التي لا تحترق (خر 3: 3). وعاموس، قاطف الجمّيز، عرف أنّه غريب عن وظيفة الأنبياء وحياتهم (عا 7: 14). وإرميا لم يعرف كيف يتعامل مع المهمّة التي كلِّف بها (إر 1: 6).

من يدعو الله؟ الأقوياء؟ كلاّ. بل الضعفاء. صموئيل هو صبيّ. موسى لا يعرف أن يتكلّم (خر 4: 10-17). جدعون خرج من عشيرة صغيرة (قض 6: 15). استعدّ عاموس للعمل في الحقل، لا في المهمّة النبويّة (عا 7: 14-15). ومع ذلك، دعاه الربّ. وإرميا يبدو »ولدًا«، غير مهيّأ (إر 1: 6). وحزقيال هو إنسان ابن إنسان. هو الترابيّ الضعيف (حز 2: 1).

والمختار من يكتشف وضاعته أمام موضوع دعوته. خاف صموئيل الصبيّ أن يروي للكاهن الشيخ ما رأى في الليل (1صم 3: 15). وموسى كلِّف بأن يدعو العبرانيّين إلى الحرّيّة، ويُقنع فرعون بأن يتخلّى عن عمّال يستغلّهم استغلالاً، تألّم حين أحسّ بفشله وعجزه (خر 5: 22-23؛ 6: 12). وعلى عاموس أن يوبّخ الكاهن المسؤول في المعبد الملكيّ، في هيكل الملك، بل السلالة المالكة (عا 7: 13). وإرميا وجد نفسه في وجه البلاد كلّها، في وجه ملوك يهوذا والأمراء والكهنة وشعب الأرض (إر 1: 18). أمّا حزقيال فيحيط به الشوك والعقارب (حز 2: 6).

ويصل الدعاء بعض المرّات في المعبد، كما كان الأمر بالنسبة إلى صموئيل، وإلى أشعيا (أش 6: 1-6). وكانت لعاموس رؤيا حاسمة في موضع ما (عا 9: 1-4). والله أسمع صوته حين كان الصبيّ »نائمًا«. ونتذكّر سليمان الذي قضى ليلته في جبعون، وهناك وصل إليه بلاغ من الربّ (1مل 3: 14-15). نام الملك الشابّ (سليمان) في المعبد، ورغب أن يسمع كلامًا من الله. أمّا صموئيل فهو بجانب عرش الله (= تابوت العهد) من أجل الخدمة المقدّسة: الاهتمام بالسراج بحيث لا ينطفئ. فتح الأبواب (3: 3، 15).

كان »الصبيّ« في خدمة كاهن (عالي). وكان إرميا وحزقيال كاهنين. وها هم يكلّفون بإعلان العقاب لما بجّلوه، لما أحبّوه، وهو عقاب لا مهرب منه. أعلن صموئيل الحكم على عائلة عالي الكهنوتيّة (3: 12-14). وأكّد إرميا أنّ هيكل أورشليم الذي تحوّل إلى »مغارة لصوص« (7: 11)، سوف يُدمَّر. وأعلن حزقيال أنّ مجد الربّ ترك أورشليم والهيكل اللذين تنجّسا بخطايا إسرائيل.

فجوهر بلاغ الأنبياء يتضمّن، أقلّه في مرحلة أولى، كلمة دينونة وحكم قاسٍ. فما يقوله صموئيل »يُذهل كلّ من يسمع به« (3: 11. تطنّ أذناه). وعاموس شبّه نفسه ببوق ينفخ في المدينة فيزرع الرعب في قلب الشعب (عا 3: 6). فهو يعلن أنّ »مرتفعات إسحق ستدمَّر، ومعابد إسرائيل ستخرب، وأنّ يهوه يمتشق سيفه على بيت يربعام«. ومع أنّ يعقوب صغير، فلا غفران ممكنًا له. وغرّق أشعيا الشعب في اللاإيمان ليهيّئه إلى الدمار (أش 6: 10-11):

9 أجعل هذا الشعب قاسيًا،

وأذنيه ثقيلتين وعينيه مغمضتين،

لئلاّ يبصر بعينيه

ويسمع بأذنيه

ويَرجع إليّ فيشفى.

10 فقلت:

»إلى متى يا ربّ؟«

فقال:

»إلى أن تصير المدن خربة بلا ساكن،

والبيوت بغير بشر،

والأرض خرابًا مقفرًا«.

أمّا إرميا فهو لا يفتح فمه إلاّ ليصرخ ويعلن: »عنف، دمار« (إر 20: 8). واستعدّ حز 2: 10 ليطلق بلاغًا يتلخّص في ثلاث كلمات: مراث، نواح، ويل.

ولكن نجد في دعوة صموئيل، كما في دعوة سائر الأنبياء، ناحية مهدّئة: حضور الكلمة. هي تتدخّل بخفر، في ليل ينامُ فيه صبيّ اسمه صموئيل. أيقظته بنعومة وما أخافته. لأنّه كان في خدمتها. ما ترك »فُتاتًا« فيها يسقط على الأرض. هنا نتذكّر عاموس كيف وصف خدمة الكلمة: رفيقان يمشيان معًا يتبادلان الرأي: الربّ ونبيّه. نقرأ عا 3: 3-8:

3 أيسير اثنان معًا إلاّ إذا تواعدا؟ (الربّ وعاموس)

7 السيّد الربّ لا يفعل شيئًا إلاّ إذا كشف سرَّه لعباده الأنبياء.

8 زأر الأسد (الربّ) فمن (أي نبيّ) لا يخاف؟

تكلّم الربّ فمن (يجسر) أن لا يتنبّأ.

حين تدخل الكلمة، لا يستطيع النبيّ إلاّ أن يعلنها. قال عا 7: 15: »أخذني الربّ من وراء الغنم«. وقال أش 8: 11: »أمسكني الربّ بيدي«. وأعلن إرميا أنّ الربّ »فتنه، سحره«. اجتاحته الكلمة فشعر بها في العمق. وإن شاء أن يصمت، أحسّ بنار آكلة في عظامه. نقرأ إر 20: 7-9:

7 خدعتني يا ربّ فانخدعتُ.

وغالبتني بقوّتك فغلبتَ

صرتُ أضحوكة ليل نهار،

وجميعُهم سيهزئون بي

9 فإن قلت: لن أذكر الربّ،

ولا أتكلّم باسمه من بعدُ

أحسست بنار محرقة

محبوسة داخل عظامي

أحاول كبتَها ولا أقدر.

ومع ذلك، فإرميا هذا أعلن ابتهاجه حين تقبّل الكلمة. فقال في 15: 16: »سمعتُ كلامك فوعيتُه، فكان لي كلامُك سرورًا وفرحًا في قلبي. فأنا دُعيت باسمك أيّها الربّ الإله القدير«. وهكذا التصق النبيّ بإلهه. أمّا حزقيال فقال عن نفسه (حز 3: 2-3):

2 ففتحتُ فمي، فأطعمني هذه الورقة (تحمل كلام الله)

3 وقال لي:

»يا ابن البشر، أطعمْ جوفك، واملأ أحشاءك من هذه الورقة التي أعطيك إيّاها«.

فأكلتُها فصارت في فمي حلوة كالعسل.

الخاتمة

هكذا بدا وجه صموئيل، في خطّ سائر الأنبياء، وفي نبوءته كان خادم المعبد، و»القاضي« الذي يسمع كلام الله، ويوجّه الشعب نحو الملكيّة. انطلقت حياته من اقتراب إلى الربّ، فسمع صوته في سكون الليل العميق. أنا سامع. أنا طائع. أنا مستعدّ. يكفي أن تتكلّم. فالنبوءة، أي كلمة الله تصل إلى إنسان من الناس لتنير الحاضر الذي يعيش فيه، حاضره. وكلمة الله لا تصمت. وإن قيل إنّها نادرة، لأنّ أحدًا لا يهتمّ بها، ولا يميّزها بين الكلمات العديدة التي تطوّقنا، ولا سيّما في هذه الأيّام. أعلن صموئيل استعداده، فسمع ورأى. وهكذا كانت طريقه »نجاحًا« لأنّها كانت كالشجرة التي على مجرى المياه. فقال فيه ابن سيراخ (46: 13): »كان محبوبًا من الربّ. وكنبيّ الربّ أسَّس الملك وأقام حكّامًا للشعب«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM