المساكين يطلبون الله.

 

المساكين يطلبون الله

صف 2: 3؛ 3: 12-13

قدّم لنا التقليد النبويّ كلّه تعليمًا يقول إنّ الله يحامي عن المساكين، عن الصغار، عن المحتقَرين. بل هذا هو لقبه، في هذا الخطّ سار النبيّ صفنيا وأضاف بأنّ الفقر لا يميّز فقط حالة اجتماعيّة، يل يصوّر خبرة روحيّة عميقة: موقف الجهوزيّة والرغبة في تقبّل الله، والانفتاح على الله. مثل هذا الفقر لا يكون »إذلالاً« للإنسان، بل حرّيّة تامّة تجعل المؤمن يضع ثقته بالله على مثال ما قال المزمور: كما أنّ عيون العبيد إلى أيدي مواليهم، هكذا عيوننا إليك يا الله. أمّا النصّ الذي نقرأ فجاء من فصلين اثنين. طُرح سؤال: من يطلب الله؟ وجاء الجواب: شعب المساكين وحده. أمّا الأغنياء فيستغنون عن الله. ونقرأ صف 2: 3:

أطلبوا الربّ،

يا جميع ودعاء الربّ،

الذين عملوا بأحكامه.

أطلبوا العدل،

أطلبوا الوداعة،

فلعلّ الربّ يستركم في يوم غضبه.

الودعاء يعارضون جميع الذين يستندون إلى قواهم الخاصّة: هم الكبار، الأقوياء، الأغنياء. بعد ذلك نقرأ صف 3: 11-13:

11 في ذلك اليوم،

لا تخزين يا أورشليم،

بما تمرّدتِ به عليّ.

سأُزيل منكِ المبتهجين بكبريائهم،

فلا تشمخين من بعدُ في جبلي المقدّس.

12 وأبقي فيك شعبًا وديعًا متواضعًا

يعتصمون باسم الربّ.

13 فهم مع بقيّة بني إسرائيل،

لا يفعلون الإثم،

لا ينطقون بالكذب.

ولا يُوجَد في أفواههم لسانٌ ماكر،

لأنّهم يرعون ويرتاحون ولا من يخيفهم.

1- سياق النصّ

»لا يُحسن الربّ ولا يسيء« (1: 12). هو لا يقدر. أو هو لا يريد. فأين العهد بعد ذلك وعطيّة الشريعة وعمل الخلاص؟ ذاك هو الشكّ الذي أقلق صفنيا في وقت الضيق وما يقلق الإنسان في كلّ يوم: هل يهتمّ الله بالبشر؟ هل يقود التاريخ أو يترك التاريخ يقوده كما يقود البشر، فيصبح قدرًا فوق »الآلهة والبشر« كما كان الأقدمون يقولون؟

طُرح هذا السؤال في فترة قاسية جدٌّا، فترة الامتداد الأشوريّ مع التدميرات والفظاعات. خربت الممالك الواقعة بين نهر الفرات والبحر المتوسّط. سقطت دمشق سنة 732، والسامرة سنة 722 فأفرغت من سكّانها الذين هُجِّروا. سقطت صور سنة 701 أمّا صيدون فدمّرت كلّها سنة 671. وسُلبت طيبة، في مصر سنة 663، وبابل سنة 689. فبدا سنحاريب مثل طوفان لا يترك شيئًا قائمًا أمامه وأمام جيش مارس الشراسة إلى أقصى حدودها.

نبّه النبيّ أهل يهوذا وهو العائش في نهاية القرن السابع ق.م.: يوم الربّ آتٍ، ومن يدري ماذا يحمل معه من كوارث. وإذا كانت الجماعة لا تريد العودة، فالبقيّة الباقية هي مدعوّة. هم مساكين الربّ. منهم يخرج الشعب الجديد، بعد أن تُرذَل أورشليم نفسها فتصبح في عداد الأمم الوثنيّة كما في 3: 1-4:

1 ويلٌ للمتمرّدة، ويل للدنسة،

ويل للمدينة الجائرة!

2 لا تسمع الكلمة

ولا تقبل المشورة.

لا تتّكل على الربّ،

ولا تتقرّب إلى إلهها.

3 أعيانها في وسطها

أسودٌ مزمجرة.

قضاتُها ذئاب جائعة في المساء،

لا يُبقون شيئًا إلى الصباح.

4 أنبياؤها فاجرون غادرون،

كهنتها يحلّلون كلَّ حرام،

ويخالفون الشريعة.

ولكنّ باب الأمل لا ينغلق. ومواعيد الله تنهي كلمات صفنيا في بناء جماعة جديدة تجد حمايتها لدى الربّ.

2- أطلبوا الربّ (2: 3)

تشكّل هذه الآية ذروة قول فيه ينبّه النبيّ الجماعة ويدعوها إلى أن تجتمع قبل أن يأتي يوم الربّ الذي »يجرف البشر كما الريح تجرف التبن« (2: 2). ثلاث مرّات وردت الأداة: قبل (ب ط ر م)، فجاء الجواب مع ورود الفعل »ب ق ش« (طلب، التمس) ثلاث مرّات. نقرأ آ 2:

قبل أن تتبدّدي...

قبل أن يأتي عليك...

قبل أن يأتي عليك...

وكان الجواب في آ 3:

أطلبوا الربّ...

أطلبوا الصدق (العدل)

أطلبوا الوداعة...

وهكذا جاء النداء في قلب كارثة، هي يوم الربّ. إنّ يوم مجيء الربّ وافتقاده، سيكون هائلاً، خطرًا. إنَّما في 2: 3، ترك النبيّ الباب مفتوحًا على أمل بالخلاص: »فلعلّ«. ولكنّ الوقت يداهم. هو قريب ذاك اليوم وقريب جدٌّا. بل هو يأتي بسرعة. ونقرأ 1: 14-15:

14 قريبٌ يوم الربّ العظيم،

قريب وسريع جدٌّا.

يوم الربّ قصير، مرّ،

يصرخ فيه الجبّار.

15 يوم عقاب ذلك اليوم،

يوم ضرر وضيق،

يوم سوء ومساءة،

يوم ظلمة وسواد،

يوم سحاب وضباب.

فماذا ينتظر بنو إسرائيل لكي يتوبوا »قبل أن«؟ ولكنّ أيّة توبة يعني النبيّ؟ وما الذي يتّهم به شعبه؟ هو لا ينكسف (ك س ف): لا يخجل من نفسه. اكتفى بنفسه، شبع، امتلأ بطنه. تسمّرت عيناه على خبرات مادّيّة، دنيئة. هو شعب لا مثال أمامه. لا عطش إلى المطلق عنده. شعب يحسّ أنّه لا يحتاج إلى الله.

فأراد صفنيا أن يوقظهم من سباتهم. قال لسامعيه: أطلبوا، أطلبوا، أطلبوا. ثلاث مرّات وكأنّها الفرصة الأخيرة. ماذا يطلبون في هذا الجوّ المرعب؟ يطلبون الربّ، يطلبون الوداعة وحياة المساكين. ثلاث مرّات قال. هل اقتنعوا؟ وهو لا يريد رغبة تبقى رغبة فلا تفعل شيئًا، بل تكتّف يديها وتنتظر. فهي تدفع الإنسان إلى الأمام لالتماس العبادة الحقّة.

وكيف ينطلقون؟ كيف يطلبون الربّ؟ حين يعيشون الصدق ويمارسون العدالة. هو يدعوهم إلى موقف ملتزم، لا إلى »صوفيّة« تعيش في الضباب وفي النوايا الحسنة! أجل، اتّخذ الله وجه المسكين الذي يستغلّه الأقوياء. والله يأخذ جانب المساكين والوضعاء. لقد حكم الربّ حكمًا قاطعًا على الذين »يبيعون الصدّيق بالفضّة، والبائس بنعلين، ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب، ويزيحون المساكين عن طريقهم« (عا 2: 6-7). ويكون كلام أشعيا قاسيًا على شيوخ الشعب وحكّامه (3: 14-15):

14 نهبتم الكروم،

وسلبتم المساكين،

وملأتم بيوتكم.

15 ما بالكم تسحقون شعبي

وتطحنون وجوه البائسين؟

العدالة هي التي تطلبها خلقيّة العهد، المؤسّسة على شخص الربّ. هي عدالة الأخوّة والمساواة. فمن مسّ المسكين مسّ الله نفسه. وارتدت هذه العدالة طابعًا دينيٌّا، دون أن تخسر من متطلّباتها الملموسة، فعبّرت عن إيمان حيّ. إذًا، لا نستطيع أن نجد الله إذا كنّا لا نهتمّ بالقريب ولا سيّما بالمسكين، بالفقير.

ولكن هنا فجَّر صفنيا حدود اللغة اليوميّة. لم يعد الفقر حالة اجتماعيّة لدى إنسان لا يملك شيئًا. بل هو يدلّ على خبرة روحيّة. لهذا حين نقرأ اللفظ العبريّ »ع ن و ه« نعني الوداعة والتواضع والفقر لكي نحدّد موقف الاستعداد والقبول والرغبة. نعود هنا إلى العربيّة: خضع، ذلّ. ذاك يكون وضع الأسير. ولكن يبقى الشعور الذي وراء هذه الحالة. المسكين يعارض الغنيّ الذي لا رغبة عنده، لأنّه يعتبر أنّه يملك كلَّ شيء. أمّا المسكين فهو من يرغب ويطلب. هنا نتذكّر مز 34: 5-11:

5 طلبتُ الربّ فاستجاب لي،

ومن كلِّ مخاوفي نجّاني.

6 نظروا إليه واستناروا،

وما علا وجوههم خجل.

7 المسكين يدعو فيسمع الربّ،

ويخلّصه من جميع ضيقاته.

8 ملاك الربّ حول أتقيائه،

يحنو عليهم ويخلّصهم.

9 ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ،

هنيئًا لمن يحتمي به.

10 خافوا الربّ يا قدّيسيه،

فخائفوه لا يعوزهم شيء.

11 الكافرون (أو الأغنياء) يحتاجون ويجوعون،

ومن يطلب الربّ لا يعوزُه خير.

فالمؤمن لا يكتفي بأن يهتمّ بالفقراء، بل يكون بجانب الفقراء. وهذا ما يميّزه عن اللامؤمن أمام الله. حينئذٍ يصبح الفقر موقف المؤمن في يوم عبور الله العظيم. لعلّ هذا التصرّف يفتح له باب الخلاص. »لعلّه يكون في مأمن في يوم غضب الربّ« وعقابه. فالأداة »لعلّ« هي صدى لجذريّة الدينونة والعقاب اللذين يحمل يوم الربّ في طيّاته، وهي تجعلنا نرتعد. فالنبيّ يريد أن يُوقظ، أن ينبّه إلى الخطر. غير أنّ هذا التنبيه يتضمّن، بطريقته، نداء مناسبًا إلى نعمة الله. لا شكّ في أنّ على الإنسان أن ينطلق ليتجاوب مع نداء الله، ولكنّ الخلاص يبقى مبادرة إلهيّة. إنّ مسيرة الإيمان تشكّل شرطًا لا غنى عنه، ولكنّ الربّ يبقى حرٌّا في عطاياه وغفرانه.

3- شعب المساكين (3: 12-13)

كان صفنيا ذاك »الواعظ« الذي اختبر الحياة، فلعب على أكثر من وتر. في الفصل الأوّل حمل بلاغ الشرّ: أزيلُ كلَّ شيء من الأرض (1: 2). في الفصل الثاني، دعا إلى التوبة، فجاءت دعوته ملحّة، متوسّلة. وها هو في الفصل الثالث يشجّع ويكاد يسحر بكلامه. فبعد التهديد والإرشاد، هو الوعد بزمن جديد، حيث الشعب الصغير الذي انطلق في مسيرة إيمان، يلتقي الله في النهاية. والصورة لا تحمل شيئًا من الانتصار الظاهر الذي لا يدوم طويلاً. فقوّة البلاغ تشير إلى اهتداء باطنيّ مع ما يتبعه من سلام داخليّ. ولكن في هذا الإطار الإسكاتولوجيّ، إطار يوم الربّ، بدا هذا التحوّل وكأنّه يفتح الطريق أمام عهد من الكمال النهائيّ.

ممَّ يتألّف هذا الشعب الجديد؟ في 2: 3، وجّه صفنيا كلامه إلى »ودعاء« الأرض (ع ن و ي م). هم في الأصل البؤساء والفقراء والعائشون على هامش المجتمع. ولكنّ اللفظ هنا جاء في مناخ دينيّ. هذا يعني أنّ صفنيا لاقى أفضل استقبال لدى الفقراء الذين يُستغلَّون بوقاحة، لدى الذين يرغبون في الله. عندهم وجد حبَّ البحث عن الله، وحاجة جنونيّة إلى السعادة. وفي الوقت عينه، لقيَ هذا التواضعُ العميق، الواعي لحدوده الذي ينتظر من الله وحده، تتمّة آماله. هذا ما تقوله آ 11 حين شابه النبيُّ هؤلاء المهتدين، مع الذين امتلأوا كبرياء وتمختروا على الجبل المقدّس«. نكتشف هنا هجوم صفنيا »على كلّ مستكبر متعالٍ، وكلّ مترفّع« (2: 12). إنه ينحطّ في يوم الربّ.

إذًا، نحن أمام شعب مسكين أي متواضع، شعب صغير صار صغيرًا صغيرًا لأنّه لا يمثّل سوى »بقيّة« باقية. كان أشعيا قد أعطى هذا اللفظ مدلولاً مزدوجًا نجده هنا. هناك أوّلاً وجهة سلبيّة: »لا أُبقي فيك إلاّ بقيّة«.

وهكذا يخضع إسرائيل لتنقية مؤلمة. يبدو أنّ النصّ الأصليّ في 3: 9 قال: »أجعل لشعبي شفاهًا نقيّة«. وإذا أراد الله أن يُتمَّ كلمته، وجب عليه أن يقتلع من الشعب المختار جميع المتكبّرين الوقحين (3: 11). بدا عدد المرذولين كبيرًا لأنّه لن يبقى سوى »شعب صغير مسكين«. تلك هي وجهة الكارثة، الوجهة السلبيّة، في مفهوم »البقيّة«.

وتبقى الوجهة الإيجابيّة. وجهة النور. تشكّل هذه البقيّة نواة جماعة إسكاتولوجيّة متناسقة كلّ التناسق مع الله: وقد رأى أشعيا بدايتها في جماعة تلاميذه (8: 16-18):

16 وأنتم يا تلاميذي،

أدّوا الشهادة واحفظوا الشريعة.

17 الربّ حجب وجهه عن بيت يعقوب،

ولكنّي أرجوه وأتوكّل عليه.

18 ها أنا والأبناء الذين وهبهم لي

الربُّ القدير الساكن في جبل صهيون،

آيات ومعجزات في أرض إسرائيل.

أمّا صفنيا فوجد »البقيّة« في »مساكين الأرض«، ولأجلهم قدَم رسمة المسكين الحقيقيّ »بحسب قلب الله«. كانت الخطوة الأولى استسلامًا تامٌّا للربّ. ما استند هؤلاء المساكين إلى وسائل بشريّة، بل »اعتصموا باسم الربّ«. فالاسم الذي أوحيَ إلى موسى (خر 3: 13-15) في الماضي، يجمع في ذاته كلّ حضور خلاصيّ لدى كائن اسمه يهوه أي الإله الذي هو. الإله الذي هو هنا. يعمل. يتضامن مع شعبه إلى الأبد، في السرّاء وفي الضرّاء. ارتبط هذا الاسم بمعبد صهيون »حيث يقيم«، فشكّل الملجأ الأخير والوحيد. صار كأنّه »أقنوم« فتماهى مع حضور الله كقدرة خلاص لمساكينه. هنا نقرأ أم 18: 10:

10 اسم الربّ برجٌ منيع،

يهرع إليه الصدّيق فيأمن.

11 مال الغنيّ مدينته المنيعة،

وهو في ظنّه سور مرتفع.

وصلّى صاحب المزامير فقال في 20: 2-3:

2 يعينك الربُّ يوم الضيق،

يرفعك اسمُ إله يعقوب.

3 يرسل لك من مقدسه نصرًا،

ويشدّد ساعدَك من صهيون.

ونعود إلى سفر الأمثال (22: 4):

بالتواضع ومخافة الربّ،

كلّ غنى وكرامة وحياة.

من هذا القرب إلى الإله المخلّص، ينبع كلُّ شيء. أوّلاً، المتطلّبات الخلقيّة: المساكين لا يصنعون الشرّ. لا يتكلّمون بالكذب. لا يكون في فمهم غشّ (3: 13). هو غشّ بين الأخ وأخيه. وأيضًا نغشّ الله حين نعده بالرجوع إليه ولا نرجع. نرفض العيش في العهد والأمانة لله. لا نطلب حماية لديه. قال إرميا (8: 5) في هذا المجال:

ما بال شعب إسرائيل

يصرّون على ارتدادهم؟

هم يتمسّكون بالغرور،

ويرفضون أن يتوبوا.

مثلُ هذا التناسق بين القلوب يولّد السلام. وصورة واحدة تكفي للكلام عنه، وهي تفرض نفسها. هي صورة القطيع الذي يرعى بأمان. وسيكون لها موقع كبير في حز 34: 1ي ويو 10: 1ي. نراها هنا رسمة سريعة، ولكنّها تُظهر، في خلفيّتها، مللاً من الحروب والانقلابات التي تحدثها السياسات البشريّة، وتقدّم أفضل تعبير عن شوق حارّ إلى سلام يهدأ فيه السلاح وترتاح فيه القلوب.

غير أنّ كلّ هذا يبقى عمل الله ذاته. في آ 9، التزم هو وحده بأن يعمل عمل التطهير الذي يُدخل المؤمنين إلى الأزمنة الجديدة. فالإنسان وحده لا يقدر أن يعود. والله وحده يبدّل القلوب. وتبقى الكلمة الأخيرة للرجاء، لأنّ هذا العجز الجذريّ ينكشف في فعل يَعد الله بتجاوزه. وهكذا فجمعُ النصّين (2: 3 ثمّ 3: 12-13) يساعد على إبراز التوازن لرؤية الخلاص النبويّة بين مبادرة الله ومشاركة الإنسان التي هي أيضًا ثمرة نعمة الله.

4- انفتاح على الأمم

حين نقرأ اليوم نصّ صفنيا، تحمل العبارة معنيين اثنين. لا شكّ في أنّ 3: 13 تدلّ على »بقيّة إسرائيل«. ولكنّ الذين نشروا النصوص النبويّة في نسختها الأخيرة، وسّعوا الأفق بشكل لا يتخيّله إنسان. يبدو أنّ النصّ الأوّل كان: »أجعل لشعبي (ع م ي) أنا شفاهًا طاهرة«. ولكن أضيفت ميم الجمع. فصار اللفظ »ع م ي م« أي الشعوب. وهكذا نقرأ 13: 9-10 كما يلي:

9 في ذلك اليوم،

أجعل الشعوب شفاهًا طاهرة،

ليدعوا باسم الربّ،

ويعبدوه بقلب واحد.

10 من عبر أنهار كوش،

يقدّمون إليّ الهدايا ويتضرّعون.

اقترح بعضهم أنّ نقرأ »شعبي«. ولكنّه نسيَ الانفتاح على شعوب الأرض، ولا سيّما في زمن المنفى. في هذا الإطار نقرأ النصّ السريانيّ في آ 9-10:

حينئذٍ أعيد على الشعوب (ع م ي م) شفة مختارة،

ليدعو الجميعُ باسم الربّ ويعبدونه بنير واحد،

من عبر أنهار كوش يأتون لي بذبائح.

وهكذا لم يبقَ الوعدُ لشعب واحد، بل لجميع الشعوب. كلّهم دُعوا لعمل تطهير يتيح لهم »أن يدعوا اسم الربّ، يهوه« بعد أن تنجّست شفاههم بالدعاء إلى الآلهة الكاذبة. وفي الوقت عينه، انضمّ هؤلاء الشعوب إلى إسرائيل الجديد والمجدَّد الذي يحتفظ بالأوّليّة في مخطّط الله الخلاصي. فحوله تجتمع الشعوب الغريبة المهتدية إلى الله. عندئذٍ تنال صوفيّة المساكين وجه الشموليّة. فإلى صهيون، إلى الهيكل، تحمل الأمم تقادمها (آ 10). ولكنّنا نعلم الآن أنّ الله لا يقبل إلاّ بشعب المساكين. لا شكّ في أنّ قراءة جديدة، بعد زمن المنفى، توقّفت بالأحرى عند شعائر العبادة ونسيَت قليلاً الموقف الروحيّ، كما كان الأمر في مز 51، حيث جاءت ذبائح العجول بعد القلب المنكسر المتواضع. ومع ذلك، نحن نستطيع أن نقرأ بين السطور ما يتعلّق بالفقر الروحيّ.

الخاتمة

وسمع يسوع بلاغ النبيّ صفنيا، في المجمع أو في الهيكل. وقد يكون المعلّمون شرحوه. وتأمّله في صلاة شخصيّة وصلت بنا إلى التطويبات: طوبى للمساكين بالروح. طوبى للودعاء. طوبى للمتواضعين. منذ الآن، جميع البشر مدعوّون ليؤلّفوا »بقيّة« المساكين التي ستصبح جمهور شعب القدّيسين. هم يجدون السعادة والسلام التي وعد بها صفنيا. هنيئًا لهم. وحين يأخذون بموقف التواضع والاستعداد الجذريّ، يشاركون منذ الآن في فرح الأزمنة الجديدة. وهذا الفرح يُولَد من اللقاء بالربّ في قلب الملكوت. وبعد نصّ صفنيا الذي قرأناه، نجد الدعوة للبهجة والفرح (3: 14):

ترنّمي يا ابنة صهيون،

واهتفوا يا بني إسرائيل،

إفرحي يا أورشليم،

وابتهجي بكلّ قلبك.

تلك هي البهجة المفتوحة لكلّ شعوب الأرض. فمتى يجتمعون في رعيّة واحدة بإمرة راعٍ واحد؟ تلك كانت صلاة يسوع وتلك هي صلاتنا بأن نكون واحدًا كما الآب والابن واحد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM