شكوى النبيّ وجواب الربّ.

 

شكوى النبيّ وجواب الربّ

حب 1: 2-3؛ 2: 1-4

الإيمان شيء والأمانة شيء آخر. ولا يحلّ الواحد مكان الآخر. ولكنّ هناك نقاطًا مشتركة بين هذين الموقفين اللذين يشكّلان نداء الله للإنسان وجواب الإنسان لله. الله يؤمن بنا ويكون أمينًا، ثابتًا في ذلك الاستسلام حتّى النهاية. وأمانة المؤمن (وبالتالي الجماعة) تستند بشكل جوهريّ إلى أمانة الله، التي لا تتراجع مهما كانت الظروف ولا تضعف. ما قاله يحقّقهُ بدون شكّ. وحين يُتمّ ما وعد به، لا يمكن للإنسان أن تصيبه الخيبة. ويُتمّه في وقت حدّده هو، ولا يحدّده الإنسان. وهكذا يتأخّر. أقلّه في الظاهر. وهذا التأخير يعيشه المؤمن في الألم ويحسّ به كأنّه تجربة خطيرة. ومع ذلك، فالثبات في الأمانة هو ينبوع حياة، ويحمل الإكرام لأمانة الله. والإيمان من جهته، تقبّل لكلمة الله والتزام في خدمته. فالمبادرة كلّها منه وهو يعلّمنا كيف نتقبّل البشرى. فيبقى علينا أن نطلب منه أن يزيدنا إيمانًا. هو الذي يدعونا إلى خدمته، فنطلب منه نعمة الأمانة له في روح المجّانيّة التامّة. هو أعطى ذاته لنا، ونحن نعطي ذاتنا له. في هذه الروح، نقرأ سفر حبقوق.

1- ماذا تقول نبوءة حبقوق

هي تجعلنا في الحقبة البابلونيّة الجديدة التي تفكّك الإمبراطوريّة الأشوريّة لتفرض سيطرتها في الشرق الأوسط، أي في نهاية القرن السابع ق.م. صوّر حبقوق هذا الحدث التاريخيّ الذي يحمل النتائج الثقيلة لمملكة يهوذا. فأطلق صوته في هذا الوضع المبلبل حيث الناس حائرون، خائفون.

رفع نداءه مرّة أولى إلى الربّ: »إلى متى يا ربّ أستغيث«؟ وجاء الجواب: أنظر إلى أعمال الربّ تجد الجواب. فهذه الأمّة القويّة تبقى خاضعة للربّ. ولكنّ الظواهر هي غير ذلك. فيرى النبيّ في رؤية، امتدادَ هذا الجيش الذي لا شيء يوقفه. فلا بدّ من الإيمان لكي يرى الأمور كما يراها الله.

ويطرح النبيّ النداء الثاني: »لماذا تعامل البشر كسمك البحر، أو كحشرات لا قائد لها؟« (1: 15). وجاءه الجواب في رؤية منقوشة »على الألواح حتّى تسهل قراءتها«. وتنطلق الويلات الخمسة: ويل لمن يُكثر ممّا لا يحقّ له (2: 6). ويل لمن يكسب مكسبًا شرّيرًا (آ 9). ويل لمن يبني مدينة بالدماء (آ 12). ويل لمن يسقي جيرانه (آ 15). ويل لمن يقول لصنم من الخشب: استيقظ (آ 19). فلا يبقى للنبيّ سوى الصلاة (ف 3) التي تمتدح الله لأنّه جاء من جبل سيناء فأعاد الإيمان إلى صفيّه، مهما كانت الأمور صعبة:

17 لو أثمر التينُ أو لم يُثمر،

ولا أخرجت الكرومُ عنبًا.

لو حمل الزيتون أو لم يحمل،

ولا أعطت الحقولُ طعامًا.

لو مات الغنمُ في الحظيرة أو لم يمت،

وخلت المذاود من البقر،

18 لبقيتُ اغتبط بالربّ،

وأبتهج بالله مخلّصي.

لماذا هذا الكلام، من تساؤل وجواب وفي النهاية صرخة إيمان ورجاء؟ لأنّ الجماعة تعيش أزمة بسبب الظروف الوطنيّة والدوليّة، فتهدّد أساسات العلاقات بين الله وشعبه. وشهادة النبيّ حبقوق هي شهادة مؤمن حائر دعا الله على الله بسبب عمله الذي لا يُفهَم في التاريخ. وجاء الجواب: الأمانة التي هي أساس حياة المؤمن وما يبرّرها. يرى هذا المؤمن أمانة الله الحقيقيّة بالرغم من الظواهر. وهذا الإله الذي جاء في الماضي هو الذي يأتي الآن. فما على الإنسان سوى أن يقول في 3: 19:

الربّ الإله قوّتي،

يجعلني ثابت القدم كالوعل،

ويحفظني آمنًا في الأعالي.

2- وماذا يقول المقطع الذي نتأمّل فيه؟

يتضمّن المقطع قطعتين. في الأوّل، تشكّي النبيّ. وفي الثاني، جواب الله.

أ- تشكّي النبيّ

2 إلى متى يا ربّ أستغيث،

ولا تسمع؟

إلى متى أصرخ إليك من الجور،

ولا تخلّص؟

3 لماذا تريني الإثم؟

وكيف تطيق النظر إلى الشقاء؟

الاغتصاب والعنف أمام عينيّ،

والخصام والنزاع في كلّ مكان.

بدأ حبقوق يشتكي منذ البداية، على مثال ما فعل إرميا (20: 8):

كلّما تألّمتُ صرختُ،

ناديتُ بالويل والدمار،

حتّى صار كلام الربّ عارًا

ومهانة ليلَ نهار.

صرخ حبقوق في وجه العنف والظلم، وأحسّ أنّه يغرق مع شعبه في أمواج المصائب الجائرة، لا سيّما وأنّ الله يبدو وكأنّه لا يشعر بما يصيب شعبه فلا يتجاوب مع انتظاره. مثل هذه الحالة نقرأها في مز 18: 42:

يستغيثون ولا من يغيث،

ويدعون الربّ فلا يستجيب.

هي تساؤلات تحمل القلق والضيق: لماذا؟ لماذا؟ كم؟ كم من الوقت؟ ثمّ تُذكَر التعاسات والشرور: الجور والسلب والنهب. الخصام والنزاع. ولكن ما هي هذه الشرور التي يشتكي منها النبيّ؟ فالعنف يذكّرنا بعهد نوح في تك 6: 11-13:

11 وفسدت الأرض أمام الله، وامتلأت عنفًا.

12 ونظر الله الأرض فرآها فسدت لأنّ كلّ بشر أفسد سلوكه فيها.

13 فقال الله لنوح: »جاءت نهايةُ كلِّ بشر، فالأرض امتلأت عنفًا على أيديهم«.

وترافق العنف مع الاغتصاب والسلب، كما في عا 3: 9-10:

9 أنظروا إلى الشعب العظيم في وسطها،

والمظالم في داخلها.

10 هم لا يعرفون العمل باستقامة،

بل يملأون خزائن قصورهم

بالعنف والجور.

وراح إرميا في الخطّ عينه فتكلّم عن أورشليم، في 6: 6-7:

6 قال الربّ القدير:

»اقطعوا الأشجار،

وانصبوا على أورشليم مترسة.

فهذه مدينة تستوجب العقاب،

لأنّها ملآنة بالظلم.

7 يتبعُ منها شرّها،

كالبئر ينبع منها الماء.

فيها أسمع بالعنف والسلب،

وأرى المرض والجروح كلَّ حين«.

وتحدّث حزقيال إلى الرؤساء باسم الله، في 45: 9:

وقال السيّد الربّ:

»كفاكم، يا رؤساء إسرائيل!

كفّوا عن الظلم والعنف،

وأجروا الحقّ والعدل.

وارفعوا عن شعبي اغتصابكم.

وتضايق حبقوق جدٌّا حين رآهم يتجاوزون الشريعة وحقوق الضعفاء، كما نقرأ في 1: 4:

لذلك تراخت قبضةُ الشريعة،

ولا يصدرُ الحكم.

أو هو صدر معوجٌّا،

لأنّ الشرّير يتغلّب على الصدّيق.

وهكذا يبدو أنّ الشرّ في قلب الشعب المختار وحده. في هذه الحالة، يكون صراخُ الوجع صراخًا شخصيٌّا يطلقه النبيّ في وجه أبناء وطنه كلّهم إن لم يكن أكثرهم. فالشرّير الوقح يمثّل مجموعة. وكذلك الصدّيق البارّ. هو عداوة داخل يهوذا حيث يسيطر الأقوياء، أو عداوة سياسيّة تجاه يهوذا »الصدّيق« أو مجمل الشعب. والشقاوات المذكورة حينذاك تكون تهديدًا إن لم نكن سيطرة العدوّ على أرض الربّ.

إذًا، يتكلّم النبيّ باسم الشعب المظلوم، ويشاركه ظلامته، كما في إر 10:

23 يا ربّ، أعرف أنّ البشر

عاجزون عن رسم طريقهم،

وتسديد خطواتهم بأنفسهم.

24 أدِّبْ شعبك لكن بإنصاف،

لا بغضبٍ لئلاّ تبيدهم.

25 بل أَفرغ غضبَك على الأمم،

أولئك الذين لا يعرفونك،

أو الذين لا يُدعَون باسمك.

حين نقرأ تشكّي حبقوق في هذا الإطار، نراه يتوافق مع مجمع كتيِّبه، وبالتالي يقع في لعبة السياسة الدوليّة. فندرك بسهولة الوضع السيكولوجيّ والدينيّ الذي يحرّكه صراخُ الوجع هذا: ضيق الصدّيق أمام انتصار الشرّ وصمت الله. فينحصر دور النبيّ في أن يكون ذاك الحارس، الذي يقف على مرصده، ليراقب تحرّكات العدوّ. ولكنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. وهذا الموقف يتسجّل عادة في مجمل التقليد النبويّ. هكذا يتألّم هوشع ولا يستطيع أن يفعل شيئًا (9: 8):

النبيّ رقيبٌ مع الله

عند بني أفرائيم،

ولكنّهم ينصبون له فخٌّا

على جميع طرقه،

ويشتمونه في بيت إلهه.

وقال الربّ بلسان إرميا، إنّه جعل لشعبه رقباء، فما أصغوا لصوت البوق ينفخون فيه. ولكنّ حزقيال تفوّق على سائر الأنبياء في الكلام على النبيّ على أنّه رقيب. نقرأ في ف 3:

17 يا ابن البشر،

جعلتك رقيبًا على بيت إسرائيل،

فاسمع كلامي وأنذرْهم عنّي.

18 فإن قلتُ أنا للشرّير:

موتًا تموت،

وما أنذرتَه أنت ولا نبّهتَه

حتّى يُغيِّر طريقه ليحيا،

فذلك الشرّير يموت في إثمه،

لكن أُطالبك أنت بدمه.

وتوسّع حزقيال أيضًا في هذا الموضوع في 33: 1-9. نشير هنا إلى أنّ هذا الدور يتطلّب قوّة نفس وعزمًا، مع أنّ النبيّ لا يفعل شيئًا ولا يقدر أن يفعل. وفي عقليّة المجازاة الجماعيّة على الأرض مع تلوين سياسيّ، هناك مواجهة إيمانيّة بين الله ونبيِّه، الذي يجب أن يصل إلى جهوزيّة باطنيّة كافية في انتظار صابر للجواب الحاسم. وفي سفر حبقوق، القول الذي يلي التشكّي، يتضمّن الجواب على تشكّي النبيّ (1: 5):

أنظروا بين الأمم وأبصروا،

تعجّبوا وتحيّروا

فإنّي أعمل في أيّامكم عملاً

إذا أخبركم به أحد لا تصدّقون.

ب- جواب الله (2: 1-4)

1 أقف على مرصدي،

وأنتصبُ على حصني وأرقب،

لأرى ماذا يقول لي الربّ،

وماذا يجيب عن شكواي.

2 فأجابني الربّ وقال لي:

أكتبْ هذه الرؤية،

وانقشها على الألواح حتّى تسهل قراءتُها.

3 لأنّ الرؤية مرهونة بوقتها،

وحين يجيء وقتُها،

تجيءُ ولا تكذب (هي).

إن أبطأتْ فانتظرها،

فهي لا بدّ أن تجيء ولا تتأخّر،

4 وهذا نصّها:

من كانت نفسه شرّيرة لا ينجو،

أمّا البارّ فبإيمانه يحيا.

استعدّ النبيّ أن يوبّخه الربّ بسبب جرأته، بعد أن سأل الله عن سبب عمله في 1: 13-14:

13 عيناك أطهر من رؤية الشرّ،

ولا تقدر أن تنظرا إلى الغدر.

لماذا تنظر إلى الناهبين وتصمت،

حين يبتلع الشرّير من هو أبرّ منه؟

14 (ولماذا) تعامل الناس كسمك البحر،

أو كحشرات لا رأسَ لها.

ماذا في جواب الله الثاني على شكوى النبيّ؟

أوّلاً: أكتب الرؤية (2: 2)

اعتاد الأنبياء أن يعلنوا أقوالهم. وإذا أرادوا أن يدلّوا على صدق بلاغهم، أعطوا »علامة« (آية)، ولا سيّما إذا كان تحقيق الكلام سوف يتأخّر طويلاً. قد تكون العلامة هنا »الكتابة«. هذا ما حصل لأشعيا (8: 1). قال له الربّ:

خذ لك لوحًا كبيرًا،

واكتبْ فيه بحروف مقروءة:

أسرع إلى السلب، بادرْ إلى النهب.

»وقال الربّ لإرميا: اكتبْ جميع ما كلّمتك به في كتاب« (إر 30: 1). فالنبيّ سيكتب عن إعادة بناء الشعب وتجديده. فالكتابة تكون علامة للمؤمنين »لعلّ بيتَ يهوذا يسمعون بجميع الشرّ الذي نويتُ أن أنزله بهم، فيرجعوا عن طريق السوء حتّى أعفو عن إثمهم وخطيئتهم« (إر 36: 3). وأمر حزقيال فكتب اسم يهوذا (مملكة الجنوب) واسم أفرائيم (مملكة الشمال). ثمّ قرّب اللوحين بحيث يصبح الشمال والجنوب شعبًا واحدًا (خر 37: 15-17).

هذا كما في اتّفاق أو عهد أو قسَم: فما يُكتَب يَلعب دور »ذكرانة« يكون »شهادة« لا تردّ للخلَف. هذا ما قال الربّ لأشعيا (30: 8): »تعال فاكتب هذا على لوح أمامهم، وخُطَّه في كتاب ليكون لليوم الأخير شهادة إلى الأبد«. لهذا يُدوّن المكتوب في لويحات قاسية تقاوم تقلّبات الطقس. في هذا الإطار قال موسى للشعب: »تكتبون على الحجارة جميع هذه الشريعة كتابة واضحة« (تث 27: 8). وتمنّى أيّوب (19: 23-24) فقال:

23 ليتَ هناك من يكتب أقوالي،

ليته يثبّتها في سفر!

24 أو ينقشها إلى الأبد في الصخر،

بقلمٍ من حديد ورصاص.

وإذا أرادوا أن تكون الكتابة مقروءة، تكون واضحة والنصّ قصيرًا. وبحسب العقليّة القديمة، تتفوّق الكتابة على الكلمة الملفوظة فتطلق المسيرة التي بها يتحقّق ما قيل. نالت قوّة فلا بدّ أن تصل إلى النتيجة التي أعلنتها. هي لا تخيّب. هنا نتذكّر كلام أشعيا النبيّ (55: 10-11):

10 كما ينزل المطر والثلج،

فلا يرجعان ثانية إلى السماء،

بل يرويان الأرض، ويجعلانها

تجودُ فتنبتُ نبتًا وتعطي

زرعًا للزارع وخبزًا للأكل،

11 كذلك تكون كلمتي،

تلك التي تخرجُ من فمي.

لا ترجع فارغة إليّ،

بل تعمل ما شئتُ أن تعمله،

وتنجح في ما أرسلتُها له.

ثانيًا: الرؤية تجيء (2: 3)

شابه حبقوق الأنبياء الذين عاشوا في زمن الشقاء، فأحسّ بقوّة بالضيق الذي يتخبّط فيه شعبه. تضامن معهم فوجب عليه أن يوصل إليهم التهدئة التي حلّت به حين رأى الرؤية: »هذه الرؤية تتمّ«. ومتى تتمّ؟ في الوقت المحدّد. بل في الساعة. وبين هذين القولين، تحاشى النبيّ أن يترك سامعيه وقد عيل صبرُهم فما أدركوا المحنة الطويلة. حينئذٍ أرشدهم: »بما أنّ الرؤية تركض، تُسرع نحو التتمّة، ينبغي فقط أن ننتظر«.

كوّنت التهدئةُ والإرشادُ الجوابَ على السؤال الأوّل الذي فيه اشتكى النبيّ إلى الله على الله: »كم من الوقت؟« والجواب على السؤال الثاني كان: لماذا؟ ووُجد في القول النبويّ.

ثالثًا: القول النبويّ (2: 4)

جاء القول النبويّ في المعنى الحصريّ، بشكل قول مأثور يعبّر عن مصير الشرّير (الوقح) ومصير الصدّيق (البارّ). فالوقح يرفض سلطة الله ويثق بنفسه. هو لا يأخذ الطريق المستقيم، ولهذا فهو لا يثبت. أمّا البار وإن عاش وسط المحن القاسية، ولو انتظر زمنًا طويلاً، فيبقى متعلّقًا بإلهه بثبات قويّ وإيمان تامّ: هو يحيا، هو يخلص.

إذ أراد حبقوق أن يصوّر الرؤية التي نالها، استعمل ألفاظًا خاصّة بالعهد: »أمانة« الله التي لا يمكن أن تتراخى، تدفعه لأن يعمل، فيُظهر »عجائبه« من أجل شعبه. والشعب، مقابل هذا، كلّه أو كلّ واحد، يتجاوب في أمانة واحدة في الطاعة لفرائض الشريعة التي أُعلنت مع العهد. هكذا يكون »صدّيقًا«. وإلاّ، لا تكون نفسه مستقيمة فيأخذ جانب »الشرّير«.

في إطار العهد هذا، الحياة الموعود بها لا تعني الحياةَ الأبديّة كما نقول اليوم، بل تحقيق حلم كلّ مؤمن: أن يكون مع إلهه، حسب عبارة العهد. ففي نظره، الربّ هو »الحيّ« وهو الذي »يُحيي«.

في هذا الإطار، تتجلّى الحياة مع الله بتواصل السلالة الداوديّة (مز 89):

2 بلطف الربّ أُنشدُ إلى الأبد،

وإلى جيل فجيل أذيع أمانتك.

3 أقول: إلى الأبد يُبنى لطفك،

وفي السماوات تثبتُ أمانتك.

4 أما قلتَ: عاهدتُ الذي اخترته،

حلفتُ لداود عبدي:

5 إلى الأبد أثبّت نسلك،

وإلى جيل فجيل أبني عرشك.

لهذا، ففي خلفيّة قول حبقوق هذا، نجد نبوءة أشعيا التي ترتبط بما قال ناتان لداود (2 صم 7: 1-7). هذه الأقوال قيلت في أوقات حرجة من تاريخ الشعب المختار. وتبدو الحياة التي وعدَ بها النبيّ طول عمر مملكة يهوذا »الصدّيق«. والشرّ يقوم في الضغط الذي يمارسه »الشرّير« أي العدوّ الجديد، ساعة ظنّ الشعب أنّه ارتاح من الذي سبقه. مضى الأشوريّ وها هو البابليّ.

مثل هذه الرؤية التي يرافقها الكلام، تفتح أمام المؤمن لجّة القلق والعذاب الكبير. وحده »الصدّيق« الثابت يستطيع أن يأمل في تخفيف مصيره بفضل الوعد بالحياة. أتراه يُدرك هذه التعزية ويكتفي بها؟ هذا الأمل يمثِّل الكثير لمعاصري حبقوق. هنا لا بدّ من الإقرار بأنّ هذا مخيّب للآمال لمن يعيش في العهد الجديد ويفسّر القول النبويّ بشكل فرديّ وروحيّ. ولكنّ المسيحيّ لا يتوقّف عند العهد القديم وكأنّه يعطيه ملء الوحي. فالانفتاح على العهد الجديد يصل بنا إلى كامل معناه.

الخاتمة

أورد القدّيس بولس في غل 3: 11 وفي روم 1: 17 نصّ حبقوق هذا، بحسب الترجمة اليونانيّة السبعينيّة:

»وواضح أنّ ما من أحد يتبرّر عند الله بالشريعة، لأنّ البارّ بالإيمان يحيا« (غل 3: 11).

وقال الرسول في روم 1: 16-17:

16 وأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كلّ من آمن، اليهوديّ أوّلاً ثمّ اليونانيّ.

17 لأنّ فيه أعلن الله كيف يبرّر الإنسان بإيمان إلى إيمان، كما كتب: البارّ بالإيمان يحيا.

في الحالين تحدّث بولس عن الحياة والخلاص، ولكنّه ما انطلق من جدليّة العهد كما فعل النبيّ، بل من الإيمان في علاقته ببرّ الله (وأمانته)، ومن التبرير بالإيمان، وهذا موضوع لم يعرفه حبقوق.

واستعادت الرسالة إلى العبرانيّين أيضًا قول حبقوق حسب السبعينيّة، ولكنّها لم تنقله من مستوى إلى آخر كما فعلت الرسالة إلى رومة، بل جعلته مع نصوص كتابيّة أخرى (عب 10: 37-38):

37 قليلاً قليلاً من الوقت،

فيأتي الآتي ولا يبطئ (2 أخ 24: 21).

38 البارّ عندي بالإيمان يحيا،

وإن ارتدّ لا أرضى عنه.

أمّا الموضع الذي تصل إليه نبوءة حبقوق في شكل مباشر، فهو إنجيل متّى: »من يثبت إلى المنتهى يخلص« (10: 22؛ 24: 13). هكذا جعلنا الإنجيليّ في قلب النهاية نعيشها من الداخل.

أمام مسألة الشرّ التي عرفها حبقوق، لا ثورة كما في إرميا، ولا توسّع »شعريّ« كما في سفر أيّوب، بل موقف متواضع يرضى بحاله، وكأنّه ينتظر حلاٌّ من قبل الله. يعيش في الرجاء الذي يربطه بالله، ولا يتّكل على قواه. ومثل هذا الرجاء لا يمكن إلاّ أن يتفتّح في إيمان حقيقيّ يصل بنا إلى ذاك »البارّ« (الذي تحدّث عنه أشعيا) الذي هو يسوع المسيح: إنّه الطريق الحقّ الذي يقودنا إلى الحياة، إلى الخلاص.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM