الآباء: ديونيسيوس بر صليبي في تفسيره ليوحنا.

 

الآباء:

ديونيسيوس بر صليبي

في تفسيره ليوحنّا

آ29 وفي الغد رأى يوحنّا يسوع مقبلاً إليه فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم.

بينما كان يوحنّا يعمِّد المتقاطرين إليه، ويعظهم ويسمع اعترافهم بخطاياهم، رأى السيِّدَ المسيحَ مقبلاً إليه. وقال فريق: إنَّه أتى ليعتمد. ورأى آخرون أنَّه أتى ليشهد له يوحنّا، فاغتنم هذه الفرصة وتكلَّم عنه.

يسوع حمل الله

فسمَّاه حملاً لطهره وخلوِّه من الخطايا، ولأنَّه حملَ آثامَ العالم أجمع. وقد دلَّ بقوله »هوذا« أنَّه كان يكرز عنه كثيرًا، وأنَّ سامعيه كانوا مشتاقين لأن يشاهدوه. وفي تسميته لهُ المجد »حملاً« معانٍ متعدِّدة.

إوَّلاً، إنَّ الآباء الأقدمين الذين ماتوا، لم يكونوا حملان الله بل عبيده. فهم إذن متفرِّقون بالحالة والتسمية عن السيِّد المسيح. ثانيًا، سُمّي السيِّد حملاً، تحقيقًا لنبوءة أشعيا القائل: كمثل الحمل اقتيد إلى الذبح. ثالثًا، والعادة أنَّ الحمل الناموسيّ كانت خطايا الشعب تُوضَع على رأسه، كذلك السيِّد المسيح تألَّم ومات عوضنا. ثمَّ الحمل الناموسيّ كان بريئًا من العيوب والعاهات، والمسيح الحمل الإلهيّ بريء من كلِّ دنس الخطيئة. رابعًا، صوف حمل الناموس كان يُصنع منه ثيابٌ للعراة، والمسيح أَلبس آدم حلَّة المجد التي فقدها في الفردوس. خامسًا، موسى بخروف الفصح أبطل إبليسَ المفسد وأمات سلطانه، والمسيح بموته أبطل الخطيَّة ولاشاها.

ومن الأكيد أنَّ أشعيا لم يدعُه حملاً عند ذكره الآلام، إلاّ ليحمل اليهود على الافتكار أمام الخروف الفصحيّ بذاك الذي سيُذبَح حقٌّا لأجلهم، وليدلَّهم على أنَّ الرموز ستعبر يومًا وتزول، وتتجدَّد في محلِّها الأشياء الحقيقيَّة.

واعلمْ أنَّ كلمة حمل الله تعني ابن الله. وليبان ذلك نقول: إنَّ المضاف إلى اسم الجلالة يتَّخذ أحد هذه المعاني الأربعة. فإمّا يكون مختصٌّا بطبع الله، كقولك: المسيح ابن الله ووحيد الله. وإمّا يدلُّ على أنَّه منتخب من الله، كقولك: هرون كاهن الله ورسول الله. وإمّا يُنسَب إليه تعالى ومثل ذلك: اليهود شعب الله. وإمّا يكون ملك الله ومثاله: خليقة الله. وتسمية المسيح حمل الله تابعة لأوَّل هذه المعاني.

اسماء يسوع

وقد وُصف هذا الحمل بأنَّه يرفع الخطيئة. ولم يقل رفَع، لأنَّ السيِّد لم يكن قد مات وقد رفع الخطيئة بموته. والآن رفعها عندما نندم عليها ونقتبل سرَّ التوبة. وهو، له المجد، قرَّب مرَّة واحدة الذبيحة فكفَّر عن خطايانا كلِّها، وبقوَّة هذه الذبيحة يمكننا أن ننال الطهر كلَّ حين.

وانتبه إلى أنَّ سيِّدنا اتَّخذ عدَّة أسماء وهي. 1- الوحيد، لأنَّه بدون إخوة وبلا مثيل. 2- الابن، لأنَّه وُلد من الآب الأزليّ قبل كلِّ الدهور وهو لم يلد. 3- الكلمة، لأنَّه ولد بلا وجع ولا إخلاط سالت معه من الأحشاء التي كان فيها، كما تُولد الكلمة من العقل. ولأنَّه أخبَر عن مخفيّات الآب، كما نُخبر بكلمتنا عن المخفيّ فينا. وأيضًا، لأنَّه لم يسبقه الآب، لأنَّ الآب لم يكن في وقت بدون كلمة. 4- المسيح، لأنَّ الروح القدس مسحه لكونه وُلد بالجسد. 5- يسوع، لأنَّه مخلِّص. 6- وكان طفلاً وصبيٌّا ورجلاً، ودُعي بهذه الأسامي (= الأسماء)، كما يشهد الإنجيل، لأنَّه صار إنسانًا، فمرَّ في أطوار الطفوليَّة وفي سنِّ الصبيان والشباب والرجال. 7- الحمل في المعموديَّة، لأنَّه أخذ آثامنا وغرَّقها في مياه العماد كما غرَّق فرعونَ في البحر. 8- الختن، لأنَّه شريكنا في العماد.

وسائل: كيف صدَّق الناس يوحنّا في تسميته السيِّد المسيح حمل الله، ومسيحًا مع أنَّ هيئته الخارجيَّة لم تكن لتشهد لهُ إلاّ بأنَّه إنسان؟ فالجواب: إنَّهم صدَّقوا لحسن ظنِّهم بالمعمدان الشاهد، إذ كان في القفار يزاول الزهد والإماتة والفضائل كما صدَّق الناس فيما بعد بشارة الرسل، بسبب اجتراحهم المعجزات.

آ30 هذا هو الذي قلت عنه إنَّه يأتي بعدي رجل قد جُعل قبلي لأنَّه أقدم منّي.

آ31 وأنا لم أكن أعرفه لكن لكي يظهر لإسرائيل جئت أنا أعمِّد بالماء.

لم يكن يعرفه

أعلن المعمدان أنَّ المسيح أفضل منه لأنَّه، له المجد، يمنح بالمعموديَّة الروح القدس. ولم يكن المعمدان يعرفه قبل أن أتى إليه واعتمد منه، وكان ذلك بعناية ربّانيَّة. وإذ انفتحت السماوات وهبط الروح على السيِّد، علم يوحنّا أنَّ مَن أمامه هو المخلِّص. وكان لاسمه السجود، قد أتى بالمعجزات الباهرة زمن مولده. إلاَّ أنَّ يوحنّا كان إذ ذاك رضيعًا، فلم يعلم بها. وبناء على ذلك، معنى كلامه لليهود هو هذا: لا تظنّوا أنّي أشهد له بسبب شدَّة محبَّتي له وتعلُّقي به، فأنا لم أكن أعرفه، لكنَّ الوحي العلويَّ أعلمني به، وأنّي بتدبير من الله خرجتُ صغيرًا إلى القفر وبقيتُ فيه ثلاثين سنة، فما تربِّيتُ معه ولا معرفةَ شخصيَّة سبقت لي به. ولذلك صدِّقوا أنتم ما أشهد به.

والآن جئتُ أعمِّد بالماء قصْدَ إظهاره، وطلبًا لتطهير القلوب وتسهيل الطرق، لتؤمنوا به حقَّ الإيمان. ومن البيِّن أنَّ الناس كانت تتقاطر إلى الكاروز العظيم، طالبين منه معموديَّة التوبة واستماع مواعظه. ولم يرسل تعالى نبيَّه معمِّدًا، إلاّ ليتمكَّن اليهود من معرفة شرف عماد السيِّد المسيح، وما سيرسمه من ضرورتها.

آ32 وشهد يوحنّا قائلاً إنّي رأيتُ الروح مثل حمامة قد نزل من السماء واستقرَّ عليه.

آ33 وأنا لم أعرفه لكنَّ الذي أرسلني لأعمِّد بالماء هو قال لي: إنَّ الذي ترى الروح ينزل ويستقرُّ عليه هو الذي يعمِّد بالروح القدس.

آ34 وأنا عاينتُ وشهدت أنَّ هذا هو ابن الله.

حضور الروح

يُستنتَج أنَّ يوحنّا وحده رأى الروح لأنَّه يقول: إنّي رأيت، ولم يقُل قد رأتِ الجموع. وأيضًا: إنَّه رآه بأعين الروح لا الجسد، على شبه ما كان يراه الأنبياء. لأنَّه لو رآه بعين الجسد، لكانت الجماهير حوله رأته مثله أيضًا. وارتأى آخرون أنَّ بعض الناس الصالحين الذين كانوا هناك، رأوا الروح أيضًا. وقال فريق آخر: إنَّ الرؤية أُشرك فيها الحضور. ورُبَّ معترض يقول: لماذا لم يؤمنوا به إن كانوا قد رأوه؟ أجيب: إنَّ اليهود لم يؤمنوا به حتّى في الزمن الذي تكاثرت فيه منه العجائب والمعجزات.

ثمَّ، اعلمْ أنَّ الروح لم يظهر بطبيعته الأزليَّة، بل تحت شكل الحمام، وكان قد ظهر للأقدمين، بشبه النار على حسب ما كانوا يفقهون. أمّا الآن فاقتضت العناية الإلهيَّة أن يبدو بشكل الحمامة. واعتقِدْ متين الاعتقاد، أنَّ الروح واجب له الإكرام عينه الذي للابن، لأنَّه لا يقلُّ درجة عنه. وقد أعلن المعمدان، أنَّ الآب أرجعه من البرّيَّة بإلهامه السماويّ. وبإلهامه أيضًا، أفهمه ما العلامة التي يستدلُّ بها على السيِّد المخلِّص. ومن الأكيد أنَّ الابن لم يكن محتاجًا لحلول الروح عليه، لكن ليراه يوحنّا ويشهد له، فلا يكذِّبه سامعوه. وأيضًا لم يحلَّ الروح على السيِّد المعمَّد، إلاّ ليعرفه الناس وينتفي من عقولهم أنَّ الابن هو يوحنا لا غيره.

ولمّا كانت إثباتَ لاهوت السيِّد المسيح غايةُ الإنجيليّ أوَّلاً، وأيضًا غاية المعمدان، الذي كان في أعماله وأقواله كلِّها يرمي إلى إثباتها، إختصر كلَّ كرازته بقوله: عاينتُ وشهدتُ أنَّ هذا هو ابن الله. فبعد أن سمّاه حملاً سماويٌّا، (سمّاه) أيضًا ليُثبت عظمته ولاهوته، أنَّه مخلِّص البشر وربُّهم وشفيعهم، الذي لا تُردُّ له شفاعة، وقد تأنَّس لنجاتهم من الويلات.

أيضًا في شهادة المعمدان ودعوة بطرس وأندراوس

آ35 وفي الغد أيضًا كان يوحنّا هناك هو واثنان من تلاميذه.

في الغد، أيام

مقصد الإنجيليّ أن يبيِّن كوْن المعمدان اتَّبع ترتيبًا في كرازته، وظلَّ أيّامًا كثيرة يدعو الناس إلى يسوع المخلِّص. ففي اليوم الأوَّل، جاء الكهنة واللاويّون إليه وألقوا سؤالهم كما مرَّ. ثمَّ في اليوم الثاني، رأى يسوع مقبلاً إليه فسمّاه حمل الله. وفي هذا اليوم عينه اعتمد له المجد. ولم يروِ الإنجيليّ ظروف العماد، لأنَّ الإنجيليّين السابقين رووها، وهو لا يذكر إلاّ ما نقَّصوا فيه، كما إنَّه لم يروِ ما وقع للمعمدان من السجن والاستشهاد. ومن المعلوم أنَّ السيِّد ذهب حالاً بعد عماده إلى البرّيَّة، وعند رجوعه ظهر ليوحنّا ولاثنين من تلاميذه. فيكون معنى »في الغد« أي: بعد زمن أو: في يوم آخر.

اعتراض: لماذا قال الإنجيليّ »في الغد« مع وجود أيّام عديدة بين المعموديَّة والشهادة الآتي ذكرها التي وقعت بعد تجربة السيِّد في البرّيَّة.

حلّه. عادة الكتاب أن يقول مثلاً: في تلك الأيّام جاء يوحنّا المعمدان، مع أنَّ ستًا وعشرين سنة مرَّت بين الحادثين. وأيضًا، أن يقرن بين خراب أورشليم وانتهاء العالم، وما بين الأمرين زمان بالغ الطول نهايته. فاستخدم الإنجيليّ الطريقة عينها، وكأنَّه أراد تنسيق الحوادث فعيَّن لكلٍّ منها يومًا. أيّ الأوَّل لسؤال الفرّيسيّين، والثاني للعماد المخلِّصيّ، والثالث وهو الأوَّل تاريخًا بعد رجوع السيِّد من البرّيَّة لتسميته حمل الله. والرابع لذهابه إلى الجليل. والخامس لعرس قانا الجليل.

آ36 فنظر إلى يسوع ماشيًا فقال: هوذا حمل الله.

يسوع العريس

استخدم المعمدان، لا قوى نفسه فقط، بل جوارحه أيضًا، للكرازة بالسيِّد المسيح، وها (هو) الآن ينظره ماشيًا، فيدلُّ عليه لا بالصوت والكلام فقط، بل بعينيه ويديه ووجهٍ طافحٍ سرورًا. وقد مرَّ بنا أنَّه دعاه حمل الله. والآن يراجع التسمية، ليجعلها راسخة في قلوب سامعيه، وأكبرَ إقبالاً على اتِّباع ابن الله. وإنَّنا نرى السيِّد المسيح يصون السكوت كالعريس ولا يتكلَّم، ولكنَّ آخرين يكلِّمون العروس بدله ليأتوا بها إليه. فإنَّ يوحنّا يخاطب البيعة، أي نفوس المؤمنين ليجعلها تابعة عريسها. وكما أنَّ العروس لا تسعى وراء خاطبها ولو ملكًا أعلى منها درجة، كذلك السيِّد نزل من السماء وخطب البيعة ليُصعدها إلى داره الخالدة.

آ37 فسمع التلميذان كلامه فتبعا يسوع

كان خطاب المعمدان أو شهادته أمام الجميع، لا بينه وبين التلميذين، ولأجل ذلك عرفا أنَّ لا غشَّ فيها، فأظهرا الخضوع لمعلِّمهما، ومضيا وراء يسوع الذي يعمِّد بروح القدس، ويحمل خطايا البشر. وهما طالبان بكبير الرغبة، أن ينالهما نصيب أوفر من تعاليمه، وأن يتفقَّها أكثر من مدرسته. أمّا مَن سواهما، فما تبعوا يسوع بسبب الحسد الذي استولى على قلوبهم. ودليل ذلك ممّا قالوه فيما بعد ونصُّه: يا معلِّم إنَّ الذي شهدت عنه يعمِّد أيضًا. وأيضًا: لماذا نحن نصوم وتلاميذ المسيح لا يصومون. فيتَّضح هنا أنَّ إرادتنا هي التي تنفر عن هبات الله، لكنَّها متى شاءت نيْلَها وجدتها بالقرب منها، تابعة لها ومساعدة على الرغبة الصالحة.

آ38 فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما ماذا تُريدان فقالا له رابّي الذي تفسيره يا معلِّم أين تسكن؟

آ39 فقال لهما تعاليا وانظرا. فأتيا ونظرا حيث يسكن وأقاما عنده ذلك اليوم. وكان نحو الساعة العاشرة.

في ضيافة يسوع

لم يسألِ السيِّد تابعيه وهو فاحص الكلى والقلوب إلاّ أوَّلاً ليَطمئنَّ قلباهما فيطلبان منه ما يريدان. وثانيًا ليُعدَّهما إلى سماع بشارته ويزيل خجلهما، ولم يكونا من قبل من المتعاملين معه لاسيَّما وأنَّ المعمدان كان قد أخبر عنه، له المجد، الأمورَ العجيبة. وقد صدر السؤال عن المسيح كإنسان لا يعرف. مع أنَّه عالم بكلِّ الأمور قبل حدوثها. وقد سألاه أوَّلاً عن محلِّ إقامته كأنَّهما يطلبان منه السرَّ عما يريدانه، وسمَّياه معلِّمًا لرغبتهما في أن يصيرا تلميذين له. وإنَّنا نعلم أنَّ يسوع الإله المتأنِّس الذي لا تسَعهُ السماوات، قد أقام ببيتٍ لم يكن له. فدعاهما إلى مأواه قصدَ أن يأنسا به ويُظهر لهما أنَّهما مقبولان عنده. فللوقت تبعاه، ولمّا كانت الشمس قد دنت من الغروب، وكانت الساعة العاشرة، باتا عنده قصد أن يسمعا تعليمه ويستفيدا من كلامه، وكانت رغبتهما في الاستفادة كبرى، حتّى إنَّ أحدهما خرج ليصطاد سامعين آخرين ويأتي بهم إلى يسوع. وانظر ما أعظم ما كان اجتهاد السيِّد في الكرازة والتعليم. فإنَّه كان في كلِّ زمن يبشِّر بملكوت الله، سواء كانت الساعة عاشرة أم غير عاشرة. وقد أكمل الضيفان عند يسوع النهار كلَّه والليل التابع حتّى الصباح.

آ40 وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنّا وتبعا يسوع.

آ41 فوجد أوَّلاً سمعان أخاه، فقال له: قد وجدنا ماسيّا الذي تأويله المسيح.

أندراوس

ذكر الكتابُ اسم أحد التلميذين وهو أندراوس، أمّا الثاني فهو يوحنّا الإنجيليّ عينه، وعادته ألاَّ يذكر اسمه تواضعًا، كما هو مرويّ عندما شاهد الدم والماء نازلَين من صدر يسوع المسيح. وخالف فريق آخر فقالوا: إنَّ التلميذ الثاني كان معروفًا مشهورًا، فما كانت حاجة إلى تسميته، كما إنَّه لم تكن حاجة إلى تسمية التلاميذ الاثنين والسبعين، أو على الأقلّ إلى تسمية واحد منهم. أمّا تسمية أندراوس فلأنَّه اصطاد أخاه سمعان ليكون مبشِّرًا، وكان قد أعجبه التعليم الذي سمعه فأسرع إلى أخيه طلبًا لإشراكه في الحسنات الجليلة التي اقتبسها من ماسيّا. وكانت النفوس تتوق أشدَّ التوقان إلى مشاهدة المسيح، لأنَّها كنت معذَّبة في انتظارها إيّاه. فلمّا بدت طلعته في العالم، أتى الفرج والاغتباط جميع المنتظرين. ولاحظْ أنَّه قال: ماسيّا، لا مسحاء ولا مسيحًا ما، أيٌّا كان، لتمييزه عن غيره ممَّن يدَّعون أنَّهم مسحاء، ولإعلانه أنَّه منتظَر منذ أزمنة عديدة.

آ42 وجاء به إلى يسوع فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان ابن يونا. أنت تُدعى كيفا الذي تفسيره صفا.

سمعان بطرس

لم يتمهَّل سمعان في المجيء إلى يسوع، بعد أن عرف من أخيه أمورًا عديدة عن هذا المعلِّم السامي، وفي نظر يسوع إليه دلالة على أنَّه، له المجد، قد سبق فعرفه، وقرأ في وجهه كلَّ عواطف قلبه. فإنَّه كشف له عن اسم أبيه، بقوله: أنت سمعان بن يونا. ثمَّ أعطاه اسم كيفا أي الصخرة، وتنبَّأ له بما سيجعله في بيعته، وبذلك جذبه إلى الإيمان به. وقد غيَّر له الربُّ اسمه، كما غيَّر في العهد القديم اسم أبرام بإبراهيم، وسراي بسارا، ويعقوب بإسرائيل، وهوشع بيشوع. وقد يأتي الشياطين بالعجائب، وتكون كالخيالات لا حقيقة لها، كأنَّهم (= على أنهم) لم يستطيعوا ولن يستطيعوا معرفة ما يأتي، لأنَّ الله اختصَّ وحده بمعرفة المستقبل: فهو يعلمه ومَن يريد أن يكشف لهم عنه.

في دعوة فيلبُّس ونتنائيل

آ43 وفي الغد أراد يسوع الخروج إلى الجليل، فوجد فيلبُّس فقال له: اتبعني.

آ44 وكان فيلبُّس من بيت صيدا من مدينة أندراوس وبطرس.

آ45 ووجد فيلبُّس نتنائيل فقال له إنَّ الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء قد وجدناه وهو يسوع بن يوسف من الناصرة.

آ46 فقال له نتنائيل أمن الناصرة يكون شيء صالح؟ فقال له فيلبُّس: تعال وانظر.

فيلبس

سبق لنا الكلام أنَّ لفظ »في الغد« يدلُّ على أنَّ الإنجيليّ يكتب الحوادث بنظام وترتيب. فبعد أن أخبر عن دعوة بطرس، شاء أن يقصَّ كيف تتلمذ ليسوع فيلبُّس ونتنائيل. وقد علمتَ أنَّ أندراوس تبع المسيح عاملاً بمشورة المعمدان. ثمَّ إنَّ سمعان تبعه عاملاً بمشورة أندراوس. أمّا فيلبُّس فعمل بدعوة السيِّد عينه الذي كان يعرفه بالروح. وقد دلَّ الكاتب على القرية التي خرج منها فيلبُّس، إعلامًا بأنَّ المسيح أخزى الحكماء والعلماء، واختار رسله من البلاد الحقيرة ليعلن بهم قوَّة ساعده وينشر الخلاص. وقد جعلهم، له السجود، عواميد ثابتة في كنيسته التي هي المدينة المقدَّسة في العالم.

ولمّا كان فيلبُّس يدرس الكتب المنزَلة، ويعرف الأنبياء والناموس، وينتظر الموعود به، داخلَه الفرحُ ممّا لقي في يسوع، فأراد أن يشرك غيره بذلك. وإذ وجد نثنائيل، أخبره بأنَّ يسوع المعروف أمام الناس بأنَّه ابن يوسف ومن الناصرة، هو المخلِّص الموعود. وكانت الناصرة ذات شهرة غير حميدة، وفيها يسكن الشعوب واليهود مختلطين. فلذلك أخذ العجب من نثنائيل مأخذه فقال: هل يخرج منها شيء صالح؟ فضلاً عن أنَّه طالع في الكتب أنَّ المخلِّص يظهر من بيت لحم، فأجاب فيلبُّس بما قاله أندراوس لسمعان. وعمل نثنائيل ما عمله سمعان: أي إنَّه أقبل إلى يسوع بشوق مفرط.

آ47 ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليه فقال عنه: هذا هو في الحقيقة إسرائيليّ لا غشَّ عنده.

آ48 فقال له نثنائيل من أين تعرفني؟ أجاب يسوع وقال له إنّي قبل أن يدعوك فيلبُّس وأنت تحت التينة رأيتك.

بعد أن بكَّت نثنائيل فيلبُّس على تصديقه أنَّ من الناصرة شيئًا صالحًا لا يمكن أن يكون، احتقر كلَّ عاطفة بشريَّة وأتى فكرَّم الحقَّ، فمدحه السيِّد على خلوص نيَّته من الغشّ. ولجذبه إليه لم يبتدئ بإعلامه أنَّه وُلد في بيت لحم، ولا في الناصرة، لئلاّ يكون له سببًا لزيادة الشكِّ، بل أعلمه أنَّه عارف به من قبل، وباسمه وبالموضع الذي كان فيه، وبدعوة فيلبُّس له وبزمن خطابهما، معلنًا أنَّه مطَّلع على الخفايا وأنَّه رآه بالروح وبالتالي أنَّه أعظم من الناس وأنَّه إله. وروى بعضهم أنَّ نثنائيل هو برتولماوس. وقد كان عارفًا بالكتب المنزلة كما يتبيَّن ذلك من أجوبته. قيل إنَّه قتل إنسانًا في أيّام شبابه، ثمَّ حفر تحت التينة وطمره. ولمّا كشف المسيح له الغطاء عن هذا الأمر، اعترف نثنائيل بإنَّه إله. ومن المعلوم أنَّ السيِّد أشار إشارة إلى الحادث، إلاّ أن مخاطبه فهم الإشارةَ من دون إبطاء. وروى فريق آخر أنَّه، عندما قتل هيرودس أطفال بيت لحم، أخفت أمُّ نثنائيل ابنها تحت التينة فنجا، وبهذا المعنى ذكر مخلِّصُنا التينة.

آ49 أجاب نثنائيل وقال له: يا معلِّم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.

آ50 أجاب يسوع وقال له: لأنّي قلت لك إنّي رأيتك تحت التينة آمنت. إنَّك ستعاين أكثر من هذا.

آ51 وقال له: الحقَّ الحقّ أقول لكم: إنَّك سترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر.

شعر نثنائيل بأنَّ السيِّد عالم بالمخفيّات علْمَ الله بها فقال له: أنت ابن الله. وسائلٌ: لماذا لم يطوِّبه السيِّد المسيح كما طوَّب سمعان بطرس عند اعترافه به أنَّه ابن الله؟ فالجواب: إنَّ الاعترافين مختلفان، لأنَّ بطرس أراد إعلانه ابنًا طبيعيٌّا لله، ونثنائيل أعلنه ابنًا بالنعمة لا غير، أو إنسانًا لا أكثر، ودليل ذلك إنَّه اتَّبع كلامه بقوله: أنت ملك إسرائيل الذي يننتظر الجميع مجيئه. أمّا ابن الله الطبيعيّ، فهو ملك الخلائق كلِّها، لا إسرائيل وحده. فلأجل هذا السبب، لم ينل نثنائيل الطوبى. وكأنَّ السيِّد له المجد، أراد إعلان إنَّه إله، فأعلم أنَّ السماوات تكون مفتوحة وملائكة الله تصعد إليها وتنزل منها على الأرض، معترفين بأنَّه إله ولو ظهر إنسانًا. وقد تحقَّق هذا القول في زمن الميلاد المخلِّصيّ أوَّلاً، ثمَّ عندما غلب، له المجد، إبليس اللعين بصلبه وقبره وصعوده. وتأمَّلْ ما لطف سيِّدنا وحنانه، فإنَّه يرفع أفكار مخاطبه من الأرض إلى أعلى، ليجذبه إلى الاعتراف به بأنَّه إله، وكأنَّه يقول له: من تخدمه الملائكة أتُعدُّه إنسانًا فقط. كلاّ، بل هو أعظم!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM