القراءةالبحثية: الروح القدس يشهد

 

القراءةالبحثية:

الروح القدس يشهد

في القطعة السابقة، أعاد المعمدان كلَّ كرامة إلى يسوع. في هذه القطعة، تحدَّث عن هويَّة يسوع(1). فالنبيّ، شأنه شأن معلِّم، عنده تلاميذ (1صم 19: 20؛ 2مل 2: 3؛ أش 8: 16). في 1: 19-28، جاءت شهادة يوحنّا نافية: ليس هو الملك الآتي في آخر الزمن. ولا إيليّا. ولا النبيّ الموسويّ. بل خادم لا يستحقُّ أن يكون فيما بينهم. في 1: 29-34، قدَّم شهادة إيجابيَّة، يسوع هو الحمل (1: 36)، وهو ابن الله (1: 34، في قراءة خاصَّة) وحامل الروح (آ33)، لأنَّ الروح حلَّ على يسوع (1: 32-33).

في »اليوم التالي«، »في الغد«، ننتقل إلى اعتراف كرستولوجيّ جديد مع تلاميذ يوحنّا. فمع أنّ بعض الكتّاب القدماء فضَّلوا فصل حدثٍ عن حدثٍ، فكثيرون رفضوا هذه الأحداث الحاصلة في أكثر من مناسبة، بمتتالية كرونولوجيَّة، يسهُل تتبُّعها (مر 1: 21، 29). ووجد بعض آخر مدلولاً رمزيٌّا في عدد الأيّام، ولكنَّ الإنجيل لم يقرأ ذلك في شكل حرفيّ (12: 2): قدَّم نموذجًا عن أيّام تحمل مضمونًا في بداية خدمة يسوع. وقد نتطرَّف حين نقول مع أوريجان إنَّ يسوع لم يترك مكانًا للتجربة، بحيث لا يمكن أن يكون تنسيقٌ مع الأناجيل الإزائيَّة(2). فالإنجيل الرابع لا يهتمُّ بخبر التجربة، ولا المتتاليةُ الكرونولوجيَّة هي سمةٌ ضروريَّة في السيَر القديمة(3). فبالنظر إلى الاتّجاه الإنجيليّ، نسمع الكلام على مستويين: رؤية يسوع الآتي ercomenon إليه (1: 29) تلتقي مع تأكيد سرديّ لذلك الآتي ercomenoV بعد يوحنّا (1: 27).

1- الحمل الرافع الخطيئة (1: 29، 36)

في كرونولوجيَّة إنجيل يوحنّا المختلفة عمّا في الإزائيَّة، مات يسوع في عيد الفصح. وتطهيرُ الهيكل الذي يرد في التقليد الإزائيّ في الفصح الأخير، يفتتح خدمته العلنيَّة فيحيط بخدمته كلِّها ظلُّ أسبوع الآلام ويضمُّه إلى الفصح. وهكذا يكون »حمل الله« هو لقب يليق جدٌّا بيسوع.

ما تكون خلفيَّة هذه العبارة؟

اقترح الباحثون أربع خلفيّات رئيسيَّة للحمل في 1: 29: الحمل الجليانيّ. حمل أش 53: 7. الفصح وحمل الذبيحة (عالجنا الاثنين معًا). في قراءة أولى أعلن المعمدان الحمل الجليانيّ (كما في سفر الرؤيا) مثل الحمل الكرستولوجيّ بقَرنَين في الحقبة المسيحانيَّة كما في 1أخن(4). في هذا الوضع، اعتراف المعمدان العلنيّ في 1: 36 (كمعارض لقول نسبيّ في اعتراف في 1: 29 الذي يحدِّد مهمَّة الحمل في »رفع« الخطيئة) يمكن أن يأخذ معنى تاريخيٌّا في سياق المعمدان الذي صار النبيّ الإسكاتولوجيّ. مثلُ هذا الموقف يبقى ضعيفًا (براون، يوحنّـا 10: 58-60؛ شنــاكنبورغ، يوحنّـا 1: 299-300؛ Ridderbos, John, p.72. فالحمل الجليانيّ قدام المعمدان يظهر فقط في هذا المقطع من كتاب أخنوخ (ف 89-90) ولا يحمل وظيفة خاصَّة بالنسبة إلى المعمدان أو الإنجيل الرابع(5). وانتشرت مؤلَّفات في تلك الحقبة مع صورة الحمل (حك 19: 9، افتدى بني إسرائيل؛ لو 10: 3؛ ق مت 10: 16 في سياق 10: 6). وضمَّ سفر الرؤيا الحمل في قلب اللوحة (رؤ 5: 6، 13؛ 6: 16؛ 7: 10) دون إشارة إلى الحملان في 1أخن. وحتّى في سفر الرؤيا، فالحمل هو الحمل الفصحيّ الذي ينجّي شعب الله من الضربات(6).

وآخرون وجدوا هنا لغة العابد المتألِّم في نبوءة أشعيا(7). ومع أنَّ »عبد الربّ« يمكن أن يدلَّ على إسرائيل في أش 41: 8-9؛ 43: 10؛ 44: 1-2، 21؛ 45: 4؛ 48: 20؛ 49: 3، ففي 49: 5 وفي 53: 4-8، بدا العابد البريء متألِّمًا من أجل شعبه الذين ما استطاعوا أن يقوموا بالمهمَّة الموكلة إليهم (42: 19). ومع أنَّ مراجع تشير إلى أنَّ العالم اليهوديّ لم يقرأ مقاطع عبد يهوه في إطار مسيحانيّ، إلاّ أنَّ المسيحيَّة الأولى فسَّرت أناشيد عبد يهوه في إطار مسيحيّ (أع 8: 32؛ 1بط 2: 22-24)، وعادت إلى يسوع الذي تحدَّث عن نفسه في مر 10: 45؛ 14: 24. وبالرغم من براهين معارضة (بولتمان)، يبدو معقولاً أنَّ مر 10: 45 عكس قولاً حقيقيٌّا ليسوع(8). ومع أنَّ لغته قد تلمِّح إلى الاستشهاد بشكل عامّ، وتكون الإشارة إلى أش 53 موضوع نقاش، نأخذ بنظرة عدد من الباحثين بأنَّ تلميحًا إلى أش 53 هو حاضر، كما نقرأ في السبعينيَّة(9). وبالرغم من الاعتراضات، نأخذ بالقول إنَّ مر14: 24، وألفاظه حاضرة في الإنجيل الثاني تصحّ نسبتُه إلى يسوع. وفي أيِّ حال، هذه التقاليد حول يسوع أخذ بها الإنجيلُ الرابع. نلاحظ هنا الإشارة إلى الحمل في أش 53: 7 تعود إلى لفظ آراميّ يعني »حمل« و»عبد« بحسب هانشن، يوحنّا 1: 152-153؛ بارات، يوحنّا، ص 176. فعارض آخرون: لا يقين بأنَّ هذا النصّ (أو تقليده) يمثِّل أصلاً آراميٌّا. ثمّ إنَّ ترجوم الأنبياء يبيِّن أنَّ ؟؟؟ ؟ الآراميَّة، لاقت ؟؟؟ العبريَّة. ولكنَّ ساعة شرح هذا التلميحُ دورَ الحمل على أنَّه يرفع الخطيئة (أش 53: 4)، ظنَّ أوَّلُ السامعين لهذا القول أنَّهم أمام صورة الحمل في العهد القديم(10).

قد تكون الخلفيَّةُ الأولى حملَ الفصح (كذبيحة)، كما يرى عددٌ من العلماء(11). ويظهر الحمل الفصحيّ هنا أيضًا على أنَّه حمل ذبائحيّ، كما يقول شناكنبورغ وبراون، الذي »يرفع خطيئة العالم«. فلا شكَّ بأنَّ الكاتب نظر إلى الفصح على أنَّه في شكل ذبيحة، والسبعينيَّة تستعمل amnoV الذي استعمله يو قرابة مئة مرَّة Longeneeker, Christology, p. 50. وإن استطعنا أن نميِّز حمل الفصح عن حمل الذبيحة في البيبليا العبريَّة، فاليهوديَّة المتأخِّرة ربطت بينهما (يوسيفس، العاديّات 2: 312). فهناك من قرأ تك 22: 9-13 كنموذح للفصح مع افتداء البكر. »والكبش« يعمل عمل »الحمل« (آ7-8؛ رج ترجوم يوناتان حول لا 22: 27؛ تلمود فلسطين سفريم 1: 3). تحدَّث يو عن يسوع الذي مات »من أجل« الآخرين (10: 11، 15؛ 11: 50؛ 18: 14)، فكان »الذبيحةَ التكفيريَّة«. ولكنَّ الفكرة لا تنفي الفكرة الأخرى (1يو 2: 2؛ 3: 6؛ 4: 10).

تلتقي هذه الصورة مع صور أخرى في المسيحيَّة الأولى (1بط 1: 19؛ رؤ 5: 6؛ 7: 14). في رؤ 5: 6-9، »الحمل الذي ذُبح« هو الحمل الفصحيّ الذي دمُه ينجّي شعب الله من الضربات الآتية (7: 3)، وأيضًا (6: 9) الحمل الذي يتَّحد به الشهداء. هو »الذبيحة« تحت المذبح، حيث كان يهرق دمُ الذبائح في العهد القديم (خر 29: 12؛ لا 4: 7، 18، 25، 30، 34؛ 5: 9؛ 8: 15؛ 9: 9؛ ق 4مك 9: 24). أن يكون الإنجيل صوَّر موت يسوع على أنَّه حمل الفصح (18: 28؛ 19: 36)، ودوَّنه في سياق خروج جديد وفداء جديد (1: 23)، كما انتظره العالم اليهوديّ، يدلُّ على أنَّ هذا هو معنى »حمل« في نظر الإنجيل الرابع.

2- كان قبلي (1: 30)

اتَّخذ يوحنّا أيضًا المركز الثاني بالنسبة إلى يسوع. هذا المقطع الذي فيه يلتقي الإنجيل الرابع مع الإزائيّين، يبيِّن أنَّ يو يعود إلى المراجع الأولى ثمَّ يكيِّفها ولغته الكرستولوجيَّة. فالتقليد التاريخيّ يقف وراء القول حول تفوُّق الآتي بعد المعمدان (مت 3: 11؛ مر 1: 7؛ لو 3: 16). غير أنَّ هذا التقليد يُبرز ويُبرز سموَّ يسوع على يوحنّا. تحدَّث مر 1: 7-8 عن الأقوى الذي لا يستحقُّ المعمدان أن يحلَّ نعليه، وجعل ماء عماد يوحنّا تجاه عماد الروح، ولكنَّ التقليد اليوحنّاويّ فصل بين الاثنين (يو 1: 26، 27، 30، 33).

»يجيء بعدي«. قد يعود إلى نبيّ يأتي بعد نبيّ. ولكنَّ الباحثين يرون أنَّ هذا يعكس لغة مسيحيَّة لفعل »تبع، سار وراء« في التلمذة. فاعتبروا أنَّ يسوع كان تلميذ يوحنّا(12). في مثل هذه القراءة يسوع هو تلميذ يوحنّا (1: 27)، غير أنَّ يوحنّا لا يستحقُّ حتّى أن يكون عبدًا ليسوع، أي أقلّ من تلميذ! ومع أنَّ البعض اقترح أنَّ قول يوحنّا استنبطته المسيحيَّةُ المتأخِّرة Kraeling, John, p. 55، فالعكس هو المعقول. فالإنجيل لا يتحدَّث عن يسوع كتلميذ يوحنّا، بل عن خدمة يسوع في مقابل خدمة يوحنّا (3: 22-24، 26: وأخذ يسوع يعمِّد؛ ق مر 1: 14: بعد اعتقال يوحنّا). فهذا القول يعكس لطائف إسكاتولوجيَّة حول الأقوى منه. قد يلمِّح إلى ابن الإنسان في دا 7، مع كلام عن أزليَّة يتضمَّنها التقليدُ هنا.

في الإنجيل الرابع أعلن يوحنّا عن طريق المفارقة: »واحد يأتي بعدي الذي أتى قبلي، لأنَّه كان أوَّلاً قبلي«. »أتى قبلي«. إذا كانت مسيرة، يكون »أمام«، »قبل«. أو يجلس »أمامه«. وتلك علامة احترام. مثل هذا الاحترام يُمنَح للأكبر. ولكنَّ سامعي يو لم يفهموا ذلك على أنَّ يسوع وُلد قبل يوحنّا، بل على أنَّه وُجد قبل الزمن (1: 1-3).

3- يسوع والروح القدس عليه (آ32-33)

ومع أنَّ »شهادة« المعمدان تتواصل في السرد، توقَّف الكاتب هنا عند شهادة يوحنّا (وشهد يوحنا) وخبرته كشاهد. اعتبر بعضهم أنَّ كلام مرقس حول رؤية السماوات وسماع الصوت هو حدث »علنيّ«، لا فقط خبرة انخطافيَّة ليسوع(13).

هذا المقطع يدخل في تناسق مع اللاهوت اليوحنّاويّ. فالروح هنا له المقام الأوَّل (1: 32-33؛ 3: 5، 6، 8، 34؛ 4: 23-24؛ 6: 63؛ 7: 39؛ 14: 17، 26؛ 15: 26؛ 16: 13؛ 20: 22)(14) ويشهد ليسوع (14: 26؛ 15: 26؛ 16: 13). ونزول الروح يتوافق مع عمُوديَّة الإنجيل الرابع: يوحنّا »رأى« (1: 32، 34) نزول الروح. هو موضوع آخر (رج 1: 14). وعبارة »الروح القدس« تتواتر في العالم اليهوديّ في تلك الحقبة، ونحن نقرأها في أوَّل مقطع وآخر مقطع في شكل احتواء واسع (1: 33؛ 14: 26؛ 20: 22). وبالرغم من استعمال هذا اللقب في مدلوله الحرفيّ، فالإحالة الأولى تعود إلى التقليد (تلتقي هنا الأناجيل الأربعة، مر 1: 8؛ مت 3: 11؛ لو 3: 16). فكلام يوحنّا يتجذَّر في التقليد ومنه يأخذ الإنجيل الرابع.

تحاشى يو ذكر السماوات هنا، كما فعل الإزائيّون (عبارة إسكاتولوجيَّة كما في أش 64: 1 = 63: 19 في السبعينيَّة، مع أنَّها تحقَّقت جزئيٌّا في الأناجيل، رج حز 1: 1؛ يوسف وأسنات 14: 2/3، خدمة يسوع هي تجلٍّ لخدمة موسى، 1: 14)، ولكنَّ »السماوات« حاضرة في خدمة يسوع كلُّها (1: 51). وتحاشى يو أيضًا التقليد المرقسيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM