يوحنّا الذهبيّ الفم العظة الرابعة في يوحنّا.

 

يوحنّا الذهبيّ الفم

العظة الرابعة في يوحنّا

1- إنَّ المعلِّمين لا يثقِّلون أوَّلاً بعدد كبير من المعارف، على الأطفال الذي يُعطَون لهم لكي يربُّوهم. فهم لا يعطونهم التعليم دفعة واحدة، بل شيئًا وشيئًا: ويكرزون لهم مرارًا الأمور عينها لكي يُدخلوها، بسهولة، في حافظتهم. ويحذرون من إرعابهم، في البداية، بدروس طويلة جدٌّا لا يستطيعون أن يحفظوها. ويخافون لهم أن ييأسوا وأن يناموا أمام موادّ عديدة وصعبة يجب أن يهضموها. وأنا أتبعُ هذا المثال وهذا النهج، فأخفِّف عملكم، يا إخوتي وأجعل تعبكم بسيطًا، وشيئًا فشيئًا وبمجموعات صغيرة أوزّع عليكم ما يقدّمون لنا على هذه المائدة المقدَّسة، وبهذا الشكل أدخله في عقلكم وفي قلبكم. لهذا، أستعيد أيضًا كلمات نصِّي، لا لأكرِّر الأمور عينها، بل لأكمل ما تركت.

إذًا، نبدأ فنتذكَّر الأقوال التي قلتُها في بداية خُطبي: »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان مع الله«. لماذا الإنجيليّون الآخرون بدأوا إنجيلهم بتجسُّد يسوع المسيح؟ فمتّى بدأ هكذا: كتابة نسب يسوع المسيح ابن داود. ولوقا دخل في قلب الموضوع، بخبر مريم. وأورد القدّيس مرقس تقريبًا الأمور عينها، مبتدئًا بخبر يوحنّا المعمدان. إذًا، قلت: لماذا اكتفى يوحنّا بكلمة في هذا الموضوع: »والكلمة صار بشرًا«، وصمت عن الباقي، من الحبل به وولادته ونموّه وتربيته، فوصل حالاً إلى ولادته الأزليَّة؟ تسألونني عن السبب، وها أنا أشرحه لكم في الحال.

بما أنَّ الإنجيليّين الآخرين توسَّعوا كثيرًا في الكلام حول تجسُّد الكلمة، خِفْنا من أن تتوقَّف العقول الصغيرة، هذه النفوس الزاحفة أرضًا، أن تتوقَّف فقط عند هذه المعتقدات، مثل بولس الشميشاطيّ. بما أنَّ القدّيس يوحنّا اهتمَّ بأن ينتزع من هذه الأفكار الدنيئة، أولئك الذين قد يسقطون فيها. وبما أنَّه أراد أن يرفع أنظارهم نحو السماء، اهتمَّ بأن يبدأ خبرَه في وجود الكلمة، السماويّ الأزليّ. بدأ متّى خبره بالملك هيرودس. والقدّيس لوقا، بطيباريوس قيصر. والقدّيس مرقس بيوحنّا المعمدان. أمّا القدّيس يوحنّا فترك جانبًا كلَّ هذه الأمور، فارتفع حالاً فوق الزمن، وفوق الدهور جميعًا، وثبَّت هناك عقلَ سامعيه، في شكل من الأشكال. وقال: »في البدء كان«. ما أشار إلى موضع نستطيع التوقُّف فيه، ولا حدَّد حقبة من الزمن كما فعل الإنجيليّان الآخران، اللذان سمّيا طيباريوس ويوحنّا المعمدان.

ثمَّ، ما يُدهشنا إدهاشًا هو أنَّه لا يتوانى عن الكلام على التجسُّد، بعد أن ارتفع إلى أسمى السموّ. وكذلك الإنجيليّون الذين قدَّموا الخبر، لم يصمتوا حول الوجود السابق للدهور. فهذا عدل ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لأنَّ روحًا واحدًا وحيدًا ألهمهم وجعلهم يتكلَّمون. لهذا، نجد مثل هذا التوافق ومثل هذا التناسق الجميل في ما كتبوا. أمّا أنتم، يا إخوتي الأعزّاء، فحين تسمعون اسم »الكلمة« لا تقبلوا أولئك الذين يدعونه »خليقة«، ولا أولئك الذين يتخيَّلون مجرَّد كلمة، لأنَّ هناك كلمات كثيرة، وأوامر كثيرة من عند الله، يطيعها الملائكةُ أنفسهم. ولكنَّ واحدة من هذه الكلمات ليست الله. فهي كلُّها نبوءات ووصايا. وهكذا اعتاد الكتاب المقدَّس أن يدعوها الشرائع والفرائض والأحكام التي صنعها الله. لهذا يقول الكتاب عن الملائكة: »أنتم قادرون وممتلئون قوَّة، فافعلوا ما يقول لكم« (مز 103: 20). أمّا الكلمة (الإلهيّ)، فهو جوهر في أقنوم، أو في شخص: يصدر عن الآب بدون ألم. ذاك ما دلَّ عليه القدّيس يوحنّا حين سمّى الكلمة بهذا الاسم، كما قلتُ لكم.

إنَّ عبارة »في البدء كان الكلمة« تبيِّن أزليَّة الكلمة. والعبارة: »كان الكلمة في البدء مع الله« تُبيِّن الأزليَّة المشتركة (بين الآب والكلمة). فاحذروا حين تسمعون هذه الأقوال »في البدء كان الكلمة«، وحين تفهمون أنَّ الابن أزليّ هو، من أن تتخيَّلوا أنَّ الآب أقدم من الكلمة، أنَّه يسبقه بالمسافة، وبالتالي أن تجعلوا بداية للابن الوحيد. لهذا أضاف الإنجيليّ: »كان في البدء مع الله«. فالابن أزليّ مثل الآب، لأنَّ الآب لم يكن أبدًا بدون كلمته، بل الكلمة كان دومًا إلهًا معه، في جوهره الخاصّ.

وتقولون: »إذا كان مع الله«. فكيف أضاف يوحنّا: »كان في العالم؟« (1: 10). بما أنَّه الله، فهو مع الله، وفي العالم. سواء كان الآب، وسواء كان الابن، فلا هذا ولا ذاك يُحصَران في حدود. »فإن كان لا حدود لعظمته« (مز 145: 3)، وإذا كانت حكمته لا محدودة« (مز 147: 5)، فمن الواضح أنَّ لا بدءَ زمنيٌّا لجوهره. هل سمعتم هذا الكلام: »في البدء صنع الله السماء والأرض«؟ ماذا تستنتجون من هذا البدء؟ بأنَّ الاثنتين صُنعتا قبل كلِّ الأشياء المنظورة. وكذلك، حين تسمعون عن الابن الوحيد، »في البدء كان«، يجب أن تفهموا أنَّه قبل جميع الخلائق العاقلة، وقبل الدهور.

فإن قال أحد: كيف يمكن، وهو الابن، أن لا يكون أصغر من أبيه لأنَّ الذي هو بواسطة شخص، أقلَّ قدمًا بالضرورة من ذاك الذي به وُجد؟ نجيب: هي هنا أفكار بشريَّة. فالذي يستطيع أن يكوِّن مثل هذه الأسئلة يستطيع أن يطرح أيضًا أكثر منها عبثًا، بحيث لا نعود نصغي إلى مثل هذا الكلام. فنحن نكلِّمكم عن الله، لا عن الطبيعة البشريَّة الخاضعة لهذه الضرورات ونتائج مثل هذه المجادلات. ومع ذلك، نقدِّم لكم جوابًا، لكي نثبِّت الضعفاء.

2- قولوا لنا إذًا: هل يخرج شعاع الشمس من جوهر الشمس أو من جسم آخر؟ إذا كنّا لم نخسر عقلنا وفكرنا، نقول إنَّه بالضرورة يخرج من جوهرها. ومع ذلك، ومع أنَّ الشعاع يصدر عن الشمس، لا نقول أبدًا إنَّه أصغر من جوهر الشمس، لأنَّنا ما رأينا يومًا الشمس بلا شعاع. فإن كان بين الكائنات المنظورة والملموسة كائن يسبِّبه آخر وما هو أصغر من الذي سبَّبه، فلماذا لا نصدِّق ذلك أيضًا عن الطبيعة اللامنظورة واللاموصوفة؟ هو الشيء عينه هنا، بقدر ما تتطلَّب ذلك الطبيعةُ الإلهيّة.

لهذا السبب أيضًا، دعا القدّيس بولس هذا الابن باسم به يعلن في الوقت عينه، أنَّه يصدر عن الآب، وأنَّه مشارك له في الأزليَّة (عب 1: 3). فماذا إذًا؟ أليس أنَّ كلَّ الدهور والأزمنة بيده صُنعت؟ فيجب أن يعترف بذلك كلُّ إنسان، إلاّ إذا كان مجنونًا. إذًا، لامسافة زمنيَّة بين الابن والآب. وإن لم تكن مسافة، إذًا الابن ليس بعد الآب. إنَّه مشارك له في الأزليَّة. »فالقبل والبعد« لفظان يدلاّن على الزمن ويفترضانه. أمّا الله، فهو فوق الأزمنة والدهور.

ولكن، لنوجز: فإذا عاندتم وأكَّدتم أنَّ للابن بداية، فاحذروا من أن تُجبَروا، للسبب عينه، على أن تعطوا الآب بداية: فمع أنَّه أقدم، فتكون له بداية على الدوام. فأجيبوني: تجعلون حدٌّا للابن وبداية، وتواصلون وتمتدّون إلى ما وراء هذه البداية، ألا يعني أنَّ الآب وُجد من قبل؟ لا شكَّ في أنَّ ذلك واضح. فقولوا لي إذًا: أيَّة مسافة زمنيَّة يمتلكها الآب فيُوجَد قبل الابن؟ أتكون قصيرة أو طويلة، فحينئذٍ تحصرون الآب في بداية. فبعد أن تقيسوا هذه المسافة الزمنيَّة تقولون لنا إن كانت قصيرة أو طويلة. غير أنَّ مثل هذا التحديد مستحيل إن لم تكن بداية من جهتين. وهكذا تكونون أعطيتم للآب بداية. وهكذا تكون بداية حتّى للآب.

هنا، إخوتي الأعزّاء، تستطيعون أن تعرفوا معرفة حقيقة كلام المخلِّص هذه. وأنَّ ما يقوله هو في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان، شهادة عن فضيلته وعن حكمته. ولكن، ماذا يقول؟ من لا يكرم الابن لا يكرم الآب. أعرف أنَّ أناسًا كثيرين لا يفهمون هذه الأمور. لهذا أتحاشى مرارًا أن نطرح هذه الأسئلة الجداليَّة، لأنَّها ليست في متناول الشعب. وإن فهم شيئًا منها، لا يجد فيها متانة ولا صلابة. »لأنَّ عقل البشر عرضة للضلال، وأفكارهم غاشَّة« (حك 9: 14).

وأودُّ أن أطرح سؤالاً على خصومنا: ما معنى هذه الكلمات التي قالها النبيّ: »ما من إله قبلي، ولا يكون بعدي«؟ أش 43: 10؛ 44: 22). فإن كان الابن أقلَّ قدمًا من الآب، فكيف يقول الآب: لا يكون بعدي؟ أتنكرون إذًا جوهر الآب الوحيد، أو أنَّكم تصلون إلى هذا الإفراط في الوقاحة، أو تقرُّون وتعترفون باللاهوت في الجوهر الخاصّ بالآب والابن؟ ولكن كيف تكون صحيحة هذه الأقوال: »كلُّ شيء به كان«؟ إذا كان الزمن أقدم منه، فكيف يكون ما هو أقدم منه قد صُنع بيده؟ ألا ترون الآن، يا أخوتي، في أيِّ هاوية من الجرأة والوقاحة رمى الكلامُ هؤلاء الهراطقة، فابتَعَدوا عن الحقيقة؟

ولكن لماذا لم يقُل الإنجيليّ إنَّ الابن صُنع من أشياء لاموجودة، كما يعلن القدّيس بولس ذلك ويؤكِّد حين يقول: »الذي يدعو غير الموجود كموجود« (روم 4: 17). ولماذا يقول: »في البدء كان الكلمة«؟ فهل أقوال القدّيس يوحنّا هذه معارضة لأقوال القدّيس بولس؟ أجيب: بحقٍّ وعدل تكلَّم الإنجيليّ هكذا، لأنَّ الله ليس مصنوعًا، وأنَّه لم يُوجَد شيء قبله. غير أنَّ مثل هذه الأقوال لا يمكن أن تخرج إلاّ من فم الوثنيّين.

أجيبوني عن هذا: أما يليق بالخالق أن يكون أسمى من كلِّ الخلائق بشكل لا مثيل له؟ ولكن ما خُلق يشبهه، فأين يكون هذا السموّ الذي لا يوصف له؟ وكيف تشرحون هذا القول: »أنا الأوّل والآخر«؟ (أش 41: 4). وأيضًا: »لا إله قبلي« (أش 43: 10). فإن لم يكن الابن مشاركًا في جوهر الآب، إذًا هناك إله آخر: إن لم يكن مشاركًا له في الأزليَّة، فهو بعده. وإن لم يكن صادرًا عن جوهره، يتَّضح أنَّه مصنوع.

فإن قال لنا الأريوسيّون والأنوميّون ( ανομοιοι : الابن لا يشبه الآب) إنَّ النبيّ تكلَّم هكذا ليعارض الأوثان، أو ليميِّز عنها الإله الواحد الحقيقيّ، فلماذا لا يوافقون أيضًا على القول إنَّ الله يُدعى الإله الواحد الحقيقيّ معارضة مع الأصنام؟ فإن كانت هذه الكلمات هنا لكي تدلَّ على الاختلاف بين الله والأصنام، فكيف يفسِّرون المقطع كلَّه؟ فأشعيا قال: »بعدي، لا إله آخر«. هو لا يستبعد الابن من اللاهوت، بل يريد فقط أن يعلن ويعلِّم: »ما من صنم إله بعدي«، لا أن يعلِّم« »ليس الابن الله«. ولكن تقولون: ما هذه الأقوال؟ وهل تفسِّرونها فتقولون: لم يكن من قبل صنم إله، ومع ذلك الابن هو سابق؟

أيُّ شيطان يتكلَّم هكذا؟ لا أظنُّ أنَّ الشيطان نفسه يتجرَّأ على ذلك. ولكن نقول بإيجاز: إذا كان الابن لا يشارك الآب في الأزليَّة، فكيف تقولون: لا نهاية لحياته؟ فإن بدأ وما انتهى، لا يكون عظيمًا على مستوى البداية والنهاية. وقد حدَّد بولس ذلك حين قال: »لا بداية لحياته ولا نهاية« (عب 7: 3). في هذا أعلن الرسول أنَّ الابن لا بداية له ولا نهاية. لا حدَّ له من هنا، ولا حدَّ له من هناك. لا نهاية له، إذًا لا بداية له.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM