من التوبة إلى الأمانة.

 

من التوبة إلى الأمانة

هو 6: 1-6

كلام هوشع الذي نقرأه اليوم يبدو بشكل نداء يتوجّه إلينا فيفرض علينا أن نفكّر. فالعبادة التي نحتفل بها، هل هي تعبير عن أمانتنا لله، أو فقط اندفاع، قد يكون صريحًا، ولكنّه لا يدوم طويلاً؟ نحن الذين نخضع لتقلّبات عواطفنا واستعداداتنا، ولا نعرف ما ينتظرنا غدًا، كيف نلتزم بالأمانة الحقّة؟ هذا ما لا نراه إن كانت الأمانة استمرارًا في كلّ وقت وانتظامًا. ولكن أن نكون بالأحرى أمام التزام واعٍ وحرّ بكلّ كياننا في أبعادها كلّها. حينئذٍ لا تسيء إلى هذه الأمانة، تقلّباتُ العلاقة مع القريب، بما فيها من فشل وأزمات. بل تجعلها تتفجَّر من جديد. ولكن شرط أن لا يدفعنا الآخر إلى القطيعة، بل يساعدنا على استعادة الثقة به وبنفوسنا. هذا ما يفعله الله بالنسبة إلينا. ونحن نرى عمله من خلال يسوع، حيث يصبح الإيمان خبرة في الحبّ وأمانة.

ونقرأ نصّ هوشع (6: 1-6):

1 تعالوا نرجع إلى الربّ.

لأنّه يمزّق ويشفي

ويجرح ويضمِّد

2 يحيينا بعد يومين،

ويقيمنا في اليوم الثالث فنحيا.

3 فنعرف الربّ كلّ المعرفة ونتبعه.

ويكون ضياؤه كالفجر،

ورجوعه إلينا كالمطر.

4 ماذا أفعل لكم، يا أفرائيم؟

ماذا أفعل لكم، يا يهوذا؟

لطفكم (طاعتكم) كسحابة الصبح،

وكالندى الذي يزول باكرًا.

5 أكثرتُ لكم الأنبياء،

وفاضت عليكم أقوالُ فمي

وأضاءت أحكامي عليكم كالنور.

6 فأنا أريد طاعة (لطفًا) لا ذبيحة،

ومعرفة الله أكثر من المحرقات.

1- سياق النصّ

كيف ترتبط هذه الأيات بما في نبوءة هوشع؟ اعتبرت تفاسير تعود إلى بداية القرن العشرين، أنّ 5: 15-6: 6 ملحق جُعل هنا بعد المنفى حيث نقرأ 6: 4 بعد 5: 14. في هذه الفرضيّة، يكون النصّ الملحَق تصحيحًا لتهديد قاسٍ. وهذا التصحيح يعود إلى النبيّ نفسه، ربّما. وهكذا يكون النصّ دمَّر قوّة التهديد.

نستطيع القول إنّ الأقوال النبويّة خضعت لإضافات، وأعيدت قراءتها لدى المدوِّنين. أمّا بداية هذه الأقوال فتعكس تقليدًا تفسيريٌّا، أدخل، لا في هامش الكتاب، بل في متنه. إنّه تقليد هامّ جدٌّا، ونحن لا نستطيع أن نكتشفه إلاّ إذا بحثنا بروح نقديّة على كلمات النبيّ الأصيلة. هذا العمل الدقيق يجعلنا أمام استنتاجات غير أكيدة. لهذا، نفضّل أن نشرح النصّ النهائيّ، كما نقرأه الآن، دون أن ندخل في إعادة بناء نقديّة.

من الصعب، في الوضع الحاليّ للنصّ، أن نرفض الوحدة الأدبيّة على مستوى 6: 1-6 ويمكن أن نضيف 5: 14-15:

14 سأنقضّ على إسرائيل كالأسد،

وعلى يهوذا كالشبل

فأنا أمزّق وأمضي،

وأخطف ولا منقذ.

15 أمضي راجعًا إلى موضعي

لعلّهم يعترفون بخطيئتهم

ويلتمسون وجهي

وفي ضيقهم يبكّرون إليّ.

في 5: 15 وفي 6: 4-6، الله هو الذي يتكلّم. وفي 6: 1-3، الشعب أو بالأحرى بعض الشعب يتوجّهون إلى الله ليحثّوا المؤمنين على التوبة والاعتراف بالخطايا. قد يكون »بعض الشعب« اللاويّين أو الكهنة أو أنبياء يرتبطون بشعائر العبادة.

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا التبدّل على أنّه أمر حقيقيّ، يُفهم المقطع كلّه في شكل ليتورجيّا وصلاة جماعيّة. إذا توحّدت الآيات المتفرّقة في وحدة أدبيّة، يمكن أن تكون في كتاب طقسيّ يوزّع مراحل الصلاة المختلفة. دعا الربّ إلى العمل الليتورجيّ. ولمّا رأى تصرّف المؤمنين، رفض ما يقدَّم له. فقد رآه غير صادر عن القلب.

هذه قراءة. والقراءة الثانية، تجعل الله (بفم النبيّ) يحاور نفسه، فيورد أقوال الشعب ويرذلها في النهاية. عندئذ يتمّ كلُّ شيء في فكر الله. ولكن رغم كلّ شيء، تدخل 6: 1-3 في فنّ أدبيّ، هو عمل ليتورجيّ ونداء إلى التوبة.

2- مرمى المقطع الكتابيّ

في القراءتين، نفهم أنّ مرمى النصّ هو هو: رذل الربّ ما قام به شعبه من أعمال توبة. ها هنا تكمن المسألة اللاهوتيّة التي تشغلنا: لماذا هذا الرذل؟ وما معهناه؟

أ- رأي أوّل

أجاب بعضهم: إنّ فعل التوبة الذي تتضمّنه آ 1-3، لا تستحقّ أفضل من هذه المعاملة، لأنّها تدلّ على نظرة خاطئة إلى الله، وعلى فكرة عن التوبة هي أقرب إلى »المهزلة« لأنّها لا تفي بالغرض.

قال الشعب: »هو يمزّق ولكنّه يشفينا. وهو يضرب ولكنّه يضمّد جراحنا. ما إن نطلبه في شعائر العبادة حتّى نجده من دون تعب. يكفي لذلك أن نقدّم الذبيحة، وهي لا تكلّف الأغنياء الشيء الكثير. نحن متأكّدون أنّه يأتي، كما نتأكّد من مجيء المطر في وقته«.

ذاك هو الموقف الذي ندّد به هوشع والأنبياء الكبار كلّهم: هي ثقة متهوّرة وآليّة في عمقها. فنكران الله يأتي بلا شكّ. ويكفله العهدُ وشعائر العبادة، وطقوس التوبة بشكل خاصّ.

إذًا، كان الله على حقّ حين رذل مثل هذه الأعمال. فكأنّ يقين الإيمان الحقيقيّ حول رحمته، يستند إلى حكمة بشريّة محضة، بل إلى تصوّرات تقدّمها الديانات الوثنيّة.

تلك هي القداسة التي يطلبها الله من شعبه. فبدونها، لا قيمة إطلاقًا للذبائح وشعائر العبادة. فالله لا يُسرّ حين يُحرَق حملٌ أو يقدَّم طعام. بل على الإنسان أن »يحرق« عمقَ قلبه، »فيتّقد« بشكل تقدمة حيّة، في أمانة كاملة. قــال الربّ في مز 50:

8 لا أعاتبكم على ذبائحكم،

فمحرقاتكم أمامي في كلّ حين.

9 لا آخذ من بيوتكم عجولاً،

ولا من حظائركم تيوسًا.

14 قرّبوا الحمد ذبيحة لله،

وأوفوا العليّ نذوركم.

ب- رأي ثانٍ

ولكنّ شرّاحًا آخرين وجدوا بعض الصعوبة في هذا التفسير. فلماذا الكلام عن »مهزلة« وتوبة غير كافية. إذا تركنا جانبًا سياق الآيات اللاحقة، لا نجد سوى إقرار بالخطايا فيه الحرارة والعاطفة. وهو يوافق تعليم النبيّ، لأنّ الذين يتكلّمون في آ 1-3، لا يذكرون الذبائح التي يعتبرونها وسيلة كافية للكفّارة. بل يعلنون أنّهم الآن يهتمّون باقتناء معرفة الله. ففي كلامهم لهجة توبة صادقة. ويقينهم حول غفران الله، ليس بالضرورة بشريٌّا محضًا، ولا »وثنيٌّا«، ولا »سحريٌّا«. قد يعبّر عن ثقة حقيقيّة برحمة الله، وذاك موضوع عزيز على قلب هوشع.

إن كان الأمر هكذا، كيف نفهم رفض الله لعبارات التوبة والإقرار بالخطايا؟ لأنّ »ح س د« (طاعة، لطف، محبّة) هي عابرة ولا جذور لها (آ 4). هي كالسحابة، كالندى.

فلفظ »ح س د« واسع جدٌّا يدلّ على أمانة تربط شخصين بعضهما ببعض. فالولد يتمتّع بهذه الصفة، إن أكرَمَ والديه، راعاهما، أحبّهما، سمع لهما. والأب، إذا كان أبًا حقيقيٌّا لأولاده، فيحميهم، ويحبّهم، ويسامحهم إن هم خطئوا. والصديق، والحليف والخادم، يكون ذا »ح س د« إن كان أمينًا على رباطات الصداقة والعهد والخدمة. وبالنسبة إلى الله، تقوم هذه الفضيلة عنده، بالأمانة لعهد نعمته، وحبّه الإلهيّ والأبويّ. أمّا »ح س د« الإنسان لله، فتقوم بالالتزام من أجل الله والوقوف مع قضيّته التي هي قضيّة أولاده.

هذا ما يدعونا اليوم لكي نتحدّث عن أمانة عميقة لكلّ ما تتطلّبه حياةٌ نعيشها مع القريب ومع الله. ارتباط بنويّ بالله يتحلّى بالتقوى. وطيبة قلب جذريّة تجاه القريب. وفي عبارة موجزة، محبّة الله ومحبّة القريب، على ما قال الربّ يسوع، حين سأله أحد علماء الناموس: »تحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك، وبكلّ نفسك، وبكلّ عقلك... وتحبّ قريبك كنفسك« (مت 22: 37-39).

ج- معرفة الله

رافقت »ح س د« معرفة (د ع ت) الله. وهذه المعرفة جوهريّة في كلام هوشع، الذي قد يكون استقاها من عالم الكهنة واللاويّين. »فالمعرفة« أو »علم« الله يقومان على أمور مقدّسة، فيها الفرائض الطقوسيّة والعباديّة (والشرائع) التي تبرز متطلّبات الله تجاه مؤمنيه، وتكفل بالتالي الأمانة الإلهيّة. وعند هوشع، شأنه شأن سائر الأنبياء حيث اللفظ التقليديّ يأخذ معنى أوسع وأعمق، معرفة الله هي قبل كلّ شيء، علم بما يريد. وتصرّف بما يأمر. وهي أيضًا تذكّر له، وتذكر الخير الذي منحه لشعبه، تذكر حبّه الأبديّ. وفي النهاية، يدلّ المؤمن بحياة أمينة أنّه لا ينسى الربّ. وحده »الأمين« يعرف الله. ومقابل ذلك، إنّ الأمانة تُعاش في »معرفة الله«.

والحال أنّ كلّ هذا غير موجود في شعب إسرائيل. فهو حين يتوب ويهتمّ بمعرفة الله، تبدو أمانتُه لله عابرة ومعرفته كسحابة الصبح. و»ح س د« يتبدّد قبل أن يطلع النهار. مثل هذا التعلّق العابر وهذه المعرفة الكاذبة، تحرّكان غضب الله وعقابه. وتعبِّر تهديدات الأنبياء، الذين يحملون كلام الربّ ويتوسّطونه لدى شعبه، عن »قوّة« الله المرعبة، التي لا تقاوَم. فماذا ينتظر المؤمنون أن يفعلوا؟

ومع ذلك، فالكلمة النبويّة تجعلنا نحسّ بحزن الله، قبل التهديد أو الغضب. وتجاه هذا التقلّب العميق في القلب البشريّ، يبدو الله متحيّرًا، وكأنّه استنفد كلَّ الوسائل التي في يده. فما بقي له سوى أن يأخذ هو نفسه المبادرة ويبدّل هذا القلب الخائن تبديلاً جذريٌّا. وقد أعلن النبيّ هذه المعجزة التي تتمّ في النهاية. نقرأ في 14: 5:

أبرئهم من ارتدادهم عنّي،

فما أكثر ما أحبّهم!

فغضبي ارتدّ عنّي.

3- كلمة هوشع من أجل يومنا

نستطيع نحن المسيحيّين أن نكتشف بسهولة كيف تنطبق هذه الكلمة النبويّة على عصرنا. لا شكّ في أنّنا ما عُدنا نقدّم محرقات بالمعنى الحصريّ للكلمة. هوشع يتكلّم في وقت محدّد، وفي ظروف معروفة من الازدهار الاقتصاديّ الذي عرفته مملكة إسرائيل (في الشمال) في عهد حكّام أقوياء.

ولكن يبقى أنّ لنا، نحن أيضًا، شعائر عبادة. لهذا يترصّدنا الخطر بأن ننسى العبادة الحقّة التي تقوم في أمانة حقيقيّة على مستوى القلب وعلى مستوى الأعمال. ويُطرح السؤال: »هل تدلّ حياتُنا على أنّنا حقٌّا »نعرف« الله؟ أما تشبه أعمال التوبة عندنا، أعمال جيل النبيّ هوشع، الذين كانت أمانتهم عابرة مثل سحاب الصباح؟ يجب أن نجعل ثقتنا في رحمة الله، وفي حنانه الأبديّ، ولكن علينا أن »نعطي ثمارًا تليق بالتوبة« (لو 3: 8) لئلاّ نشابه المدن التي ما عرفت أن تتوب.

وأورد إنجيل متّى (9: 9-13) العبارة التي قرأناها في هو 6: 6، في إطار كلامه عن دعوة متّى أو لاوي، الذي كان عشّارًا. خلال الطعام عند هذا العشّار، كان جدال حول موقف يسوع المنفتح، المتسامح، تجاه العشّارين والخطأة المعروفين. فتفرّد متّى حين أورد كلام النبيّ، على فم يسوع: »إذهبوا وتعلّموا معنى هذه العبارة: أريد رحمة لا ذبيحة« (آ 13).

صارت »ح س د« (لطف، أمانة) »رحمة« (الايوس) في العهد الجديد. فالحنان والرحمة والحبّ، كلّ هذا يشكّل في البلاغ الإنجيليّ المعيار الأوّل لأمانتنا لله. وفي لفظ »ذبيحة«، تحدّث الإنجيليّ لا عن عبادة تشبه تلك التي يمارسها الفرّيسيّون، بل عن تعلّق دقيق بفرائض حول الشريعة والطقوس. هو يشير أوّلاً إلى »الشريعة« قبل أن يشير إلى الذبيحة. وهكذا رأى الإنجيليّ في تحرّر يسوع من الأعراف والشرائع، تشبّهًا برحمة الله. فالبرّ (ص د ق) الحقيقيّ الذي يطلبه النبيّ هوشع، قد حقّقه يسوع حين جعل رحمة الله منظورة، وأوصل الشريعة إلى كمالها. لهذا يبقى موقفه النموذج الكامل لتلاميذه: إنّ رحمة لا حدود لها، تبقى معيار أمانتهم لله ولابنه يسوع المسيح.

الخاتمة

تلك هي مسيرة الشعب الذي أراد الله أن يجدّده. عليه أن يعرف الله، أي يلازمه، يتعلّق به، يربط حياته بحياته. والويل له إن كانت توبته عابرة مثل الندى الذي يتبخّر حالما الشمس تطلع. فالقضيّة قضيّة موت أو حياة. هل يرضون أن يكون الله فقط ذاك الذي يمزّق ويجرح؟ إن رفضوا التوبة، كان ذاك مصيرهم. ولكنّ الربّ وعد المؤمنين بأنّه يكون ذاك الذي يشفي ويضمّد، بل ذاك الذي يجدّد كلّ إنسان تجديدًا عميقًا. هذا على مستوى العهد القديم. أمّا على مستوى العهد الجديد، حيث يتجاوز المؤمن هذه الأرض ويرتبط بالسماء بفضل يسوع المسيح الإله والإنسان، فلنا كلام عن القيامة مع الذي قام من الموت في اليوم الثالث، وعن الحياة مع ذلك الحيّ إلى أبد الدهور. فهل نتردّد دقيقة لنسير مسيرته فنصل إلى حيث وصل هو؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM