عهد خلاص جديد.

 

عهد خلاص جديد

هو 2: 18-25

خانت مملكة إسرائيل الربّ، فلُقّبت بالزانية التي تنسى العهد مع زوجها. فماذا يفعل الربّ؟ جعلها تشعر أنّها أخطأت حين انتظرت من البعل أن يعطيها المطر والخصب. توقّف المطر، كما يحدث مرّات في أرض فلسطين، مع أنّ الشمال عُرف بخصبه، وتوقّفت معه الغلاّت. طلب الشعب من بعل فما استجاب. وهكذا كانت »محنة« النقص في الغلال نداء إلى اكتشاف الإله الحقيقيّ. هو وحده من يعطي زوجته الخائنة ما تحتاج إليه في حياتها اليوميّة. فما أراد أن يقطع عهده معها، بل هو يجدّده في حبّ أقوى من الحبّ الأوّل. ونقرأ النصّ الكتابيّ:

18 في ذلك اليوم، يقول الربّ:

تدعوني زوجي،

ولا تدعوني بعلي من بعد.

19 لأنّي سأزيل اسم البعل من فمها

فلا تذكره من بعدُ باسمه.

20 وأقطع لها عهدًا في ذلك اليوم

مع وحش البرّيّة وطيور السماء

وزحّافات الأرض.

وأكسر القوس والسيف،

وأدوات الحرب من الأرض،

وأجعلها تنام إلى الأبد.

21 وأتزوّجك إلى الأبد،

أتزوّجك بالصدق والعدل

وباللطف والرحمة.

22 أتزوّجك بكلّ أمانة،

فتعرفين أنّي أنا الربّ.

23 يكون في ذلك اليوم، يقول الربّ:

أنا أستجيب للسماوات،

24 والسماوات تستجيب للأرض،

والأرض تستجيب للقمح والخمر والزيت،

وهذه كلّها تستجيب ليزرعيل.

25 وأزرع لشعبي في أرضه،

وأرحم »لا رحمة«

وأقول لـ »لا شعبي«: أنت شعبي

وهو يقول لي: أنت إلهي.

1- سياق النصّ

في التقاء الحياة الشخصيّة والحياة الدينيّة، اكتشف هوشع العهد بين الله وشعبه، في خبرة زواجيّة عاشها هو نفسه.

أ- الوضع الدينيّ

انطلق من الوضع الدينيّ في مملكة إسرائيل، في منتصف القرن الثامن ق.م. فهناك صراع عنيف. من جهة، الربّ الإله الذي أنعم على شعبه بتحرّر من أرض مصر، أرض العبوديّة. وهذا التذكّر بقي محفورًا في ذاكرة الشعب. فإله العهد هو من ينتظر أخصّاءه. وينتظر منهم الحقّ والعدل في الأعمال التي يقومون بها في المجتمع. هذا الإله المنظور هو في الوقت عينه إله متطلّب، أمين، غيور.

ومن جهة ثانية، آلهة أرض كنعان الذين ظلّت شعائر عبادتهم حيّة خمسة قرون بعد دخول يشوع وجماعته إلى أرض الموعد. آلهة قريبون من الحياة اليوميّة، آلهة اعتبروا أسياد الخصب وتكاثر المواشي. آلهة وإلاهات يحتفلون بهم في أعياد حماسيّة. في هذه الأعياد، يلعب السكر دوره لإخراج الإنسان من عالم بشريّ وإدخاله في عالم إلهيّ. والفلتان الجنسيّ يلتقي مع القوى السرّيّة التي تُخصب الطبيعة وتساعدها لكي تكون فاعلة.

من جهة، إله قدير، منعزل في سمائه، يدعو الإنسان إلى حياة متطلّبة ويريد منه ثقة مطلقة. ومن جهة أخرى، آلهة الحياة والحبّ، والغريزة بكلّ أشكالها. لهذا نفهم كيف أنّ الخيار كان صعبًا بالنسبة إلى الشعب. وهو لا يزال صعبًا حتّى اليوم بين آلهة المال والجنس والعظمة والسلطة وبين الإله الواحد في ندائه إلى الإيمان العميق والتجرّد من أمور كثيرة للسير في وصايا الربّ.

ب- الوضع الشخصيّ

في هذا الإطار، جاءت حياة هوشع الشخصيّة. نحن لا نعرف شيئًا عن بداية خدمته النبويّة. قد تكون قبل الزواج. بل بالأحرى في قلب زواجه سمع نداء الربّ، حين أخذ امرأة زنى (1: 2). انطلق الربّ من حبِّ هوشع لهذه المرأة، ورأى في زواجه من »جومر« أنّ الربّ يدعوه. ولكنّ هذه المرأة تمارس البغاء المكرَّس في شعائر العبادات الكنعانيّة. وسمّى أولاده بأسماء تدلّ على خيانة شعب إسرائيل لربّه (1: 3-9):

3 فحبلت وولدت له ابنًا.

4 فقال الربّ لهوشع:

»سمّه يزرعيل«.

6 ثمّ حبلت جومر ثانية وولدت بنتًا،

فقال الربّ لهوشع:

»سمّها لا رحمة،

لأنّي لا أرحم بيت إسرائيل

بل أجعلهم نسيٌّا منسيٌّا«.

8 وحبلت (جومر)، وولدت ابنًا.

9 فقال الربّ لهوشع:

»سمّه لا شعبي،

لأنّ لا شعب إسرائيل لي،

ولا أنا له«.

وهنا تبدأ الصعوبة. خانت جومر زوجها فعادت إلى العالم الدينيّ الذي خرجت منه. فعاش النبيّ هذه المحنة في الغضب أوّلاً. ولكنّه أراد أيضًا أن يعيد الرباط مع السعادة التي خسرها. وإذ وجد جومر، ما تردّد في أن يفتديها، يشتريها ثانية، ويستعيدها معه، بعد زمن امتحان. هو ما زال يحبّها. وهذا الحبّ الذي اهتمّ بالغفران، لا بالانتقام، توجّه إلى المستقبل، لا إلى الماضي. إلى ما يمكن أن يكون فيما بعد، في علاقة جديدة.

ج- العلاقة بين الوضع الدينيّ والوضع الشخصيّ

الوحيُ الكبير الذي يدّل على الجديد لدى هوشع، هو اكتشاف علاقة جوهريّة بين هذين الوضعين. وهكذا تستضيء بشكل حاسم الديانة التي يعيشها الشعب انطلاقًا من خبرته الشخصيّة. ما اكتشف، هو أنّ الله، في علاقته مع شعبه، يعيش ما عاشه هوشع مع جومر: خيبة الأمل، الغيرة، أمانة للحبّ رغم كلِّ شيء، العزم بأن يستعيد الطريق. فإله هذا النبيّ يحبّ حبٌّا مغرمًا، والشعب أمامه عروس خاطئة ولكنّها لا تزال محبوبة.

وهكذا تستنير الحياة الدينيّة بنور جديد. لا شكّ في أنّ هذا الإله هو إله الخروج من مصر، الإله الواحد. والتاريخ الذي يتأمّل فيه النبيّ هو تاريخ شعب اختاره الربّ منذ الخروج من أجل مهمّة خاصّة. ولكن تبدّلت الصورة وتجلّت، يوم اكتشف هوشع أنّ ما يحرّك هذا الإله هو حبّ مغرم، كحبّ الزوج لزوجته. أجل، هذا التاريخ هو تاريخ حبّ. والعودة إلى عالم يجعل الديانة الكنعانيّة جذّابة، لم تعد مرفوضة، بل فُسِّرت من جديد تفسيرًا عميقًا. لم يعد الأمر كلامًا عن الإنسان في غريزته الجنسيّة مع زواج الآلهة والإلاهات، وتعظيمًا لعالم الفجور في شكل سحريّ يجعل السماء تلتقي بالأرض، فتنال هذه الخصب والمطر، بل وجد النبيّ في العلاقة بالله، قوّة عميقة من الحبّ في الإنسان، مع التزام يفترضه وصعوبات تعترضه.

نكتشف هنا بعض ما في ديانة شعب إسرائيل: هو لا يعود إلى الطبيعة مع دورتها التي تتكرّر سنة بعد سنة، بل يتطلّع إلى تاريخ هو في الوقت عنيه تواصلٌ وخلق. هو انتقال من الحبّ الذي هو قوّة في الطبيعة إلى الحبّ الذي هو واقع روحيّ، يعيشه الإنسان على مدّ عمره، وهو الطريق الحقيقيّ الوحيد إلى الله. وهكذا كان الوحي، لا كلامًا آتيًا من الخارج، بل قراءة جديدة لما يعيشه الإنسان (والجماعة) في واقعه اليوميّ.

2- شرح النصّ

ثلاثةُ مواضيع تستوقفنا: العودة إلى البرّيّة، كما في مسيرة سيناء. الزواج الجديد. عطايا الربّ.

أ- العودة إلى البرّيّة

ما العمل مع هذه الزوجة الخائنة؟ وجاء الجواب في 2: 16-17:

16 لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرّيّة،

وأخاطب قلبها.

17 وهناك أعيد إليها كرومها

فتخضع لي هناك كما في صباها

وفي يوم صعودها من أرض مصر.

ولكن قبل ذلك، كان كلام قاسٍ من قبل الزوج الذي تركته زوجته، من قبل الله الذي تركه شعبه (3: 4):

4 حاكموا أمّكم، حاكموها!

فما هي امرأتي، ولا أنا رجلها.

ليتها تزيح زناها عن وجهها.

وبعد هذه القطيعة والغضب، رجعت العلاقات كما في الماضي. »م ف ت ي ه«: فتن، اجتذب. أوقع في غرام. هو لفظ يشير إلى كلّ أشكال الاجتذاب: الأصنام تجتذب المؤمنين (تث 11: 16). والحبّ يجتذب بعنفٍ أو بشكل خفيّ (خر 22: 15؛ قض 14: 15). وهو »غرام« يمارسه الله على نبيّه، ربّما غصبًا عنه (إر 20: 7. خدعتني، غلبتني). وهكذا يتدخّل الرب في حياة شعبه بحبّ مغرم له متطلّباته.

اجتذاب عنيف، يقتلع الشعب من الشرّ الذي يعيش فيه ليأخذه إلى البرّيّة، حيث العروس تجيب »كما في أيّام صباها«. وحين اكتشف هوشع وجهًا جديدًا لدى الربّ، لبث متعلّقًا بالتقاليد الأساسيّة في الشعب، مع عودة إلى الحدث المؤسِّس، حدث الخروج من مصر: فالعلاقات الجديدة مع الربّ لا يمكن إلاّ أن تكون رجوعًا إلى هذه الخبرة التي تضمّنت، كما في سرّ الخبرات اللاحقة. اختلف هوشع عن حزقيال مثلاً (حز 20: 5-17) فرأى في مسيرة البرّيّة خبرة حبّ فريد، عميق. وسيتبعه في ذلك إرميا (2: 2):

أذكرُ مودّتك في صباك،

وحبَّك يوم خطبتك.

سرتِ ورائي في البرّيّة،

في أرض لا زرع فيها.

ب- الزواج الجديد

»أتزوّجك إلى الأبد«. نتذكّر أنّ الزوج له كلّ المبادرة في العالم الشرقيّ القديم، وهو يختار عروسه. هذا النمط في العلاقة الذي بدأ البشر يتجاوزونه، يعطي فكرة واضحة عن مجّانيّة مطلقة لعمل الله تجاه الإنسان. هي أكثر من خطبة في مفهومنا العاديّ. هو زواج عُقد ويفترض التزامًا جدّيٌّا. وعبارة »إلى الأبد« تحدّد أنّنا لسنا أمام لقاء عابر ننساه في الغد. بل هو يدوم. واستعمل فعل عبرانيّ (و ا ر ش ت ك) بعيد عن زواج رجل بأرملة أو بأرملة مطلّقة. بل يشير إلى زواج فتاة بتول. هذا يعني أنّ الشعب سيكون جديدًا، وكأنّ العلاقة الماضية مع الخطيئة، لم تسوّد العلاقة بين »العروس وعريسها«.

ويأتي بعد الفعل، حرف الجرّ »الباء«: أتزوّجك بالصدق. كان العريس يحمل إلى العروس المهر. فما هو المهر الذي يحمله الربّ إلى شعبه حين يتزوّجه وكأنّه يفعل للمرّة الأولى بحيث ينسى الخطيئة الماضية؟

ج- عطايا الربّ

المهر أبعد ما يكون عن عطاء مادّيّ. فالربّ يحمل هدايا من نوع آخر إلى تلك التي أعادها إلى حبّه: الصدق، العدل، اللطف، الرحمة، الأمانة. وهذه الهدايا تدخل في قلب عروسه. فالله يولِّد في قلب شعبه مواقف جديدة. فالشعب سوف يمارس، بنعمة الله، الصدق والعدل والأمانة. ليس الله من يتغيّر، بل الشعب هو الذي يتغيّر. وهذا التغيير لا يكون فقط على مستوى العواطف والكلام، بل يصل إلى العمق. وإلاّ يقول الربّ (6: 4):

طاعتكم لي كسحابة الصبح،

وكالندى الذي يزول باكرًا.

والربّ الذي اختبر شعبه، سوف يكرّر الكلام عينه فيدلّ على اللاثَبات واللاأمانة في شعبه. يقول في 13: 3:

يكونون كالتبن المتطاير من البيدر

أو كالدخان الهارب من الكوّة.

كيف بدت هذه الهدايا؟ ارتبط الصدق (صادق) والعدل (أو الحقّ، م ش ف ط) بالعهد كما عند عاموس (2: 15):

أبغضوا الشرّ وأحبّوا الخير،

وأقيموا العدل في المحاكم،

فلعلّ الربّ الإله القدير

يتحنّن على من تبقّى من بيت يوسف.

في خطّ الوصايا العشر، تشير هذه »الهدايا« إلى مراعاة القريب، ولا سيّما الفقير واليتيم والأرملة. هذا يعني أن نضع العهد موضع العمل في العلاقات الاجتماعيّة. واللطف (ح س د. بعضهم يقول الحبّ) عاطفة طبيعيّة لدى الوالدين تجاه الأولاد. هو اندفاع من قبل الأب والأمّ، وتطلّب لا مفرَّ منه. إذا كان الله لطيفًا معنا، فنحن نبرهن عن لطفنا معه في لطفنا تجاه إخوتنا وأخواتنا. أمّا الرحمة (ر ح م ي م، المراحم) فهي تذكّرنا بالأمّ وابنها في رحمها. هي علاقة معه على مستوى اللحم والدم. فالله هو من يرحم، كما يقول خر 34: 6-7:

6 الربّ الربّ، إله رحيم حنون،

بطيء عن الغضب،

وكثير المراحم والوفاء،

7 يحفظ الرحمة لألوف الأجيال.

والرحمة تكون بين البشر، على ما قال الإنجيليّ: »كونوا رحماء لأنّ أباكم رحيم هو« (لو 6: 36). والأمانة (ا م و ن ه) تعني الثبات والاستمرار، والثقة المتبادلة، وهي ترد مرارًا مع »ح س د« كما في مز 40: 12:

أنت يا ربّ لا تمنع رحمتك عنّي

لطفك وأمانتك دومًا ينصرانني.

ونقرأ في مز 85: 11:

اللطف والأمانة (ا م ت) تلاقيا،

والصدق والسلام تعانقا.

كلّ هذه القيم التي تؤمّن التماسك في الشعب وسعادته، أعيدَت كما في السابق، وكأنّها جديدة. فعريس الشعب لا يحمل السعادة الخارجيّة والازدهار والحياة السهلة، بل تجديدًا عميقًا يشبه ما يدعوه حز 36: 26: »أعطيكم قلبًا جديدًا«.

وهذا ما يقود إلى معرفة الربّ (فتعرفين). فالمعرفة، في الكتاب المقدّس، ليست تكديس معلومات، ولا استنارة عقليّة، بل لقاء في العمق بين شخصين بكلّ ما عندهما، يشبه ما بين الزوجين. وإذا كان الشعب يعرف الربّ، فهذا يعني أنّ الربّ سبق وعرفه. وأمانة الشعب لربّه، ستكون جوابًا على أمانة الربّ لشعبه.

الخاتمة

هذا النصّ الذي قرأناه، هو تقليديّ وجديدّ. هو تقليديّ لأنّه يذكّرنا بقيم العهد الأساسيّة، كما تجذّرت في حدث الخروج وتوضّحت هنا. وهو جديد حين يكشف »الحبّ الزواجيّ« لدى الربّ في غيرة لا ترضى لها شريكًا (لا يكن لك إله غيري). انطلق هوشع من حبّه لجومر الآتية من عالم الزنى، فاكتشف حبّ الله لشعب يخونه ويلتحق بالبعل. وانطلق من حبّ الله لشعبه، ففهم كيف تكون علاقة الرجل بامرأته. وفي عصرنا الحاضر، علاقة المرأة أيضًا بزوجها. وسيتوسّع هذا الحبّ الزواجيّ لله مع شعبه، إلى أن يأتي العريس الذي هو يسوع، إلهنا معنا. والكنيسة عروسه تنضمّ إلى الروح فتقول له: »تعال« (رؤ 22: 17).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM