صرتم مثالاً لجميع المؤمنين.

 

صرتم مثالاً لجميع المؤمنين

حين رافقنا من بعيد مسيرة قداسة البابا بنديكتس السادس عشر مع الشبيبة في مدينة كولونيا الألمانيّة، وسمعناه يقول: »ما أحسن أن يكون الإنسان مسيحيٌّا«، فهمنا أنَّ الإيمان هو جواب متطلِّب وحرٌّ لكلمة حيّة قبل أن تكون لعقيدة مجمَّدة. عند ذاك تذكَّرنا ما قاله القدّيس بولس في الرسالة إلى أهل تسالونيكي والتي هي اليوم أكبر مدينة في اليونان بعد أثينة. مَن قبِل كلمة الله بفرح، من عاش الإيمان والرجاء والمحبّة، هذا يكون »مثالاً لجميع المؤمنين في مكدونية وآخائية« أي في أرض اليونان كلِّها. نقرأ النصّ الكتابيّ:

نشكر الله في كلِّ حين من أجلكم جميعًا، ونذكركم دائمًا في صلواتنا. نذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح، من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبّة، وثبات في الرجاء. نعرف أيّها الإخوة، أحبّاء الله، أنَّ الله اختاركم، لأنَّ البشارة حملناها إليكم، لا بالكلام وحده، بل بقوّة الروح القدس واليقين التامّ... فصرتم مثالاً لجميع المؤمنين (1تس 1: 2-7).

1- نشكر الله

كلُّ رسالة من رسائل القدّيس بولس تبدأ بالشكر. وشكره لا يتوقَّف عند الأمور المادّيّة. وإن كان لا بدَّ لنا أن نشكر الله في كلِّ آن على ما أعطينا من خير وبركة وصحّة وعافية. شكرُ الرسول يذهب إلى البعيد حين يرى المؤمنين وما هم عليه من حياة مسيحيّة. وذلك مع أنَّهم جديدو العهد في تلقّي البشارة، الإنجيل.

مرَّ بولس في تسالونيكي وما استطاع أن يطيل إقامته. ولكنَّه استطاع أن يؤسِّس كنيسة، رعيّة صغيرة، في تلك المدينة الكبيرة التي كانت عاصمة مكدونية، وجعل عليها مسؤولين. ومن بعيد، تساءل: أين صارت هذه الجماعة؟ فجاءه تيموتاوس (3: 1) فأخبره، ففرح لأنَّه وجد الأمور الثلاثة الهامّة: ثبات في الإيمان، جهاد في المحبّة، ثبات في الرجاء.

2- فضائل ثلاث

أ- ألفاظ ثلاثة هامّة. النشاط أوَّلاً. فالإيمان الذي يبقى تقليديٌّا فلا يعمل ولا يتحرَّك، هو إيمان ميت. لا تكتفوا بسماع كلام الله من دون العمل به فتخدعوا أنفسكم (يع 1: 22). آمن هؤلاء التسالونيكيّون بالإنجيل الذي حُمل إليهم، وسلَّموا حياتهم إلى الربِّ يسوع، فما كانوا تارة معه وطورًا ضدَّه. ما كانوا يومًا مسيحيّين يستلهمون كلام الربّ، ومرّة أخرى عائشين بحسب روح العالم. آمنوا وما تراجعوا بالرغم من الصعوبات، بل الاضطهادات التي لاقوها.

ب- ثمّ الجهاد. لا بدَّ أن نتعب، أن نكدَّ كي نعيش المحبّة يومًا بعد يوم. الربُّ إلهنا واحد، ونحن نحبُّه من كلِّ قلبنا ومن كلِّ نفسنا ومن كلِّ قوَّتنا. ونكون تعساء إن فترت محبَّتنا فنستحقّ اللوم من الربِّ يسوع كما كان الأمر بالنسبة إلى ملاك (أسقف) أفسس: »تركتَ محبَّتك الأولى، فاذكُرْ من أين سقطت، وتُب وعُد إلى أعمالك الماضية« (رؤ 2: 4-5). نمضي إلى معبد، إلى معابد - أو نحجّ - أو نعيش أسبوع الآلام بكلِّ اندفاع. وما أن تنتهي هذه الفترة المفعمة بالنعم، حتّى نعود إلى ما كنّا عليه. حينئذٍ نشبه حبَّة القمح التي غرسها الربُّ في أرض قليلة التراب: نبتت بسرعة ويبست بسرعة. ونحن نتحمَّس ثمَّ نخمد ونعيش كما كلَّ يوم، وننسى اسم المسيح الذي خُتمنا به.

ج- وأخيرًا الثبات. هي كلمة هامّة في قلب عالم نعيش فيه مع الاضطراب والقلاقل والشرور. إن جعلنا رجاءنا فيه، كنّا أشقى الناس أجمعين. أمّا إن كان رجاؤنا في الربِّ يسوع، فهو يرفع قلوبنا وعقولنا إلى العلاء. نجعل ثقتنا بالربّ. نتَّكل عليه. نضع يدنا بيده ونمشي. ولكنَّ المسيرة طويلة. ولهذا قال لنا يسوع: »من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص«. لا نستطيع أن نستند إلى ماضينا. نحن من عائلة مسيحيّة. نحن معمَّدون. نحن نمضي إلى القدّاس من وقت إلى آخر، نحن نصوم، نصلّي... كلُّ هذا رائع لكنَّه لا يكفي. فهذا الرجاء يجب أن يبدِّل نظرتنا إلى الأمور. نتعب فنستسلم إلى الحياة اليوميّة: نأكل ونشرب لأنّا غدًا نموت. أو ما هو شرٌّ من ذلك. نستسلم إلى القدر، إلى الموج الذي يأخذنا إلى حيث لا يريد الربّ. وفي النهاية، نغرق. فأين هي القوّة التي نلناها من كلمة الله التي تقبَّلناها؟

3- اختاركم الله

من أين لنا هذا الإيمان؟ لأنَّ الله اختارنا قبل إنشاء العالمين، اختار كلَّ واحد بمفرده. فنحن لسنا قطيع غنم نسير معًا. كلُّ واحد له اسم عند الربّ الذي يقول: كتبتُ اسمك على يدي. هكذا لا أنساه. اختارنا من أحشاء أمَّهاتنا وهذه نعمة كبيرة، صرنا بها أحبّاء الله. لا، لسنا عبيدًا اشترانا يسوع وأبقانا عبيدًا، نخاف منه. نلصق رؤوسنا بالأرض. نرتعد أمام عقابه الآتي وضرباته المؤلمة. ولا نرى سوى غضبه! مساكين إن كنّا على هذا المستوى! نحن أبناء أحبّاء لإلهنا. فلا نتصرَّف مثل العبيد. فنكون مساكين، نستحقُّ شفقة البشر، لأنّنا دُعينا باسم الربِّ وجعلنا نفوسنا من هذا العالم، فما عرفنا أن نعيش الإيمان، ولا ارتحنا في هذا العالم. اختار الله أهل تسالونيكي حين سمعوا البشارة التي حملها الرسول إليهم. وتعلَّقوا بها. فالإيمان نداء يأتينا من الله في أعماق قلوبنا، وبواسطة الكنيسة التي هي جسد المسيح. ولكنَّ النداء يبقى نداءً إن لم يقابله جواب. هل تريد؟ قد نمضي في الحزن مثل ذاك الشابِّ الغنيّ! ولكن إن قلنا نعم، يصبح هذا الاختيار واقعًا ملموسًا. نأخذ حياة جديدة ممَّن هو حياة حياتنا. نأخذ نورًا ممَّن هو نور العالم، وإلاّ نسير في الظلمة فنعثر.

نمارس المحبّة. محبّة تنبع من قلب الله، فتصل إلى من هم حولنا. نتعامل بالمحبّة مع كلِّ من نلتقي به. ولا نكتفي بأن نحبَّ من يحبُّنا! كلُّ إنسان يفعل ذلك، حتّى الخاطئ والوثنيّ. فالمحبّة هي العلامة الحقيقيّة بأنّنا تلاميذ الربّ. هكذا نكون مثالاً للمؤمنين« سواء كانوا مسيحيّين أم لا. فنتشبَّه بالتلاميذ الأوّلين الذين كانوا يُعرفون لا بلباسهم، ولا بطعامهم ولا بتصرُّفاتهم، بل في محبَّتهم. كانوا يقولون عنهم: »أنظروا كم يحبُّ بعضهم بعضًا«، يتشاركون في الأمور الروحيّة وفي الأمور المادّيّة. ينزعون من قلوبهم كلَّ روح بغض وشقاق ونميمة وحسد.

هي مناسبة كي نعود إلى نفوسنا، نحن أبناء أخويّة. يعني إخوة وأخوات بنوع خاصّ، حول الآب السماويّ حول المسيح الحاضر معنا وهو الذي قال: »حيث احتمع اثنان أو ثلاثة فأنا أكون بينهم«. هل المسيح فيما بيننا أم غير ذلك؟ نحن أبناء رعيّة. راعيها واحد هو يسوع المسيح. وقد جعل باسمه رعاة يعرفون كلَّ واحد باسمه، يسمعون صوته فيعرفونه. وهو يسمع صوتهم فيلبّي نداءهم ويكون بقربهم كالأب لأنَّهم يدعونه »أبانا، أبونا«.

صرتم مثالاً لجميع المؤمنين فذاع خبر إيمانكم. أهذا ما يُروى عن رعيَّتنا، عن أخويَّتنا؟ إن كان الأمر هكذا فهنيئًا لنا وهنيئًا للربّ بنا وبراعينا. حينئذٍ نكون مقتدين »بالرسل وبالربِّ الذي اقتدى به الرسول«. ولكن لا سمح الله، إن تركنا الرأي الواحد والقلب الواحد، وعشنا بروح التحزُّب والتباهي، ففضَّلنا نفوسنا على الآخرين ونظرنا إلى منفعتنا، لا يمكن أن نكون مثالاً للمؤمنين. بل إن اسم الله يجدَّف عليه بسببنا.

نجّانا الله من هذا الوضع، وأفهمنا مسؤوليَّتنا. فنحن حين اختارنا الله، أرادنا قبل كلِّ شيء أن نكون شهودًا له. النداء هنا، يبقى الجواب. جوابي أنا وجواب الجماعة التي أنتمي إليها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM