إنجيل يوحنّا.

 

إنجيل يوحنّا

1- مدخل عام إلى إنجيل يوحنّا

نكتب إليكم بهذه الأمور ليكون فرحنا كاملاً.

هذا الكتاب هو إنجيل، أي عمل إيمان. وهو يريد أن يعلن حدث الخلاص في يسوع المسيح. هذا ما فعله متّى ومرقس ولوقا. وهذا ما فعله يوحنّا الذي قال في نهاية إنجيله: »وصنع يسوع أيضًا أمام تلاميذه آيات أخرى عديدة لم تُذكر في هذا الكتاب. وهذه ذُكرت لتؤمنوا أنَّ يسوع هو المسيح، ابن الله. وإذا آمنتم كانت لكم الحياة باسمه« (20: 30-31).

إنجيل يوحنّا مؤلَّف مبتكر. هو لم يفعل كالإنجيليّين سابقيه، بل قام بعمليّة اختيار. لم يذكر كلَّ المعجزات، بل أورد فقط سبع معجزات (7 عدد الكمال)، وهي تهيِّئنا لمعجزة المعجزات التي هي قيامة يسوع من بين الأموات. كما اختار بعض المشاهد الكبيرة التي توسَّع فيها توسُّعًا طويلاً. حديث مع الفرّيسيّ نيقوديمس، حديث مع السامريّة، شفاء كسيح بيت حسدا، تكثير الخبز، شفاء الأعمى منذ مولده، إقامة لعازر. يذكر الحدث ويفسِّره، بخطب يسوع وحواره مع تلاميذه أم مع الشعب.

إستعمل يوحنّا الأمثال، ولكن لا بدرجة مماثلة لما عند الإزائيّين. ولكنه لجأ أيضًا إلى المجاز. لسنا فقط أما عبرة دينيّة نستنتجها من مشهد مأخوذ من الحياة اليوميّة، بل أمام تشبيه مع شخص أو شيء.

فيسوع هو الماء، هو الخبز، خبز الحياة، هو نور العالم، هو الباب والراعي، هو الكرمة الحقّة، هو الطريق والحقّ والحياة. نحن هنا أمام وجهة من عالم الرموز العزيز على قلب يوحنّا. فالألفاظ والأرقام والأطر هي مليئة بالمعاني. حدَّث يسوع نيقوديمس عن الريح فأشار أيضًا إلى الروح القدس. وأفهم تلاميذه أنَّ طعامه هو أكثر من طعام بشريّ. طعامه أن يصنع إرادة أبيه. وقال لليهود إنَّه سيُرفع، فتحدَّث عن ارتفاعه على الصليب، وارتفاعه بالمجد. وأشار يوحنّا إلى الليل الذي خرج فيه يهوذا، فدلَّ على الظلمة، على ساعة الظلمة التي هي ساعة عمل الشرّ.

وقدَّم لنا يوحنّا وثيقة تاريخيّة. فاهتمّ بالتواريخ وتسلسل الأحداث. ربط معظم أخباره بأعياد اليهود الكبرى. ربط طرد الباعة من الهيكل بفصح اليهود، وشفاء مخلَّع أورشليم بعيد العنصرة، وتكثير الخبز بفصح آخر. وتحدَّث عن عيد المظال وعيد التجديد. وبفضل يوحنا نعرف أنَّ رسالة يسوع امتدَّت سنتين ونيِّف. كما نعرف أنَّ الفصح الأوَّل كان في ربيع سنة 28. قال اليهود: في ستٍّ وأربعين سنة بُني هذا الهيكل (2: 20). لقد بدأ بناءُ الهيكل في أيّام هيرودس الكبير، سنة 19-20 ق.م.، وبعد ستٍّ وأربعين سنة، لم يكن العمل فيه قد انتهى بعد.

يقدِّم لنا يوحنّا داخل الإطار التاريخيّ عددًا من الإشارات الدقيقة. يعطينا أسماء الأماكن: قانا، عين نون، ساليم... ويذكر المسافات: جذّفوا نحو خمس وعشرين غلوة (الغلوة = 185 مترًا) أو ثلاثين. وكانت بيت عنيا قرية قريبة من أورشليم على نحو خمس عشرة غلوة. وعند الصيد العجيب رأى يوحنّا أنَّ السفينة بعدت عن البرِّ نحو 200 ذراع. وهنا تفاصيل دقيقة يشير إليها الإنجيل الرابع: عمقُ بئر يعقوب، أروقةٌ خمسة في بركة بيت زاتا...

ولكنَّنا نتوقَّف بصورة خاصّة عند روحانيّة إنجيل يوحنّا.

»الآب نفسه يحبُّكم لأنَّكم أحببتموني«. هذه الكلمات التي قالها يسوع هي خلاصة روحانيّة الإنجيل الرابع. فيوحنّا أحبَّ يسوع الناصريّ حبٌّا »جنونيٌّا« منذ اللقاء الأوَّل، صار يسوع محور فكره وحياته. وبما أنَّه تبع يسوع، ولبث بقربه، وسمعه وأحبَّه، فقد عرف أنَّه محبوب من الآب.

أنار يسوع حياة يوحنّا بروحه: كشف له الآب الذي لم يره إنسان قط. لهذا كتب لنا يوحنّا ليخبرنا عن يسوع، وليقودنا به إلى الآب، وبالتالي إلى الحياة. »فالحياة ظهرت، ونحن رأيناها ونشهد لها. ونبشِّركم بهذه الحياة الأبديّة التي كانت لدى الآب وظهرت لنا«.

إذن، لا ننتظر من إنجيل يوحنّا إلاّ هذه الشهادة عن يسوع. ففي نظر التلميذ الحبيب، كلّ ما يتوق إليه الإنسان يجده في يسوع كما في ينبوع: هو النور والحقّ والحياة. ولا يأتي أحد إلى الآب إلاّ به.

يسوع هو الكرمة التي عليها يُطعَّم الإنسان كالغصن في الشجرة. والآب هو الكرّام. والغصن (الذي هو الإنسان) لا يحمل ثمرًا لمجد الآب إلاّ إذا ثبت في يسوع. »بدوني لا تستطيعون شيئًا«.

تركَّزت نظرة القدّيس بولس على المسيح. ولكنَّ بولس الذي طُرح إلى الأرض على طريق دمشق، قد صعقه مجد الربّ القائم من الموت، وقد سمَّر بالأحرى انتباهه على عمل الانتصار الذي أتمَّه الله من أجل خلاصنا. وحين يتطلّع إلى الكنيسة، فهو يرى قدرة قيامة الربّ. فلاهوته الديناميكيّ، يتوقَّف قبل كلّ شيء عند ما فعله حبُّ الله للبشريّة. إنَّ كلمة »قدرة« هي المفتاح الذي يفهمنا هذه الروحانيّة وهذا اللاهوت.

والتقى يوحنّا بطريقة أخرى. فجاء مؤلَّفه لقاء متواصلاً مع بشريّة المخلِّص: »ما سمعناه، ما رأيناه بعيوننا، ما عاينّاه، ما لمسَتْه أيدينا من كلمة الحياة... به نخبركم«.

هذا ما يقوله يوحنّا في بداية رسالته الأولى. وفي إنجيله: »والكلمة صار بشرًا، وقد عاينّا مجده«. إنَّه يشدِّد تشديدًا خاصٌّا على سرِّ التجسُّد.

سمَّر يوحنّا نظره مطوَّلاً على شخص يسوع. لهذا فهو يبرز وجهة الوحي قبل أن يُبرز ديناميّة عمل الله. أنشد بولس قبل كلِّ شيء ما فعله حبُّ الله لأجلنا. أمّا يوحنّا فيدعونا لكي نتعرَّف إلى عطيّة الله: »لقد أحبَّ الله العالم حتّى أعطى ابنه الوحيد«.

إنَّ يوحنّا (شأنه شأن بولس) يرى يسوع على ضوء عبوره إلى الآب وتمجيده. ففي تلك »الساعة« تمَّ عملُ المسيح وتكمَّل الوحي. ولكنَّ يوحنّا يكتشف في مجد الساعة، لا قدرة الانتصار، بل بالحري عودة ابن الله إلى حيث كان أوَّلاً. يكتشف التجلّي الكامل لمجده، ووحيَ الغنى الذي لا ينفذ، والعطيّةَ التي منحنا الله فيه.

2- خلاصة واستنتاجات

ينتج عن كلِّ هذا لاهوت وروحانيّة يرتبطان بالمشاهدة ويتجاوزان الزمن، ويغرزان جذورهما في الأبديّة. يصلان إلى هذه البداية التي هي قبل كلِّ بداية والتي فيها »كان الكلمة لدى الله«، إلى هذا الحبِّ الذي به أحبَّ الآب الابن »قبل خلق العالم«.

إنَّ وجهة المشاهد في الإنجيل الرابع تتجلّى بفهم عميق للرمزيّة الدينيّة. فيوحنّا يدرك عبر القشرة الخارجيّة المدلول الروحيّ للواقع، ويكتشف الأسرار الخفيّة. فكلُّ فعلة قام بها يسوع، وكلُّ أحداث حياته، تحمل في واقعها التاريخيّ قيمة وحي »آيات« تدلُّ على كيانه العميق أو »مجده«، كما يقول يوحنّا. وترمز إلى العطايا التي حملها إلى العالم: القيامة والحياة والنور، وملء النعمة والحقّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM