رسالة بطرس الثانية.

 

رسالة بطرس الثانية

هذه الرسالة التي تبدو بشكل »وصيّة« يُعلنها شخصٌ عند موته، ترتبط ببطرس، هامة الرسل. هي بشكل خطبة وداعيّة يقول فيها شيخ على فراش الموت التوصيات المهمّة من أجل جماعته.

1- كاتب الرسالة

إنّ رسالة بطرس الثانية بعيدة عن رسالة بطرس الأولى، على مستوى المعنى كما على مستوى المبنى. وهي بعيدة أيضًا في الزمن، فدُوّنت بعد موت الرسول. ذَكرت مجموعةَ الرسائل البولسيّة (3: 15-16) التي لم تنضمّ بعضها إلى بعض قبل بداية القرن الثاني. غير أنَّ هذه الرسالة ارتبطت ببطرس، فحملت عنه ذكريات لا يعرفها سواه.

فالكاتب هو سمعان بطرس، وهو رسول المسيح. جعل نفسه في خطّ عظماء العهد القديم، فاعتبر نفسه »عبد« يسوع المسيح، كما كان موسى عبد الربّ، ويشوع... وذكر في ما ذكر مشهد التجلّي الذي عاشه بطرس مع يعقوب ويوحنّا، على الجبل: »بعيوننا رأينا عظمته« (عظمة يسوع المسيح). فإنَّه نال من الله الآب إكرامًا ومجدًا، حين جاءه من مجد الله تعالى صوت يقول: »هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت«. سمعنا نحن هذا الصوت آتيًا من السماء، وكنّا معه على الجبل المقدَّس« (1: 16-18). تلك هي الخبرة الروحيّة التي روَتْها الأناجيلُ الإزائيّة. كما أشار إليها يوحنّا في إنجيله فتحدَّث عن المجد الذي ناله يسوع (يو 12: 28).

في الواقع، رسالة بطرس الثانية لا ترتبط بالجيل المسيحيّ الأوَّل. قالوا: »آباؤنا ماتوا، وكلّ شيء منذ بدء الخليقة على حاله« (3: 4). آباؤنا هم الذين سبقونا إلى الإيمان. في الدرجة الأولى الرسل الذين رافقوا يسوع خلال حياته على الأرض. وقد يكون آباؤنا الأقربون، الجيل الثاني، فيكون قرّاء الرسالة من الجيل الثالث. نلاحظ هنا أهمّيّة التقليد الذي انتقل من الرسل، من بولس إلى تيموتاوس وتيطس. وقال لهذا الأخير بأن يقيم شيوخًا في كلِّ كنيسة، حسب تعليمات الرسول.

2- قرّاء الرسالة والخصوم

قرّاء الرسالة أشخاص عَرفوا الكتبَ المقدَّسة. بل عرفوا الأسفار المنحولة المرتبطة بعالم الجليان اليهوديّ، حيث »يكشف« الله لأخصَّائه معنى التاريخ. في 2: 4، ذكر الملائكة الذين خطئوا. في 2: 5، تحدَّث عن الطوفان مع نوح والأشخاص الثمانية الذين نجوا من الموت. في 2: 6-7، تحدَّث عن سدوم وعمورة اللتين تحوّلتا إلى رماد »عبرة لمَن يجيء بعدهم من أشرار«. وفي 2: 15، أشار الكاتب إلى »بلعام بن فغور الذي أحبّ أجرة الشرّ، فلقيَ التوبيخَ لخطيئته« (آ16). كلّ هذه الأحداث ربطت أصل العالم بالماء، ودمارَه بالنار.

هؤلاء القرّاء تعرَّفوا إلى رسالة يهوذا، ولا سيّما في الحرب على المعلِّمين الكذبة. في كلا الحالين، نجد الرافضين المستهزئين (3: 3) الذين ينطقون بأقوال سخيفة (2: 18). ويتنعَّمون بالمآدب بلا حشمة ولا حياء (2: 13). خطيئتُهم هي خطيئة الملائكة الخطأة وأهل سدوم وعمورة.

كلُّ هذا يقودنا إلى الخصوم. هم أشرار تسلَّلوا إلى الكنيسة (2: 1). اهتدوا إلى الإيمان المسيحيّ، ثمّ أنكروه. وقد يُفسدون الجماعة حين يعدونها بحرّيّة كاذبة: »يعدونهم بالحرّيّة وهم أنفسهم عبيد للمفاسد« (2: 19). يقف ضلالهم على مستوى اللاهوت، إذ ينكرون الربّ الذين افتداهم، ويحتقرون الملائكة (2: 10-11). كما يقف على مستوى الأخلاقيّات: يعيشون حياة الإباحة ولا يشبعون من الخطيئة (2: 14).

3- تعليم الرسالة

* مجيء الربّ

تتحدَّث رسالة بطرس الثانية عن تأخُّر مجيء الربّ، فتبدو قريبة من الرسالة الثانية إلى التسالونيكيّين: »وعد بالمجيء، فأين هو؟ آباؤنا ماتوا وبقيَ كلُّ شيء منذ بدء الخليقة على حاله« (3: 4). نقص الإيمان عند هؤلاء الناس، فوصلت بهم الأمورُ إلى أن يتركوا انتظار المجيء، ويعيشوا كما لو كان الله غير موجود. ويقدِّم لهم الكاتب جوابًا يأخذه من الكتب المقدَّسة: الطوفان الذي حصل هو صورة مسبقة للدينونة الأخيرة. في ذلك الطوفان »غرق العالم القديم في الماء وهلك« (3: 6). وعالم اليوم تنتظره النار من أجل أرض جديدة وسماوات جديدة (3: 10-15). وفي النهاية، تبدّل مفهومُ الزمن بالنسبة إلى الربّ: »يوم واحد عند الربّ كألف سنة، وألفُ سنة كيوم واحد« (3: 8). إذا كان الله يتأخَّر، فلأنَّه يعطي البشر مهلة للتوبة، فهو لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع (3: 9).

* الإلهام في الكتاب

طالت المسافة بين يسوع وبين الذين دوَّنوا أسفار العهد الجديد. فمن يا ترى يضمن صحّة هذه الكتابات؟ أما يشوبه التحريفُ والتشويه، ولا سيّما بعد أن مات الشهود الأوّلون؟ الجواب هو كلاّ. فالإلهام نعمة يمنحها الله للكنيسة بحيث توصل الكتابات المقدَّسة بدون ضلال على مستوى الإيمان والعقيدة والأخلاق.

بدأ الكاتب فجعل نبوءات العهد القديم على مستوى الشهادة الرسوليّة، فكوَّنت أساسَ الإيمان المتين. »ازداد يقينُنا بكلام الأنبياء، وأنتم تفعلون حسنًا إذا نظرتم إليه كأنَّه سراج منير« (1: 19). ونقرأ في 3: 2: »فتذكَّروا الأقوال التي جاءت على ألسنة الأنبياء القدّيسين، وما أبلغكم رسُلكم من وصايا ربّنا ومخلّصنا«.

أمّا الجملة التي تتحدَّث بشكل صريح عن الإلهام فترد في 1: 20-21: »واعلموا قبل كلّ شيء أن لا أحد يقدر أن يفسِّر من عنده أيّة نبوءة في الكتب المقدَّسة، لأنَّ ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان. ولكنَّ الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلَّموا بكلام من عند الله«. أجل، الأسفار المقدَّسة ملهمة، بعد أن نفخ الله روحه في بعض الناس فكتبوها. ولا يستطيع كلُّ إنسان أن يفسِّرها على هواه. بل هي تفسَّر في خطّ التقليد الرسوليّ.

رسالة بطرس الثانية بدت حلقة بين أسفار العهد الجديد، وبين ما كتبه آباء الكنيسة الأوّلون، أمثال يوستينُس ابن نابلس في فلسطين، وأغناطيوس أسقف أنطاكية، وإيريناوس، أسقف ليون في فرنسا. نبَّهتنا إلى وجود الضلال، وحذّرتنا من المعلِّمين الكذّابين، وأفهمتنا أنَّ كلام الله هو في الكنيسة بدون تشويه أو تحريف. يبقى علينا أن نقرأ الكتب ونحن متيقِّنون من صحّتها، وأن نفسِّرها في خطّ الرسل وخلفائهم. هكذا تكون كلمة الله نورًا في دربنا وغذاء لحياتنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM