الكنيسة والتجلّي.

 

الكنيسة والتجلّي

يوم العماد، بدا لنا وجهُ المسيح ابن الله من خلال الأشخاص الذين عرفهم الشعبُ الأول: هو موسى الجديد في عظته على الجبل، والنبيّ الذي يكشف أسرار ملكوت الله عبر الأمثال. هو المعلِّم الذي لم يتكلَّم مثله إنسان، وهو السيِّد الذي يدعو إليه من يشاء من تلاميذ فيرسلهم إلى العالم ليبشِّروا الناس ويعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به.

اختار يسوع رسله فبدأ بتأسيس كنيسته. والكنيسة هي جماعة الذين دعاهم يسوع ورغب إلى كلِّ واحد باسمه أن يكون معه. قال بطرس يومًا باسمهم جميعًا: »ها نحن تركنا كلَّ شيء وتبعناك«. ترك بطرس وأندراوس شباكهما، وترك ابنا زبدى السفينة وأباهما، وترك متّى بيت الجباية، وتبعوا جميعهم يسوع فكانوا نواة الكنيسة الجديدة، هذه المجموعة التي ستختلي في الصلاة حول مريم العذراء منتظرة حلول الروح القدس لتنطلق إلى الرسالة.

هذه الكنيسة بناها يسوع وسلَّمها إلى الرسل، وسلَّمها بصورة خاصَّة إلى بطرس يوم قال له: »أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وقوّات الجحيم لن تقوى عليها«.

هذه الكنيسة لها وجه إلهيّ لأنَّها تحمل في داخلها كنوز الله، ولأنَّ فيها يتجلّى الله، ولها وجه إنسانيّ لأنَّها مؤلَّفة من جماعة فيها الأشرار والأخيار، الخطأة والأبرار، الأقوياء والضعفاء. إنَّها على مثال يسوع الإله والإنسان الذي تتجلّى فيه الطبيعة الإلهيَّة والطبيعة الإنسانيَّة. تشكَّك الرسل حين عرفوا أنَّ يسوع سيتألَّم ويموت، فلم يفهموا ما قاله لهم مرارًا. ونحن نتشكَّك ولا نودُّ أن نرى وجه الكنيسة البشريّ بما فيه من ضعف وخيانة وانقسام وتحزُّبات وسعي وراء الأنانيَّة والمصلحة الشخصيَّة. غير أنَّ يسوع يقول لنا كما قال للتلاميذ: »طوبى لمن لا يشكُّ فيَّ«.

سنقرأ مقطعًا من الإنجيل عن التجلّي فنتأمَّل فيه وجه يسوع الإلهيّ والإنسانيّ، ونستشفّ من خلاله وجه الكنيسة التي هي جسده، والتي قدَّسها وطهَّرها لتكون كنيسة مجيدة لا عيب فيها.

1- إطار المشهد

بعد أن رفض اليهود أن يؤمنوا به، جمع يسوع تلاميذه وأخذ يعلِّمهم فيوحي إليهم تدريجيٌّا سرَّ شخصه عبر المصير الذي ينتظره. فيسوع الذي أعلن سمعان بطرس أنَّه المسيح ابن الله الحيّ، هو أيضًا ابن الإنسان الذي يصعد إلى أورشليم ليموت هناك ويقوم. ولقد قال لتلاميذه ثلاث مرّات: »سيسلم ابن الإنسان إلى أيدي الناس، فيقتلونه«. تشكَّك بطرس وقال: »لا سمح الله يا سيِّد، لن تلقى هذا المصير«. وحزنَ التلاميذُ كثيرًا، وطلبوا أن يكونوا كالعظماء في المكان الأوَّل، لا مع يسوع الذي جاء ليفدي البشريَّة بحياته. يتنبّأ يسوع عن موته وقيامته فلا يسمعون إلاَّ خبر موته. يصعد يسوع إلى أورشليم ويعتبر طريقه السبيل ليتمجَّد الآب، فيرون فيها مسيرة إلى الموت. لاشكَّ في أنَّ يسوع سيخسر حياته، لكنَّه سيجيء في مجد أبيه مع ملائكته ليجازي كلَّ واحد حسب أعماله. وهذا المجد سوف يراه التلاميذ فيشاهدون، قبل أن يذوقوا الموت، »مجيءَ ابن الإنسان في ملكوته«. بتلك الكلمة هيّأ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنّا لأن يبصروا تجلّيه على الجبل. في هذا المشهد ستتَّضح لهم أمور عديدة فيظهر يسوع على حقيقته عندما يرفع ما يغطّي طبعه الإلهيّ، ما يواري صورة الله خلف صورة العبد الذي صار شبيهًا بالبشر وظهر بمظهر الإنسان وتواضع وأطاع حتّى الموت، والموت على الصليب.

2- ماذا نفهم من مشهد التجلّي

في التجلّي يكشف الله عن ذاته في شخص يسوع، لكنَّ التلاميذ لا يفهمون ذلك إلاَّ بعد القيامة، فيرون ويؤمنون. في التجلّي يعطي يسوع صورة مسبقة عن المجد الذي سيتمتَّع به في قيامته وصعوده، فتنحني لاسمه كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض، ويشهد كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو الربّ. في التجلّي يفهم التلاميذ أنَّ وجه يسوع المجيد هو أمرٌ واقعٌ وحقيقة، غير أنَّ المسيح لم يدخل في مجده إلاّ عبر الآلام التي تحمَّلها.

نفهم معنى مشهد التجلّي على ضوء الآية الخامسة: »وبينما بطرس يتكلَّم، ظلَّلتهم سحابة مضيئة، وقال صوت من السحابة: ''هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، فله اسمعوا«. هذه الآية تعلن أنَّ يسوع هو ابن الله، وهو العبد الذي رضي الله عنه، وهو النبيّ الحقيقيّ الذي يجب علينا أن نسمع له. كما أعلن الآب في بداية حياة يسوع العلنيَّة أنَّ هذا المعمَّد هو ابنه الحبيب، المولود من الآب قبل كلِّ الدهور. ها هو يعلن الآن أنَّ ابنه سيأخذ صورة العبد المتألِّم: الذي لا يَكسر القصبة المرضوضة ولا يطفئ الشعلة الذابلة. إليه نستمع بدون خوف لأنَّه الوديع والمتواضع القلب وقد وعدنا به الكتاب منذ القديم عندما قال: »يقيم لك الربُّ إلهك نبيٌّا من بين إخوتك، فله تسمعون«.

سمع التلاميذ صوت الآب فوقعوا على وجوههم وهم في خوف شديد. فدنا يسوع ولمسهم وقال لهم: »قوموا، لا تخافوا«. يزور الله الإنسان فيخاف الإنسان، والخوف هو موقف الإنسان أمام القدّوس. استولى الخوف على التلاميذ حين سمعوا الصوت. ولكنَّ يسوع يأمرهم بأن يقوموا، يلمسهم فينهضون عن الأرض. كيف يخاف المؤمن وهو برفقة المعلِّم الذي هو ابن الله؟ تصرَّف معهم بسلطانه الذي كشف عنه يوم الصيد العجيب فقال لسمعان: »لا تخف، ستكون بعد اليوم صيّاد بشر«، أو ليلة مشى على البحر، ويوم ظهر للنساء بعد قيامته من بين الأموات.

3- كلمات وصور

ما هي الكلمات التي استعملها الإنجيليّ ليصوِّر لنا مشهد التجلّي؟ نذكر الجبل، المجد، موسى وإيليّا، المظالّ أو الخيام، والغمام أي السحاب.

لم يحدِّد الإنجيليّ موضع الجبل الذي تجلّى عليه يسوع. لكن ذكر التقليد اللاحق أنَّه جبل طابور، وقال شرّاح الكتاب المقدَّس إنَّه جبل حرمون الواقع شماليّ قيصريَّة فيلبُّس. فالجبل هو الموضع الذي فيه تسلَّم موسى وصايا الله وسمع إيليّا كلامه. هو جبل سيناء، هو جبل الله المقدَّس الذي يرتفع فوق الجبال وإليه تتوافد الأمم وتقول: »تعالوا نصعد إلى جبل الله«.

تجلّى يسوع فتغيَّر شكله وهيئته. ولكن كيف السبيل إلى الحديث عن هذا التبدُّل؟ قال القدّيس مرقس: »صارت ثيابه تلمع كالثلج ببياض ناصع«، فأخذت ألوانَ السماء بلمعانها ونورها، وهذا النور جعل وجه يسوع يشرق كالشمس معبِّرًا عن مجد الله الذي شاهده التلاميذ. هذا المجد الذي تحدَّث يسوع عنه ظهر اليوم بطريقة مسبقة.

ظهر موسى وإيليّا وهما يكلِّمان يسوع. هذان النبيّان كلَّما الربَّ على جبل سيناء، وها هما يكلِّمان يسوع. موسى يمثِّل الشريعة القديمة، ويسوع جاء ليعطينا الشريعة الجديدة. إيليّا يمثِّل الأنبياء أي هؤلاء الذين يتكلَّمون باسم الله، ويسوع هو كلمة الله الذي جاء يكلِّمنا عن الآب. موسى هو بداية العهد القديم وبه بدأ شعب الله يتنظَّم في جماعة الصلاة والعبادة، وإيليّا هو نهاية العهد القديم الذي يسبق يسوع في شخص يوحنّا المعمدان ويهيِّئ له الطريق.

أحسَّ بطرس بالنشوة والفرح فأراد أن ينصب ثلاث مظالّ أو خيام. لاشكَّ في أنَّ الإنجيليّ يتذكَّر خيمة الاجتماع حيث كان موسى يلتقي بالله ويحدِّثه وجهًا إلى وجه. عيد المظالّ كان يدوم ستَّة أيّام، وكان مناسبة لكي يسمع شعب الله كلمات الشريعة، وفي التجلّي يسمع التلاميذ الثلاثة كلام يسوع. أراد بطرس أن ينصب المظالّ لئلاَّ يخسر هذه الرؤيا التي غمرته ورفيقيه بالسعادة، ولكنَّ ساعة المجد الكامل لن تأتي قبل الآلام والقيامة.

وطلب بطرس مظلَّة تغطّي مجد الله فلا يموت الإنسان الناظر إليه، فأرسل الربُّ غمامًا لم تصنعه أيدي البشر كالمظلَّة، بل صنعته يد الله، من مجد الربِّ. وكما ملأ هذا المجد الهيكل يوم دشَّنه سليمان، هكذا يكون في آخر الأزمنة فيظهر من جديد مجدُ الله عبر الغمام. على جبل التجلّي أضاء مجدُ الله على وجه يسوع وشعَّ عبر ثيابه، فنزلت الغمامة لتدلَّ على حضور الله.

صعد التلاميذ مع يسوع إلى الجبل فرأوا رؤيا وسمعوا كلامًا واستناروا بنور سوف يرافقهم إلى يوم القيامة. منذ ذلك الوقت سيسمعون، وإن لم يفهموا كلِّيٌّا، نصائح المعلِّم الذي يبني كنيسته على أساس الرسل. هذه الكنيسة التي تتكوَّن من اليهود والوثنيّين والتي تتألَّف من الخطأة والقدّيسين مع العلم أنَّ للخطأة الاهتمام الأوَّل في قلب الربِّ الذي يبحث عن الخروف الضالّ. في هذه الكنيسة، الطفل هو العظيم في ملكوت الله، والمريض يحظى بالاهتمام الأوَّل، والضعيف يلقى كلَّ احترام فلا يعرِّضه أحد للخطيئة. في هذه الكنيسة يعيش المؤمنون بالمحبَّة والوئام فيسامح الواحد الآخر، لا سبع مرّات، بل سبعين مرَّة سبع مرّات، أي يسامح بلا حدود على مثال الآب السماويّ، ويشتركون جميعًا في الصلاة الواحدة فيحصلون على أيَّة حاجة من الآب السماويّ. تلك صورة الكنيسة كما نراها في سفر أعمال الرسل: »كانوا يلتقون كلَّ يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب ويسبِّحون الله«. وهذا ما يريده يسوع اليوم منّا نحن الذين نؤلِّف الكنيسة في رعيَّة من الرعايا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM