الحبل البتوليّ.

 

الحبل البتوليّ

تحدَّث المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن واقع الحبل وعن مدلوله اللاهوتيّ. أمّا الواقع المدهش والفريد فهو أنَّ امرأة صارت أمٌّا وظلَّت عذراء. كيف يكون هذا وأنا عذراء، لا أعرف رجلاً. أمّا المدلول اللاهوتيّ فهو يرتبط بشخص يسوع الكلمة المتجسِّد الذي وُلد من مريم، بالكنيسة التي تشكِّل مريم رمزًا لها رفيعًا، وبالمؤمن الذي يرى في يسوع مخلِّصُ العالم.

1- بالنسبة إلى يسوع الكلمة المتجسِّد

نقرأ أوَّلاً ما يقوله لو 1: 25: »الروح القدس يحلُّ عليك وقوَّة العليِّ تظلِّلك. لذلك فالمولود منك يُدعى ابن الله«. الله بنفسه يتدخَّل، وبفضل هذا التدخُّل صارت مريم أمٌّا. السبب: قدرة العليّ، روح الله القدُّوس.

والمولود ليس بشرًا فقط، إنَّه ابن الله. أجل هذا المولود هو ابن الله. رآه الرعاة مقمَّطًا ومضجعًا في مذود. فأخذوا يخبرون عنه. إنَّه المخلِّص، إنَّه مسيح الربّ. أجل إنَّ الولادة في البتوليّة ستكون للبشر علامة ولادته الإلهيّة. هذا ما نقرأ في إنجيل يوحنّا (1: 12-14).

»أمّا الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا به يصيرون أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه. هو الذي وُلد لا من لحم ولا من رغبة جسد ولا من رغبة رجل، بل من الله. والكلمة صار جسدًا وسكن بيننا فرأينا مجده مجدًا يفيض بالنعمة والحقّ، ناله من الآب كابن له وحيد«.

إنَّ تقبُّل يسوع في وقت من التاريخ يتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى موقف إيمان مستمرّ. نحن أمام ديناميَّة الإيمان وديناميَّة حياة أبناء الله. لم يكن الذين قبلوه يقدرون أن يدركوا سرَّ الكلمة الذي صار بشرًا. نحن هنا في الخطوة الأولى وستتبعها خطوات أخرى. سحرتهم شخصيَّة هذا النبي، اجتذبتهم كلمته المعلَنة بسلطان، سيسمُّونه المسيح الموعود به وابن يوسف. غير أنَّ سرَّ شخصه ظلَّ خفيٌّا. ومع ذلك قبلوه. قبلوا يسوع، تبعوه وهم يشهدون الآن أنَّهم رأوا مجده. ففي هذا الإنسان الملموس، في هذا »اللحم والدم« اكتشف التلاميذ سرَّ ابن الله.

2- بالنسبة إلى المؤمنين

ما هو مدلول الحبل اللاهوتيّ بالنسبة إلى خلاص البشر؟ لا ننسَ أنَّ التجسُّد لم يتمَّ للمسيح وحده، إنَّه أساسًا عمل خلاص للبشر كلِّهم ولكلِّ إنسان بمفرده. هنا نميِّز وجهتين: الولادة في البتوليّة علامة مجّانيَّة للتجسُّد، وهي أساس ومثال ولادتنا الجديدة كأبناء الله.

أ- مجّانيَّة التجسُّد والخلاص

في سياق تاريخ الخلاص يبدو الحبل بيسوع ومولده البتوليّ علامة لعمل الله المليء بالنعمة تجاهنا خاصَّة في سرِّ التجسُّد. إنَّه موهبة مجّانيَّة ونعمة من أجل خلاصنا. نقرأ في إنجيل يوحنّا (1: 16-17): »من فيضه نلنا نعمة فوق نعمة، لأنَّ الله بموسى أعطانا الشريعة، وأمّا بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحقّ«. عطيَّة الله، نعمة الله هي يسوع المسيح نفسه. وقد قال يسوع للسامريَّة: »لو تعرفين عطيَّة الله ومن هو الذي يكلِّمك«.

إنَّ الحبل البتوليّ بيسوع يدلُّ على أنَّ تجسُّد الكلمة هو فقط نعمة من قبل الله، وليس ثمر قرار حرّ اتَّخذه شخصان. لقد نلنا كلَّ شيء من ملئه. هو أحبَّنا أوَّلاً، وأرسل ابنه. فماذا لا يعطينا بعد هذا؟

ب- أساس ولادتنا الجديدة

حين قرأنا إنجيل يوحنّا (1: 12-13) اكتشفنا توازيًا بين نموِّنا كأبناء الله وبنوَّة يسوع الإلهيّة: نصير أبناء النور إذا آمنَّا بيسوع نور العالم. ونصير أبناء الله بقدر ما نؤمن بذلك المولود من الله، بابن الله. والطريقة التي بها صار ابن الله الوحيد إنسانًا تصبح المثال لولادتنا لحياة أبناء الله. والنتيجة: نحن أبناء الله وبالتالي إخوة ابن الله وإخوة بعضنا لبعض في خصب بتوليّ يشبه خصب أمِّ يسوع.

هنا نتذكَّر آباء الكنيسة: قال أوغسطينُس: »وُلد يسوع من عذراء فأفهمنا أنَّ أعضاءه يولدون بفعل الروح من الكنيسة العذراء«. وقال كيرلُّس الأورشليميّ: »ولد يسوع من عذراء وهو الذي يجعل النفوس عذارى« أي مكرَّسة لله.

3- بالنسبة إلى مريم

نودُّ أن ننطلق من الحبل البتوليّ، سرِّ مريم، أي شخصها ورسالتها، فنقول إنَّ الحبل البتوليّ يتضمَّن لفظتين لا تتوافقان على مستوى البشر غير أنَّهما تدلاّن على وجهتين جوهريَّتين في سرِّ مريم: الأمومة والبتوليّة. إنَّ مريم حبلت ثمَّ ولدت يسوع ولكنَّها حبلت به وولدته في البتوليّة. وقد قال القدّيس كيرلُّس أسقف الإسكندريّة: »هي أمٌّ وعذراء معًا: يا للعجب!«

هنا نتوقَّف عند نصِّ القدّيس لوقا الذي يحدِّثنا عن الممتلئة نعمة، عن تلك التي حوَّلتها نعمة الربِّ بالنظر إلى الدور الذي ستلعبه في التجسُّد. إنَّها كلِّيَّة القداسة. »إنَّها الدائمة القداسة«. هي قدّيسة في أمومتها وقدّيسة في بتوليَّتها. وحين قالت: »ها أنا أمة للربّ، فليكن لي كقولك«، لم تدلَّ أنَّها قبلت »لأنَّها لا تقدر أن تفعل شيئًا آخر«. كلاّ ثمَّ كلاّ. قبولها هو قبول الفرح للدخول في مخطَّط الله. قالت أوّلاً: أنا بتول، أنا لا أعرف رجلاً. وها هي تقول الآن استعدادها لأن تكون أمٌّا، فتقبل في أحشائها الكلمة المتجسِّد.

ارتبطت مريم بقلب بتوليّ وغير منقسم بالربّ، فعلَّمتنا محبَّة لا حدود لها تجاه الله، وتجاه القريب. وكانت الأم فعلَّمتنا كيف يكون الخصب الروحيّ وما هي شروطه: نثبت في المسيح كما تثبت الأغصان في الكرمة. وهكذا نُعطي ثمرًا كثيرًا.

وكما تمجَّد الله في مريم، يتمجَّد فينا حين نحمل ثمرًا كثيرًا فنكون تلاميذ المسيح. كانت مريم التلميذة الأولى ليسوع في عرس قانا الجليل، فحقَّقت في حياتها ما وعدت به يوم حبلت بيسوع وولدته. إنَّها مثالنا، تدلُّنا على يسوع وتقول لنا كما قالت للخدم: »إفعلوا كلَّ ما يأمركم به«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM