يا ملك المجد اِغفرْ لنا.

 

يا ملك المجد اِغفرْ لنا

بهذه الكلمات تنطلق مائدةُ الكلمة التي تنتهي بالعظة وإعلان إيماننا، فيعلن الكاهن: »دخلتُ بيتك يا اللّه، وفي هيكلك سجدت، فيا ملك المجد اِغفرْ لي ما خطئتُ به إليك«. فيجيب الشعب: »يا ملك المجد اِغفرْ لنا ما خطئنا به إليك«. لا يقترب الإنسان من مذبح اللّه إن كان لا يعلم بمعاصيه وخطيئته. فيقول: »إليك وحدك خطئتُ وأمام عينيك فعلت الشرّ« (مز 51: 5 ـ 6). ويواصل: »قلبًا طاهرًا أُخلق فيَّ يا اللّه« (آ 12). عندئذٍ يفتح شفتَيه ويجود فمه بالتهليل للربّ (آ 16).

وقال يسوع في وضع من الأوضاع، حين تفصل الخطيئة بيني وبين أخي، عندها لا يحقّ لي أن أَدعو اللّه »أبي« بما أنّي لا أَدعو مَن هو بقربي »أخي«، مشابهًا الابن الأكبر في مَثَل الابن الضالّ: الجميع في العيد، والأخ الأكبر يرفض أن يدخل، لا يحقّ له أن يدخل. قال الربّ: »إذا كنتَ تقدِّم قربانك إلى المذبح، وتذكّرتَ هناك أنّ لأخيكَ شيئًا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أوّلاً وصالِح أخاك، ثمّ، تعالَ وقدِّم قربانك« (مت 5: 23 ـ 24). وفي النهاية، اللّه هو مَن يغفر لي ولأخي. عندئذٍ أُعطيه السلام الآتي من المذبح، ويعطيني السلام، وإلاّ يكون قدّاسنا حُكمًا علينا ودينونة.

وبعد صلاة البدء تُتلى »الحسّاية«. وهي كلمة سريانيّة تعني التكفير والاستعطاف والغفران (حوسيا) لكي يكون الإنسان »قدِّيسًا، نقيٌّا، طاهرًا« (حسيا). ولكنّ الطقس المارونيّ نسيَ المعنى الأساسيّ لهذه الصلاة التي تُتلى ونحن نضع البخور إكرامًا للّه وطلبًا للغفران. صارت في مقدّمة (فروميون)، ثمّ في صلاة مرتّبة (سدرا، والفعل: رتّب، صفّ، نظّم) تشرح معنى العيد وتهيِّئ المؤمنين للاستماع إلى كلام اللّه الذي نرجو أن لا يكون مبتورًا، فينفتح على كلّ نصوص الكتاب المقدّس، من سِفر التكوين إلى سِفر الرؤيا. وأن تكون النصوص قصيرة فيستطيع المؤمن أن يتبعها، يحفظها، يكرّرها، ويفهمها من خلال العظة.

صلاة الحسّاية حافظت على معناها عند السريان. وكذلك عند الأقباط حيث الجميع يكونون تحت الخورس. المحتفل وحده يمنح الغفران قبل مائدة الكلمة ومائدة القربان. ولكن يبدو أنّنا استعضنا عن هذه »الرتبة« فأحللنا محلّها رتبة غفران قبل المناولة. نهتف في الصلاة الربيّة: »أَغفِرْ لنا خطايانا كما نغفر لمَن خطئَ إلينا«. فيقول الشمّاس: »أُحنوا رؤوسكم للربّ«. هذا يعني: إعترفوا بخطاياكم أمام الربّ واستعدّوا لنيل الغفران. عندئذٍ يقول الكاهن بعد أن يضع يدًا على القربان ويرفع يدًا أُخرى: »بارِكْ يا ربّ، الساجدين لك، المُنحنينَ أمامَكَ، الضارعينَ إليك، وأهِّلْهم لمراحمِكَ وغفران خطاياهم، لأنّك كثير المراحم وعلى كلّ شيء قدير« (نافور مار بطرس). ويُنهي المحتفل صلاته بإعطاء »الحَلَّة من الخطايا«: »نعمة الثالوث الأقدس، الأزليّ والمتساوي في الجوهر، تكون معكم يا إخوتي إلى الأَبد«.

ذاك ما تقدِّمه الليتورجيَّا في إطار الغفران الذي نطلبه من اللّه، ونعطيه بعضنا بعضًا. فأين جذور كلامنا في الكتاب المقدّس؟

1 ـ لا أُريد موت الخاطئ

في كلام للنبيّ حزقيال نقرأ حول مسؤوليّة كلّ إنسان عن خطيئته، بحيث لا ينسبها إلى أبيه أو أُمّه. طلب النبيّ بفم الربّ، أن تُلغى من الأفواه عبارة: »الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون«. هكذا يتهرّب الإنسان من خطيئته ويجعلها في آبائه. أو يفعل كما فعل الرجل في أصل كلّ الخطايا. ماذا فعلت يا آدم؟ »المرأة التي أعطيتني لتكون معي«. وماذا فعلت يا حوّاء؟ »الحيّة، أي إبليس، أغوتني« (تك 3: 11، 14). أنتَ مسؤول. أنتِ مسؤولة. فلماذا نبقى أطفالاً ونتهرَّب من مسؤوليّتنا؟ إقترفتُ خطأ: الشيطان طغى عليّ. »ونبصق« على الشيطان. بينما تكون البداية: »إليكَ وحدك خطئتُ« ثمّ الندامة على ما فعلت. والتعويض على الأخ (أو الأخت) الذي أغظته. عندئذٍ ننال الغفران. فالربّ إله الغفران قبل كلّ شيء. وإن هو عاقب فلكي يؤدِّب. أو بالأحرى، لا يعاقب اللّه بشكل مباشر، بل يستفيد ممّا يحصل للإنسان من ضعفٍ أو مرض... لكي ينبّه الإنسان إلى النور. نرى الموت أمامنا، لا الحياة. مع أنّ الربّ قال: »أنا لا أُسَرُّ بموت مَن يموت. فارجعوا إليَّ وأحيوا« (حز 18: 32). ويقول بلسان النبيّ ملاخي: »إرجعوا إليّ فأرجِع إليكم« (ملا 3: 7). هو لا يغضب كما يفعل الإنسان. هو لا يعاقب بسرعة، بل يعطي مهلةً للخاطئ لكي يعودَ إليه. قال بطرس في الرسالة الثانية: الربّ »يصبر عليكم، لأنّه لا يريد أن يَهلك أحدٌ، بل أن يتوب الجميع« (2 بط 3: 9). فأجمل ما يحبّ اللّه أن يعطيَه هو الغفران. وما أسرع ما يعطيه. تكفيه كلمة، حركة صغيرة، عاطفة من أعماق القلب حتّى يغفر. فماذا ننتظر؟

2 ـ اللّه غفر لكَ خطيئتك

يروي سِفر صموئيل الثاني كيف خطئَ داود، وقد اعتبر نفسه فوق الوصايا الأساسيَّة. قيل له: لا تَزنِ. فزنى بامرأة أحد قوّاده، أُوريا، واسمها بتشابع. كان من بقايا الحثيّين الذين كانوا في البلاد. ولا يخصّ قبيلة من القبائل. إذا ظُلم لن يجد مَن يدافع عنه. إستفاد داود من الظرف. تطلّع من الطابق العلويّ إلى التي اشتهاها. دعاها وزنى بها. فحبلت منه. وما استطاع داود أن يخفي ذنبه. روى له ناتان النبيّ مَثَلاً بدا فيه رجلٌ غنيٌّ ظالمًا لجاره الذي لا يملك سوى نعجة. إنتفض داود وقال لناتان: »حيٌّ هو الربّ! الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت!« (2 صم 12: 5). فقال ناتان لداود: »أَنت هو الرجل!« (آ 7). أنتَ مَن فعل ذلك، بالرغم ممّا أغدق الربّ عليك من عطايا. فقال داود لناتان: »خطئتُ إلى الربّ«. وجاء الجواب حالاً: »الربُّ غفر خطيئتك« (آ 13). ونسب التقليد إلى داود: »إرحمني يا اللّه كعظيم رحمتك... إليكَ وحدكَ خطئت...«.

3 ـ إن كنتم لا تغفرون

الربّ يغفر، ولكن هناك شرطًا ضروريٌّا لكي يغفر. غريب هذا الكلام! فمع أنّه ينسى كلَّ شيء ولا يعود يتذكَّر خطايانا، فهو يضع شرطًا لكي يصل غفرانه إلينا. الربّ يغفر، ولكن شرط أن نغفر. قال لنا بعد أن علَّمنا الصلاة الفرديَّة: »فإن كنتم تغفرون للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاّتهم لا يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم« (مت 6: 14). في الحقيقة، حين علَّمنا يسوع صلاة الأبناء علَّمنا أن نقول: »إغفر لنا كما غفرنا«. ما هذه العظمة التي حمّلنا إيّاها الربّ؟ نحن نستطيع أن نغفر، وننسى ما أساء به إلينا الآخَرون. وحده الغفران يرفعنا إلى مستوى الإنسان. والغفران الكبير يجعلنا على مستوى اللّه.

الخاتمة

بدأ الصوم الكبير يوم اثنين الرماد، ويتواصل من أحد إلى أحد، حيث الشفاءات التي ترمز إلى أكثر من شفاء. وامتدَّ حتى أحد الأعمى، حين سار ذاك المريض في الطريق للدخول في أحد الشعانين وأسبوع الآلام. وكانت الذروة أحد الابن الضالّ (الابن الشاطر: شطر مال أبيه) مع الغفران الكبير الذي يقدّمه الربّ لكلّ واحد منّا. نتوب، نندم على خطايانا، في زمن تخصّصه الكنيسة مرَّة كلّ سنة. فنعيش فيه مع المسيح أربعين يومًا في صوم نختاره ونرافق إخوتنا المسيحيّين في العالم كلّه. وتلتقي مسيرتُنا مع اللّه الآتي إلى لقائنا. وأوّل عطيّة يقدّمها لنا هي الغفران. فلا يبقى لنا سوى أن نرتمي بين يديه كالابن الضالّ. ويا للروعة حين يستقبلنا ويعبّر عن فرحته، فهو يريدنا جميعًا في حظيرةٍ واحدة، في رعيّةٍ واحدة. يريد أن يعطينا الحياة، كلّ الحياة. وهكذا نتوجّه إلى العيد الكبير، إلى عيد القيامة

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM