يا مَن وُلدَ من بنت داود، ارحمنا.

 

يا مَن وُلدَ من بنت داود، ارحمنا

حين نرافق الكاهن في الصلوات ونشارك المؤمنين في القدّاس، نكتشف حالاً موضع الرحمة. ففي قمَّة أُولى نعلن قداسة اللّه ثلاثًا: قدّوس أنتَ يا اللّه. قدّوس أنتَ أيّها القوي. قدّوس أنتَ يا مَن لا يموت. ويكون الجواب: إرحمنا. نتوجّه فيه إلى المسيح، لا إلى الثالوث الأقدس. لهذا نضيف: يا مَن صُلب لأجلنا، يا مَن قام من بين الأموات، ارحمنا. ونتلاقى هكذا مع التقليد القبطيّ. وبعد كلام التقديس وتذكّر السرّ الخلاصيّ، يعلن الكاهن هتاف البيعة، فيجيب المؤمنون: ارحمنا أيّها الربّ الضابط الكلّ، ارحمنا. هو القدير. لهذا يستطيع أن يرحمنا، أن يحنو علينا بما أنّه أب وأُمّ معًا. ويستعيد الكاهن طلب الرحمة طالبًا الروح القدس: »إرحمنا يا ربّ، ارحمنا وأرسل إلينا من سمائك روحك القدّوس«. وحين ينتهي الكاهن والمؤمنون من أكل الجسد وشرب الدم، ننال البركة بالقربان والكأس: أيضًا وأيضًا بك نعترف... يا محبّ البشر، ارحمنا. ويأتي جواب المؤمنين القصير: يا محبّ البشر، ارحمنا. والطويل: إِرحمنا يا ربّ، يا رحوم، يا محبّ البشر، ارحمنا.

موضوع الرحمة هذا الذي يتوزّع، ليس في قدّاسنا فقط، بل في صلوات الجماعة، يجد جذوره في الكتاب المقدّس بعهدَيه. فمع الوصايا التي أُعطيت على جبل سيناء، كانت العريضة الأُولى التي تدعو المؤمن إلى عبادة اللّه وحده دون سائر »الآلهة«، هذا إذا كان من آلهة سوى الإله الواحد، وإذا كان من ربّ سوى الربّ الواحد (1 كور 8: 5 ـ 6).

1 ـ إلهٌ غيورٌ رحيم

يقول اللّه: »لا تسجد للآلهة ولا تعبدها لأنّي أنا الربّ إلهك إله غيورٌ أُعاقب« (خر 20: 5). »إله« أي قدير. والصورة عند السنديانة التي كانت عادةً قرب المعابد القديمة، كما كانت في ممرا، حيث أقام إبراهيم (تك 18: 1) ما زالت آثارها حاضرة إلى الآن قرب عدد من الكنائس في لبنان. وهو غيور. شبَّه اللّه نفسه بـ »عريس« يغار على »عروسه«. كلّ واحد »عروس« للربّ. يحبّه. ويعطيه ذاته. وهو لا يسمح بأن تكون خيانة من قبلنا تجاهه. لا مكان »للغير« في قلبنا. لأنّنا لا نستطيع أن نعبد ربَّين. وحدّد يسوع، بعد أن غابت أصنام الخشب والحجر: نعبد اللّه أو نعبد المال (مت 6: 24). وعندما نحذف هذا الحبّ ننال »العقاب«. ولكنّه عقاب لا يطول. وهو عقاب تأديبيّ لأنّنا أبناء لا أولاد زنى، كما قالت الرسالة إلى العبرانيّين (عب 12: 8). هو عقاب المحبّ الذي يأخذ »حبيبته« إلى البريّة، يجرّدها من حليها، من ذهبها وفضّتها، فتكون بكلّيتها له.

عقاب يدوم ثلاثة أجيال أو أربعة. هو محدود. قال مز 30: 6 عن الربّ »غضبه (أو عقابه) لحظة، ورضاه طول الحياة. إذا أبكاني في المساء، فمع الصباح أُرنِّم فرحًا«. أمّا الرحمة فلا حدود لها: »إلى أُلوف الأجيال ممَّن يحبّونني ويعملون بوصاياي«.

كان اليهود يعتبرون العقاب نتيجة خطيئة الآباء، على ما سأل التلاميذُ يسوعَ عن الأعمى منذ مولده: »هل خطئ هو أم أبواه لكي يولد أعمى؟« (يو 9: 2). ولكنّ العقاب يصل إلى البنين إن هم واصلوا سلوك آبائهم: »ممَّن يبغضونني«. الإنسان »يبغض« اللّه، حين يرفض محبّته. اللّه لا يبغض. اللّه لا يتنكّر لنا حتى وإن كنّا خائنين له (2 تم 2: 13). بل هو مستعدّ لاستقبالنا كما فعل الأب مع ابنه الضالّ. يقول النصّ الإنجيليّ: »أَشفق عليه«. حرفيٌّا: تحرّكت أحشاؤه. ونحن لا ننسى أنّ الرحمةَ ترتبط برحم المرأة التي تحسّ بابنها وابنتها في أعماقها.

يتواصل العقاب إن سار الابن في خطى أبيه الخاطئ. ولكن يتوقّف حين يتحوّل سلوكنا. يقول لنا سفر التثنية: »فاعلموا أنّ الربّ إلهكم هو اللّه، الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة إلى ألف جيل« (تث 7: 9). وإرميا النبي: »كلّ واحد بخطيئته يموت« (إر 31: 30). ويواصل حزقيال: »إذا الابن رأى خطايا أبيه التي عملها. رآها ولكنّه لم يعمل مثلها... فهو لا يموت بإثم أبيه، بل يحيا حياة« (حز 18: 14، 18).

وما قاله الربّ حين أعطى لوحَي الوصايا مرّة أولى، عاد فقاله بعد خيانة الشعب حين صنعوا »العجل الذهبيّ«. قال الربّ وهو مارٌّ في السحاب الذي يُشير إلى حضور اللّه: »الربّ، إله رحيم حنون، بطيء عن الغضب، وكثير المراحم والوفاء، يحفظ الرحمة لألوف الأجيال، ويغفر الإثم والمعصية والخطيئة« (خر 34: 5 ـ 7). هكذا تظهر رحمة الربّ. في الغفران. وتظهر أيضًا في طريقة التعامل معنا، فيرينا محبّةً أين منها محبّة الآباء والأمّهات. أحسّ المؤمن أنّ اللّه »تركه«، »نسيَه«. فأجاب الربّ: »أَتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ثمرة بطنها؟ لكن ولو أنّها نسيَت، فأنا لا أنساك... على كفّي رسمتك« (أش 49: 14 ـ 16). ويهتف صاحب المزامير: »إن تركني أبي وأمّي، فأنت يا ربّ تقبلني«.

2 ـ اللّه أب وأُمّ معًا

أجل، الإنسان هو مثل الطفل بين يدي اللّه. هذا ما شدّد عليه النبيّ هوشع، فردّ على الذين يعتبرون اللّه ذلك الظالم القاسي، »الذي يشتاق إلى الدم« كما قال بعض شعرائنا. منذ الصبا يدعو اللّه كلَّ واحد منّا، لا يحبّنا كجماعة وحسب، بل فردًا فردًا. لهذا يوجّه كلامه تارةً في صيغة الجمع: إن حفظتم وصاياي. وتارةً في صيغة المفرد: »الربّ إلهنا واحد. فأحبّ (أنت) الربّ إلهك«.

يدعونا الربّ فنهرب من وجهه (هو 11: 2). بل نبتعد عن البيت الوالديّ، كما فعل الابن الأصغر: »جمع كلّ ما يملك وسافر إلى بلاد بعيدة« (لو 15: 13). هل يعاملنا بالقساوة لكي يردّنا إليه؟ كلاّ ثمّ كلاّ. قال في هوشع أيضًا: »جذبتُهم إليّ بحبال الرحمة وروابط المحبّة« (هو 11:4). نحن نرتبط باللّه، كما الولد برحم أمّه، فكيف لا تحنّ عليه وتكون بقربه. فحياته من حياتها، ودمه من دمها. هل تتخلّى الأُمّ عن ابنها؟ كلا. واللّه لا يتخلّى. هل تهجر الأُمّ ابنها؟ كلا. واللّه لا يهجر أبناءَه (آ 8). وبالتالي لا يعاقبهم في شدّة غضبه (آ 9). الإنسان يغضب، لا اللّه. الخاطئ يغضب لا مَن هو القدّوس فيما بيننا: »أنا اللّه لا إنسان، وقدّوس بينكم فلا أَعودُ أغضب عليكم« (آ 9).

ومتى بدأت الرحمة التي هي أخت المحبّة؟ منذ الطفولة. قال الربّ في هو 11: 3: »أنا الذي علّمهم المشي، وحملهم على ذراعه، لكنّهم لم يعترفوا أنّي أنا أصلحتُ حالهم«. رغم التمرّد، ونكران الجميل، يبقى اللّه تلك الأُمّ التي ترافق ابنها. ويبقى ذاك الأب الذي يرفع »طفلَه على ذراعه. يجعل وجهه على وجهه. يحنو عليه. ينحني لكي يصير على مستواه. ليطعمه« (آ 4) كدتُ أقول يرضعه كما الوالدة مع أطفالها. ولكن يتابع النبيّ معاتبًا: »رفضوا أن يتوبوا« (آ 5). أن يرجعوا إلى اللّه. وتساءلوا بعد ذلك عمّا أصابهم. الابن الضالّ عرف البعد، عرف العوز، عرف الذلّ. ولكن حين تاب، حين عاد، ما سأله أبوه سؤالاً واحدًا. ما عاتبه. فكيف يعاقبه! إستقبله أيّما استقبال. فكيف يقولون: رَفَضنا اللّهُ؟ هذا مستحيل. »فمراحمه كثيرة جدٌّا« (مز 119: 156). لهذا نهتف له: »أَعنِّي ياربّ بجود رحمتك، وبكثرة رأفتك التفتْ إليّ« (مز 69: 17). أمّا صلاتنا فلا تعني أنّ اللّه ينتظر نداءَنا لكي يرحمنا. فرحمته تسبق كلّ صرخة من قبلنا وهو الذي اختارنا قبل أن نصوَّر في البطن، وقدَّسنا قبل أن نخرج من الرحم، كما قال لإرميا (إر 1: 5). وإذ نحن نصلّي نحوّل قلوبنا. نطلب إليه أن يحوّلها: لا تعود صلبة كالحجر، قاسية كالصخر، بل تصبح من لحم ودم. قال حزقيال بلسان الربّ: »أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا. وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم« (حز 36: 26).

الخاتمة

كانت ذروة »خطبة السهل« التي أوردها الإنجيل الثالث: »كونوا رحماء كما أنّ اللّه أباكم رحيم« (لو 6: 36). وأعطانا عددًا من الأمثلة: نحبّ مبغضينا. نصلّي لأجل مَن أساءَ إلينا. يُطلب منّا فنعطي. يُؤخذ منّا فلا نطالب. والمثال الذي ينير طريقنا؟ اللّه العليّ (آ 35). الجميع هم أبناؤه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM