بولس الرسول يحدِّثنا عن المصالحة.

بولس الرسول

يحدِّثنا عن المصالحة

»إنَّ محبَّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا عندما نفكِّر أنَّه إذا كان مات واحد من أجل جميع الناس، فجميع الناس ماتوا أيضًا. مات من أجلهم كيلا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم، بل للذي مات وقام من أجلهم. فنحن لا نعرف أحدًا بعد معرفة بشريَّة. فإذا كنّا عرفنا المسيح يومًا معرفة بشريَّة، فلسنا نعرفه الآن هذه المعرفة. وإذا كان أحد في المسيح فإنَّه خلق جديد. وهذا كلُّه من الله الذي صالحنا مع نفسه على يد المسيح وعهد إلينا في خدمة المصالحة، لأنَّ الله صالح العالم مع نفسه في المسيح ولم يحاسبهم على زلاَّتهم، وجعل على ألسنتنا كلام المصالحة. فنحن سفراء المسيح، وكأنَّ الله يعظ بألسنتنا. فنسألكم باسم المسيح أن تصالحوا الله. ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله (ذبيحة) خطيئة من أجلنا كيما نصير به برَّ الله« (2كور 5: 14-21).

1- المقدِّمة

في السنة الماضية (1983) اجتمع أساقفة العالم في مجمع مصغَّر (السينودس) وتحدَّثُوا عن سرِّ المصالحة. وها نحن نقدِّم مقطعًا من رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل كورنتوس في هذا الموضوع مع العبارة الأساسيَّة فيه: نسألكم باسم المسيح أن تصالحوا الله.

- الإطار التاريخيّ

هدمت كورنتُس بسبب خلافها مع سائر المدن ومع السلطة الرومانيَّة الحاكمة، وظلَّت على هذه الحال مئة سنة. بعدها أعلن القائد يوليوس قيصر الرومانيّ »كلام المصالحة« فأعاد باء المدينة وأصدر عفوًا عامٌّا عن أشخاص كانوا متَّهمين بسبب ماضيهم السيء. ويطبِّق القدّيس بولس وضع مدينة كورنتُس على وضع الجماعة المسيحيَّة. عندما كانوا خاطئين كانوا على خلاف مع الله، كانوا أعداء لله وللآخرين. ولكنَّ الله أعلن المصالحة بواسطة رسله فجعل كلمته على لسانهم وأرسلهم ينشرون الصلح والسلام. غير أنَ الفرق شاسع بين ما فعله الله وما فعله يوليوس قيصر. فهذا اكتفى بكلمة قالها وورقة وقَّعها. أمّا الله فقد كلَّفته هذه المصالحة غاليًا: مات يسوع من أجل الناس، فأتمَّ الصلح بيننا وبين الله بموته.

- الإطار الحياتيّ

ما هي المصالحة؟ صالح الواحد الآخر أي وافقه، ضدَّ خالفه وخاصمه وعاداه. أصلح الإنسان الشيء: ضدَّ أفسده، وصيَّره صالحًا حسنًا. تفسد الأمور بين اثنين فيدبُّ الخلاف والخصام. يسيء الواحد إلى الآخر فتظهر العداوة. وعندما نصلح الأمور بيننا وبين القريب يعود الوفاق فنتصالح ونتقارب ويساعد بعضنا بعضًا.

بالخطيئة، وهي عمل سيِّئ، تفسد العلاقة بيننا وبين الله، نصبح أعداء كما يقول القدّيس بولس. ولكنَّ يسوع قضى على العداوة بصليبه، وبشَّر بالسلام الذين كانوا بعيدين فصاروا قريبين. كنّا غرباء فصالحنا الربّ، بل أعطانا أن ندعوه »أبّا« أيُّها الآب.

2- تفسير النصَّ الكتابيّ

نكتشف في هذا المقطع ثلاث أفكار:

- الفكرة الأولى: محبَّة الله

محبَّة الله هي أساس عمل الرسول: محبَّة الله لنا، ومحبَّتنا لله المبنيَّة على التفكير بما فعله يسوع لأجلنا. فهم القدّيس بولس عظمة محبَّة المسيح الذي مات عن جميع البشر، فلم يقدر على معارضة نداء المحبَّة. حينئذٍ كرَّس حياته للمسيح، فصار أسيرًا له، فسلَّم إليه طوعًا حياته وقلبه وحرِّيَّته على مثال يسوع الذي مات من أجلنا جميعًا.

- الفكرة الثانية: المصالحة

كرَّس القدّيس بولس نفسه لعمل المصالحة: »نسألكم باسم المسيح أن تصالحوا الله«. والمصالحة هي عمل الفداء الذي تمَّ على الصليب. قال بولس الرسول: »تمَّ الصلح بيننا وبين الله بموت ابنه ونحن أعداء، فما أحرانا أن ننجو بحياته ونحن مصالحون! وعدا ذلك، إنّا نفخر بالله، والفضل لربِّنا يسوع المسيح الذي به نلنا المصالحة« (روم 5: 10-11). وحدَّث أهل كولوسّي (1: 22) فقال لهم: »إنَّ الله صالحكم في جسد (يسوع المسيح) البشريّ إذ سلَّمه إلى الموت. وهكذا قضى الله على العداوة بصليبه«.

والمصالحة تبرز عمل الله في قلب الإنسان. الله يصالح العالم مع نفسه فيدفعهم إلى المجيء إليه والتصالح معه. كان اليهود يقدِّمون الذبائح وهم ينتظرون أن يعود الله إليهم، ولكنَّ القدّيس بولس يدعو الإنسان إلى التوبة والرجوع إلى الربِّ كما قال النبيّ: عودوا إليَّ فأعود إليكم.

والمصالحة تمَّت، وبدَّل الربُّ وضع البشريَّة بالنسبة إليه فصارت خليقة جديدة. أجل، تجدَّدت العلاقات بين الله والناس بعد أن قطعت بفعل الخطيئة.

- الفكرة الثالثة: ذبيحة المسيح

هذه المصالحة هي ثمرة موت يسوع الذي ذُبح عنّا. ذاك الذي لم يعرف الخطيئة صار ذبيحة عن الخطيئة من أجلنا لنصير به أبرارًا عند الله، صالحين ومقدَّسين. فيسوع هو حمل الفصح، وعبد الله المتألِّم الذي أسلم إلى الموت من جرّاء زلاّتنا وأقيم من أجل برِّنا (روم 4: 25). وقال لنا عندما قدَّم الكأس ليلة العشاء السرّيّ: »اشربوا منها كلُّكم، هذا هو دمي، دم العهد، الذي يسفك من أجل جماعة كثيرة لغفران الخطايا« (مت 26: 28).

ويشبَّه موت يسوع بذبيحة عن الخطيئة بمعنى أنَّ دم الذبيحة يحمل في ذاته قوَّة تكفيريَّة. ويسوع الذي قدَّم جسده مرَّة واحدة وافتدانا بدم كريم لا عيب فيه ولا دنس، أراد أن تكون ذبيحة جسده آخر ذبيحة، فقال عند دخوله العالم: لم تشأ (أيُّها الآب) ذبيحة ولا قربانًا، ولكنَّك أعددت لي جسدًا فقلت حينئذٍ: هاءنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك (عب 10: 5-7).

في سرِّ القربان المقدَّس، الذي يعيد حضور ذبيحة الصليب، يتمُّ كلَّ يوم عمل الفداء، وفي المناولة نشارك في سرِّ المصالحة، فنصبح قريبين من الله بعد أن كنّا عنه بعيدين، ويهدم جدار العداوة الفاصل بين الله والبشر.

3- الخلاصة العمليَّة

العلامة التي تدلُّ على أنَّنا نحبُّ الله هي أن نحبَّ القريب. قال القدّيس يوحنّا في رسالته الأولى (4: 20): »إذا قال أحد إنّي أحبُّ الله وهو لا يحبُّ أخاه كان كاذبًا، لأنَّ الذي لا يحبُّ أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحبَّ الله وهو لا يراه«.

ونحن، إذا كنّا على خصام بعضنا مع بعض، لا نكون مصالحين مع الله. وإذا كان في جماعتنا (الرعيَّة، الأخويَّة، الطلائع...) خلاف وانقسام، فهذا يعني أنَّنا لم نفهم شيئًا ممّا عمله يسوع من أجلنا. كيف لا تأخذ المحبَّة بمجامع قلبنا عندما نفكِّر أنَّ يسوع مات من أجل جميع الناس.

الله صالحنا مع نفسه، حرَّك قلوبنا لنعود إليه بتوبة صادقة وقصد صالح أن نغيِّر حياتنا. فهل نحسب أنَّنا إذا صلّينا أو قدَّمنا صدقة أو نذرنا نذرًا وتوقَّفنا عند هذا الحدّ، سيتبدَّل الله ويعود إلينا ويبعد غضبه عنّا؟ كلاّ. فالإنجيل يقول لنا: إن لم تتوبوا فسوف تهلكون جميعكم. نعود إلى الربّ فيعود إلينا ولا نكتفي بأن نقول: يا ربّ، يا ربّ، بل نفعل إرادة الربّ. فإذا صلَّينا ولم ترافق أعمالنا الصالحة صلاتنا، كنّا مثل الفرّيسيّين الذين يقولون ولا يفعلون. أمّا تكريس توبتنا ورجوعنا إلى الله فيظهر في قبولنا لسرِّ التوبة.

قال الأساقفة في سينودس المصالحة: بقدر ما يقرُّ المسيحيّون لله بعطيَّة المصالحة التي قبلوها، يصبحون شهودًا حقيقيّين لهذه المصالحة في حياتهم اليوميَّة. والمصالحة مع الله تبرز بشكل مصالحة مع الإخوة داخل الجماعة المسيحيَّة أو في المجتمع البشريّ. هذه المصالحة هي في الوقت ذاته عطيَّة من الله، ومسؤوليَّة المسيحيّين العائشين في العالم.

فالخلافات والخصومات، ونحن نساعد على إشعال بعضها على مستوى جماعتنا الصغيرة، تتحدّانا نحن الذين قبلنا عطيَّة المصالحة، نحن الذين تخلَّصنا من الخطيئة بنعمة الله، نحن الذين مات المسيح من أجلنا كيلا نحيا من بعد لأنفسنا، بل للمسيح الذي مات وقام من أجلنا.

نحن سفراء المسيح، والسفير هو الرسول المصلح بين الناس. السفير يسافر فيقطع المسافة التي تفصل بين الخصمين، ويتحمَّل الصعوبات من أجل السلام: طوبى للساعين إلى السلام. طوبى للمصلحين بين الناس. كما قدَّم يسوع ذاته من أجل مصالحتنا مع الله الآب، نقدِّم ذواتنا شاركين صعوباتنا في قتدمته تاركين أنانيَّتنا وكبرياءنا، عاملين من أجل المحبَّة والمصالحة في جماعتنا وفي الرعيَّة التي نحن من أبنائها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM