سفر الخروج، مسيرة شعب برفقة الله.

سفر الخروج،

مسيرة شعب برفقة الله

سفر الخروج أو كتاب الخروج هو الثاني بين أسفار الكتاب المقدَّس. هو امتداد لسفر التكوين الذي يروي خلق العالم والإنسان وتكوين شعب إبراهيم، شعب الإيمان. أمّا مضمونه فبسيط جدٌّا: قبيلتان أو ثلاث قبائل من العبيد خرجت من مصر فوصلت إلى صحراء سيناء. وهناك عرفت الحرّيّة ولاسيّما حين تلقّت وصايا من الله على الجبل المقدَّس: أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض العبوديّة، لا يكن لك إله غيري. غير أنَّ هذا الخبر الذي تأمَّلت فيه الجماعة بقيادة موسى وسائر الأنبياء. اتَّخذ معنى روحيٌّا عميقًا فصار في أساس تاريخ الشعب العبرانيّ. فكما أنَّ الصليب هو نقطة خلاص بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين، كذلك كان الخروج من مصر أو العبور أو الصعود إلى أرض مقدَّسة رأى فيها المؤمنون هديّة من قِبل الله. ونحن سنتوقَّف في هذا التأمُّل عند ثلاث نقاط: اهتمام الله، خلاص الله، عناية الله.

1- اهتمام الله

أوّل ما فهم الشعب من خبرة الخروج، اهتمام الله بالشعوب المعذَّبين. فالله لا يعيش في أعلى سمائه وكأنَّ مصير البشر لا يعنيه. بل هو قريب من الناس. يعيش معهم وإن كانوا لا يرونه. هذا ما يفهمنا الكتاب حين يقول: صرخ المؤمنون وصعد صراخهم إلى الله من عبوديّتهم، من قلب شقائهم. ويتابع: سمع الله أنينهم، وفهم آلامهم، وهو سيتدخّل. ويقول أيضًا: نظر الله إلى أبنائه، عرفهم. أي صار قريبًا منهم كالزوج من امرأته، وبالتالي عزم على تدبير أمورهم.

هذا الإله الذي يسمعنا إن نحن صرخنا إليه، وينظر إلى شقائنا إن رفعنا أيدينا، بعيد كلّ البعد عن الآلهة الأصنام، التي لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها يد ولا تفعل. هذا الإله اكتشفه الشعب في ما بعد، لا في قلب الشدّة وحسب، بل في الخلاص. فحين نعيش الألم والعذاب ننغلق بعض الشيء على ذواتنا. ولكن حين نخرج من الضيق، نفهم أنّ الله هو الذي أمسك بيدنا وأعادنا إلى الخلاص والحرّيّة والحياة معه وبعضنا مع بعض.

غير أنَّ الإنسان لا يقدر أن يختبر مثل هذا الاختبار إن لم يتحرَّك. فالشعب يعيش في العبوديّة وهو راض بعبوديّته. وحين أراد موسى أن يخرجهم وضايقهم الملك، قالوا لقائدهم: افسدتَ سمعتنا. فالملك سوف يقتلنا. سيطر الخوف على هؤلاء الناس، فما عادوا يرون سوى طعام يأكلونه، ونوم ينامونه دون أن يرفعوا رؤوسهم إلى فوق، إلى ذاك الذي خلقهم على صورته ومثاله.

أمّا موسى ففهم مخطّط الله: أخرجكم الله من مصر حيث تعانون الذلّ. هذا ما أعدكم به. ومن يؤمن بمثل هذا الوعد في قلب الضيق والعذاب؟ ويعطي لنا الكتاب خبر امرأتين قابلتين، تساعدان كلَّ امرأة على الولادة. هدَّدهما الملك، فما خافتا منه لأنَّهما كانتا تخافان الله. خوف الله ينجّينا، يقوّينا. أمّا الخوف البشريّ فيجعلنا عبيدًا لمن نخافه. هذه الخبرة التي عاشها شعب من الشعوب في الكتاب المقدَّس، حاول أن يعيشها الفقراء في البرازيل مستلهمين سفر الخروج: رفضوا واقعًا يقيمون فيه، وتطلَّعوا إلى خلاص يهيِّئه الله لهم. فالله إله الخلاص.

2- خلاص الله

اسم موسى الذي اقتاد هذه القبائل إلى البريّة هو ذاك الذي أُنقذ من الماء وخُلِّص من الموت. وبيد من؟ بيد بنت الملك الذي أراد له الموت. لهذا كان موسى باكورة المخلَّصين من العبوديّة والسائرين في خطّ عبادة الله. وكيف فهم المؤمنون هذا الخلاص؟ من خلال عبور»البحر الأحمر«، »بحر القصب«.

هناك خبرة أولى عاشها الشعب: هرب من الحدود عبر مستنقعات صارت اليوم موضع قنات السويس. لاحقتهم شرطة الحدود فما أدركتهم. ولمّا صاروا في البرّيّة، فهموا هذا الخلاص. رأوا فيه بداية خلاص سيتواصل في حياة المؤمنين لئلاّ يبقى خلاصًا مادّيٌّا نخرج فيه من عبوديّة ملك لنقع في عبوديّة ملك آخر، كما يحدث اليوم في بلدان العالم الثالث. هذا الخلاص هو خلاص روحيّ. عبد العبرانيّون الأصنام في مصر، فهل يتعلَّقون بما هو عدم؟ أي مستقبل لمثل هذه الحياة؟ فكلّ شعب يحمل رسالة. وكلُّ مؤمن صاحب مشروع مهما كان مستواه العلميّ والثقافيّ والدينيّ. والله لا يرضى بمثل هذا الوضع.

توسَّع المؤمنون في هذه الخبرة الأولى، فرأوا الشرّ حاضرًا في البحر الذي لا يمكنه إلاّ أن يحمل الموت إلى الناس. لهذا، لم يعد العبورُ مرورًا في مستنقعات يعرفون طرقها، بل في قلب بحر شُطر شطرين فأتاح لهم أن يعبروا. وهذا تمَّ بقدرة الله. ثمَّ بعصا موسى التي هي عصا الله. بيد موسى التي هي امتداد ليد الله من أجل شعبه. وفهم المؤمنون أنَّهم إن لم يفعلوا، لن يدركوا عمل الله. فعل موسى، فتحدّى البحر وتبعه شعبه. فلو خاف موسى ورفض مجابهة الصعاب، لما نال هو وشعبه الخلاص. ولكنَّ أصعب شيء هو المسيرة في الصحراء، في المجهول. هل يرضى المؤمنون أن يتابعوا المسيرة رغم ما فيها؟ تذكَّروا مصر، مع البصل والثوم والبطّيخ والسمك واللحم. فأرادوا العودة إلى العبوديّة. تلك هي مسيرة الإنسان الذي يتوقَّف عند هذا المستوى من الحياة، ولا يعرف المغامرة التي يهيِّئها الله له، فيبحث عن السهولة والكسل والرخاء الذي لا يدوم طويلاً. وأفهمه أنَّ الله الذي خلَّصه، سوف يخلِّصه أيضًا، ولكن بشكل آخر. سوف يهتمّ به كما تهتمُّ الدجاجة بصغارها، بل يرفعه كما يرفع النسر صغاره.

3- عناية الله

بعد عبور »البحر« ومخاطره، وخلاص من »جيش« فرعون الذي يريد أن يستغلّ هؤلاء الهاربين من عمل السخرة، سيختبر المؤمنون عناية الله واهتمامه. وهكذا يتَّخذ الخلاص وجهًا آخر. جاعوا فخلَّصهم من الجوع، فأعطاهم المنّ. عطشوا، فخلَّصهم من العطش، وقدَّم لهم الماء. هاجمهم العدوّ، فخلَّصهم الربّ حين رفعوا أيديهم للصلاة مع موسى. في الواقع، المنّ هو صمغ نجده على جذع بعض الأشجار. وهو في أيِّ حال لا يطعم الألوف. ولكنَّ الشعب انطلق من هذه القضيّة البسيطة فجعلها رمزًا إلى عطايا الله من أجل حياتنا المادّيّة. من هنا نفهم معنى الفعل العربيّ: منَّ الله علينا بمواهبه وقدَّم الكاتب الملهم درسًا إلى المؤمنين يجمعون كلَّ يوم طعام يومه. لا يكدِّسون بحيث لا يتركون لإخوتهم ما يأكلون. فهذا المنّ يفسد عند المساء أن نحن لم نأكله. هنا نتذكَّر ما قاله يعقوب في رسالته، متوجِّهًا إلى الأغنياء: »أموالكم فسدت، وثيابكم أكلها العثّ، ذهبُكم وفضّتكم يعلوهما الصدأ«. وفهم المؤمنون أنَّهم لا يعملون يوم الربّ الذي هو مقدَّس ومكرَّس للصلاة والعبادة وحياة المحبّة، داخل العيلة وبين الأصدقاء. أمّا كيف نعيش من دون أن نعمل؟ جمع الشعب المنّ وأبقى منه إلى يوم الربّ، فلم يفسد. إذا كان الله يعنتني بنا، فيجب أن نثق بعنايته. فهو يعطينا خبزنا كفاف يومنا، كما نقول في صلاتنا. هذا لا يعني أنّنا نكتِّف أيدينا. فالناس كانوا يقومون باكرًا ليجمعوا »المنّ«. وسوف يقول بولس الرسول: »من لا يشتغل لا يحقّ له أن يأكل«. ولكنَّ الاهتمام بالطعام والشراب لا يعني الهمّ والتعب والقلق. فقد قال لنا المزمور: »ألقوا همَّكم على الربّ وهو يفعل«.

وصوَّر الكتاب اهتمام الله بشعبه عبر صور حلوة. في النهار وحرّ الشمس، أرسل الربّ سحابة ظلَّلتهم. في الليل وقساوة الظلام، جعل لهم نورًا يسير أمامهم. هذه الصور مهمّة لأنّها تفهمنا عناية الله. فقد قال: لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي. لا تؤذيك الشمس في النهار، ولا القمر في الليل. الربّ يقود خطاك فلا تتزعزع. وعلامة الاهتمام وجود ملاك يدلّ على حضور الله مع الناس السائرين في هذه الصحراء. وهم يتطلَّعون إلى الأرض المقدّسة. منذ البداية، في مصر، نظر الله إلى شعبه، سمع صراخه، نظر عناءه. وفي النهاية، في هذه الصحراء القاحلة التي لا سند بشريّ فيها، ولا غنى على مستوى الماء والطعام والراحة، الله هو هنا. وهو يطلب منّا أن نجعل ثقتنا به مهما كانت الظروف.

خاتمة

حين نقرأ سفر الخروج، نستطيع أن نتوقَّف عند الصور المضخَّمة التي رأيناها مثلاً في فيلم »الوصايا العشر« حيث انشقَّ البحر. ماذا فعل المصوِّر الأميركيّ؟ أعمل الكهرباء في حوض للسباحة. وصفَّق الناس. ومن المهمّ ليس هذه المعجزة أو تلك. بل الخلاص الذي يحمله الله إلى كلِّ واحد منّا، إلى كلِّ بلد في العالم حاول أن يتحرَّر من سلطة خارجيّة تكبِّله أو تستغلّ مقدِّراته. فخبرة الخروج يمكن أن تكون لنا مثالاً، أيٌّا كان الشعب الذي عاش مثل هذه الخبرة.

والناس الذين خُلّصوا، قال عنهم سفر الخروج إنَّهم كانوا ستّمئة ألف رجل مدجَّج بالسلاح. مثل هذا الأمر لا يُعقل وجيش فرعون الذي كان أقوى جيش في ذلك الزمان عُدَّ عشرين ألف مقاتل، كما تقول النصوص المصريّة، فوصل إلى الفرات وكاد يتعدّاه. إذن، لماذا أورد الكتاب هذا الرقم؟ هذا الرقم يدلّ على جميع جيوش العالم، يوم كُتب سفر الخروج. عليهم كلِّهم أن يسيروا مسيرة الله ولا يخافوا حتّى البحر. ففي النهاية، ساعة تجتمع الشعوب، لا نعود نحتاج إلى سلاح، ولا نعود نتعلَّم أساليب الحرب. فالأرض كلُّها ستمتلئ من معرفة الربّ: بحيث يقيم الذئب مع الخروف والدبّ مع العجل والطفل بجانب وكر الحيّة. والربّ يحوِّل السيوف سككًا والرماح مناجل، بحيث لا ترفع أمَّة على أمَّة سيفًا، فيقيم كلُّ واحد مطمئنًا، تحت كرمته وتحت تينته، فلا يرعبه أحد.

ذاك هو سفر الخروج. ما شئنا أن نقرأه كخبر دقيق عمّا حدث في يوم من الأيّام لشعب من الشعوب. فالخبر يرد في عبارة: عدد من العبيد هربوا إلى الصحراء وتعلَّموا العيش تحت نظر الربّ وبقيادة إنسان نال موهبة خاصّة من عند الله. ولكن شدَّدنا على المعنى العام. الله يهتمّ بالناس والشعوب. فهل يهتمّون بنفوسم، ويتحرَّرون من حاجات تذلُّهم ولا تنمّيهم؛ الله يحمل الخلاص، فهل نقبل بهذا الخلاص الذي يدوم أو نبحث عن خلاص قصير النظر، فنتساءل كما تساءل العبرانيّون مشكِّكين: هل الله معنا أم لا؟ بكلّ تأكيد الله معنا. ولكنَّه لا يخلِّصنا بدوننا. والله الذي خلقنا يعتني بنا، وهو لا يتركنا حتّى لو تركَنا أهلُنا وأقرباؤنا. وإن شئنا أن نقرأ هذا السفر الغنيّ، نصطحب كتاب شرح، ونحاول أن نتأمَّل في كلِّ مقطع من مقاطعه فنكتشف العبرة الدينيّة، لا الخبر الشيِّق. فالتجربة حاضرة لدى قراءتنا الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد. بأن نتوقَّف عند القشور، فنردِّد الكلمات، ونحفظ الخبر، ولكنّنا لا ننتزح إلى العمق لنكتشف خبرة ماضية يمكن أن تكون خبرتنا من أجل حياة نكتشف فيها اهتمام الله بنا وخلاصه وعنايته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM