موسى النبيّ الذي كلّم الله وجهًا إلى وجه.

 

موسى النبيّ

الذي كلّم الله وجهًا

إلى وجه

تذمَّر هارون وأخته مريم بسبب موسى والسلطة التي عنده. وقالا: »أموسى وحده كلَّمه الربّ«؟ فجاء كلام الربّ: »لو كان فيكم نبيٌّ لي أنا الربّ لظهرتُ له بالرؤيا وخاطبته في حلم. أمّا عبدي موسى... فمًا إلى فم أخاطبه« (عد 12: 8). من أجل هذا، سُمِّي موسى كليم الله، لأنَّه كلَّم الله والله كلَّمه. كيف بدا هذا الشخص الذي سيقول فيه الكتاب فيما بعد: لم يقم نبيٌّ مثل موسى؟ نتوقَّف هنا عند ثلاث محطّات: خبرته الأولى عند العلّيقة الملتهبة. مسيرته في البرِّيَّة مع الشعب ولقاؤه الأخير على الجبل يوم طلب أن يرى وجه الله.

1- إخلع نعليك من رجليك

كان موسى يرعى الغنم في البرّيَّة. والمكان موضع الصمت وفيه نستطيع أن نسمع الربَّ يكلِّمنا، إذا رافق الصمتُ الداخليُّ الصمتَ الخارجيّ. ووقعت صاعقة على علَّيقة من العلَّيقات. هو منظر عاديّ للإنسان العاديّ. أمّا المؤمن الذي هو موسى فرأى أكثر من ذلك، أحسَّ برهبة أمام حضور الله في عناصر الطبيعة. وسمع صوتًا داخليٌّا: إخلع نعليك من رجليك. فالمكان الذي أنت قائم فيه مقدَّس. لقد تكرَّس بحضور الله. وسترَ موسى وجهه خوفًا من أن يرى الله. فهو الخاطئ والله هو الكلّيّ القداسة.

رأى موسى النار، والنار ترمز إلى حضور الله الذي هو نار آكلة. وسمع صوتًا يكلِّمه. فالنبيّ هو شخص يكلِّمه الله، فيكون دوره أن يحمل هذه الكلمة. تلك هي طريقة الله في الوحي. لا يكلِّم الجماهير الغفيرة المحتشدة على باب قصره، بل يكلِّم شخصًا من الأشخاص ويحمِّله رسالة أو يطلب منه أن يقوم بعمل من الأعمال. ولكن بدون هذه الخبرة الأولى، لا يمكن أن يكون المتكلِّم صادقًا. لهذا، ندَّد إرميا وحزقيال بالأنبياء الكذبة الذين قالوا »الربُّ كلَّمنا«، والربُّ ما كلَّمهم.

الربُّ تكلَّم والنبيّ يسمع، الربُّ يتَّخذ المبادرة حين يرى ظلمًا يصيب الإنسان: »نظرتُ إلى معاناة شعبي، وسمعتُ صراخهم« (خر 3: 7). وطلب الربُّ من موسى أن يمضي ليكلِّم الشعب. فتذرَّع النبيّ: لست أحسن الكلام. فأجابه الربّ: من خلق للإنسان فمًا؟ أنا أعينك على الكلام وأعلِّمك ما تقول (خر 4: 10-12).

أجل، النبيّ هو قبل كلِّ شيء ذاك الذي كلَّمه الربّ فحمل كلمته إلى الآخرين، مهما كلَّفه هذا العمل. هنا نتذكَّر أنَّ الله يتكلَّم، لا في موسى أو إيليّا فقط، بل في كلِّ واحد منَّا، إن هو أراد أن يسمع. والنبيّ ليس الذي يقول الغيب أوَّلاً، فهو من يصغي إلى الله ويرى الأمور بعين الله. هكذا كان موسى بعد تلك الخبرة الأولى التي رآها أمام العلَّيقة الملتهبة.

2- مسيرة موسى مع شعبه

كلَّم الربُّ موسى، فكان على موسى أن يمضي ويكلِّم الشعب. وفي الواقع، حمل موسى إلى الشعب لوحَي الوصايا، بما فيهما من واجبات تجاه الله وتجاه القريب. كما حمل التنظيمات العديدة على مستوى الحياة اليوميّة والاجتماعيّة والعائليّة. واعتاد الناسُ على صوته. وسوف يقولون له في يوم من الأيّام بعد أن أحسُّوا بالرعب من البروق والرعود: »كلِّمنا أنت فنسمع ولا يكلِّمنا الله لئلاّ نموت« (خر 20: 19). فأفهمهم موسى أنَّ كلَّ هذا كان لكي تكون مخافة الله في القلوب. فالله القدير يفعل في الكون. وهو يفعل في النفوس أيضًا. وأمّا كلمة النبيّ فتهيِّئ القلوب لسماع كلام الله. فالنبيّ لا يحلُّ محلَّ الله. بل يقول كلمته ويترك الربَّ يدخل في حياة كلِّ إنسان. فإن حاول حاملُ الكلمة أن يسيطر ويفرض كلمته، لن يعود وسيلة تساعد الإنسان على سماع صوت الله، بل يصبح حاجزًا بين الله والإنسان. وعند ذلك، الويل له. من أجل هذا، لم يصعد موسى وحده إلى الجبل، بل أخذ معه شيوخ الله وأعلن في يوم من الأيّام: »يا ليت جميع شعب الله أنبياء يُحلُّ الربُّ روحَه عليهم« (عد 11: 29).

كلَّم الربُّ موسى، ورافقته هذه الكلمات في تحرُّكاته على رأس شعبه. في الصعوبات والسهولات، في الفرح والحزن. فالله هو من يطلب الحوار مع الإنسان لكي يوجِّه له حياته. هذا يعني أنَّ موسى اعتاد أن يدخل في الخيمة المقدَّسة، إلى خيمة »يجتمع« فيها بالربِّ لكي يأخذ منه تعليمات من أجل حياته. هنا نتذكَّر كلام يسوع: أدخل مخدعك وأغلق بابك عليك وصلِّ إلى أبيك سرٌّا. كلِّمه وهو يكلِّمك. أو بالأحرى، إفتح له قلبك، واسمع، وهو يكلِّمك. كما نتذكَّر يسوع نفسه الذي كان يقضي ليلته في حوار مع الله أبيه. وهو ما كان فقط يحمل الكلمة، بل هو الكلمة التي حملها إلينا الرسل وتحملها الكنيسة إلى نهاية العالم.

3- اللقاء الأخير

وعرف موسى خبرة قاسية مع شعبه وهو الذي سمع الربَّ أكثر من مرَّة يقول له: كلِّم شعبك. وما اكتفى بكلام يُقال، بل كتب له على لوحَين جوهر ما يطلب الله من شعبه ولاسيِّما الوصيَّة الأولى: أنا هو الربُّ إلهك، لا يكن لك إله غيري (خر 20: 2-3). كان موسى يصلّي في الجبل، والشعب يعبد العجل الذي في السهل. كليم الله في حوار مع الله، والمؤمنون يعبدون الأصنام التي تمشي أمامهم، أو بالأحرى يحملونها على أكتافهم. فما نفع سائر الوصايا، إن كانت الوصيَّة الأولى محتقرة، وإن جُعل الربُّ بشكل صنم من الخشب أو الحجر ولو طليناه بالفضَّة والذهب.

مثل هذه الخطيئة تستحقُّ الموت، مثل هذه الخيانة تجعل الله »لا يثق« بشعبه. ولكنَّ موسى دافع عن الشعب. فالنبيّ يقف أمام الثغرة في السور لكي يحمي الناس من الشرّ. يكون كالراعي المستعدِّ لأن يضحِّي بحياته من أجل رعيَّته. فقال عندئذٍ للربّ: »أو تغفر للشعب خطيئته أو تمحوني من كتابك« (خر 32: 32). أي تأخذ منّي حياتي. فأنا أفضِّل أن أموت ولا يموت شعبي. فغفر الله ودلَّ على حضوره حين أرسل ملاكه إلى شعبه.

وانتهت مهمَّة موسى. فطلب أن يرى مجد الله. هو في العلّيقة رأى الله من خلال النار، أمَّا هنا فيريد أكثر. فتكلَّم مع الربِّ وجهًا لوجه، وسمع صوته كما يسمع الإنسان صوت صديقه، والآن يريد أن يرى مجده. وعاد في كلامه إلى حنان الربِّ الذي يشبه حنان الأمِّ لولدها، وإلى رحمة هي الصفة الأولى في إله هو أب وأمٌّ معًا.

رأى موسى جلالة الله وعظمته من خلال ما فعل بيده. وعرَّفه الله باسمه بعد أن رضي عنه، وكشف له عن قلبه المحبّ. ولكنَّ وجه الربِّ لا يُرى قبل ساعة الموت. لاشكَّ في أنَّ المرتِّل يهتف: وجهك، يا ربّ ألتمس. وقد تمنّى بولس الرسول أن ينحلَّ ويكون مع المسيح. ولكنَّ الربَّ هو الذي يقرِّر ساعة هذا اللقاء. قد يطول بنا المرض. ولكنَّنا ننتظر. ويا ليتنا في هذا الانتظار نتابع الحوار مع الله. وقد تصل بنا الشيخوخة إلى السنين العديدة فنعلن »سأمنا« من الحياة. فيا ليتنا نبقى الأذن الصاغية التي تسمع صوت الله وإن غابت عنها أصوات البشر. وبولس الرسول الذي تألَّم من الصعوبات، سمع الربَّ يقول له: تكفيك نعمتي. وموسى لن يرى وجه الله الآن، بل ظهره (خر 33: 23).

في النهاية، سيسمع موسى صوت الربّ: قرُبَ يوم وفاتك (تث 31: 14). هذا الذي اعتاد أن يسمع الله يكلِّمه، سمعه للمرَّة الأخيرة وسلَّم المشعل إلى من يأتي بعده. ويقول النصُّ إنَّ الربَّ نفسه قام بدفنه ليدلَّ على الكرامة العظيمة التي ينعم بها مَن كان نبيَّ الله، من كلَّمه الله فسمع كلامه، من حمَّله كلمته فحملها، فلم يعد اسمه فقط موسى، ذاك الناجي من المياه من أجل نجاة شعبه، بل كليم الله، لأنَّ حياته كلَّها ارتبطت بهذه الكلمة التي هي مصباح خطانا وسراج طرقنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM