إبراهيم النبيّ الذي دخل في سرِّ الله.

إبراهيم النبيّ

الذي دخل في سرِّ الله

حين كان إبراهيم في مدينة جرار، أخذ منه ملكها امرأته سارة. أما هكذا فعل داود حين أخذ من أوريّا الحثّيّ امرأته بتشابع؟ فإبراهيم أضعف من أن يدافع عن نفسه في من هو »ملك فلشتيم« (تك 20: 8-11). فجاء إلى هذا الملك صوت يقول له: »ردَّ امرأة الرجل، فهو نبيّ يصلِّي لأجلك« (تك 20: 7). فمن هو النبيّ؟ وكيف بدا إبراهيم نبيٌّا؟

1- النبيّ رجل دخل في سرِّ الله

نبدأ فنقول إنَّ النبيَّ ليس ذاك الذي ينبئ بالمستقبل. فإن كان كذلك، فهو لا يفترق في شيء عن العرّاف والبصّارة! ففعل »نبأ« قريب من »نبع« أي خرج من السرِّ إلى العلن. هكذا تخرج المياه من تحت الأرض فيستفيد منها البشر. والنبيّ هو الذي يدخل في سرِّ الله، ويكشفه للبشر.

ذاك كان وضع إبراهيم الذي رأى الدمار يهدِّد مدينة سدوم وما حولها من مدن. أمّا ابن أخيه لوط، فظلَّ على المستوى الخارجيّ. ولمّا طلب منه عمُّه أن يختار من الأرض ما يشاء، اختار وادي الأردنَّ الريّان، الذي بدا كجنَّة الربّ (تك 13: 10-11). ولكنَّه نسي أنَّ هذه الأرض هي أرض الخطيئة، وأنَّ أهلها أشرار أمام الربّ.

وكان خطر أوَّل وقع فيه لوط، ابن أخي إبراهيم، حين جاء الملوك الأربعة، فأخذوه مع ثروته (تك 14: 12) فخلَّصه عمُّه. وخطر ثانٍ ساعة كانت المدن الخمسة مهدَّدة ببركان من النار والكبريت (تك 19: 24). لاشكَّ في أنَّ صلاة إبراهيم هي التي أرسلت ملاكًا فأخرج لوطًا من هذه المدينة قبل أن تدمَّر. يقول سفر التكوين: »فلمّا طلع الفجر كان الملاكان يستعجلان لوطًا قائلين: »قمْ خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين هنا، لئلاّ تهلكوا مع المدينة عقابًا لها« (19: 15). أمّا لوط فأخذ يتباطأ وكأنَّه لا يريد أن يترك مدينة غنيَّة عرف فيها حياة الغنى والترف.

كم هو بعيد عن إبراهيم الذي عاش في مدن غنيَّة مثل أور في جنوب العراق الحاليّ، أو في حرّان، في الشمال. سمع صوت الربّ، »أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك« (تك 12: 11). انسلخ إبراهيم انسلاخًا عن أرض يعرفها، وأُرسل إلى أرض لا يعرفها، وسوف يريه الله إيّاها. سار في المجهول، لا يسنده سوى الإيمان بالله، »آمن إبراهيم بالربّ، فبرَّره الربُّ لإيمانه« (تك 15: 6). وترك إبراهيم عشيرته وبيت أبيه، فصار غريبًا في أرض غريبة في أرض كنعان (تك 17: 8). قبل بهذه الغربة، بعد أن نال بركة الله (تك 12: 2) وعرف أنَّ الله معه. وهكذا يقول الكتاب: »فرحل إبراهيم كما قال له الربّ« (تك 12: 4). لم يطرح أسئلة كما يسأل البشر. إن تركتُ هذه البلاد، ما هي ربحي، وما هي خسارتي؟ يكفيه أنَّه ربح الربّ، فصار بركة لجميع الشعوب. ويُسمّى خليل الله (أش 41: 8).

2- النبيّ رجل يتشفَّع في شعبه

بدأ إبراهيم وترك أرض الآباء. وتقول التقاليد إنَّه كان يعبد الأصنام، شأن شأن والده وكلِّ قبيلته. فحمله نداء الربِّ خارج هذا المحيط الوثنيّ. فيقول عند سفر يشوع: »عبر نهر الفرات، سكن الآباء منذ القديم، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى« (24: 2). فأخذ الربُّ إبراهيم وسيَّره في أرض كنعان. ما عاد إبراهيم يرتبط بالإله القمر، سين، ولا بسائر الآلهة، بل ارتبط بإله دعاه، فبنى له المذابح حيث تراءى له (تك 12: 7)، في شكيم في بيت إيل.

وكان له لقاء فريد مع الربّ، في ممرا، قرب حبرون. تراءى الربُّ بشكل ملك يرافقه حارسان. هي رؤية روحيّة رآها إبراهيم وهو يجلس عند الظهيرة بباب الخيمة التي تظلِّلُها سنديانة كبيرة. فصوَّر الكتاب هذه الرؤية بشكل زيارة يقوم بها صديق لصديقه. ويستقبل إبراهيم هذا الضيف الرفيع بأحسن ما يكون من الاستقبال: يغسل له قدميه، يذبح له عجلاً، ويقدِّم له أفخر ما عنده. ويبقى واقفًا أمامه، كالعبد أمام سيِّده. فالزيارة لا تتوقَّف عند زيارة، بل تشارك الضيفُ العظيم مع إبراهيم، فاتَّكأ إلى مائدته. وكان كلام حميم بين إبراهيم »والربّ« الذي وعده بابن تعطيه له سارة، كما أخبره عن المصير الذي ينتظر سدوم وعمورة وسائر مدنِ وادي الأردنّ. نشير هنا إلى أنَّ هذه المدن التي دمَّرها الزلزال صارت عبرة للشعب العبرانيّ الذي رأى في ما حصل عبرة للمؤمنين الذين يستسلمون للزنى وللفجور.

عرف إبراهيم، بالشرِّ الذي يهيَّأ لهذه المدن، فأخذ يتوسَّل إلى الربّ. تشبَّه بنوح الذي كان بارٌّا في جيله (تك 6: 9)، فدعا الناس إلى التوبة، كما تقول التقاليد اللاحقة. وتشبَّه بموسى الذي رأى الشرَّ يهدِّد شعبه، فرفض التخلّي عنهم، بل تضامن معهم، واستعدَّ لأن يموت مع شعبه إن كان الله لا يعفو عنهم. وهذا ما فعله إبراهيم بالنظر إلى المدن الخاطئة. أخذ يساوم الله.

هنا نقرأ هذا الحوار الرائع بين الله وإبراهيم. وفي كلِّ مرَّة يقدِّم »ذاك النبيّ الذي يتشفَّع« من أجل شعبه، برهانًا جديدًا، كي يعفو الله عن هذه المدن. البرهان الأوَّل: أتُهلك البارَّ مع الشرّير؟ (تك 18: 23) إن كنت، يا ربّ، تفعل كذلك، فأين هي عدالتك؟ في البرهان الثاني، يتذكَّر إبراهيم ضعفه »أنا تراب ورماد« (18: 27). ومع ذلك هو يطلب. في مرحلة ثالثة، اعتبر إبراهيم أنَّه أكثرَ الكلام (18: 31). وهكذا صلّى إبراهيم وما ملَّ. وما يئس من رحمة الربّ. ولكن حدث هنا، كما يحدث في الكتاب المقدَّس: تبقى بقيَّة ستكون بداية جديدة. فهذا ما حصل بعد الطوفان: كانت بقيّة مع نوح وعياله. وهنا كانت بقيَّة مع لوط، بالنظر إلى استحقاقات إبراهيم، كما قالت التقاليد.

أجل، تشفَّع إبراهيم كما سوف يتشفَّع صموئيل. قال له الشعب: »صلِّ لأجل عبيدك إلى الربِّ إلهك لئلاّ نموت« (1صم 12: 19). فأجابهم صموئيل: »لا تخافوا... فأنا لا أترك الصلاة لأجلكم«. وحين رأى عاموس الجراد يأكل عشب الأرض، قال للربّ: »عفوك! كيف يقوم لبني يعقوب قائمة؟ فهم شعب صغير؟ (7: 2). سمع الربُّ صلاة عاموس »وندم« فقال: »هذا لا يكون«. ما نلاحظ في هذا التشفُّع، هو أنَّ النبيّ لا يستند إلى استحقاقات الشعب ولا إلى أعماله الحسنة، بل إلى مجد الله وأمانته لمواعيده. قال موسى للربّ: »إرجع عن شدَّة غضبك... واذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب«. فعاد الربُّ عن الشرِّ الذي قال إنَّه سينزله بشعبه (خر 3: 12-13).

خاتمة

ذاك هو وجه إبراهيم النبيّ. اختاره الله، أدخله في سرِّه، وطلب منه أن يكشف في حياته عن مخطَّط الله في كلِّ واحد منّا. لاشكَّ في أنَّ إبراهيم لم يكن كاملاً، ولاسيّما في علاقته مع ملك جرار، حيث أراد أن ينجو بحياته. لاشكَّ في أنَّه كاد يخسر المواعيد حين مضى إلى مصر، وكاد يفقد سارة، حاملة الوعد، ووالدة إسحق. ومع ذلك، كان له لقاء مع الربّ، كما كان له أن يتشفَّع من أجل المدن الخاطئة. فبدا صورة بعيدة عن يسوع الذي هدَّد المدن التي سمعت أقواله وما تابت. »الويل لك، يا كورزين! الويل لك يا بيت صيدا! فلو كانت المعجزات التي جرت فيكما جرت في صور وصيدا، لتاب أهلهما من زمن بعيد...« (مت 11: 21). وفي أيِّ حال، يسوع جاء يدعو الناس إلى التوبة، جاء من أجل الخطأة. لهذا، فهو لا يجعل الفأس على أصل الشجرة، ولا يريد أن يُحرق »الخاطئ« في النار. ولو استحقَّت التينة أن تقطع، فهو يمهلها أيضًا لعلَّها تثمر (لو 13: 9). فيسوع لا يتشفَّع، وهو الربُّ القدير، بل يرحم ويغفر... هو لا يدخل فقط في سرِّ الله، بل هو والآب واحد، بحيث أنَّ من رآه رأى الآب. يبقى أن نقترب منه، فيخبرنا عن ذاك الذي لا يُرى، الذي نلنا منه نعمة فوق نعمة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM