يسوع يعظ تلاميذه.

 

4- يسوع يعظ تلاميذه

عندما نقرأ الإنجيل يلفت نظرنا بصورة خاصَّة اسمُ يسوع المعلِّم: »يا معلِّم، أتبعك إلى حيث تمضي« (مت 8: 19). »أيُّها المعلِّم الصالح، أيّ صلاح أعمل لأرث الحياة الأبديَّة؟« (19: 16). »يا معلِّم ما هي أعظم وصيَّة في الشريعة؟« (22: 36). علَّم يسوع مرَّة وهو في الثانية عشرة من عمره (لو 2: 6)، ولكنَّه خلال حياته التبشيريَّة التي امتدَّت حوالي ثلاث سنوات كان يعلِّم في النهار وفي الليل، يعلِّم الناس بمناسبة الأعياد، يعلِّمهم كلَّ يوم سائرًا على الطريق، جالسًا على الجبل، ماشيًا بين الزروع، واقفًا قبالة الهيكل، يعلِّمهم في المجامع، في رواق الهيكل وفي البيوت، وكانت الجموع مبهوتة من تعليمه لأنَّه كان يعلِّم مثل من له سلطان، لا مثل معلِّمي الشريعة (7: 29).

يسوع المعلِّم يجمع حوله التلاميذ، يدعوهم إليه ليتبعوه غير عابئ بإمكانيّاتهم العلميَّة وثقافتهم، غير متطلِّع إلى نسبهم وشرفهم، وغير مبالٍ بما يكون من ماضي الإنسان المشرق اللامع. يطلب إليهم أن يتبعوه فيقطعوا كلَّ رباط بالماضي ويجعلون سلوكهم مثل سلوك يسوع وحياتهم مطابقة لتعليمه، وكلامهم امتدادًا لكلامه. يكفيهم فخرًا أن يكونوا تلاميذ يسوع حتّى وإن حملوا صليبهم وراءه وشربوا كأس الألم والموت على مثاله. أما يخبر عنهم كتاب أعمال الرسل (5: 40-41) أنَّهم لمّا جُلدوا في المجلس خرجوا فرحين لأنَّ الله وجدهم أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع؟

من هؤلاء التلاميذ اختار يسوع اثني عشر رسولاً: سمعان، صيّاد السمك الذي لقَّبه ببطرس وجعله صيّادًا للنفوس ورأسًا للكنيسة. ومتّى العشّار جابي الضرائب، وماضيه غير مشرِّف بسبب تعامله مع الأجنبيّ ومعاملته للناس بالظلم والقساوة، وسمعان الوطنيّ الغيور الذي يريد أن يقوم بثورة تطيح بالحكم المستعمر. واختار يعقوب وأخاه يوحنّا، وتوما وأندراوس... كلُّ هؤلاء اختارهم يسوع وبعد أن أعطاهم توصياته أرسلهم للتبشير بالملكوت، أرسلهم مرَّة أولى إلى عالم إسرائيل الضيِّق، أي إلى الشعب اليهوديّ، ثمَّ أرسلهم مرَّة ثانية إلى جميع الأمم، إلى العالم كلِّه ليعلنوا الإنجيل إلى الناس أجمعين.

نتوقَّف على توصيات يسوع لمّا أرسل تلاميذه أمامه إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه. درَّبهم على عمل التبشير قبل أن يرسلهم إلى جميع الأمم ليتلمذوهم ويعمِّدوهم ويعلِّموهم.

بعد عظة الجبل التي قرأنا فيها دستور الجماعة المسيحيَّة، نتأمَّل اليوم في عظة يسوع للتلاميذ قبل أن يرسلهم ليكرزوا بملكوت السماوات. نقسم هذه العظة إلى مقدِّمة وثلاثة أقسام وخاتمة.

المقدِّمة: اختيار الرسل (10: 1-4)

تبدأ المقدِّمة في نهاية الفصل التاسع، ساعة طاف يسوع في جميع المدن والقرى فرأى حالة الناس التي ملأت قلبه شفقة، فتحرَّكت أحشاؤه كما تتحرَّك أحشاء الأمِّ عندما ترى البؤس والتعاسة في عيلتها. شبَّه يسوع هذه الجموع المتروكة بخراف لا راعي لها. تشتَّت القطيع لأنَّ رعاته لم يهتمُّوا به، فلم يقوّوا الخروف الضعيف، ولم يداووا المريض، ولم يردّوا الشريد، ولم يبحثوا عن المفقود (حز 34: 4). تشتَّت القطيع لأنَّ رعاته تصرَّفوا كما يتصرَّف الأجير الذي يهرب عندما يرى الذئب آتيًا، لا كراعٍ صالح يضحّي بحياته في سبيل الخراف (يو 10: 11-12). ولهذا جاء يسوع، الراعي الصالح، وسلَّم إلى رسله هذه المسؤوليَّة الرهيبة ووعدهم أنَّه يكون معهم ويقوِّيهم.

الحصاد كثير، ولكنَّ العمال قليلون. فاطلبوا من ربِّ الحصاد أن يرسل عمّالاً للحصاد. هذه صلاة يسوع، وهذه صلاة الرسل، وهذه ستكون صلاتنا، أن يرسل الله عمّالاً يعملون في كرمه، ورعاة يرعون قطيعه، فلا يبقى بائسًا مشتَّتًا مثل غنم لا راعي لها.

أرسل يسوع تلاميذه وأعطاهم سلطانًا يطردون به الأرواح النجسة، كما لا يزال يفعل الكاهن في حفلة العماد فيقول على رأس المعمَّد: أقسِّم عليك أيَّتها الأرواح النجسة... أن تخرجي من هذه الجبلة التي خطبها الله الحيّ وصيَّرها عروسة له. وأعطاهم سلطانًا ليشفوا الناس من كلِّ داء ومرض، فيصلُّون على المريض ويدهنونه بالزيت باسم الربّ، لأنَّ الصلاة مع الإيمان تخلِّص المريض والربُّ يعافيه.

القسم الأوَّل: الرسالة الموكلة إلى التلاميذ (10: 5-16)

بعد أن أعطى يسوع تلاميذه السلطان الذي أخذه من الآب أعطاهم تعليماته ووصاياه بشأن الرسالة الموكلة إليهم. تبدأ رسالتهم في أرض إسرائيل، لأنَّها أرض الشعب الذي اختاره الربُّ ليحمل تعاليمه ووصاياه. وبعد ذلك يلتفتون إلى بقيَّة الأمم. وهذا ما فعله القدّيس بولس. قال لليهود المجتمعين (أع 13: 46): »كان يجب أن نبشِّركم أنتم أوَّلاً بكلمة الله لكنَّكم رفضتموها، فحكمتم أنَّكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبديَّة. ولذلك نتوجَّه إلى غير اليهود«. إذًا، يبدأ الرسل بتبشير من هم حولهم، قبل أن ينطلقوا إلى جميع الأمم. ونحن المؤمنين نبدأ فنبشِّر أهلنا وأبناء بلدتنا ووطننا، نبشِّرهم بكلامنا، ونبشِّرهم بمثل حياتنا. كيف؟ الجواب متروك لكلِّ واحد منكم.

ينطلقون إلى رسالتهم وهم متَّكلون اتِّكالاً كاملاً على يسوع. مجّانًا أخذتم، فمجّانًا أعطوا. ولا حاجة إلى النقود أكانت من ذهب أو فضَّة أو نحاس... رسالتهم ليست أصلاً في توزيع الأموال والمساعدات، وإن كانوا عرفوا أن يوزِّعوها على الفقراء والأرامل، واختاروا سبعة شمامسة ليقوموا بهذه الخدمة، على أن يتكرَّسوا هم لكلمة الله (أع 6: 3-4). رسالتهم هي في أن يحلموا خلاص المسيح إلى كلِّ محتاج وهذا ما قاله بطرس للمخلَّع الذي شفاه: »لا فضَّة عندي ولا ذهب، ولكنّي أعطيك ما عندي: باسم يسوع الناصريّ قم وامش« (أع 3: 6).

رسالتهم رسالة سلام إلى من يريد السلام. ومن لا يريد السلام الآتي من قبل الربِّ ستكون له الدينونة. إذا دخلتم بيتًا فسلِّموا عليه. فإن كان أهلاً للسلام، حلَّ سلامكم فيه، وإلاَّ رجع سلامكم إليكم. هذا السلام بشَّرنا به الملائكة يوم ولادة المخلِّص (لو 2: 14). ووعدنا به يسوع بطريقة خاصَّة ليلة ودَّع تلاميذه بعد أن أكل العشاء السرّيّ معهم وهيَّأهم لتلك الساعة الرهيبة، ساعة موته. قال لهم: »سلامًا أترك لكم، وسلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أعطيكم أنا« (يو 14: 27). هذا هو السلام الذي جاءنا بموت يسوع وقيامته فحمل إلينا الروح القدس وأعطانا الفرح والرجاء.

القسم الثاني: الاضطهاد الذي سيلحق بالتلاميذ (10: 17-25)

يرسل يسوع تلاميذه كخراف بين الذئاب، وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن نفوسهم لأنَّ ملكوت الله سيظهر في ضعفهم كما ظهر في ضعف المسيح على الصليب. قال القدّيس بولس: »في الضعف تظهر قدرتي كاملة، لأنّي عندما أكون ضعيفًا، أكون قويٌّا.«

في حالة الاضطهاد يجمع المؤمن بين حذر الحيّات وحكمتها ووداعة الحمام ولينها. لا يعرِّض المؤمن نفسه للاضطهاد والأذى، ولكنَّه لا يلجأ إلى الحيلة لكي ينجو بنفسه. يحذِّر التلاميذ لا من الأنبياء الكذبة والإخوة وحسب، بل من جميع الناس، يهودًا كانوا أم وثنيّين. أما تحالف على المؤمنين هيرودس وبيلاطس البنطيّ وبنو إسرائيل والغرباء؟ على التلاميذ أن يشهدوا أمام الناس عندما يتَّهمونهم ويحكمون عليهم ويهزأون بهم. عليم أن يبقوا أمناء لسيِّدهم حتّى الموت فتكون شهادتهم لمجد الله عبر ضعف الإنسان.

أمام الصعوبات لا يتَّكل المؤمنون على فهمهم وذكائهم ولا يهتمُّون بما يقولون للإجابة على أسئلة الحكّام. هو الروح القدس، المحامي عن المسيحيّين، من يضع على لسانهم الكلام اللازم، ويدافع عنهم بوجه متَّهميهم، حين هاجم اليهود إسطفان، أوَّل الشهداء، يقول الكتاب: »ولكنَّ الروح أعطى إسطفان من الحكمة ما جعلهم عاجزين عن مقاومته«.

سيكون الاضطهاد قاسيًا على التلاميذ فيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ابنه. أمام هذا البغض الذي يأتينا من كلِّ جانب، نتذكَّر كلام يسوع: من يصبر إلى المنتهى يخلص. رغم الأذى اللاحق بنا، لا يكون ثغرة في أمانتنا. رغم المعارضة والخيبة والفشل لا نتزعزع في المحنة متأكِّدين من خلاصنا، عارفين أنّنا بذلك نتشبَّه بالمسيح ربِّنا ومعلِّمنا. كيف نرضى أن نكون في الراحة ويسوع عرف الألم والعذاب. إذا كان يسوع مرَّ عبر الآلام قبل أن يصل إلى المجد فهل تكون طريقنا مُختلفة عن طريقه؟ يكفي التلميذ أن يكون مثل معلِّمه، والخادم مثل سيِّده.

القسم الثالث: الشروط اللازمة لاتِّباع يسوع (10: 26-42)

يكون التلميذ أمينًا لخدمة سيِّده فيتجرَّد من كلِّ حياء بشريّ ويعترف علنًا بالمسيح. يرتبط بالمسيح قبل كلِّ شيء ويستعدُّ لأن يضحّي بكلِّ شيء من أجل المسيح، وهو عارف أنَّه إن خسر حياته من أجل المسيح، حفظها لحياة الأبد.

يدعونا يسوع أوَّلاً إلى التخلّي عن الخوف. لا تخافوا، لأنَّ ملكوت الله آتٍ وإن لم يظهر بعد ظهورًا جليٌّا. وثقوا بأنَّ عمل الله يتمُّ وإن تأخَّر النجاح الذي تحرزه كلمة الله. لا بدَّ من أن تأتي الشمس بعد الليل، لا بدَّ من أن يتجلّى ملك المسيح.

لا تخافوا البشر لأنَّهم لا يستطيعون شرًا بحياتكم الحقيقيّة. هم يهاجمون حياة الجسد، ولكنَّهم لا يقدرون أن يقتلوا النفس. فالحياة الحقيقيَّة المؤسَّسة في الله لا تصل إليها يد البشر.

لا تخافوا لأنَّ عناية الله ترعاكم. فإن كان الله يهتمُّ بكلِّ الخليقة ولا ينسى أحقر مخلوقاته، ولو كان عصفورًا صغيرًا، أفلا يهتمُّ بالمؤمنين. إنَّ الآب السماويّ يدعونا ألاَّ نخاف لأنَّنا أفضل من عصافير كثيرة.

لا نخف، بل نعترف. من تحرَّر من خوف الناس تشجَّع لكي يعترف بالله. وهذا الاعتراف يفرض علينا التزامًا شخصيٌّا تصبح فيه قضيَّة يسوع وكأنَّها قضيَّتنا، والتلميذ الذي يرفض الاعتراف بالمسيح لا يكون أهلاً لدعوته.

ثمَّ يطلب يسوع من تلاميذه ومن كلِّ واحد منّا أن يعطي ذاته بكلِّيَّتها له وإلاّ فهو لا يستحقّه. من أحبَّ أباه أو أمَّه أكثر ممّا يحبُّني فلا يستحقُّني. ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فهو لا يستحقُّني. الصليب يعني صعوبات الحياة اليوميَّة ومضايقاتها، ويعني أيضًا الموت الذي قبله يسوع راضيًا شهادةً لأبيه، ويقبله تلاميذه راضين. مثل هذا الكلام صعب على الطبيعة البشريّة ولا نفهمه إلاّ بالإيمان، ولا نستطيع أن نقبله ونعيش به إلاَّ بالرجاء بالله ربِّ الحياة والموت الذي يبعث الحياة في أجسادنا الفانية بروحه الذي يسكن فينا. ويكفينا فخرًا أنّنا سائرون على طريق الأنبياء والصالحين، وأنَّ أجرنا سيكون عظيمًا مثل أجرهم.

الخاتمة (11: 1)

بعد أن أنهى وصاياه لتلاميذه، ذهب ليعلِّم ويبشِّر. فقرن أمامهم القول بالفعل. سمعوا كلامه ورأوا أعماله وساروا وراءه حاملين بشارته إلى أقصى الأرض، وهم يدعوننا نحن المسيحيّين اليوم إلى أن نحمل رسالة المسيح مهما كلَّفنا حمل هذه الرسالة من صعوبات. هم تلاميذ المسيح حملوا المشعل إلينا فجعلونا تلاميذ المسيح وعمَّدونا وعلَّمونا، ونحن نسير على خطاهم ونعرف أنَّ كلَّ مسيحيّ هو تلميذ يرسله يسوع إلى أهله وبيت أبيه، إلى محيطه وبلدته ليخبر بأعمال الربِّ وكلامه. وكما أنَّ السامريَّة عرفت في يسوع ذلك النبيّ الآتي إلى العالم فتركت جرَّتها على البئر وذهبت تكلِّم الناس عنه (يو 4: 28-29)، نحن أيضًا نكون شهودًا لله فنحمل كلامه إلى الناس من محيطنا الصغير حتّى أقاصي الأرض. وكما انطلق الرسل والتلاميذ إلى كلِّ مكان ليبشِّروا باسم المسيح كذلك نفعل نحن أيضًا متذكِّرين كلام بولس الرسول:»إذا متنا معه عشنا معه، وإذا صبرنا معه ملكنا معه«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM