قبل الحياة العلنيّة.

 

1-قبل الحياة العلنيّة

بدأ انجيل مرقس، وهو أول الأناجيل الأربعة، كتابةَ »انجيله«بدءًا بالحياة العلنيّة، بعد مقدّمة قصيرة جدًا. أما متى، فعاد إلى الطفولة مع يوسف، خطيب مريم، ووالد يسوع بالتبني. ثم أعلن لنا بفم الآب، أن هذا الآتي ليعتمد، هو ابن الله الوحيد، قبل أن يشدّد على بشريته، وهو الذي جُرِّب مثلنا. شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. ونحن نرافقه في مسيرته هذه.

1- بشارة الملاك إلى يوسف

الإنجيل كلمة يونانيَّة معناها البشرى الحسنة، البشارة السارّة. وهو يسرد لنا شهادة الرسل، الذين رافقوا يسوع منذ عماده على نهر الأردنّ حتّى موته وقيامته. فسمعوا كلامه ورأوا أعماله فعرفوا فيه المسيح المنتظر الذي أعلن عنه الأنبياء منذ القديم.

تمتدُّ أخبار طفولة يسوع في إنجيل متّى على الفصلين الأوَّلين، فتسرد سلسلة نسب يسوع المسيح، بشارة الملاك ليوسف، قدوم المجوس من الشرق وسجودهم للطفل يسوع، خبر الهرب إلى مصر واستشهاد أطفال بيت لحم والرجوع من مصر إلى الناصرة وفي ختام كلِّ خبر آية من الأنبياء.

في هذين الفصلين يبيِّن لنا القدّيس متّى أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله وابن الإنسان، المولود من الروح القدس ومن مريم العذراء، من نسل إبراهيم حسب الوعد والملك داود: إنَّه عمانوئيل، الله الحاضر معنا.

كما بشَّر الملاك مريم العذراء وقال لها: ستحبلين وتلدين ابنًا تسمِّينه يسوع، كذلك بشَّر يوسفَ وقال له: »إنَّ الذي تحمله مريم هو من الروح القدس وهي ستلد ابنًا تسمّيه يسوع«. أجابت مريم: »ها أنا أمة الربِّ فليكن لي حسب قولك«، أنا طائعة، أنا خاضعة. وماذا كان جواب يوسف؟ فعل ما أمره به ملاك الربّ دون جدال أو مناقشة، فأخذ امرأته إلى بيته وسمَّى الولد يسوع.لأ

خطب يوسف مريم وتعاهدا على الزواج. كانت العادة أن تبقى الفتاة في البيت الوالديّ إلى أن يأتي رجلها ويأخذها إلى بيته. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فوجود الولد في أحشاء مريم جعل يوسف يفكِّر. وإذ كان رجلاً صدِّيقًا قرَّر أن يتركها دون أن يشهر أمرها. ولكنَّ الله لا يترك مخطَّطه يفشل، فأعلمَ يوسف بسرِّ ميلاد يسوع ليأخذ مريم إلى بيته، وبهذه الطريقة يدخل يسوع في سلالة داود.

اسم يسوع معناه »الله يخلِّص«، لأنَّه هو الذي يخلِّص شعبه من خطاياهم. الكتاب المقدَّس يسمِّي الله المخلِّص. وهكذا سمّاه السامريُّون لمّا قالوا: »سمعناه نحن وعلمنا أنَّه مخلِّص العالم« (يو 4: 42). والقدّيس بطرس في رسالته الثانية (1: 11) يدعوه: »ربّنا ومخلِّصنا يسوع المسيح«. وهذا يعني أنَّ يسوع هو الله لأنَّه المخلِّص.

والخلاص الذي يحمله يسوع ليس خلاصًا ممَّن يقتلون الجسد بل ممَّن يريدون أن يهلكوا في جهنَّم؛ إنَّه خلاص من الخطيئة. فالربُّ وحده هو من يفدي شعبه من جميع آثامه. وحين يقول القدّيس متّى إنَّ يسوع يخلِّص شعبه من خطاياهم فهو يشدِّد على أنَّ يسوع هو ابن الله، واسمه »عمانوئيل« أي الله معنا.

2- معموديَّة يسوع وتجربته

بعد أن تحدَّثنا سابقًا عن أخبار طفولة يسوع (1-2) نتوقَّف اليوم على بداية رسالة يسوع. يذكر الإنجيليّ متّى أنَّ القدّيس يوحنّا جاء قبل المسيح ليهيئ له الطريق فسُمِّي السابق، وعمَّد يسوع في الأردنِّ فسُمِّي المعمدان. قبِل يسوع عماد التوبة باسمنا، ثمَّ قاده الروح إلى البرِّيَّة حيث صام مستعدٌّا لرسالته.

أ- عماد يسوع (3: 13-17)

قبل أن يحدِّثنا متّى عن عماد يسوع يرسم لنا صورة عن يوحنّا المعمدان ويذكر لنا بعض تعاليمه: »أثمروا ثمرًا يبرهن على توبتكم«.

كان يوحنّا يعمِّد بالماء للتوبة. الماء في العهد القديم رمز الموت وينبوع الحياة. بالمياه يغتسل جسم الإنسان فتطهر نفسه من الأدناس. ولقد قال النبيّ حزقيال (36: 25-26) بلسان الربّ: »أرشُّ عليكم ماء طاهرًا فأطهِّركم وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا«.

نزل يسوع في نهر الأردنِّ على مثال شعب الله الذي عبر الأردنَّ قبل أن يدخل أرض الميعاد. وعلى مثاله يدخل المسيحيُّون عبر المياه فيتركون الإنسان القديم وكلَّ أعماله ويلبسون الإنسان الجديد على صورة الخالق.

دهش يوحنّا: »لماذا جاء يسوع يعتمد«؟ ومانع: »أنا أحتاج أن أعتمد على يدك«. ولكنَّ يسوع جاء ليتمِّم كلَّ برّ، أي ليتمِّم مشيئة الآب. وكيف قبل يسوع أن يعتمد عماد التوبة وهو بلا خطيئة؟ لأنَّ الربَّ جعله كفَّارة عنّا، لأنَّه جاء يحمل خطايا العالم ويرفعها عن البشر. هو حمل أوجاعنا وأخذ عاهاتنا، فكان كعبد الربِّ الذي يحدِّثنا عنه أشعيا (53: 5) فيقول: »جرح لأجل معاصينا وسحق لأجل آثامنا«.

عندما صعد يسوع من الماء انفتحت السماوات. نتذكَّر كلام أشعيا (63: 11) عن خلاص الربِّ في الماضي وحضوره المنتظر: أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه؟ أين الذي جعل في داخله روحه القدُّوس؟ ونتذكَّر هتاف الشعب: »ليتك تشقُّ السماوات وتنزل«! وها هو يحقِّق في شخصه هذه الكلمات. يصعد من الماء فتنشقُّ السماوات ويحلُّ عليه الروح بشكل حمامة. ولقد قابل بعض آباء الكنيسة انفتاح السماء في عماد المسيح انفتاح السماء وقت صعوده.

»هذا هو ابني الحبيب«، بهذه الكلمات يشهد الآب لابنه. وسيشهد له مرَّة ثانية في وقت التجلّي: »هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا« (17: 5). في الشهادة الأولى يعرف يوحنّا أنَّ من هيَّأ له الطريق جاء، وفي الشهادة الثانية يتقوّى إيمان الرسل بالمسيح بعد أن أخبرهم عن آلامه وصلبه وموته، لأنَّ صوت الآب لم يكن من أجل المسيح بل من أجل الرسل ومن أجلنا.

إنَّ الروح القدس يختار لحضوره شكلاً يناسب العطيَّة التي يهبها للناس. في يوم العنصرة ظهر بشكل ألسنة ليدلَّ على عطيَّة اللغات للتلاميذ فيسمعهم كلُّ إنسان بلغة بلده (أع 2: 8). وفي عماد يسوع ظهر بشكل حمامة ليذكِّرنا بالروح الذي حلَّ على المياه في بداية الكون فأظهر قوَّته الخلاَّقة. والحمامة حملت إلى نوح بشرى السلام بعد الطوفان وبشَّرت بقدوم عهد جديد لشعب يولد من جديد.

اعتبرت الكنيسة أنَّ عماد يسوع هو بداية حياته التبشيريَّة. هذا ما قاله بطرس في بيت كورنيليوس القائد الرومانيّ: »أنتم تعرفون ما جرى في اليهوديَّة كلِّها، ابتداءً من الجليل، بعد المعموديَّة التي دعا إليها يوحنّا، وكيف مسح يسوع الناصريّ بالروح القدس والقدرة« (أع 10: 37-28). ولقد قال أشعيا (61: 1): »روح الربِّ عليَّ وقد مسحني لأبشِّر المساكين وأرسلني لأجبر منكسري القلوب«.

»هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت«. ونتذكَّر ما قاله أشعيا (42: 1): »هذا هو عبدي (فتاي) الذي أعضده. هذا من اخترته ورضيت عنه نفسي، وقد جعلت روحي عليه«.

خاتمة: إنَّ عماد يسوع في الأردنِّ يتمُّ في ذبيحة الصليب وهو الذي سمّى معموديَّته كأس العذاب والموت التي سيشربها (مر 10: 38). وعماد المسيحيّ هو عماد في موت المسيح وقيامته. غير أنَّ عماد المسيحيّ يجد مثاله في عماد الأردنِّ حيث يعطى الروح القدس بوضع اليد بعد عماد الماء.

ب- تجارب يسوع في البرِّيَّة (4: 1-11)

في التجربة الأولى يعيش يسوع تجربة شعب الله في البرِّيَّة. أعطاهم الربُّ المنَّ من السماء ومع ذلك فقد سقطوا في التجربة عندما تذمَّروا على الله وعصوا أوامره ورفضوا أن يحفظوا وصاياه. أمّا يسوع فانتصر على التجربة مستعينًا بكلام الله: »ما بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله«.

في التجربة الثانية، يحاول الشيطان أن يوقع يسوع في حبائله، مستعينًا بالكتاب المقدَّس، لتتغلَّب إرادته على الآب السماويّ، فلم يقع يسوع. أمّا شعب الله في البرِّيَّة فقد جرَّب الله: »هل يستطيع أن يعطينا ماء نشربه؟ هل الربُّ بيننا، أم لا؟«

في التجربة الثالثة، يعرض الشيطان على يسوع أن يعطيه ممالك الأرض إن سجد له وعبده. فيجيبه يسوع: »للربِّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد«. انتصر يسوع، أمّا شعب الله فسقط في التجربة. أعطاهم الربُّ أرض الميعاد فعبدوا في أرض الميعاد آلهة الأمم وسجدوا أمام أصنامها. قدَّموا لها ذبائحهم فكانوا خدَّامًا للشياطين.

كما بقي شعب الله في البرِّيَّة أربعين سنة كذلك سيبقى يسوع في البرِّيَّة أربعين يومًا. قال موسى للشعب: »أذكر كلَّ الطريق التي سيَّرك فيها الربُّ إلهك هذه الأربعين سنة ليمتحنك ويظهر للناس ما في قلبك: أتحفظ وصاياه أم لا«؟ وكما صعد موسى على الجبل ليأخذ لوحي الوصايا وأقام بالجبل أربعين يومًا وأربعين ليلة لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماء، كذلك صام يسوع أربعين يومًا وأربعين ليلة. إنَّ يسوع هو موسى الجديد. كما أنَّ موسى أخرج شعبه من العبوديَّة في أرض مصر إلى حرِّيَّة أبناء الله في أرض الميعاد، كذلك يخرجنا يسوع من عالم الخطيئة والموت إلى عالم الخلاص والقيامة.

3- معنى تجارب يسوع في حياتنا

لم يكن أحد حاضرًا لمّا جرَّب الشيطان يسوع. كيف عرف الرسل بهذه التجارب؟ لاشكَّ في أنَّ المسيح أخبرهم بها، يوم قال له بطرس: حاشا لك يا ربّ أن تتألَّم. فقال له يسوع: إذهب خلفي يا شيطان.

رفض يسوع تجارب الشيطان في بداية حياته العلنيَّة وسيرفض له إيحاءاته التي حاولت في الجتسمانيَّة أن تبعده عن كأس الألم والموت. ولكنَّ جواب يسوع كان واضحًا: »لا تكن مشيئتي، أيُّها الآب، بل مشيئتك«.

ابجرَّب الشيطان يسوع كما جرَّب الشعب اليهوديَّ وكما يجرِّبنا نحن المسيحيّين. فلنتسلَّح بكلام الله وقدرته ولنصلِّ فلا نملَّ لئلاّ نقع في التجربة. كما أنَّ العبرانيّين تعمَّدوا في الغمام وفي البحر وأكلوا طعامًا روحيٌّا واحدًا وشرابًا من صخرة روحيَّة، ومع ذلك ما رضي الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في البرِّيَّة لأنَّهم خانوا عهد الربّ، كذلك نحن المسيحيّين الذين قبلنا سرَّ العماد وتغذَّينا بجسد المسيح ودمه، ستتغلَّب علينا التجارب ونستحقّ القصاص القاسي إن تشبَّهنا بالعبرانيّين ولم نفهم عطايا الربِّ لنا. ولهذا يدعونا الكتاب فيقول: »نرغب في أن يُظهر كلُّ واحد منكم مثل هذا الاجتهاد إلى النهاية، لا نريد أن تكونوا متكاسلين، بل أن تقتدوا بالذين يؤمنون ويصبرون فيرثون ما وعد الله به«.

لن نكون مسيحيّين حقيقيّين ولن نكون أمناء ليسوع إن لم نتعرَّف إلى صوت المجرِّب ونكتشف إيحاءاته التي تدفعنا إلى اختيار الطريق السهل والباب الواسع، طريق النجاح السطحيّ وأمجاد هذه الدنيا الفارغة. فعلينا أن نرفض إيحاءات العدوِّ ونسير على خطى المسيح في طريق التجرُّد والزهد، طريق التضحية والمحبَّة، طريق الصليب الذي لا بدَّ له أن ينتهي في مجد القيامة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM