إنجيل لوقا إنجيل الخطأة.

 

إنجيل لوقا إنجيل الخطأة

الإنجيل بشرى الخلاص. وهو بشرى في الدرجة الأولى من أجل المرضى والعائشين على هامش المجتمع. وهو بشرى بشكل خاصّ من أجل الخطأة. وسيعلن يسوع بمناسبة دعوته للاوي بن حلفى أنَّه ما جاء من أجل الأبرار، بل من أجل الخطأة، وأنَّه ما جاء من أجل الأصحَّاء، بل من أجل المرضى (5: 31-32). هذا ما قاله لوقا كما قاله متَّى ومرقس، لأنَّ يسوع جاء في النهاية ليخلِّص ما قد هلك (19: 10).

هي خاطئة

تفرَّد لوقا فحدَّثنا عن امرأة جاءت إلى يسوع، امرأة اشتهرت في المدينة بخطيئتها. وقد تكون زانية معروفة. أعرض الإنجيليُّ عن ذكر اسمها احترامًا لها لئلاَّ يشهّرها. أمّا سمعان الفرّيسي فسمّاها الخاطئة وما أعطاها اسمًا آخر. وبما أنَّها كذلك، يجب أن تُعزل. أن لا يقترب أحد منها، ولاسيّما هذا النبيُّ الذي اسمه يسوع. فإن هو سمح بأن تقبّل قدميه، نتساءل: هل هو نبيٌّ حقٌّا؟

ولكنَّ تصرُّف يسوع يختلف كلَّ الاختلاف عن تصرُّف الفرِّيسيَ. فالبشر جميعهم خطأة، كما قال المزمور الرابع عشر وردَّد كلماته بولس الرسول في الرسالة إلى رومة: »ما من أحد بارّ، لا أحد. ضلُّوا كلُّهم وفسدوا« (3: 10). وسوف يقول يوحنَّا في رسالته الأولى: »إذا قلنا إنَّنا بلا خطيئة، خدعنا أنفسنا وما كان الحقُّ فينا. أمَّا إذا اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل، يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كلِّ شرّ. وإذا قلنا إنَّنا ما خطئنا، جعلناه كاذبًا وما كانت كلمته فينا« (1: 8-10).

أعطى يسوع مثلاً فبيَّن لسمعان أنَّ هذه »الخاطئة« عليها دين. وسمعان أيضًا عليه دين. والربُّ غفر له كما غفر لها. فإن كانت خطاياها أكثر من خطاياه، فهذا يعني أنَّ الربَّ أحبَّها أكثر ممَّا أحبَّ ذاك الذي استضافه. في هذا قال بولس الرسول: »حيث كثرت الخطيئة هناك فاضت النعمة« (روم5: 20). ويطرح الرسول السؤال، ونطرحه نحن بدورنا: »أنبقى في الخطيئة حتَّى تفيض نعمة الله؟« وكان الجواب كلاَّ (1: 6). ولكن ما يجب أن نعرفه هو حبّ الله للخطأة حبٌّا خاصٌّا. انظروا كيف استقبل الابن العائد إليه. أقام له عيدًا أين منه كلُّ الأعياد العاديَّة التي تشوَّق إليها الابن الأكبر حين طلب جديًا كي يتنعَّم به مع أصحابه (لو15: 29).

وصوَّر لوقا تلك الخاطئة الآتية إلى يسوع بكلِّ خطيئتها، بل بكلِّ الوسائل التي اعتادت أن تستعملها لكي تجلب إليها أولئك الذين يقعون بشَركها. جاءت ومعها قارورة الطيب (تعطَّرت). ووقفت عند قدميه (تتوسّل). أخذت تبكي وتبلُّ قدميه بدموعها. ونحن نعرف موقع البكاء في هذا الوضع. وهناك الشعر والقُبل. كانت عشيقة المارّين من أين أتوا. فصارت »عشيقة« من نوع آخر. صارت عشيقة الحبِّ الإلهيّ، عشيقة العريس السماويّ الذي لا عريس سواه. فحسب نشيد الأناشيد، كلُّ واحد منا، رجلاً كان أو امرأة، عروس يسوع المسيح: »أنا لحبيبي وحبيبي لي«. »أنا لحبيبي وإليه اشتياقي« (7: 11). من أجل هذا قال الإنجيل عنها: أحبّت كثيرًا فغُفر لها الكثير. طلب سمعان من يسوع أن يقف معه، مع الأبرار، ويترك هذه المرأة وحدها، يتركها مرميَّة على الأرض. بل يرفسها برجله ويُبعدها عنه. ولكنَّ يسوع ما وقف مع سمعان، بل مع الخاطئة، ودعا الفرّيسيَّ ليكون معها. فهذا الذي قبِل أن يعتمد مع الآتين إلى معمودية يوحنّا لغفران خطاياهم (3: 21: ولما تعمّد الشعب كلُّه، تعمَّد يسوع أيضًا)، لا يخاف من أن يقف مع الخاطئة مع أنَّه لم يعرف الخطيئة. لهذا قالت فيه الرسالة إلى العبرانيِّين: »لم يخجل من أن يدعوهم إخوته« (2: 11) وهو الذي »تشبه بهم في كلِّ شيء« (2: 17).

ابنك بدَّد مالك

هذا ما قاله الأخ الأكبر لأبيه، وهو بذلك يتنكَّر لأخيه الذي أكل المال الوالديّ »مع البغايا« (15: 30). هكذا يتصرَّف الفريسيُّون مع الخطأة. وهكذا نتصرَّف نحن أيضًا، ونعتبر نفوسنا من الجهة الثانية فنظنَّ أنَّ الشرَّ هو عند الآخرين، لا عندنا. وبالتالي ننسى أنَّ الشرَّ يمرُّ فينا. بدأ لوقا أمثال يسوع حول رحمة الله تجاه الخطأة بعبارة تشدِّد على تذمُّر الفرِّيسيّين من يسوع. ولو استطاعوا أن يوبِّخوه لفعلوا. ولكن من يجسر؟ وقد كان لهم بعض المرَّات أن يقولوا للتلاميذ ما لم يجترئوا أن يقولوه ليسوع. تذمَّروا لأنَّ يسوع يرحِّب بالخاطئين ويأكل معهم (15: 1-2). يا للخطيئة! يا للجريمة!

ما دافع يسوع عن نفسه، ولا قدَّم درسًا في أهمِّيَّة مساعدة الخطأة من عليائه، وهو الذي ما استطاع أحد أن يبكِّته على خطيئة (يو8: 46). أمّا الفرّيسيُّون، وحين دعاهم أن يرموا الزانية بحجر إن كانوا بلا خطيئة، فكانت ردَّة الفعل عندهم انسحابًا من المجلس، وكبارُهم قبل صغارهم (يو9: 8). كلُّ ما فعله يسوع هو أنَّه حدَّثهم عن فرح الله حين يعود الخاطئ اليه. فهو يشبه الأمَّ التي يُشفى ولدها، أو يعود من بلد بعيد. ولقد سبق للنبيِّ حزقيال فسأل: أترى الله يريد أن يموت الخاطئ، أم أن يعود عن ضلاله ويحيا (18: 22)؟

ثمَّ صوَّر الخاطئ الثاني الذي رفض البيت الوالديّ لأنَّه رفض أخاه. فشابه قايين الذي صار قاتلاً، كما قالت رسالة يوحنّا الأولى: »كان من الشرِّير فقتل أخاه« (3: 12). قال الوالد لابنه: أخوك كان مائتًا فعاش، تعال لنفرح معًا. فرفض أن يدخل (لو15: 28). فكأنِّي به يقول لأبيه: أو أنا أو أخي.

لا نستطيع أن نكون كلانا في البيت الواحد: الذي بدّد مالك مع الذي حافظ على مالك، الذي عاش مع البغايا مع الذي ما عصى لك أمرًا (15: 29). فما هي هذه المحبَّة نحو الأب حين ترفض الأخ؟ أهكذا نحبُّ الله الذي لا نراه؟ بل نحن كَذبة إن فعلنا! كيف نزعم أنَّنا نحبُّ الله الذي لا نراه، ولا نحبُّ أخانا الذي نراه (1يو4: 20). وتابع يوحنَّا كلامه: »مَن أبغض أخاه فهو قاتل. وأنتم تعرفون أنَّ القاتل لا تثبت الحياة الأبديَّة فيه« (3: 15).

تلك هي الخطيئة منذ البداية. نريد أن نلغي الله مباشرة فنتعبَّد للآلهة التي هي بصورة بشر أو حيوان أو كواكب وبحار وأنهار. تعبَّدنا لآلهة هي شهواتنا، وتعلَّقنا بالمال الذي صار لنا ربٌّا آخر، نركن له ونستند إليه. أو نريد أن نلغي إخوتنا وكأنَّنا بذلك نلغي الله الذي لا نرضى عن تصرّفاته. فمعاصرو النبيِّ ملاخي اشتكوا من سلوك الربّ. واشتكى الابن الأكبر من أبيه، والكتبة والفريسيُّون من يسوع الذي يدلُّ على حبِّ الله وغفرانه. ولكنَّ الله يتقبَّلنا جميعًا مهما كانت حالنا. أكنّا خطأة عائدين إليه، أم »أبرارًا« نستعدُّ لأن نتركه على مثال الابن الأكبر. فهو قد ألغى العداوة، هدم الحاجز الذي يفصل البشر عن الله. فلماذا نعود ونبنيه وكأنَّنا نقول مع أهل الإنجيل: »لا نريد هذا الرجل ملكًا علينا«. (لو19: 14).

إن لم تتوبوا

إن كان الخاطئ هو الذي يذهب إليه يسوع، يبحث عنه، وإن وجده يحمله على كتفه، فهذا لا يعني أنَّ يسوع ضعيف. أنَّه يتراخى لكي يُرضي الناس، لا الله. فالحبُّ ضعيف إذا شئنا. ولكنّه قويّ أيضًا. لهذا، فيسوع لا يكون سهلاً مع الخاطئين الذين يرفضون التوبة.

فالإنسان تينة. إن لم تعطِ ثمرًا وجب أن تُقطع. لا شكَّ في أنَّ الكرّام سيقلب التربة حولها ويسمِّدها. سوف يهتمُّ بها، فيعطيها مهلة. ولكن بعد ذلك، لا سبيل لبقائها (لو 13: 6-9). لقد صارت كالغصن الذي لم يَعُد مرتبطًا بالكرمة. صارت يابسة، فاستحقَّت أن توضع في النار لتحترق.

قال يسوع هذا المثل بعد أن سمع مَن أخبره عن مصيبة حلّت بالناس. فأجاب: »إن كنتم لا تتوبون، فستهلكون كلُّكم«.

إذا كان الربُّ يقابل الخطيئة بالمغفرة، فعلى الإنسان أن يقابلها بالتوبة. هناك مسيرة الله حين يعود إلينا. ومسيرة الإنسان حين يعود إلى الله. لهذا، قال الربُّ بلسان النبيِّ: »عودوا إليّ فأعود إليكم« (ملا3: 7). وسوف يقدِّم لنا لوقا لنا طريق العودة هذه بشكل عمليّ. سأل جباة الضرائب يوحنّا: »ماذا نعمل«؟ فقال لهم: »لا تجمعوا من الضرائب أكثر مما فرض لكم«. وإلاَّ كنتم سارقين. وسأله بعض الجنود: »ماذا نعمل«؟ فقال لهم: »لا تظلموا أحدًا، ولا تشوا أحدًا، واقنعوا بأجوركم« (3: 12-14). وهدّد يوحنَّا بالفأس الموضوعة على أصل الشجرة، وحذّر من الاعتداد بأنَّ المؤمنين هم أبناء إبراهيم: »إنَّ الله قادر أن يجعل من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم« (8: 3).

ولكنَّ الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة. وإن هو يسوع هدّد، فلكي يجعل الإنسان يعي خطيئته. وفي أيِّ حال، فهو يعطينا مهلة، كما قال بطرس في رسالته الثانية: »يصبر عليكم لأنَّه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع« (3: 9).

من أجل هذا، كانت الخاطئة مثالاً لسمعان الفرّيسيِّ ففهم خطيئته. قال له يسوع: بالصواب أجبت. فهم سمعان أنَّه خاطئ شأنه شأن هذه المرأة التي بدأ فاحتقرها. وأنَّه يحتاج إلى غفران الربِّ وخلاصه. ويا ليت الأخ الأكبر تعلَّم من أخيه الأصغر حين ابتعد عن البيت الوالديِّ: اقترب من الموت. عاش الذلّ. عرف الضياع. لهذا، عاد إلى البيت الوالديّ. ونحن لا نتعلَّم كثيرًا من خبرات الآخرين، بل من خبراتنا الشخصيّة. يقول لنا يسوع كما قال للتلاميذ بعد تكثير الأرغفة: »وأنتم، أما تريدون أن تتركوني مثلهم؟« هل نعرف أن نجيب: »إلى مَن نذهب يا ربّ، وكلام الحياة الأبديَّة عندك« (يو6: 67- 68)؟

ذاك هو إنجيل لوقا في حديثه عن الخطيئة، وفي تقديمه للربّ الذاهب ليبحث عن الخطأة ويعيدهم إلى البيت الوالديّ. كانوا يعتبرون الخاطئ نجسًا فيهربون منه لئلاَّ ينجسِّهم. والمثل اللاذع في هذا المجال هو الأبرص. هل هو الذي ينجِّس يسوع، أم أنَّ يسوع هو الذي يطهِّره؟ فقداسة الله نار تحرق كلَّ ما حولها. تحرق التبن والقشَّ والخشب، وتنقِّي معادن الذهب والفضَّة. هذا ما يفعل الإله القدوس حين يقترب من الخطأة. يحمل إليهم الطهارة والنقاء شرط أن يفتحوا له قلوبهم ويستقبلوه. وإلاَّ سوف يمضي كما مضى يسوع حين كان في أرض الجراشيِّين. طلبوا منه أن يتحوَّل عن تخومهم فتحوَّل، بعد أن فضّلوا خنازيرهم على حرِّيَّة ينالها الإنسان. فضَّلوا الخطيئة على المسيح، ونسوا أنَّ مَن صنع الخطيئة أصبح عبدًا للخطيئة. أترانا نرضى بهذه العبوديَّة أم نتطلَّع إلى الذي حرّرنا، وافتدانا وحمل إلينا الخلاص، الذي اشترانا بدمه الكريم!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM