إنجيل لوقا إنجيل الخلاص.

 

إنجيل لوقا إنجيل الخلاص

حين وُلد يسوع في بيت لحم، تراءى الملائكة للرعاة، وبشَّروهم قائلين: »ولد لكم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب« (2: 11). لا، ليس أوغسطس، الإمبراطور الرومانيّ، ذاك الذي ولد يسوع في أيَّامه، مخلِّص العالم، بل هذا الطفل الموضوع في القمط. فلا اسم إلاّ اسمه به نخلص. هذا ما يحدّثنا عنه القديس لوقا في إنجيله.

خلاص الله

منذ بداية الإنجيل، نحسّ بهذه الحاجة إلى الخلاص. لهذا أنشد زكريَّا في ولادة ابنه: »تبارك الرب«... أقام لنا قدرة خلاص«، أقام لنا مخلِّصًا قديرًا (1: 69). واعتبر أنَّ عمل ابنه الأهمَّ هو أن يعرِّف الشعب بالخلاص الذي نالوه، وهذا الخلاص هو غفران الخطايا (1: 77). هذا الخلاص رآه سمعان الشيخ بعينيه، حين رأى يسوع يحمله والداه إلى الهيكل ليقدِّماه للربّ (2: 3). وهذا الخلاص لا يتوقَّف عند الشعب العبرانيّ، بل يصل إلى جميع الشعوب. قال: »الآن، يا سيِّد، تطلق عبدك بسلام. فعيناي رأتا خلاصك«. وعد الرب بالخلاص، وها هو يُتمُّ وعده. فما بقي لسمعان شيء ينتظره.

وماذا يكون هذا الخلاص؟ يكون نورًا للأمم الوثنيَّة التي عُدّت سائرةً في الظلام، لأنَّها لم تعرف الإله الحيَّ والحقيقيّ. فنحن نعرف الحكم القاسي الذي أطلقه سفر الحكمة على عبادة الأصنام: وما من شكٍّ »أنَّ جميع الذين يجهلون الله هم مغرورون من طبعهم. فإنَّهم لم يقدروا أن يعرفوا الكائن (أي الرب الإله) من خلال الروائع المنظورة التي صنعها«... وهم لمَّا فُتنوا بجمالها، نسوا أنَّ الذي خلقها هو أعظم منها، هو مصدر كلِّ جمال (13: 1 ي). وسيكون بولس في امتداد هذا الكلام، فيعلن أنَّ لا عذر لأولئك الذين كان في قدرتهم أن يعرفوا الله. وبعد أن يعرفوه كان في إمكانهم أن يشكروه ويمجِّدوه، ولكنَّهم لم يفعلوا. زعموا أنَّهم حكماء فصاروا حمقى (روم1: 20-23). احتاج الوثنيُّون إلى الوحي، فجاءهم وحي الله في يسوع المسيح. احتاجوا إلى النور فجاءهم مَن هو نور العالم (يو8: 12). واحتاج شعب الله إلى مَن يعيد إليه أمجاده بعد أن زالت مملكة داود. »فجاء يسوع إبن داود »مجدًا لشعبه« (2: 32).

وسيعود لوقا إلى هذا الموضوع حين يتحدَّث عن يوحنَّا المعمدان في خطِّ نبوءة أشعيا (40: 3-5). لم يكتفِ، كما فعل كلٌّ من مرقس ومتى، بالكلام عن الصوت الصارخ في البرِّيَّة، وعن الطريق التي تُهيَّأ أمام الربّ، بل أنهى الإيراد الكتابيّ: »فيرى كلُّ بشر خلاص الله« (6: 3). هذا الخلاص سيحمله الرسل بشكل خاصٌّ بعد القيامة. فالمسيح تراءى لهم وحدَّثهم قبل أن يتركهم فقال: »تُعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الشعوب« (24: 47). والنتيجة سنراها في نهاية سفر الأعمال. قال بولس لليهود الذين جاؤوا إليه وهو في رومة: »فليكن معلومًا عندكم أنَّ الله أرسل خلاصه إلى الوثنيِّين، وهم سيسمعون« (28: 28). سيفتحون آذانهم وقلوبهم، ويتقبَّلون البشارة الجديدة.

عرف العالم أكثر من محاولة من أجل الخلاص. واستند الإنسان إلى هذا أو ذاك من البشر. فلا العالم استطاع أن يخلِّص نفسه، ولا الاعتصام بالبشر منح الخلاص لأحد من البشر. لهذا كان هتاف منذ العهد القديم، نجد صداه بشكل خاصٍّ في المزامير. »قم يا رب، وخلِّصني يا الهي« (3: 8). »خلّصني من أجل أمانتك« (5: 6). »خلِّصني من جميع مضطهديَّ ونجِّني« (7: 2). فأنت الإله الذي يخلِّص (25: 5) والحصن الذي يخلِّص المَلك الذي مسحته (28: 8). فماذا تنتظر لكي تخلِّص شعبك، لكي تبارك ميراثك (28: 9). نستطيع أن نطيل الكلام، ولكنَّنا نفهم أنَّ هذا الخلاص الذي تطلَّع إليه العهد القديم، وجد كماله في العهد الجديد، مع يسوع المسيح. فقال يوحنّا في إنجيله: »هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى إنَّه أرسل ابنه الوحيد، فلا يهلك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة. فالله أرسل ابنه إلى العالم، لا ليدين العالم (ويحكم عليه)، بل ليخلِّص به العالم« (يو3: 16-17).

يسوع مخلِّص البشر

وجاء يسوع فدلَّ على هذا الخلاص الذي يرسله الله بأعمال ملموسة لها معناها. فهو حين يشفي البشر يخلِّصهم. لا يقول النصُّ فقط إنَّه يشفيهم، مع أنَّنا أمام المرض. ولماذا؟ لأنَّ الأقدمين كانوا يعتبرون المرض بابًا إلى الموت، وأيُّ خلاص أهمُّ من الخلاص من الموت. وهكذا نسمع يسوع يقول للنازفة: »يا ابنتي، إيمانك خلَّصك، فاذهبي بسلام« (8: 28). هذه التي كانت خائفة مرتعدة، وجدت لمسة الحنان التي حملت إليها الخلاص. نجت من المرض. وسوف تنجو ابنة الاثنتي عشرة سنة من الموت. »يا صبيّة قومي« (8: 54). ونسمع يسوع يقول للأبرص الذي ترك رفاقه التسعة وعاد إلى يسوع: »قم واذهب. إيمانك خلَّصك« (17: 19). كان قد ارتمى عند قدمي يسوع، مثله مثل الخاطئة. لكي يشكره على الشفاء الذي تمَّ له. وهذا الذي شُفي لا يستحق الشفاء بحسب منطق العالم اليهوديّ. هو سامريّ. بل هو غريب. فأين التسعة الذين يمكن أن نعدَّهم من شعب الله؟ ما عادوا إلى يسوع لكي يمجِّدوا الله (17: 18) كما فعل هذا الغريب. بل تابعوا طريقهم إلى الكهنة (17: 14). هنا نتذكَّر كلام المزمور 107: »صرخوا إلى الربِّ في ضيقهم، فخلَّصهم من سوء حالهم. أرسل كلمته فشفاهم، ونجَّاهم من مهالكهم. فليحمدوا الربَّ على رحمته وعلى عجائبه لابن البشر«.

ونسمع يسوع يكلِّم أعمى أريحا: »أبصر، إيمانك خلَّصك« (18: 42). لاحظنا في هذه الحالات الثلاث دور الإيمان في الخلاص الذي يناله المريض. وهذا الخلاص يقوم في شفاء من المرض. ولكنَّ يسوع لا يتوقَّف عند شفاء على مستوى الجسد، على مستوى ما يُرى، بل يصل إلى مستوى النفس، إلى ما لا يُرى، إلى الإنسان في أعمق أعماقه. في هذا المجال، نتذكَّر كلام يسوع حول خطر يهدِّد الجسد وآخر يهدِّد النفس: »لا تخافوا ممَّن يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس« (مت 10: 28). فإن كان هناك هلاك على مستوى الإنسان كلِّه، على مستوى النفس والجسد، فهناك خلاص تامٌّ ناجز على المستوى المادِّيِّ وعلى المستوى الروحيّ. هذا ما حدث بالنسبة إلى المخلَّع. بدأ يسوع فغفر له خطاياه، ثمَّ شفاه من مرضه. منحه خلاص »النفس« ثمَّ خلاص »الجسد«. فما يُرى هو إلى حين. وما لا يُرى هو إلى الأبد. لهذا جاء يسوع يحمل الخلاص الذي لا يُرى والذي يدوم. من أجل هذا، قال يسوع للخاطئة: »إيمانكِ خلَّصك، فاذهبي بسلام« (لو7: 50). وكيف خلَّصها إيمانها؟ حين غُفرت خطاياها (7: 48).

فمَن أراد الخلاص، وجب عليه أن يتقبَّل بإيمان إنجيل الملكوت. من أجل هذا، قال يسوع مثَل الزارع، وبدايته: »ما وقع منه على جانب الطريق هم الذين يسمعون كلام الله، فيجيء إبليس وينتزع الكلام من قلوبهم لئلاَّ يؤمنوا فيخلصوا« (8: 12). وهكذا يصبح الإنسان حلبة صراع. يزرع الربُّ فيقتلع إبليس. فمن نختار؟ فإذا كنَّا أرضًا يدوسها المارَّة، يأتي الشيطان ويرافقه سبعة شياطين شرٌّا منه، فيقيمون فينا. وإذا كنَّا أرضًا طيِّبة نسمع كلام الله ونحفظه بقلب طيِّب صالح فنثمر بثباتنا (8: 15). فهدف يسوع الأساسيُّ حين تجسَّد، هو الخلاص. فقد قال عن نفسه إنَّه جاء ليخلِّص ما هلك (9: 56). وسيردِّد الكلام عينه بمناسبة ارتداد زكّا العشّار (19: 10).

خلاص لهذا البيت

في نهاية الطريق الصاعدة إلى أورشليم، قدَّم لنا إنجيل لوقا خبر خلاص، سنجد خاتمته على الصليب. مرَّ يسوع في أريحا، اجتاز المدينة وكاد يخرج منها متوجِّهًا إلى المحطة الأخيرة في هذا الصعود الذي ينتهي بآلامه وموته وقيامته. اجتاز المدينة وما قَبِله أحد في بيته. أو هو لم يقبل دعوة، لأنَّه كان يتطلَّع إلى ذلك الذي سيدعوه فيبدِّل له حياته. ولكن، مَن هو هذا الرجل؟ إنَّه غني. ونحن نعرف نظرة لوقا إلى الأغنياء، بل نظرة الإنجيل كلِّه: »يدخل الجمل في ثقب الإبرة ولا يدخل الغنيُّ إلى ملكوت السماوات« (18: 25). إنَّه عشّار أو جابي ضرائب، والناس تعرف كيف كان يجمع العشّار ثروته. بل هو رئيس العشّارين. فكأنّي بالإنجيل يقول: إنَّه رئيس السارقين. لا شكَّ في أنَّه سمع عن يسوع. بل وصلت إليه أصداء من كلمات يسوع. جاء ليرى يسوع، فرآه يسوع. ربّما جاء ليدعو يسوع، فدعا يسوع نفسه إلى بيت ذلك الخاطئ المعروف الذي يحتقره الجميع في البلدة، فتذمَّروا قائلين: »دخل بيت رجل خاطئ ليقيم عنده« (19: 7). لا، لسنا أمام زيارة عابرة، بل إقامة. سيصبح بيت زكّا كنيسة في أريحا. أقام يسوع فيه أكثر من يوم، وجاء الناس إليه يسمعون كلام الله. أيُّ منبر هذا المنبر؟!

قَبِل يسوع ضيافة زكّا، فخلقه من جديد. هذا ما فعل مع الخاطئة. علَّمها الحبَّ الحقيقيَّ، فبدَّل حياتها. غفر لها، فعلَّمها الحبَّ الحقيقيَّ الذي لا يمكن إلاَّ أن يَنال الغفران. وزكّا، ما إن دخل يسوع بيته حتَّى تبدَّل كلَّه. صار إنسانًا جديدًا. بدأ فتجرَّد من نصف أمواله من أجل الفقراء. هكذا يستطيع أن يتبع يسوع، أن يكون مع يسوع. أما هذا الذي قاله للرجل الغني الذي طلب الشروط من أجل ميراث »الحياة الأبديَّة؟« أجابه يسوع: »بِع كلَّ ما تملك، وزِّع ثمنه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماوات، وتعال اتبعني« (18: 22). وسيكون عمل زكّا مثالاً للمؤمنين في الكنيسة الأولى. يبدأ الخلاص مسيرته حين يتجرَّد الإنسان من ماله ويعطيه للفقراء. تتحدَّث أعمال الرسل عن برنابا الذي باع الحقل وجعل ثمنه عند أقدام الرسل (4: 37). فاستحقّ اسمه الذي يعني »ابن التعزية«. أمّا حنانيا فرفض العطاء وكذب على الروح القدس، فكان الموت له ولزوجته سفيرة.

وخطا زكّا الخطوة الثانية: مارس العدالة كما تقول الشريعة. »إن كنت ظلمتُ أحدًا في شيء، أردُّه عليه أربعة أضعاف« (19: 8). ماذا ينتظر يسوع ليقول كلمته في هذا الرجل فيسمعه الجميع؟ »اليوم حلَّ الخلاص بهذا البيت« (19: 9). لماذا؟ لأنَّه ابن إبراهيم. ابن الإيمان. هو لم يعلن إيمانه بالقول والكلام، بل كان تصرُّفه تصرُّف الإيمان. كان ابن إبراهيم بدون أن يدري. لهذا، نال الخلاص الذي انتظره بدون أن يعرفه. في الأصل، جاء زكّا ليرى يسوع رؤية الفضوليّ. أراد أن يعرف مَن هو يسوع الذي يتكلَّمون عنه كلَّ هذا الكلام. ولكنَّ يسوع حوَّل هذا الموقف السطحيَّ إلى موقف عميق، فأعاد زكّا إلى حيث يجب أن يكون: مع إبراهيم. »فابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلِّصهم« (19: 10).

وخلاص زكّا ليس بعدَ عدد من السنين. إنَّه حاصل الآن، هو اليوم. فكلمة الله فاعلة. قالها يسوع فتمَّت في الحال. وسبق وقالها الله للرعاة بفم الملائكة: »اليوم وُلد لكم مخلِّص«. وقالها يسوع من على صليبه للصِّ الذي قال له: أذكرني حين تأتي في ملكوتك. فكأنَّه يطلب الخلاص. ربّما الخلاص الماديّ في الدرجة الأولى بعد أن قال الناس في يسوع: خلَّص الآخرين ولم يستطع أن يخلِّص نفسه (23: 35)، فليدلَّ على أنَّه مسيح الله المختار، ليدلَّ على أنَّه ملك اليهود. وسيقول واحد من اللصين اللذين بجانب يسوع: »خلِّص نفسك وخلِّصنا«. لكنَّ يسوع لم يخلِّص هذين المجرمين ولم يجعلهما ينزلان عن الصليب. وهو نفسه ما نزل عن الصليب، بل سينزلونه ميتًا عن الصليب ويوضَع في القبر. ولكنَّه سيقوم. هكذا خلَّص يسوع نفسه. مات ولكنَّه قام وصعد إلى السماء. ولكنَّه لم يصعد وحده. بل أخذ معه ذاك اللصّ: »اليوم تكون معي في الفردوس«. ما نال ذاك اللص خلاصًا موقَّتًا، بل خلاصًا كاملاً. نال ملء السعادة بعد أن سار مسيرة التوبة، فأقرَّ بخطيئته وببراءة ذاك المصلوب بجانبه. فالمصلوب بجانب يسوع هو أيضًا ابن إبراهيم. واليوم نال الخلاص.

خاتمة

بين ولادة المسيح وموته، تسير مسيرةُ الخلاص الذي يصل إلى الجميع. لا إلى الأبرار، بل إلى الخطأة. لا إلى عظماء هذا العالم، بل إلى العائشين على هامش المجتمع. إلى ذاك الأبرص الذي عاد إلى يسوع ولم يتابع طريقه إلى الهيكل. إلى ذاك العشّار الذي استقبل يسوع فرحًا في بيته في أريحا. إلى ذاك اللص... إلى كلِّ واحد منّا. فهل نتقبَّل خلاصه في توبة صادقة وعطاء ذاتنا وما عندنا، أم نتركه يمرُّ في أسواقنا ويقف في ساحاتنا بدون أن نلتفت إليه؟ هو يريد اأن يرانا لنصعد تلك الشجرة كي نراه. هو يريد أن يتعرَّف إلينا. لننزع عنّا كلَّ قناع ونقف أمامه كالأطفال. بل ندعوه، فكلُّ مَن يدعو باسم الربِّ يخلص.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM