الديموقراطية او حرية الانسان في اختياره.

 

 

الديموقراطية

او حرية الانسان

في اختياره

حين نقرأ رسالة القديس بولس إلى غلاطية، نفهم في الدرجة الأولى أنها رسالة الحريّة. »فالمسيح حرّرنا لنكون احراراً. فاثبتوا، إذاً، ولا تعودوا إلى نير العبودية« (5: 1). ويقابل بين الرجل الحرّ، والمرأة الحرّة، وبين ذاك (أو تلك) الذي يفضّل العبودية على الحرية، طلباً لربحٍ مادي على مثال العبرانيين الذين تشوّقوا إلى بصل مصر وبطيخه ولحمه وسمكه. وآثروا العبوديّة على حياة من الحرية في برية سيناء، تنتهي باللقاء مع الربّ الذي هو وحده الذي نعبد، الذي لا نقابله بالاصنام الميتة. فإلى مثل هذه الحرية يدعونا المسيح من خلال تعليمه وأقوال رسله، في حياتنا الفردية، كما في حياتنا الاجتماعية. وإذا شئنا ينطبق الانجيل على حياتنا حين نقرأ الآن: الربّ يدعوا الانسان إلى الديموقراطية او حرية الانسان في اختياره.

1- إن شئتَ

الانسان مخلوق على صورة الله ومثاله، تحلّى بالعقل والفهم والارادة والحريّة. هو لا يشبه الحيوان الذي يسيّره صاحبه كما يشاء. والكتاب واضح في هذا المجال. مرّت الحيوانات امام آدم، فما وجد فيها مثيلاً له. وحدها المرأة تماثله. فالرجل على صورة الله، والمرأة على صورة الله. في المسيح، لا تتميّز المرأة عن الرجل على مستوى الدعوة الإلهية. والاثنان يتّحدان ليكونا جسداً واحداً. وأوّل حريّة يختارها الانسان تبدأ في البيت، في الاسرة. ليس الرجل السيّد والمرأة الخادمة القريبة من العبدة. عندئذٍ نعارض كلام الرسول الذي قال: ليس من بعدُ الحرّ والعبد (أو العبدة). »فأنتم كلكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 29). وهناك حريّة في المجتمع ككلّ. ولا سيّما في اختيار الحياة التي تقابل مواهبنا، في اختيار الأشخاص الذين نعمل معهم، بحيث نُحترم كبشر ولا نعتبر قاصرين: يؤمّن لنا القليل من الطعام كي نبقى على قيد الحياة، وهذا يكفي. كم صار الانسان بعيداً عن تلك الصورة التي طبعها الله فيه؟

هنا نتذكّر النصّ الانجيلي. جاء أحد الشباب إلى يسوع يسأله عن طريق للحياة الأبدية. بدأ الربّ فأفهمه أولاً أهمية الوصايا. فالحرية تبدأ فينا حين نرتبط بالله. لا بالانسان. أنا هو الربّ الهك، لا يكن لك إله غيري، ولكن حين يجعل الشخصُ انساناً كإله له، أو جماعة، يرى الخلاص في هذا الذي يسلّمه حريته بحيث يصبح عبداً له. وحده التعبّد لله يجعلنا أحراراً. وتتواصل الوصايا: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ... فالحرية تفرض علينا احترام الآخر، لا الانفلات. فحين يصبح الانسان عند هذا المستوى، لن يعود يعرف أن يمارس الحرية، لن يعود يعرف ان يختار.

وفي أي حال، أجاب الشاب يسوع: حفظتُ الوصايا منذ صباي. حينئذٍ نظر اليه يسوع وأحبَّه (مر 10: 21)، وقال له: »إن شئت« (متى 19: 221). فالرب لا يفرض على الانسان ان يعمل عملاً . هو يدعوه، هو يحثّه، يدفعه بحبّه، لا يُكرهه. لا يجعله يحسّ وكأن الأمر كُتب له، قُدّر له. كلا، إن شئت. إذا كان ابنُ الله يحترم مشيئة الانسان حين يدعوه إلى الحياة الأبدية، بل يتركه يختار الشرّ، ملء الشرّ، يختار جهنم، فلماذا أريد أنا أن أحرم الناس حولي من ممارسة إرادتهم؟ وكيف أرضى أنا أن أكون عبداً، وقد خُلقت في بطن أمي حراً؟ أما الذي يريد أن يستعبد الآخرين، فيكون هو العبد الأول.

2- من الأكثرية إلى الأقلية

في حياتنا اليوميّة، قد نرى قائداً أو نائباً يربح شعبيّة كبيرة، ولكن حين يرى هذه الشعبية تخفّ، يقدّم التنازل بعد التنازل وينسى الهدف الرفيع الذي جعله كبيراً في عين الشعب: يتحدّث إلى رغبات الناس، بل هو يتاجر بهم، وفي النهاية يتركهم. أو هو يقسم الشعب من أجل مآربه الخاصّة. يجب أن تكون الأكثرية بجانبه، وهو يتوسّل من أجل ذلك كلّ الوسائل. وإن هو لم يحمل الخلاص إلى شعبه، فلا أحد يقدر. سبحانه؟ صار الله. الله لا يفرض نفسه على الانسان، وهذا الرجل يريد أن يفعل ما يتورّع الله ذاته عن عمله احتراماً لإرادة الانسان.

أما يسوع، فما هكذا تصرّف. تبعته إلى البرية الجموع الكثيرة. خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والاولاد. بل أرادوا أن يتوّجوه ملكاً (يو 6: 5). ولكن هؤلاء الناس طلبوا خبزاً وحسب. قال لهم يسوع: »أكلتم الخبز وشبعتم« (آ 26). أتُرى الانسان يحيا بالخبز فقط؟ عندئذٍ لا يعود يتميّز عن الحيوان. ينحدر من انسانيته، فماذا يبقى له؟ لهذا قال يسوع للجموع التي تبعته: »لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبدية« (آ 27). وقد يقول قائل: أما يجب أن نهتمّ بالطعام والشراب والراحة الجسدية؟ أجل، وألف أجل. ويسوع علّمنا في صلاة الابانا أن نقول: أبانا الذي في السماوات، اعطنا خبزنا كفاية يومنا. ولكنه قال: أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه »فيزيدكم الله هذا كلّه« (متى 6: 33). فالربّ لا يريدنا أن نحصر همّنا في الطعام والشراب واللباس. فهذا أمر بديهي. والويل لشعب تتوقف كل اهتماماته عند هذا المستوى! فهو لا يُحسب أبداً بين الشعوب، ولا مستقبل له. ومن المؤسف أن يتوقّف الناس هنا، ولا سيّما في أوقات الحروب. ويستفيد القائد من هذا الوضع ليقود الناس كما يشاء. ويصادر حريتهم، بل انسانيّتهم، فيمنعهم من التفكير والخيار الحرّ.

أمّا المسيح فما تصرّف بهذه الصورة حين تكثير الارغفة للجموع الكبيرة. ما أراد ان يشتريهم. ما أراد أن يجاريهم في رغباتهم وما فيها من التصاق بالارض. منذ البداية، جعل أمامهم طريق الابناء. وقد سُئلتُ مرة، في أحد اللقاءات: لماذا يرفض الناس الانجيل؟ فكان جوابي: لأنهم لا يريدون أن يكونوا أحراراً. تحرّر أونسيموس فصار مثل سيده فيلمون. تحرّرت برسكلة فصارت رسولة مثل زوجها أكيلا. والولد في البيت صار مثالاً للكبار. هذا هو تعليم يسوع. غير أن الذين أكلوا رفضوا أن يسمعوه. فيقول الانجيل:

»فقال كثير من تلاميذه لما سمعوه: هذا كلام صعب، من يطيق أن يسمعه«.

وعرف يسوع أن تلاميذه يتذمّرون (يو 6: 30- 61). لا الشعب فقط، بل التلاميذ، أي أولئك المقرّبون منه. ولكنه ما تراجع، ما ساوم. بل قال لأقرب المقربين إليه، إلى الرسل: »أنتم أما تريدون أن تتركوني مثلهم؟« (يو 6: 67). وجاء جواب بطرس: »إلى من نذهب؟« (آ 68). أما يهوذا فبدأ المؤامرة عليه كي يسلمه (آ 71).

3- لا تمييز ولا عنصريّة

بدأ يسوع خطبة الجبل فرفض المعايير السابقة. ابنُ قبيلتي، ديني، منطقتي... هو قريبي. والآخر هو عدوّي، وما اسهل على القائد ان يخلق الاعداء ليجمع الناس حوله ويجعل الخوف في قلوبهم فيسبيهم ويتسلّم حريّتهم. اما يسوع فقال: الانسان لا عدوّ له. جميع البشر اخوة. جميعهم على صورة الله. جميعهم ابناء الله. فلا حدود بعد بين نحن والآخرين. وتواصلُ الشعوب واضح. فلماذا ننغلق على ذواتنا، على طائفة ننتمي اليها؟ علىعشيرة، على مدينة، على بلد؟ العالم يسير لكي تتلاقى الفئة مع الآخرين. على مثال ما حدث بين المانيا وفرنسا بعد ثلاث حروب مدمّرة. فلماذا نقول كما قال الأقدمون: »أحبب قريبك وأبغض عدوك«. كلا فمن تحسبونهم أعداءكم، أحبّوهم (متى 5: 43- 44). وهكذا تريحونهم. فالعنف لا يحلّ الأمور الصعبة، بل هو يعقدها، والعنف في النهاية يعود علينا.

في زمن المسيح، كانت عداوة مستشرية بين اليهود والسامريّين، بحيث كان اليهوديّ الماضي من الجليل، في الشمال، إلى اليهودية، في الجنوب، لا يمرّ في وسط البلاد حيث السامريّون، بل يدور حول الاردن لتجنّب المرور في أرض نجسة. ولكن يسوع كسر هذه القاعدة. »لا بدّ له أن يمرّ السامرة«. ومرّ هناك، فاستقبله السامريون افضل ممّا استقبله اليهود. عرفت السامريّة إنّه النبي الذي يحمل كلام الله ويقرأ في القلوب (يو 4: 19) وسيكشف لها أنّه المسيح (آ 25- 26). أمّا السامريّون فرأوا فيه مخلّص العالم (آ 42). وحين بشّرهم فيلبس، احد السبعة، »أصغت الجموعُ بقلب واحد إلى أقواله« (أع 8: 6).

بدأت المرأة السامرية فوضعت الحواجز. شخص يهودي يطلب منها شربة ماء عند الظهيرة وشدة الحرّ. رفضت. نسيَت أن الله يجازي من يعطي كأس ماءٍ بارد. قالت: »أنت يهوديّ وأنا سامريّة، فكيف تطلب مني أن أسقيك؟« (يو 4: 9). وقال الراوي الانجيلي: »لأن اليهود لا يخالطون السامريين« (آ 9). ولكن هذا ليس منطق يسوع. لا فصل بعد اليوم، بين يهودي ويوناني، بين من يعبد الله الواحد ومن لا يعبده. بين ذاك الذي من ديني والآخر. وسوف يقول يسوع للمرأة التي تعبد الله على جبل جرزيم ساعة يعبده اليهود في أورشليم: »العابدون الصادقون يعبدون الآب بالروح والحقّ«.

احتقر اليهوديّ السامريّ وكاد يفضّل الوثني عليه، مع أن الاثنين يقرأان كتاب الشريعة الواحد. وردّ السامريون على اليهود بالمثل. ففي حادثة يرويها لوقا، نعرف ان السامريين رفضوا أن يستقبلوا يسوع (لأنه كان متوجهاً إلى أورشليم) (9: 53). ماذا كانت ردّة فعل التلاميذ؟ »أتريد أن نأمر النار فتنزل من السماء وتأكلهم؟« (آ 54). نندهش من هذا الموقف. لا شكّ في ذلك. ولكن هل نحن بعيدون عنه؟ نحن وحدنا ولا أحد غيرنا. لم نعد أمام سيطرة فرد على حربة الافراد، بل سيطرة جماعة على حرية الافراد، وهكذا تضيع الديموقراطية الذي فيها يُحرَّر الشعبُ كشعب والانسانُ كانسان. وهكذا يفرض القوي لغته، لسانه، طريقة تفكيره على الضعيف، كما حدث في برج بابل. وتلك كانت أفضل طريقة كي تختلف الجماعة، وتتقاتل وتتشتّت. عندئذٍ هي لن تعود تبني. وما كان يمكن أن يكون باب السماء، صار بلبلة وفوضى وضياعاً للانسان ولوطنه. الديموقراطية تعني الشعب كلّه. والمساواة تكون تامّة. وإلاّ فبلادنا سائرة إلى التقهقر، بل إلى الدمار.

خاتمة

حين يعلّمنا الانجيل أنّنا أبناء الله، يجب أن لا نتخلّى عن هذه البنوّة، لنصير عبيداً للناس ولحاجاتنا اليوميّة؟ حين يعلّمنا الانجيل أنّنا مدعوّون لكي نعيش في عيلة الله، لا في السماء فقط، بل منذ الآن، على الأرض، فيجب علينا أن نفهم أنّنا إخوة: حين يرتفع أخي ارتفع أنا، وحين ينحدر أخي أنحدر أنا. وحين يضعف أخي أسنده أنا. وحين أضعف أنا يسندني هو. حين يكون أخي حراً أكون أنا أيضاً حراً. وإن جعلته عبداً كنتُ أنا قبله عبداً لذاتي بانتظار أن أصير عبداً لمن هو أقوى مني. يبقى على الانسان أن يختار. أن أختار ما يُرى من شهوة ولذّة وطموح وعظمة، أكون الخاسر. فما يُرى هو لزمان، أمّا القيم الكبرى، وأوّلها الحريّة في شعب يعرف عظمته في نظر الله، لا في نظر نفسه، فهي لا تُرى وهي إلى الأبد. هذا ما قاله بولس في الرسالة الثانية إلى الكورنثيين، وأعطانا النصيحة اللازمة لأجلنا: »لا تضعف عزائمنا... لأن هذا الضيق الخفيف العابر يهيِّئ لنا مجداً أبدياً لا حدّ له« (2 كور 4: 16- 17).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM