التعدّديّة أو نحـــن الكثيرون في جسد واحد.

 

 

التعدّديّةأو نحـــن

الكثيرون في جسد واحد

طلبت الدول الوحدة، منذ بداية التاريخ، وبحثت عن الوسائل. وحدة اللغة في جميع دوائرها المشتَّتة. وحدة الكلام واللسان بحيث يقول المحكوم ما يقوله الحاكم ولا يحيد. فقطعُ الرأس حاضر. سيطرة عسكريّة وأمنيَّة لا تسمح بأيِّ حرِّيَّة لا تكون في خطِّ »الإمبراطور«. أمَّا الرومان فأعطوا امتيازات لهذه المدينة على حساب الأخرى، وهذا »الملك« الصغير، على ملك آخر بقربه. انطلقوا من فرِّقْ تسُد، فوحَّدوا الجماعات حول شخصهم، لا من أجل هدف مشترك، وما إن اختفى هذا الشخص حتّى مضى كلُّ واحد إلى خيمته كما حدث بعد موت سليمان (1 مل 12: 16). والهرطقة الأخيرة عرفتها ألمانيا: وحدة العرق. يكون الواحد أشقر بعينين زرقاوين ليستحقَّ أن يكون من النسل الآريِّ العريق. ونحن نعرف إلى ما آلت اليه ممارسات ألمانيا من قتل جماعيّ، ومن حرب للسيطرة على جيرانها. وهكذا تركت الحرب العالميَّة الثانية ستين مليون قتيل بفضل مشاريع ألمانيا في أوروبّا واليابان في الشرق الأقصى. فماذا يقول لنا الكتاب في هذا المجال؟

1- هرطقة شعب الله الخاصّ

حين جاءت بعض القبائل من مصر، مع موسى، في القرن الثالث عشر ق.م.، اعتبرت أنَّها مميَّزة عن سائر الذين تقيم معهم. ويذكرهم سفر التثنية: الحثيِّين، الجرجاشيِّين، الأموريِّين، الكنعانيِّين، الفرزيِّين، الحويِّين، اليبوسيِّين (تث 7: 1). »هم سبعة شعوب أعظم وأكثر منكم«. فكأنِّي بالكتاب أعطانا ملء الشعوب العائشة في هذا الشرق بين مصر وبلاد الرافدين (أي ما يقابل العراق الحاليّ تقريبًا). وماذا تكون العلاقة بين العبرانيِّين وهذه الشعوب التي ذُكرت؟ لا علاقة تناغم وتعاون بحيث يأخذ كلُّ واحد مكانه في هذه المنطقة. فقد كان مثلاً حلفٌ بين مملكة الشمال بعاصمتها السامرة وبين مملكة صور، فربح الفريقان. ولكنَّ الشرَّ كلَّ الشرِّ حين يريد الواحد أن يلغي الآخر. يرفض التعدّديَّة باسم الوحدة. فإذا كانت هناك من وحدة فهي مصطنعة وتنفجر في أول مناسبة. الوحدة هي وحدة القلوب وهي وحدة التفاهم من أجل مشروع مشترك. مثلاً بناء الدولة. نشير هنا أنَّه في العصور القديمة، كانت الشعوب تُقسَم اثني عشر قسمًا، فيؤمِّن كلُّ قسم خدمة المعبد شهرًا واحدًا في السنة. ذاك كان الوضع مع يشوع حين جمع القبائل الموجودة في المكان، والتي لم تكن كلُّها من »نسل« واحد. جمَعَها حول معبد شكيم من أجل عبادة الإله الواحد. وكان الجواب: »الربَّ وحده نعبد« (يش 24: 21).

ولكن ماذا قال سفر التثنية في عودة إلى الوراء، وكأنَّه أراد للعبرانيِّين أن يندموا عمّا فعلوا حين تفاعلوا مع سائر الشعوب التي كانت في هذا الشرق؟ هؤلاء الشعوب محرَّمون عليكم. فإن اتصلتم بهم قمتم بعمل حرام. أخطأتم وتستحقُّون العقاب. »لا تقطعوا معهم عهدًا، ولا تتحنَّنوا عليهم« (تث 7: 2). أي لا تميلوا إليهم. لا تتحنَّنوا عليهم. هم غرباء عنكم، ولهذا تعاملونهم بقساوة وكأنَّهم أعداء. ويتابع النصّ: »لا تصاهروهم، فتعطوا بناتكم لبنيهم وتأخذوا بناتهم لبنيكم« (آ3). حين يعتبر شعب أنَّه فوق الشعوب، أو فئة فوق الفئات، تبدأ التفرقة والشقاق. ويأتي الدين الذي نفهمه فهمًا سيِّئًا فيرمي الزيت على النار.

وهكذا نعتبر نفوسنا، باسم الله، مميَّزين عن الآخرين. أو ننفصل عنهم. أو نحاول أن نسودهم. إنَّها أسرع طريقة للتفتُّت والتشتُّت. عندئذٍ نصبح مثل سكان بابل الذين فشل مشروعهم، لأنَّهم تركوا الربّ الذي يوحِّد، وبحث كلُّ واحد عن مصلحته. »كَفُّوا عن بناء المدينة« وتشتَّتوا »على وجه الأرض كلِّها« (تك 11: 8- 9). وقال الكتاب بلغته الخاصَّة: شتَّتهم الربّ، أي سمح لهم بأن يتشتَّتوا، لأنَّهم مارسوا حرِّيَّتهم، لا لكي يجتمعوا، بل لكي يسير كلُّ واحد في طريقه.

2- من كل امّة تحت السماء

نسيت شعوب الشرق أنَّه إن لم يبنِ الربُّ البيت فعبثًا يتعبُ البنَّاؤون، وإن لم يحرس الربُّ المدينة فعبثًا يتعب الحارس (مز 127: 1). فالله الذي نعبده بضمير صادق هو الذي يجعل الشعوب المتعدّدة تجتمع في جسد واحد. حين أرى في الإنسان الذي أمامي خليقة الله، صورة الله، لا يمكن أن يكون نزاع بيني وبينه. هو صورة تختلف عن صورتي، والصورتان تتكاملان من أجل البناء.

والمجتمع كلُّه يتكامل بالمواهب التي جعلها الله فيه، ويتبارك بركة بخصب الأرض وكثرة المياه وسائر الغنى الذي يُجعَل في خدمة الناس، جميع الناس، لا فئة منهم فقط على حساب الآخرين.

نسيَت شعوب الشرق، بل شعوب العالم، أنَّها توزّعت في القارَّات الثلاث المعروفة في القرن الخامس ق.م. ولكنَّهم ارتبطوا كلُّهم بنوح. كما قال الكتاب: »هؤلاء عشائر بني نوح بمواليدهم وأممهم، ومنهم تفرَّقت الأمم في الأرض بعد الطوفان« (تك 10: 32) وتشتَّتوا أيضًا وتخاصموا. البدو ضد الحضر. هذه القبيلة ضدّ تلك. فعاد الربُّ يجمعهم حول إبراهيم في الإيمان الواحد. وستمرّ محاولة الله من خلال المؤمنين بفترة من الانغلاق وأخرى من الانفتاح: جميع البشر شعب الله. هو خلقهم كلَّهم على صورته وما ميَّز واحدًا عن آخر. فلماذا نميَّز نحن لنَحسب نفوسنا فوق الآخرين؟

وكان النجاح الكبير يوم العنصرة، كما يروي سفر أعمال الرسل. حلّ الروح على التلاميذ. فجمعهم في تعدُّدهم. وحلَّ على الآتين »من كلِّ أمَّة تحت السماء« (أع 2: 5). ويذكرهم القديس لوقا كاتب سفر الأعمال: جاؤوا من برتية أو المنطقة الفراتيَّة. ومادِّيَّة أي ماداي الذي حالف فارس. ومن عيلام، ومن بين النهرين... وتتواصل البلدان حتى تصل إلى مصر. هذا العالم الشرقيّ القديم الذي عرف الحروب الشرسة بين أطرافه، جاؤوا كلُّهم. دعاهم الروح لكي يلتقوا فيروا أعمال الله. وهنيئًا لهم إن تركوه يعمل فيهم. واجتمعت الشعوب: الرومانيُّون، الكريتيُّون (اليونان)، العرب. اجتمع اليهود مع الدخلاء، أي الذين دخلوا في الايمان بالله الواحد فما عاد هناك من تمييز بين المتعبِّدين لله أو المتعلِّقين بالأوثان. والمهمّ أنَّنا لسنا أمام لغة واحدة تُفرض من الخارج، بل أمام »لغات« عديدة. كلُّ واحد يحافظ على شخصيَّته وهويته ولغته وتقاليده. ما من أحد يُسحق. فالغنى هو في التعدُّديَّة التي تجعل المجتمع أكثر هناءً وهي بعيدة كلُّ البعد عن مجتمع يكون من نمط واحد وشكل واحد، وكأنَّهم خرجوا من معمل أوتوماتيكيّ: يتشابهون كلَّ المشابهة، فيكونون مثل أجسام جامدة يقف الواحد بقرب الآخر، ولا يتفاعل معه، ولا يتشارك. فبئس هذا المجتمع الذي تنتهي به الأمور بأن تعيش كلُّ فئة منعزلة على ذاتها، تبحث عن مصالحها، تدافع عنها. ولماذا لا تَستعمل القوةَ من أجل أهدافها؟

3- جسد واحد واعضاء كثيرة

هنا قدّم لنا بولس الرسول تشبيهًا أخذه من عالم الفلاسفة في اليونان. تشبيه الجسد. قال: »الجسد واحد وله أعضاء كثيرة هي على كثرتها جسد واحد« (1 كور 12: 12). نلاحظ هنا التقابل بين »الكثرة« و»الوحدة«. نحن لا نلغي الكثرة لئلاَّ نفتقر فيصبح الواحد للآخر نسخة طبق الأصل. والهدف هو الوصول إلى الواحد، لأنَّ في الوحدة تكون القوَّة، في الوحدة نصل إلى الهدف الذي تضعه الجماعة أمام عينيها.

ويُطبِّق الرسول كلامه على جماعة كورنتوس، عاصمة آخائية في اليونان. »فنحن كلُّنا«. كلُّ واحد له مركزه في الجماعة: يهوديٌّ أو يونانيّ، على مستوى الإثنيّة والدين. عبد أو حرّ، على مستوى الطبقات الاجتماعيَّة، ويتابع: »ما الجسد عضوًا واحدًا، بل أعضاء كثيرة« (آ 14). هل أثمن من العين؟ والجواب: لا أثمن منها. وحين أقدِّر شخصًا أقول له: يا عيني. ومع ذلك، لو كان الجسد كلُّه عينًا، هل يبقى الإنسان الذي أمامنا إنسانًا؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ. فالعين لها مكانها. والأذن أيضًا واليد والرِجل، وسائر الأعضاء. ولكن إن ألغت اليد الرجل، فكيف يستطيع الإنسان أن يمشي؟ أعلى يديه، أم على رأسه؟ والخلاصة: »الله جعل كلَّ عضو في الجسد كما شاء« (آ18).

فهل يستطيع عضو أن يستغني عن العضو الآخر؟ هل تستطيع العين أن تقول لليد: »لا أحتاج إليك« (آ21)؟ أو هل يستطيع الرأس أن يقول للرجلين: »لا أحتاج إليكما«؟ والجواب هو كلاَّ. هنا نطبِّق هذا الكلام على الجماعات الصغيرة.

الرجل يختلف عن المرأة. فهل يلغيها أو يجعل لها »شوارب« كي تكون صورة طبق الأصل عنه؟ وهل تحاول المرأة، كما في بعض المجتمعات الأوروبيَّة، أن تقلِّد الرجل بعنفها وقوَّتها البدنيَّة؟ الرجل له صفاته. والمرأة لها صفاتها، والاثنان يتكاملان من أجل إنجاب البنين والبنات وتربيتهم، من أجل بناء البيت، وبالتالي المجتمع الذي يعيشان فيه. ونطبِّقه على الجماعات الكبيرة. هل تعتبر مجموعة أنَّها تستطيع أن تلغي مجموعة، كما تسيطر عليها، كما هي المحاولات في دول أفريقيا؟ ماذا كانت النتيجة؟ كانت الآلاف من القتلى.

لهذا قال الرسول: ليكن كلُّ عضو في مكانه، »لئلاَّ يقع في الجسد شقاق« (1كور 12: 25). ويتابع: »بل لتهتمَّ الأعضاء كلُّها بعضها ببعض«. الأخ يحمل همّ أخيه. والجار جاره. والجماعة الجماعة المحاذية لها. الطائفة الطائفة التي تعيش بقربها. لا يمكنها أن تتجاهلها أو تحسبها غير موجودة. هنا يتابع القديس بولس: »فاذا تألم عضوٌ تألَّمت معه جميع الأعضاء، وإذا أُكرم عضوٌ أكرمت معه سائر الأعضاء« (آ26). أنا لا أرتاح إن كان حادث مات فيه أشخاص ليسوا من طائفتي أو من بلدي. ولا أتشفَّى إن مات من حسبته عدوّي. هي النفوس الحقيرة تكون على هذا المستوى. لا النفوس الكبيرة التي تفرح مع الفرحين وتبكي مع الباكين (روم 12: 15). هي النفوس التي تفرح بتعدُّد المجتمعات حيث الفئة تحمل غناها إلى المجموعة كلِّها، كما تفرح بالمواهب التي لا يمكن إلاّ أن ترفع بلدي وتحمل إليه الأكرام.

خاتمة

نحن جسد واحد. ومع أنَّنا كثيرون، فهذه الكثرة لا تشلِّع الوحدة، بل تنميها، تعطيها حياة، تُنوِّعها، بحيث لا تسيطر الرتابة على الناس فيجرّون حياتهم جرٌّا ولا يعيشونها عيش الحماس والاندفاع من أجل بناء الوطن.

نحن عديدون. وهذا العدد له سيِّئاته وحسناته. يكون سيِّئًا حين يكون الواحد بجانب الآخر بحيث لا يهتمُّ له، كما لا يكرمه لأنَّه يعتبره من الدرجة الثانية. والتعدُّد له حسناته إن هو عمل من أجل وحدة الجسد وتماسكه وتعاونه. والأمور لا تمشي وحدها. ونحن لا نستطيع أن نترك الظروف تقودنا، تقود مجتمعنا وبلادنا. نحن نشمِّر عن سواعدنا. نضحّي حتّى بحياتنا. وحين يفهم أفراد المجتمع دورهم وواجباتهم، نستطيع أن نعلن على الملأ: نحن عديدون، نحن أعضاء كثيرة، ولكنَّنا في النهاية جسد واحد، ما يُفرح الواحد يُحزن الآخر، وما يهمّ الواحد يهمّ الآخر. عندئذٍ نكون الشعب الذي ينطلق من عبادة الله ومحبّته، ليفهم أن محبَّته للقريب هي امتداد لمحبَّته لله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM