الفصل السابع عشر: الأبحاث الحاليّة حول بولس ورسائله.

 

الفصل السابع عشر

الأبحاث الحاليّة حول بولس ورسائله

يبدو بولس اليوم مطابقًا لذوق العصر في أوروبا وأميركا الشماليّة، لا في الشرق الذي أخذ بعض الشيء عن الغرب، واكتفى بالعودة إلى تفاسير الآباء، دون طرح المواضيع الإنسانيّة التي تحتاج إليها الرسائل البولسيّة كي تستنير بضوئها. فلقد عاد البحّاثة، منذ خمس وعشرين سنة، وبقوّة، إلى الرسول، بل عاد إليه أيضاً عامّة القرّاء. والسبب هو المنشورات المتواصلة عن ذاك الذي أسّس الكتابة في العهد الجديد. وهكذا خرج بولس من داخل الجامعات والإكليريكيّات الكبرى ووصل إلى المؤمنين، وإلى اللامؤمنين أيضاً.

هنا نتجنّب عقبتين كبيرتين. الأولى، تقوم بأن نلقي نظرة سريعة، كما من علُ، على الأسئلة موضوع الجدال، وليس آخرها نظرة الرسول إلى المرأة. هل يجب أن تبقى صامتة في الكنيسة؟ (1 كو 14:34). والعقبة الثانية تقوم في أن نتوقّف عند موضوع واحد ونركّز عليه، على حساب سائر المواضيع إلى درجة إلغائها. هناك موضوع بولس والشريعة، أو بولس والعالم اليهوديّ. وهناك موضوع التبرير بالإيمان، مع العلم أنّ الإيمان هو نداء من الله وجواب من قِبَل الإنسان. ولكن من يقدر أن يعطي الحلّ النهائيّ لمثل هذه الأسئلة؟ ولماذا نحصر القدّيس بولس في وجهة، ونضرب صفحًا عن سائر الوجهات؟

من أجل هذا، سوف نحدّد موقع الأسئلة موضوع الجدال، ولاسيّما الأسئلة اللاهوتيّة، في مجمل الدراسات البولسيّة. نبدأ فنلقي نظرة شاملة واسعة. في مرحلة ثانية، نقيم الرباطات بين الأسئلة موضوع الجدالات، فنتبيّن كيف أنّ السؤال يتجاوب مع أسئلة أخرى. لهذا نهتمّ أن نربط، كما بمفاصل، مواضيع الجدال. في مرحلة ثالثة، نتطلّع إلى الخطّ الذي رسمه بولس بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، ونبحث عن نقاط الاختلاف. هل هناك نماذج تُتيح لنا أن ندرك أفكار بولس الكبرى بالنسبة إلى هذا الموضوع؟ وفي النهاية، نبقى داخل العالم الذي تبرَّر في يسوع المسيح فنلامس مسائل معلّقة ذات مرامٍ لافتة. ونطرح المواضيع كما في إطار فلسفيّ: الإيمان تجاه الشريعة. الأنتروبولوجيا أو النظرة إلى الإنسان، تجاه الكوسمولوجيا أو النظرة إلى الكون. ففكرُ بولس يبني نفسه في التعارض بين لفظتين هامتين. يبقى علينا أن نعمل كي نفهم هذه التعارضات كما يجب أن تُفهَم.

1 - أبحاث غير لاهوتيّة

الدراسات البولسيّة المتوسّعة(1) في معاهد اللاهوت المسيحيّة، قد خرجت فوصلت إلى مجمل العالم الجامعيّ الذي لا ينحصر في اللاهوت وعلم التفسير.

أ - القراءات اليهوديّة

هناك مجال أوّل عرف توسّعًا كبيرًا منذ الربع الأخير من القرن العشرين: قراءة الرسائل البولسيّة لدى الجماعات اليهوديّة. هي مطبوعة بطابع جديد قديم: قديم لأنّ التعارض بين اليهود والمسيحيّين يعود إلى القرن الأوّل المسيحيّ (الصراع، مثلاً، في كنيسة غلاطية وفي غيرها من الكنائس)؛ وجديد، لأنّ الفكر البولسيّ كان وما زال نقطة الخلاف بين هاتين الديانتين، أكثر ممّا يشكّله تعليم يسوع. سنعود إلى هذا الموضوع في كلامنا عن الشريعة في نظر القدّيس بولس. ولكن منذ الآن نذكر بعض العناوين: بولس. نظرة يهوديّة إلى رسول الأمم(2). كُتب في الألمانيّة ونُقل إلى الفرنسيّة. هذا الذي انتقل إلى العالم الوثنيّ، أيكون خان العالم اليهوديّ؟ أيكون بدّل نظرته؟ هذا مع العلم أنّه قال في الرسالة إلى الرومانيّين: »إنّ لي في قلبي غمٌّا شديدًا ووجعًا لا ينقطع. وأودّ لو أكون أنا نفسي مبسَلاً من أجل إخوتي، ذوي قرباي بحسب الجسد« (روم 9: 2 - 3).

والعنوان التالي: بولس المرتد(3). رسالة بولس الفرّيسيّ وجحوده. أجل، يرون في بولس أنّه ارتدّ عن إيمانه، جحد ماضيه الفرّيسيّ، وقام برسالة تعارض تلك التي بدأ بها قبل لقاءِ الربّ على طريق دمشق وسماع كلامه: »شاول، شاول، لمَ تضطهدني« (أع 9:4).

وطرح كتابٌ ثالث اللاهوت السياسيّ لدى القدّيس بولس(4) مع بعض الفلاسفة ولاسيّما فرويد، مؤسّس علم التحليل النفسيّ. وكتب يهوديّ رابع، واهتمامُه فلسفيّ في الدرجة الأولى: يهوديّ راديكاليّ، جذريّ، بولس وسياسة الهويّة(5). فالرسول الذي كان جذريٌّا حتى العنف حين كان يهوديٌّا، ما اكتفى بأن يلاحق المسيحيّين من أصل يهوديّ، في أورشليم، بل مضى إلى دمشق، ولكان لاحق المسيحيّين هناك، لو لم يقطع له الطريق ذاك الذي اعتبر أنّ من يضطهد الكنيسة يضطهده هو. وبعد دمشق، كان بولس جذريٌّا في إيمانه المسيحيّ، فقال كلامًا قاسيًا عن الشريعة لم يقله وثنيّ: »ما من إنسان يُبرَّر بأعمال الناموس« (غل 2:16). وأضاف: »أما الذين يقتصرون على أعمال الناموس، فإنّهم جميعًا تحت اللعنة« (غل 3:10).

ب - القراءات الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة

نلاحظ هنا أنّا لسنا فقط على مستوى تفسير أخلاقيّ لا يتعمّق كثيرًا، بل يبقى على سطح الأمور. فكلام ا؟، كما ورد في الرسائل البولسيّة، يُلقي بضوئه على مجمل حياة الإنسان في القرن الحادي والعشرين. منذ السنة 1974، انطلقت القراءات السياسيّة والتاريخيّة من الرسائل البولسيّة، فشدّدت على سوسيولوجيّة الكنائس البولسيّة. هل جاءت من العالم اليهوديّ أم من العالم الوثنيّ؟ وظهر كتاب أوّل بعنوان: التاريخ الاجتماعيّ للمسيحيّة الأولى(6) عن دار نشر بروتستانتيّة في سويسرا. والكتاب الثاني جاء من أميركا فقدّم طرحًا يقول إنّ الجماعات البولسيّة تُبنى حسب النموذج الإداريّ في مدن الإمبراطوريّة الرومانيّة. أمّا العنوان فكان: المسيحيّون الأوّلون في المدن: العالم الاجتماعيّ الذي عاش فيه بولس الرسول(7). نتذكّر هنا أنّ بولس اعتاد أن يبدأ البشارة في المدن الكبرى، بحيث يشعّ الإنجيل من هناك فيصل إلى القرى والأرياف. انطلق من كورنتوس ذات النصف مليون نسمة، فشعَّ الإنجيل في مقاطعة أخائية كلّها. وأقام في أفسس، عاصمة آسية (في تركيا اليوم) فحمل أبفراس الإنجيل إلى كولوسي وربّما إلى لاذقيّة (لادوكية) تركيا وهيرابوليس (كو 1:7؛ 4:13). وإن هو توقّف في قرى غلاطية، فقسرًا بعد أن أصابه مرض (غل 4:13 - 15).

وجاء من يجمع كلّ هذه الدراسات في مقال كبير: عملُ بولس على نماذج من الانتماء الاجتماعيّ الدينيّ والاجتماعيّ السياسي(8) (1995). هناك مجتمع ينقسم فيه الناس على مستوى الدين: اليهوديّ والأمميّ، أو على المستوى السياسيّ: اليونانيّ والبربريّ. وهناك فصل بين الأحرار والعبيد، بين الرجل والمرأة. وصدر في السنة عينها كتاب بعنوان: التاريخ الاجتماعيّ للمسيحيّة الأولى. البدايات في العالم اليهوديّ، والجماعات المسيحيّة في عالم البحر المتوسّط(9). تطرّقت هذه الدراسة إلى التكوين الاجتماعيّ للجماعات المسيحيّة في القرن الأوّل المسيحيّ. وفي كلام الكاتب عن الجماعات البولسيّة، يدافع عن طرح يقول إنّ بولس هو من أصل اجتماعيّ وضيع نسبيٌّا. وإنّ الجماعات التي أسَّسها انطلقت من الطبقات المتوسطة في المدن. لا في الطرفين، أي الأرستوقراطيّة وأسفل طبقة العمّال الكادحة. في هذا المجال، نتذكّر ما قاله بولس للمؤمنين الذين توزّعوا في أكثر من بيت، في مدينة كورنتوس: »فانظروا، أيّها الإخوة، إلى المدعوّين فيكم، فليس كثيرون حكماء بحسب الجسد، ولا كثيرون أقوياء، ولا كثيرون شرفاء« (1 كو 1:26).

وصدر كتابٌ آخرُ في هذا الموضوع: ماذا نقول عن تكوين الكنائس البولسيّة؟(10) انطلق الكاتب في عمل سوسيولوجيّ دينيّ حول ظروف الحياة في المدن التي بشّرها بولس، لكي يحدّد نماذج استُعملت من أجل تكوين الجماعات المسيحيّة: هناك الفقراء والأغنياء. هؤلاء يسكرون، وأولئك يجوعون (1 كو 11:21). الطرح الذي دافع عنه الكاتب لا يكتفي بنموذج الإدارة المدنيّة، بل يصل إلى البيوت الكبيرة، ومجامع اليهود، والمدارس الفلسفيّة والتجمّعات الدينيّة مثل العبادات السرّانيّة (مع طقوس التدرّج) والأُخوّات الطوعيّة التي تمارس الرقص والغناء وسائر الضجيج.

موقع هذه القراءات، هو السياق، أي المحيط الذي أُنتجت فيه، لا ذاك الذي نقرأها فيه اليوم. إنّها نتيجة النهج التاريخيّ النقديّ في القراءات الإجماليّة، وما تصبو إليه لا يتوقّف عند القراءة التاريخيّة النقديّة، بل يصل إلى البحث عن نور يضيء النصوص بواسطة معطيات خارجيّة تكشف وضع بولس الاجتماعيّ، ووضع الجماعات التي كتب إليها، في تماسك القراءات المتزامنة. عندئذٍ يتحدّد الوضعُ الاجتماعيّ والسياسيّ لكاتب كتب ولقارئ سوف يقرأ. في هذا المجال، نسمع عددًا من شرّاح الكتاب يعبّرون عن اعتقادهم بأنّه يجب أن نُخرج بولس من عالم العقائد واللاهوت، من أجل قراءات سياسيّة واجتماعيّة، بعد أن وصلت القراءات السابقة إلى حائط مسدود. مثلُ هذه الوجهة تتمثّل في الجامعات الأميركيّة مع توقّف عند بولس والعبوديّة، بولس والمرأة. والمقالات والكتب في هذا المضمار أكثر من أن تُحصى. غير أنّه يجب ألاّ تُحصَر الدراساتُ فيها وتُترَك الأمورُ اللاهوتيّة، وهي غير بريئة من الفرضيّات المسبقة. فالخطر يتربّص بكلّ نظرة جديدة إن لم يكن هناك توازن في الدراسات، وإن نسيَ الباحثون أنّنا أمام نصّ ملهم، يريد أن يوصل إلينا كلام ا؟ قبل كلّ شيء. لا شكّ في أنّ هذا الكلام جاء في إطار معيّن وفي مجتمع محدَّد، لأنّ رسائل بولس توجّهت إلى مؤمنين يعرفهم، ولكن السياق يجب ألاّ يمنعنا من الوصول إلى الخبرة الروحيّة التي تجعل كلام الرسول غذاءً من أجل حياتنا اليوم ومن أجل إيماننا.

ج - القراءات الفلسفيّة

إنّ قراءة الرسائل البولسيّة التي قام بها فلاسفة جلّهم من الملحدين، جاءت في حوار مع اللاهوت، فتميّزت عن القرءات الاجتماعيّة والسياسيّة، وقد اتّسعت هذه القراءات، بشكل خاص، في أوروبا. فمنذ فريدريك نيتشه الذي ندّد بالنموذج المسيحيّ الذي قدّمه الرسول، بحيث صار أقلّ من إنسان، كانت المحاولات عديدة: أوّلها القدّيس بولس لفيلسوف مسيحيّ، وكاهن كاثوليكيّ اسمه ستانسلاس براتون(11). نقرأ عنده صفحات حلوة حول القراءة الاستعاريّة للكتب المقدّسة من أجل تقديم البرهان البولسيّ. وحول نظرة بولس إلى الكون، إلى كوسمولوجيا اغتذت من الحضارة الهلّينيّة من كلام عن الجسد بأعضائه، عن الكون الذي يبدو مدينة صغيرة كما عند الفلاسفة الرواقيّين. ولكن خطأ هذا الفيلسوف خطأان: الأوّل، أنّه لم يعرف أن يميّز بين رسائل كتبها بولس وأخرى كتبها تلاميذه؛ الثاني، أنّه خلط بين الرسائل البولسيّة وأعمال الرسل، والمسافة بين الاثنين ثلاثون سنة تقريبًا، والكاتبان مختلفان. الأوّل هو بولس الآتي من العالم اليهوديّ، والثاني هو لوقا الآتي من العالم الوثنيّ.

وتحدّث ألان باديو عن الكتابات البولسيّة، فألقى عليها نظرة فيلسوف ملحد، في القديس بولس، تأسيس الشموليّة (1997)(12). رأى أنّ القيامة هي الحدث الصرف الذي عليه أسّس بولس كلّ فكره. غير أنّ باديو يعتبر أن هذا الحدث هو خدعة ووهم خياليّ، ويعتبر أنّ فكر بولس يتوزّع حول ثلاثة مفاهيم: الإثنان الأوّلان، اللذان هما الواحد والشامل، يعارضان الثالث الذي هو الخاصّ. هذا المؤلَّف طبع بطابعه التفكيرَ حول البولسيّة في المحيط الفرنسيّ، في هذه السنوات الأخيرة. وتوقّف فيلسوف ثالث عند الرسالة إلى رومة، فاعتبرها إعلان حرب على الإمبراطوريّة الرومانيّة. ثمّ درس القدّيس بولس على أنّه ينبوع تيّارات لاهوتيّة وفلسفيّة لاحقة، بدأت مع مرقيون الذي فصل بين العهد القديم والعهد الجديد، وانتهت مع فرويد ونيتشه وغيرهما. أمّا عنوان كتابه فهو: اللاهوت السياسيّ عند القدّيس بولس(13).

ودوّن ديدييه فرانك نيتشه وظلّ ا؟(14) (1998)، فأشار إلى الوظيفة الأنتروبولوجيّة (دراسة الإنسان) للجسد عند القدّيس بولس. واعتبر أنّ الجسد الممجَّد في القيامة أتاح للإله البيبلي أن يدخل إلى الفلسفة الماورائيّة. وفي السنة 2000، ظهر كتاب جيورجيو أغامبان: الزمن الباقي، شرح الرسالة إلى الرومانيّين(15). في المعنى الحصريّ، هذا الكتاب هو تفسير فلسفيّ لما في روم 1:1: »من بولس عبد يسوع المسيح، المدعوّ ليكون رسولاً، المفروز لإنجيل ا؟«. ولكنّه في الواقع قراءة شبه كاملة للرسالة إلى رومة، تُشرف عليها فكرتان رئيسيّتان: الأولى، أحلّ بولس محلّ شموليّة غامضة »تحطيم الخاصيّة« أو »تحطيم التحطيم«. لا مكان عند بولس الرسول لليهوديّ تجاه الأمميّ، ولا لليونانيّ تجاه البربريّ. لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة »لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح« (غل 3:28). راحت كلّ الامتيازات، واختفى ما يخصّ هذه الفئة أو تلك. والختان الذي يميّز الشعب العبرانيّ، لا يفيد شيئًا بعد اليوم. »لأنّ الختان ليس بشيء، ولا القلف، بل الخليقة الجديدة« (غل 6:15). أمّا الفكرة الثانية فترى في الزمن المسيحانيّ حضور المسيح في »الآن« الذي يضغط الماضي والحاضر في تداخل الأدهار. نشير هنا إلى ظهور ملفّ مشترك تكرّس لقراءة بولس الفلسفيّة بعنوان: »القدّيس بولس الحدث: اليهوديّ، اليونانيّ، الرومانيّ، المسيحيّ«. هذا جاء في مجلّة »الفكر«(16) في شباط السنة 2003.

هؤلاء الفلاسفة الذين ليسوا بعيدين، يقرأ الواحد منهم الآخر، ويصحّح الثاني فكرَ الذين سبقوه، بحيث يُصاغ أمامنا حوارٌ فكري. ونحن نميّز خطّين رئيسيّين: الأوّل يعمل في استراتيجيّة براهين القدّيس بولس، وفي نموذجيّةٍ مسيحيّةٍ شاملة. لا ليس بولس ذاك اليهوديّ المنغلق، ولا الفرّيسيّ المتزمّت. ولا هو حصرَ نفسه مع فئة من الفئات، ولاسيّما في كورنتوس حيث قال في فورة »حدّته« وكأنّ الأمور وصلت معه إلى الحدود: »ألعلّ بولس صُلب لأجلكم؟ أباسم بولس اعتمدتم؟« (1 كو 1:13). إن كان الأمر هكذا، فلماذا تجزّئون المسيح؟ لماذا يريد كلُّ واحد منكم أن يستأثر بالصليب وكأنّه ملك خاص به؟ مثل هذا الغنى الذي قدّمه الخطّ الأوّل يساعدنا على تحليل ظاهرة إعلان البشارة في الرسائل، وعلى تكوين فكرة متكاملة عن دوافع السوتيريولوجيا (الكلام عن الخلاص) البولسيّة.

والخط الثاني ينطلق من نظرة بولس إلى الجسد، كجسد فيزيائيّ وجسد اجتماعيّ. فالقدّيس بولس يميّز بين الجسد (سوما في اليونانيّة) الذي هو للقيامة، وعنه يقول بولس في معرض تنديده بالزنى: »جسد الإنسان... هو للربّ والربّ للجسد« (1 كو 6:13). وبين البدن (أو اللحم والدم، ساركس في اليونانيّة)، الذي يدلّ على الضعف في الإنسان. وهكذا يُبرز هذا الخطُّ الأنتروبولوجيا البولسيّة التي هي مجالٌ لم يدرسه بعدُ شرّاح الكتاب المقدّس بما فيه الكفاية، إذ تنقصهم الأدوات لدراسة المفاهيم المتعلّقة به. لهذا، يبدو من المفيد جدٌّا العودةُ إلى ما حمله هؤلاء الفلاسفة؛ من دراسة لبولس الرسول. ونذكر في هذا الإطار كتابًا ظهر بالإنكليزيّة، العام 1952، ونُقل إلى الفرنسيّة العام 1966، فأدّى خدمات كبيرة، ولكنّه يحتاج إلى إعادة كتابة، هو: الجسد، دراسة حول لاهوت القدّيس بولس(17).

2 - إقامة الروابط بين الأسئلة المختلفة

طرح الفلاسفة أسئلة حول القراءة اللاهوتيّة للرسائل البولسيّة. غير أنّا إذا غُصنا بعض الشيء في عالم اللاهوت، لاكتشفنا أنّ الأسئلة موضوع الجدال اليوم في الكتابة البولسيّة، هي دقيقة وعديدة، بحيث يُدرس كلُّ سؤال وحده. والمفسّر المتخصّص لا يستطيع بعدُ أن يقول إنّه متخصّص في القدّيس بولس، بل في ناحية من الفكر البولسيّ. هذا ما لا يفهمه الشرقيّون الذين لا نجد عندهم اليوم الكثير من الأخصّائيّين الأخصّائيّين. فهم أوّلاً لا يتفرّغون للبحث. وإن تفرّغوا للتعليم، أرادوا أن يعلّموا كلّ شيء، بحيث لا يستطيعون أن يغوصوا إلى الأعماق. ثمّ إنّ ما يصدر في اللغات الأوروبيّة من أبحاث، تمنع الدارس أن يوسّع مجاله لئلاّ يبقى على سطح الأمور، ولا يجعل الدراسات تتقدّم وتتطوّر. أمّا في أوروبا وفي أميركا، فالباحث يتناول وجهة واحدة تجعله ينقطع عن مجمل الأسئلة المطروحة. ولهذا، فهو لا يقدّم لائحة بمواضيع الجدال، وهذا أمر مستحيل، بل يحاول أن يربط الأسئلة بعضها ببعض. ونأخذ في هذا المجال مثلين اثنين: البلاغة والتبرير، لاهوت الشريعة ولاهوت الصليب.

أ - البلاغة والتبرير

إنّ النظرة الجديدة التي ينظرها الشرّاح إلى التبرير حسب القدّيس بولس، وإلى العلاقة التي يجعلها الرسول بين الإيمان والشريعة، ليست نتيجة الأبحاث عن نظرة بولس إلى العالم اليهوديّ، بل هي مدينة أيضاً إلى القراءة البلاغيّة للرسائل البولسيّة، ولاسيّما الرسالة إلى رومة. والمثل المشهور تقدّمه روم 7 وقراءة لوثر لما ورد في روم 7:15 - 16: »إنّي لا أفهم ما أفعل؛ فما أريده لا أفعله، وما أكرهه إيّاه أفعل. فإن كنت أفعل ما لا أريد فأنا شاهد للناموس بأنّه حسن«. شرح لوثر هاتين الآيتين وأوجزهما بعبارة مشهورة: »بار وفي الوقت عينه خاطئ«. وقال: »فإذا كنتُ لا أريد بالروح (أي ما لا أريد) أن أشتهي، أعمله بالجسد (بالبدن، باللحم والدم)، أنا أتوافق مع الشريعة، أو أقرّ أنّها صالحة. فمثلَها أنا أريد الخير، وهي التي تقول: »لا تشتهِ«. لهذا أنا في الوقت عينه خاطئ وبار، لأنّي أعمل الشرّ وأكره الشرّ الذي أعمل«(18).

حسب الترتيب البلاغيّ تتضمّن روم 7: 7 - 25 عناصر من الطرح والبرهان عُبّر عنها في صيغة المتكلّم المفرد. وقد نفكّر طوعًا أن »أنا« تعود إلى كاتب الرسالة (لا أفهم أنا، ما أفعل أنا)، وبالتالي إلى بولس تلميذ المسيح. غير أنّ الأبحاث حول القدّيس بولس والبلاغة اليونانيّة الرومانيّة تقودنا إلى أن نطرح السؤال حول الوضع البلاغيّ لهذه »الأنا«. هناك توافق شبه عام يؤكّد أنّ الكاتب لا يصف هنا وضعه الخاص في المسيح، وإنّ استعمال صيغة المتكلّم المفرد، في هذا المقطع، يعود إلى أسلوب في الكتابة، وينطبق على وضع الإنسان في نظام الشريعة، أي الإنسان بدون المسيح.

ولكن الجدال ما زال قائمًا. فكيف يمكن لكاتب يستعمل صيغة المتكلّم المفرد أن لا يُدخِل في كتابته وضعَه الحاضر، أقلّه في جزء منه. ثمّ هناك تردّدٌ حول الوضع المحدّد لهذا الإنسان في نظام الشريعة. فهل الإنسان الذي يصفه هو في وضع »آدم« مثل كلّ إنسان في فسحة الزمن الواقعة بين آدم ويسوع المسيح؟ قد نفكّر في ذلك، لأنّ العالم اليهوديّ القديم اعتبر أنّ التوراة أعطيت لآدم منذ البدايات. يقول الترجوم حول تك 2:15: »أخذ الربّ الإله آدم، وأسكنه في جنّة عدن ليؤدّي العبادة حسب الشريعة ويحفظ وصاياه«(19). أو هل الإنسان الذي يصفه هو في وضع موسى، في وضع اليهود بين عطيّة التوراة في سيناء وحدث يسوع المسيح؟(20) ويبقى السؤال مفتوحًا. غير أنّ قراءة لوثر التي تعتبر أنّ الحرب بين الرّغبة الصالحة والفعل الشرّير، تنطبق أوّلاً على الإنسان المبرَّر، الذي هو في الوقت عينه خاطئ وبارّ، هذه القراءة صارت موضع شكّ. هذا لا يعني أنّ عبارة »خاطئ وبار معًا« لا تستحقّ أن تنطبق على »الإنسان المبرّر«. بل ليست في مكانها كتفسير لما في روم 7:16.

ونلاحظ في نهاية هذا السؤال، مع ابتسامة عابرة، أنّ عبارة لوثر »بار وخاطئ معًا« التي كانت إحدى نقاط الاحتكاك الرئيسيّة بين البروتستانت والكاثوليك، تمّ التوافق عليها بين الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة والرابطة اللوثريّة العالميّة في وثيقة وُقّعت في 16 من حزيران العام 1998(21). ونحن نقرأ في الملحق ما يلي:

»معًا (لوثريون وكاثوليك رومان) نفهم الإرشاد:

»فلا تملك الخطيئة إذن جسدكم المائت، بحيث تخضعون لشهواته« (روم 6:12)، هذا ما يذكّرنا بالخطر المستمرّ الذي يأتي من سلطان الخطيئة وعملها في المسيحيّين. في هذا الإطار، يستطيع اللوثريّون والكاثوليك أن يفهموا المسيحيّ كبارّ وخاطئ معًا، بالرغم من مقارباتهما المختلفة من هذا الموضوع«.

ب - لاهوت الشريعة ولاهوت الصليب

مع التبرير والبلاغة كنّا أمام تجمّع غيرِ متماسك. إنّه يربط نهج كتابة يضمّ نهج قراءة (البلاغة) إلى مسألة لاهوتيّة (التبرير). مثل هذا البناء أمرٌ معروف، ونحن لا ندهش أن تكون الكتب والمقالات كثيرة في هذا المجال. ولكن أن نضمّ مسألتين لاهوتيّتين لا رابط طوعيٌّا بينهما لأمرٌ أصعب، ولاسيّما أنّا ننظر إلى المسألة الأولى بغير ما ننظر إلى المسألة الثانية. ومع ذلك، يبدو أن مدلولين لاهوتيّين رئيسيّين يستحقّان نظرة واحدة، عنيتُ بهما الشريعة والصليب.

الشريعة هي في أساس العالم اليهودي، والأمانة لها قد تقود المؤمن إلى الشهادة والموت. هذا ما حدث بالنسبة إلى اليهود خلال الحقبة المكابيّة واضطهاد أنطيوخس الرابع ابيفانيوس، ملك أنطاكية، الذي أراد أن يفرض حضارة يونانيّة على حساب ممارسة دقيقة توحّد أفرادًا لا إطار عالميٌّا يجمعهم. والصليب هو في أساس المسيحيّة. فإن نحن ألغيناه ألغينا المسيحيّة. في أيّ حال، لم يستطع اليهود أن يقبلوا به، وهم الذين يطلبون الآيات. واليونانيّون رفضوه لأنّهم يبحثون عن حكمة بحسب هذا العالم. هنا يأتي كلام بولس قاطعًا: »وفيما اليهود يسألون آيات، واليونانيّون يطلبون حكمة، نكرز، نحن، بمسيح مصلوب، عثرةً لليهود، وجهالةً للأمم. أمّا للمدعوّين، يهودًا ويونانيّين، فهو مسيح، قدرة ا؟ وحكمة ا؟« (1 كو1:22 - 24). وكان الرسول قد سبق وقال: »إنّ كلام الصليب عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلَّصين، فقدرة ا؟« (آ 18). فهل يمكن الجمع بين الاثنين في شرقنا، بعد أن رُفض التجسّد منذ بداية المسيحيّة، وبدعة الظاهريّة تقول إنّ المسيح لم يأخذ جسدًا، بل تظاهر؟ ولهذا، فلا يمكن أن يكون صُلب ومات. فالناس ظنّوا ذلك. غير أنّ الصلب لم يكن حقيقة وواقعًا.

أمّا لاهوت الشريعة عند القدّيس بولس، فلقد عولج مراتٍ في ارتباطه مع المقاربة البولسيّة للعالم اليهوديّ، أو في »التعارض« بين الشريعة والإيمان. فالشريعة تُعتَبر مواجِهةً للإيمان كما نقرأ في الرسالة إلى غلاطية: »أيّها الغلاطيّون الأغبياء! من سحركم أنتم الذين رُسم أمام عيونهم يسوع المسيح مصلوبًا! لا أريد أن أعرف عنكم سوى أمر واحد: أبأعمال الناموس نلتم الروح أم بسماعكم الإيمان« (3:1 - 2). أمّا لاهوتُ الصليب فهو ينحصر عادة في لاهوت موت المسيح، ونتائجه على الحياة الأسراريّة، ولاسيّما العماد (نموت مع المسيح لنقوم مع المسيح)، أو عبر نظرة بولس إلى الذبيحة (ذبيحة القدّاس بالنسبة إلى ما كان يتمّ في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ)، أو على خلقيّة الحياة الرسوليّة التي هي صليب نحمله. من أجل هذا قال الرسول: »حكمتُ بأن لا أعرف شيئًا في ما بينكم، إلاّ يسوع المسيح، وإيّاه مصلوبًا« (1 كور 2:2). وسوف يورد في الرسالة الثانية إلى كورنتوس العذابات التي قاساها فصارت حياتُه امتدادًا للصليب في رسالته: الأتعاب، السجون، الجلد، الموت، الاقتراب من الغرق... (2 كور11:23 - 29).

ومع أنّ ربط لاهوت الشريعة مع لاهوت الصليب أمرٌ صعب، إلاّ أنّا نجد دراسات في هذا المضمار، أوّلها الدراسات المتعدّدة حول الرسالة إلى غلاطية. نذكر بعضها: عنف مقدّس ولعنة الشريعة في غل 3:13: موت المسيح كمحاكاة ساخرة للذبيحة(22). هذا المقال يستعمل نظريات رينه جيرار، ويعتبر أنّ العنصر الدينيّ هو دالول يساعد على فهم الصليب عند القدّيس بولس. أمّا الطرح الذي يدافع عنه، فهو أنّ بولس، منذ اهتدائه، يعتبر الشريعة كأداة العنف الدينيّ. ونذكر مقالاً ثانيًا: »تحت اللعنة«(23)، قراءة جديدة لما ورد في غل 3: 10 - 14. حلّل الكاتب هذا النصّ البولسيّ حول نهج »القارئ يجيب«. إنّ الشريعة تُقرأ على ضوء سفر التثنية، وذكر تث 27:26 مع كلام عن لعنة الخطيئة بواسطة الشريعة. وأشار تث 21:23 إلى الخشبة التي يُعرَض عليها الملعون ليراه الجميع. أمّا المسيح فقَبِلَ هذا الموت، موت اللعنة، لكي يخلّصنا من الخطيئة التي سبّبت هذه اللعنة. هذه الشريعة تربط بين لعنتين: لعنة اليهوديّ الذي لا يستطيع أن يمارس جميع متطلّباتها، ولعنة المسيح المصلوب. وشدّد مقال ثالث(24) على الدور المعاكس للشريعة، وعلى قراءة بولس للكتاب المقدّس في غل 3:10 - 13. قال: إنّ مفتاح غل 3: 10 - 13 هو إيديولوجيّة انقلاب الأدوار: صارت تتمّةُ الشريعة بصليب المسيح مساويةً لعدم تتمّة الشريعة. وعرض آخرون لاهوت الصليب على أنّه النموذج الجديد للفكر البولسيّ(25). ونقلونا من اللعنة إلى البركة حين فسّروا غل 3:10 - 14. ونذكر مقالاً أخيرًا: ملعون من عُلّق على خشبة. الصلب في الشريعة وفي الإيمان(26). حين أورد الرسول تث 21:23، فصل بين الشريعة وا؟، وقدّم فهمًا إيجابيٌّا للصليب.

وهكذا يبدو أنّ التعارض بين الشريعة والصليب، في الرسائل البولسيّة، يحمل أكثر من معنى. فنلاحظ هنا نقطتين شدّد عليهما بولس بشكل خاص، ما شدّد عليهما غيره: فلقد أبرز، من جهة، موت المسيح على الصليب، مع أنّه أَخذ من التقليد عباراتٍ كرازيّة تعلن أنّ »المسيح مات«، ولا تشير إشارة صريحة إلى الصليب؛ ومن جهة ثانية، إنّ الشريعة تحكم على وضع المصلوب. وقد أرادت أن تحكم على يسوع، كما على غيره من البشر. لا شكّ في أنّ الصلبان كانت تملأ الطرقات في زمن الرومان، في القرن الأوّل المسيحيّ، بحيث نقص الخشب لمّا صلبت السلطة الحاكمة أربعة آلاف شخص في يوم واحد. ولكن هذا المصلوب، يسوع المسيح، غيرُ جميع المصلوبين. فلقد حوّل الصليب إلى مجد، والموت إلى قيامة. ولكن الشعب اليهوديّ لم يقبل بهذا، بل جعل يهزأ من يسوع على الصليب. هو المسيح الذي يجب أن يكون ممجّدًا، فإذا هو مصلوب. يظنُّ أنّه يخلّص البشريّة، ولا يقدر أن يخلّص نفسه. في هذا الإطار، ذكر الرسول ما حمل إليه التقليد الذي شارك فيه مع جماعات دمشق وحوران وشرقيّ الأردن فقال: »سرتُ إلى بلاد العرب، ثمّ رجعتُ إلى دمشق« (غل 2:17)؛ وقال في 1 كو 15:3 - 4: »فإنّي قد سلَّمتُ إليكم أوّلاً، ما تسلّمتُ أنا نفسي، أنّ المسيح مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب؛ وأنّه قُبر وأنّه قام في اليوم الثالث، على ما في الكتب«.

جاء الصليب في مواجهة الشريعة، في الرسالة إلى غلاطية بشكل خاصّ. ولكن هذه الرسالة بدت وكأنّها تهيّئ الطريق للرسالة إلى رومة. هناك مقطع في غل 3: 6 - 14 يتضمّن في الوقت عينه »أعمال الشريعة« (آ 10) و»لعنة الشريعة« (آ 10، 13). وتعود الصفة »ملعون« وتتكرَّر في آ 10، 13. كيف نفهم هذا المضاف »لعنة الشريعة«؟ وما هو معنى هذه اللعنة؟ هل الشريعة ملعونة بالنظر إلى متطلّباتها الخاصّة؟ وهل يُكرّس الصليبُ لعنةً جديدة للشريعة؟ والسؤال الأخير: هل يرتبط لاهوت الشريعة، في الرسالة إلى الرومانيّين، باللاهوت الذي تعبّر عنه الرسالة إلى غلاطية؟

يبدو أنّ تث 21:23 (ملعون كلّ من عُلِّق على خشبة) هو آخر مفاتيح قراءتنا لهذا المقطع من غلاطية. وجد المسيح المصلوب نفسه ملعونًا من قِبَل الشريعة، فحرّر المؤمنين من »لعنة الشريعة« وفتح عهد البركة للذين لا شريعة لهم، مثل إبراهيم والمؤمنين الذين تبعوه وكانوا من أصل وثنيّ... ولكن هذا ليس الكلمة الأخيرة لشرح النصّ البولسيّ. لا شكّ في أنّ المصلوب لُعن بواسطة الشريعة. ولكن هل نستطيع أن نقول العكس فنؤكّد أنّ المسيح لعن الشريعة؟ هل لُعنت الشريعة بسبب صلب المسيح، أو هناك لعنة مرتبطة بالشريعة، ولا علاقة لها بالصليب. الورشة ما زالت مفتوحة لدراسة هذا المقطع وغيره، من أجل حوار بين المسيحيّين واليهود، كما بين المسيحيّين والمسلمين. دور الشريعة واضح في الإسلام، في أدقّ التفاصيل. ورفضُه للصليب معروف كما برز بشكل خاص في كتاب نُقل مؤخرًا إلى العربيّة الإنجيل برواية المسلمين(27). أمّا العلاقة بين الشريعة والإيمان فما زالت دراستها بعيدة عن التفاهم التامّ بين المسيحيّين. هنا نفهم أهمّيّة قراءة القدّيس بولس، ولاسيّما أنّ وجود الجماعات البروتستانتيّة في العالم العربيّ، صار ظاهرة معروفة. فبعض المؤمنين من الكنائس الشرقيّة القديمة ينتقلون إلى هذه الفئة البروتستانتيّة أو تلك، لأنّهم يعتبرون أنّ كنائسهم تركت جانبًا الكتاب المقدّس في حياتها وفي صلاتها، وتعلّقت بالأعمال دون الإيمان الذي هو التزام رسوليّ. ولكن لا يمكن أن نستقيل ونترك الأمور تسير مسيرتها إلى أن يأتي يوم نرى كنائسنا فارغة إلاّ من طقوس ما عادت مفهومة لدى مؤمنين نسُوا الكتاب المقدّس.

3 - الانقطاع بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ

النقطة اللاهوتيّة البولسيّة الأكثر جدَلاً منذ ثلاثين سنة تقريبًا، هي نظرة بولس إلى الشريعة اليهوديّة، وبالتالي أهميّة هذه الشريعة في الإطار المسيحيّ. نحن لا ننسى أنّ بولس كان ممارسًا دقيقًا لشريعة الآباء. ولكن مع اهتدائه تبدّلت الأمور. قال: »كنتُ أفوق، في الملّة اليهوديّة، كثيرين من أترابي في أمّتي، إذ كنتُ أغار بإفراط على سنن آبائي. فلما ارتضى ا؟ - الذي فرزني من جوف أمّي ودعاني بنعمته - أن يُعلن بي ابنَه فيَّ لأبشّر به بين الأمم، للوقت لم أصغِ إلى اللحم والدم« (غل 1: 14 - 16). أجل، في ذلك الوقت ترك القرابة اليهوديّة وارتباط المؤمن بشريعة تتألّف من 613 وصيّة، بينها 365 تأتي بصيغة المنع: لا تفعل. و248 بصيغة الأمر: أكرم أباك وأمّك.

أجل، بولس يهوديّ يهوديّ، وسوف يظلّ متعلّقًا بشعبه حتّى نهاية حياته، مع أنّ هذا الشعب سوف يلاحقه فيَشي به مرّة أولى أوصلته إلى السجن في قيصريّة، ثمّ في رومة؛ ومرّة ثانية قادته إلى الموت بقطع رأسه على طريق أوستيا، قرب رومة. وإذ يقابل بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ، فهو في الواقع يقابل بين نظام بدون المسيح (أو قبل المسيح) ونظام مع المسيح. وبين هذين النظامين، هناك انقطاع وهناك تواصل. فالعهد الذي بدأ مع إبراهيم يجد كماله في يسوع المسيح. غير أنّ تجسّد الابن يشكّل قفزة نوعيّة لم تكن امتدادًا لما سبقها. فهذا الذي وُلد، لمّا بلغ ملء الزمان، من امرأة، وُلد تحت الناموس (غل 4:4)، لم يكن إنسانًا وحسب، بل كان ابن ا؟ الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا تألّم ومات وقُبر. ولم يحصر نفسه في إطار يهوديّ. فإن هو وُلد تحت الناموس، فلكي يفتدي الذين تحت الناموس. فلو لبث تحت الناموس، لارتبط بعبوديّة هاجر، ولما كان حمل إلى البشريّة نعمة التبنّي التي بها نصرخ: »أبّا، أيّها الآب«.

نقطة الانطلاق في هذا المجال كتاب ظهر، العام 1977: بولس والعالم اليهوديّ في فلسطين، مقابلة بين النماذج الدينيّة(28). ثمّ توالت الكتب منذ العام 1980، بمعدّل كتاب أو كتابين في السنة، هذا عدا المقالات العديدة. أمّا نحن فنتوقّف عند موضوعين: الأوّل، الإيمان تجاه الشريعة(29)؛ والثاني، الوحدة والشموليّة تجاه الخاصيّة(30). لم يُدرَس بعد هذا الموضوع الأخير بما فيه الكفاية، ولهذا يكون كلامنا عنه قصيرًا.

أ - الإيمان تجاه الشريعة

من بديهيّ الكلام أن نقول إنّ المواجهة بين الإيمان والشريعة هي إحدى المركّبات الرئيسيّة في الفكر البولسيّ، في ما يتعلّق بالحوار بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ. فهذان اللفظان يوضَعان مرارًا، الواحد تجاه الآخر، في الكتابات البولسيّة. ونذكر أكثرها دلالة: »وأمّا الآن فقد اعتلن برّ ا؟ بمعزل عن الناموس، مشهودًا له من الناموس والأنبياء، برّ ا؟ بالإيمان بيسوع المسيح إلى جميع الذين يؤمنون« (روم 3: 21 - 22). فالتعارض بين الإيمان والناموس (أو الشريعة) واضحٌ. وسوف يستعيد بولسُ تعابيرها مرارًا. ولكن في أيّ مدلول، في أي معنى، نفهم هذه المواجهة؟

هل نحن أمام مواجهة بين وسيلَتي خلاص؟ ذاك هو الوضع حين نقرأ قراءة أولى المقطع الذي أوردناه من روم. ولكن يبدو أنّا أمام مواجهة بين زمنَي خلاص، كما في الرسالة إلى غلاطية التي تذكر الشريعة والإيمان على أنّهما يدلاّن على حقبتين متعاقبتين: »قبل أن يأتي الإيمان كنّا محفوظين تحت الناموس، مغلَقًا علينا، في انتظار الإيمان الذي سيُعلن« (غل 3:23). ونستطيع القول أيضاً إنّ الشريعة والإيمان هما طريقان لعيش العهد، ودافعان مختلفان لحياة خلقيّة، كما في القسم الإرشاديّ من الرسائل: نعيش حسب الإيمان أو نعيش حسب الشريعة؟

جميعُ شرّاح القدّيس بولس يطرحون سؤالاً حول وضع الشريعة اللاهوتيّة في النظام المسيحيّ، كما نقرأ في آية من الرسالة إلى رومة: »لأنّ غاية الناموس هي المسيح الذي يبرّر كلّ من يؤمن« (روم 10:4). ما معنى »غاية«؟ هل ألغيت الشريعةُ في المسيح؟ أو هل بلغت إلى ملئها؟ كيف يرتبط معنى بآخر؟ وهل يجب أن يُضافَ معنى إلى آخر؟ لا شكّ في أنّ الدور الذي يجعله القدّيس بولس للشريعة في الإطار المسيحيّ، يرتبط بذاك الذي نجده في العالم اليهوديّ. ولكن التيّارات كانت عديدة في اليهوديّة، في زمن بولس الرسول: من نظام شريعة يرتبط بالعهد إلى فرائض تدلّ على الهويّة. لا نريد هنا أن نخوض مغامرة تقودنا بعيدًا. لهذا نكتفي بطرح سؤالين على هذه المسألة العامّة: بولس وتاريخ الخلاص. الخلقيّة البولسيّة.

أوّلاً - بولس وتاريخ الخلاص

قام بولس بقراءة التاريخ محدّدًا فيه المراحل المتعاقبة. وإن هو لم يتوقّف طويلاً عند فسحة الزمن الواقعة بين آدم وإبراهيم، فمجيء موسى والشريعة فتح أمامه حقبة سابقة للمسيح لها خاصيّتها. بل اهتمّ بأن يؤرّخ في الزمن هذا المجيء، وهذا ما لم يفعله من أجل أحداث أخرى: قال إنّ الشريعة التي جاءت بعد إبراهيم بأربع مئةٍ وثلاثين سنة، لم تُلغِ العهد الذي أقامه ا؟ من أجل ابراهيم (غل 3:11). أمّا حدثُ يسوع، وإن لم يكن مؤرَّخًا بالنسبة إلى الأحداث السابقة، إلاّ أنّه فتح زمنًا جديدًا في التاريخ يشبه مجيء الشريعة، بل يتعدّاها إلى ما لا حدود له.

كيف نَصِفُ هذه النظرة إلى التاريخ؟ هل تقابل تجزئة الزمن قبل المسيح؟ إن كان الجواب نعم، فما هي المراحل الكبرى في هذه التجزئة؟ هل يمكن حقٌّا أن نتكلّم عن تاريخ خلاص؟ صدر كتاب أوّل عن المسيح والزمن، الزمن والتاريخ في المسيحيّة الأولى(31). وكتاب ثانٍ عنوانه »مراحل تاريخ الخلاص في الرسالة إلى رومة«(32). ميّز كاتبه أربع مراحل في تاريخ الخلاص: زمن الفردوس في البداية. زمن الإنسان الذي بيع للخطيئة. زمن الإنسان الذي حرّره يسوع المسيح، ونال عطيّة الروح. وأخيرًا، تتمّة الزمن بافتداء الكون. وكانت محاولات أخرى شدّدت كلّها على الجديد الذي جاء به الحدثُ الفصحيّ في التاريخ. بداية الخلاص هي بداية التاريخ الحقيقيّ. ما جاء قبله هيّأه. وما يأتي بعده يكون امتدادًا له(33).

غير أنّ هذه المواقف ما زالت مفتوحة. والسؤال الأوّل الذي يُطرح: هل مفهوم تاريخ الخلاص الذي استخلصه الشرّاح من مجمل العهد الجديد، ولاسيّما من إنجيل لوقا وأعمال الرسل، هو كافٍ لكي يصف نظرة بولس إلى التاريخ؟ والسؤال الثاني يشير إلى الطريقة التي بها يتصوّر بولسُ حقبة الزمن الممتدّة من حدث المسيح إلى المجيء الثاني. فهذا الزمن الذي يدعوه الرسل »الدهر الحاضر« (روم 8:8)، زمن الآن، هل تكوّنه سلسلةُ أويقات مثل الحقبات الأخرى، أم له طابعه الخاص؟ لقد وسّع الرسول خطّ الانفصال بين حقبة وحقبة، فكان تداخل بين الحقبات يقابل هذه المرحلة الخاصّة التي دامت منذ المسيح فوصلت إلينا، أي ألفي سنة بعد الفصح.

ثانيًا - الخلقيّة البولسيّة

إنّ استمراريّة الشريعة اليهوديّة في النظام المسيحيّ، أو عدم استمراريّتها، لها نتائج هامّة على التعليم الأخلاقيّ كما نقرأه عند القدّيس بولس. فما هي دوافع هذه الخلقيّة البولسيّة؟ هل لها بعدُ علاقة مع الشريعة اليهوديّة، أم أنّها لم تعد إطلاقًا خلقيّة الشريعة؟ هذا ما يقودنا إلى دراسة عبارتين كثُر الجدال حولهما: »شريعة المسيح« (غل 6:2). »شريعة الروح« (روم 8:2). ثمّ ما هي علاقة هاتين العبارتين مع الشريعة اليهوديّة؟

من الواضح أنّ بولس احتفظ ببعضٍ من فرائض كانت جزءًا من الشريعة، مثل وصيّة محبّة القريب، كقاعدة للحياة المسيحيّة. وكتب في روم 13:9 بأنّ هذه الوصايا: »لا تزنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشهد بالزور، لا تشتهِ« وكلّ وصيّة أخرى، تلخَّص في هذه الكلمة: »أحبب قريبك كنفسك« (راجع لا 19:18). ومن الواضح أيضاً أنّ الرسول لا يستعمل لفظة وصيّة »(إنتولي، في اليونانيّة) ليتحدّث عنها، بل يُحلّ محلّها لفظة »كلمة« (لوغوس). بل يبدو أنّ بولس تحفّظ بعض الشيء بالنسبة إلى الطاعة لوصايا محدّدة، بحيث سمح لنفسه، في ممارسته الرسوليّة، أن يبتعد عن طرق عمل أوصى بها الربُّ يسوع وهي العيش من المذبح. فحين اختار أن يعمل بيديه، عصى في شكل من الأشكال »أوامر« الربّ. نقرأ في لو 10: 7: »فإنّ العامل مستحق أجرته«. وفي 1 كو 9: 14: »الذين يبشّرون بالإنجيل يعيشون من الإنجيل«. هذا ما لم يقرَّ به بولس إلاّ بعد أن وصل الفريق الرسوليّ. ولكن قبل ذلك الوقت، يخبرنا عنه أعمال الرسل: »وإذ كان (بولس) من أهل صناعتهما (برسكلة وأكيلا)، أقام عندهما، يعمل معهما، وكانا صانعي خيام« (أع 18: 1 - 3).

يُفرط بعض الشرّاح في القول بأنّ بولس احتفظ، من أجل الحياة المسيحيّة، بمجمل الوصايا (عددها 613، كما قلنا) ما عدا الفرائض الطقسيّة مثل الختان، وقواعد الطعام والأعياد. هذا ما قيل في كتاب نُشر، العام 1989: المسيح والشريعة عند بولس(34) فاعتبر أنّ الشريعة تُفرَض دومًا على المسيحيّ، على المستوى الخلقيّ، مهما كان أصلها. وما ألغي منها سوى شرائع العبادة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية نخطئ إذا اعتبرنا أنّ بولس لم يحتفظ بأيّة فريضة أخلاقيّة من التوراة بحيث دُعيَ »مناوئًا للناموس«، للشريعة. في هذا المناخ جاء »الوجود المسيحيّ حسب القدّيس بولس(35) يؤكّد جذريّة بولس في تعاطيه مع الشريعة. أمّا جوابُنا فهو أنّ بولس حافظ على القيم الخلقيّة في الشريعة، ولكنّه رفض شكلها وما فيه من أمر مطلق. هنا نقرأ ما قيل في عظة الجبل: »لا تقتل، لا تزنِ«، فلو كانت الوصيّة مطلقة حتّى في العهد الجديد، لما كان أُضيف إليها شيء. ولكن يسوع أضاف: »أمّا أنا فأقول لكم«. غاية الشريعة ليست في حدّ ذاتها. غاية الشريعة هي المسيح، وإليه يجب أن تقودنا. فمعيار كلّ شريعة سابقة للتجسّد هو الإنجيل. ولا يمكن أن نستخلص شريعة، بعد قيامة الربّ، تتنافى، من بعيد أو قريب، مع تعليم الإنجيل وسائر أسفار العهد الجديد. هذا يعني، في شكل من الأشكال، أن بولس وضع حدٌّا لنظام الشريعة. غير أنّا نبقى أمام نظرتين مختلفتين إلى الخلقيّة. فإن جاء المؤمن من العالم اليهوديّ، اعتبر الوصايا الجديدة امتدادًا لممارسة قديمة. أمّا الآتي من العالم الوثنيّ، فيعتبر أنّ ما يضاف إلى وصايا المسيح، أمور نستعيرها من العالم اليهوديّ(36)، ولا بدّ من أن نستغني عنها: »فمتى جاء الكامل أُبطل الناقص« (1 كو 13:10). هنا نرفض قول القائلين بأنّ الشريعة ما زالت وسيلة خلاص بالنسبة إلى الآتين من العالم اليهوديّ. والمسيح هو فقط وسيلة خلاص للوثنيّين. مثل هذا القول ينسى مكانة المسيح الوحيدة في تاريخ الخلاص. قال بطرس: »فما من خلاص بأحد غيره، إذ ليس تحت السماء اسمٌ آخر أعطيَ للناس به ينبغي أن نخلص« (أع 4:12).

ب - الوحدة والشموليّة تجاه الخاصيّة

بدا نموذج التعارض مع الشريعة في مواجهة الإيمان، مهمٌّا لكي نكتشف موضع الفصل بين نظام بدون المسيح، ونظام في المسيح. هنا نطرح مواجهة بين الخاصيّة من جهة، والوحدة والشموليّة من جهة ثانية. الخاصيّة هي نظام بدون المسيح. نظام العالم اليهوديّ مع امتيازاته التي تفرّقه عن سائر البشر. ثمّ نظام العالم اليونانيّ الذي يتميّز عن البرابرة. وهكذا تنقسم البشريّة في مجموعات لها خاصيّاتها: على المستوى الدينيّ (يهوديّ ولا يهوديّ)، والإثنيّ (يونانيّ وبربريّ) والاجتماعيّ (الحرّ والعبد) والبشريّ (الأنثى والذكر)، والاقتصاديّ (الأغنياء والفقراء). ذلك هو العالم الذي وجده بولس حين حمل إليه الإنجيل. قَبِل بهذه البنية ما دام لم يدركه المسيح بعد.

ولكن جاء نظام آخر يعارض هذا النظام. هو النظام في المسيح الذي وحّدته القيامة، ذاك الحدث الخالص، ذاك الحدث الفريد، وبالتالي الشامل. إنّ نظرة بولس إلى العالم هي نظرة إلى الكون الذي خسر كلّ خواصِّ شرعيّته. هو عالم وحيد، فريد، شامل. فالفريد هنا يُسند الشامل. وهذا ما نلحظه في البرهان مع »بل بالحريّ« ]أو بالأحرى[ الذي نجد عنه تعبيرًا قويٌّا في التوازي المتناقض بين آدم ويسوع المسيح، في روم 5:12 - 21: »فلو كان الموتُ بزلّة واحد، ملك بهذا الواحد، فكم بالأحرى الذين ينالون وفور النعمة وموهبة البرّ، سيملكون في الحياة بواحد، هو يسوع المسيح« (آ 17).

مثل هذا النموذج التعارضيّ، يلعب وظيفة واسعة جدٌّا، وله من الخصب ما يتيح لنا أن نفسّر الفكر البولسيّ في أكثر من مجال. فقد أعلن بولس أنّ خصائص عديدة ألغيَت في المسيح، وحارب الخاصيّات الإثنيّة والأنتروبولوجيّة والدينيّة... وقال: لا يهوديّ ولا يونانيّ، لا عبدٌ ولا حرّ، لا أنثى ولا ذكر. كما أعلن أنّ الختان لا يُفيد لكي يميّز بين اليهوديّ واللايهوديّ. لا شكّ في أنّ الخلاص قُدِّم أوّلاً لليهوديّ ثمّ لليونانيّ، لأنّ رسالة يسوع بدأت في فلسطين، لا في أثينة أو كورنتوس. ولكن الاثنين يجتمعان »الآن« في وحدة واحدة. لا شكّ في أنّ هناك اختيارًا خاصٌّا للبعض، في النظام المسيحيّ (روم 1:1). ولكنّنا أمام خاصيّة فرديّة من أجل مهمّة محدّدة. وهي لا تقدر أن تخلق تميّزًا أو روح الطبقيّة.

في شكل عامّ، يُبرز الفكرُ البولسيّ أهميّة المفرد، ويخفّف من أهميّة الجمع: »عمل الشريعة« (روم 2:15) تجاه »أعمال الشريعة« (روم 3:20). »أعمال الجسد« (غل 5: 19) تجاه »ثمر الروح« (غل 6:22). وإن عدنا لحظة إلى المسائل الخلقيّة، نطرح على نفسنا السؤال التالي: أما يكون أهمّ لوم به يلوم بولس الشريعة اليهوديّة كقاعدة خلقيّة، هي أنّها تفتّتت في وصايا عديدة لا يمكن أن تمارَس بسبب تعدّدها. ولهذا، فهي تُلغَى لأنّ أحدًا لا يقدر على ممارستها، ويُلغى معها الإنسان »الذي لا يثبت على العمل بكلّ ما هو مكتوب في سفر التوراة« (غل 3:10).

4 - في إطار عالم مبرَّر

في المرحلة الأخيرة من جولة الأفق هذه، نتوقّف عند سؤالين، موضوعَي جدال، لا يتطرّقان إلى القطيعة بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، بل إلى التدبير المسيحيّ في حدّ ذاته. هذان السؤالان اللذان يَبرزان بشكل نقيضة يحملان رهانًا لاهوتيٌّا لا يُستهان به.

أ - إيمان يسوع والإيمان بيسوع

بين المسائل البولسيّة المطروحة اليوم، نجد فهم المقاطع حيث يعني لفظُ »إيمان« (بستيس) شخص يسوع أو شخص المسيح. فلفظ »بستيس« يرتبط لدى بولس بشخص المسيح عبر ثلاث عبارات: »إيمان في المسيح« (كو 2:5)، »إيمان بالمسيح« (غل 3: 26) - له المعنى نفسه -، والعبارة التالية الأكثر تشعّبًا: »إيمان المسيح«. في روم 3:22، نقرأ »الإيمان بيسوع المسيح«. تلك هي ترجمة عربيّة. وهناك ترجمات أخرى. هل هي صحيحة أو يجب أن نفهم إيمان المسيح على أنّه أمانة يسوع المسيح بالنسبة إلينا؟ فلفظ »بستيس« يعني الإيمان، والأمانة، والثقة. مثلاً، في روم 3:3، نقرأ »وفاء ا؟«، أمانة ا؟، لا الإيمان با؟.

لسنا هنا فقط على مستوى الصرف والنحو وعلاقة المضاف إليه، فالأمر مهمّ بالنسبة إلى لاهوت التبرير: هل نخلص »بالإيمان بالمسيح«، أي نشارك كبشر مؤمنين، أم بأمانة المسيح ووفائه دون ذكر لمشاركة المؤمن في عمل ا؟ الخلاصيّ؟ والنصّ الذي يحمل أكبر جدال، هو ذاك الذي نقرأه في غل 3: 21 - 29، حيث يتحدّث الرسول عن التعارض بين الشريعة والوعد: نقرأ في آ 22: »بإيمان يسوع المسيح«، وفي آ 26: »الإيمان بالمسيح يسوع«. لا نجد حرف الجرّ في العبارة الأولى، فهل نقدر أن نجعل العبارتين مترادفتين، أو هما مختلفتان؟ لن نكتفي بدراسة الألفاظ فقط، كما قال بعضُ الشرّاح(37)، بل نحتاج إلى بحث جانبيّ يضيء على هذه العبارات التي نحن بصددها(38). وها نحن نقدّم بعض النماذج: الأوّل يدرس زمن الأفعال. في غل 2:16 نقرأ: »الإنسان يبرَّر بإيمان يسوع المسيح«. الفعل هو في صيغة المجهول، أي ا؟ يبرّره (هذا ما يُسمّى المجهول الإلهيّ). والفعل هو في صيغة الكامل. فعلُ التبرير تمّ في يسوع المسيح، ونتيجته ما زالت حاضرة. هي أمانة المسيح وثباته في حياة المؤمنين اليوم، لا في الزمن الماضي وحسب. كما ندرس المضاف: إيمان ا؟ أو الإيمان با؟. أمانة ا؟ وأمانة الإنسان. وفي غل 1:27: إيمان الإنجيل أو الإيمان بالإنجيل... أمّا نحن فلا نختار في النهاية »إيمان يسوع« الذي يعمل كلّ شيء فلا يبقى للإنسان سوى أن يتقبّل عطيّة ا؟ بشكل منفعل - بحيث لا يفعل شيئًا، كمريض لا يقدر أن يفعل شيئًا سوى جرع الدواء. بل نختار »الإيمان بيسوع«. ا؟ ينادي، والإنسان يجيب جواب الإيمان، والإيمان هو بالأعمال، كما يقول القدّيس يعقوب (2:14 - 20).

ب - نظرة إلى الإنسان تجاه نظرة إلى الكون

انطلقت الدراسات حول الإسكاتولوجيا، حول الأزمنة الأخيرة، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وعادت تتكاثر في منتصف القرن العشرين. هناك موقفان. الموقف الأوّل يقول: المفتاح التفسيريّ للإسكاتولوجيا البولسيّة يرتبط بالنظرة إلى الإنسان وإلى المسيح. هو أنتروبولوجيّ وكرستولوجيّ. كتب بولس إلى جماعات انغرست في العالم الهلنستيّ، في عالم انطبع بالحضارة اليونانيّة، عالم اهتمّ بخلاص الإنسان على المستوى الفرديّ. ولهذا كان من الطبيعيّ أن تُبنى الإسكاتولوجيا على نماذج معبِّرة بالنسبة إلى القرّاء(39). ويعلن الموقف الثاني(40): مفتاح الإسكاتولوجيا البولسيّة هو كوسمولوجيّ وتيولوجيّ. إنه يرتبط بالنظرة إلى الكون وإلى اللاهوت. توسّع الفنّ الجليانيّ (على مستوى سفر الرؤيا، مع كشف سريّ) في القرن الأوّل، فاغتذى منه بولس وتأثّر به. درس مثل هذا النموذج فتوسّع في فكرة خلاص كنسيّة، كونيّة. الجماعة المرتبطة بالكون مدعوّة إلى الخلاص، لا الأفراد. في هذا الإطار يُطرح ما يقال عن الدينونة العامّة التي تنبع من الموقف الثاني الذي عرفه الشرق المسيحيّ، وعن الدينونة الخاصّة التي ترتبط بالموقف الأوّل الذي سار فيه الغرب المسيحيّ فتحدّث عن دينونة الإنسان حالاً بعد موته ليكون في النعيم أو في الجحيم.

خاتمة

تلك كانت نظرة واسعة إلى الأبحاث الحاليّة حول بولس ورسائله. سبقَنا آباءُ الكنيسة فما اكتفوا بأن يفسّروا النصوص، كما فعل أوريجان أو تيودوريه القورشيّ، أو تيودور المصيصيّ وإيشوعداد المروزي. بل وعظوا هذه النصوص وأوَّنوها بالنسبة إلى الزمان الذي يعيشون فيه، والمكان والسكّان. نحن لا نتبعهم بطريقة حرفيّة وكأنّ كلامهم موحى شأنه شأن الكتاب المقدّس. ولكنّنا نغرز جذورنا في ما تركوا لنا من مؤلّفات نستقي منها من أجل عالمنا اليوم. كفانا درسًا لرسائل بولس نستخلص منها بعض الأمور العمليّة والأخلاقيّة. فبولس أكثر من عالم أخلاق. وإن هو قدّم الممارسة الخلقيّة، فقد أسّسها على عقيدة كان أوّل من حدّد معالمها. كفانا بحثًا في الرسائل - وكانت أوّل الأسفار التي وصلتنا في العهد الجديد - عن عبارات لاهوتيّة تسند نظريّاتنا اللاهوتيّة، والمجادلات العقيمة مع عدد من الشيع. يبدو المؤمن أو الكاهن كحامل مقلاع يستعمل الحجارة لكي يضرب بها العدوّ. متى نبدأ بدراسة النص من أجل ذاته؟ فالرسائل البولسيّة تحمل خبرًا طيبًا، فماذا ننتظر كي نسمعه ونحيا منه؟

وما اكتفى بولس بالنظرة الإيمانيّة، بل دوّن رسائله في الزمان والمكان، فتطرّق إلى الأمور الاجتماعيّة والسياسيّة والعائليّة. كلّم اليهود فأخذ بلغتهم. وكلّم الوثنيّين، فانطلق من عالم الشعر والفلسفة ليوصل إليهم كلام ا؟. »صار كلاٌّ للكلّ« (1 كو 9:22). نجد في كتاباته شرح الكتب على مثال المعلّمين اليهود. ورأى البحّاثة أفكارًا عديدة جاءت من عند الرواقيّين والغنوصيّين... معه عرف الأمميّ أنّه ابن ا؟، ابن الإيمان، وإن لم يُختن. وعرفت المرأة أنّها مساوية للرجل، لأنّها بنت ا؟ كما الرجل ابن ا؟، ولأنّ لها من الحقوق ما له، وعليها من الواجبات ما عليه. وفهم العبد أنّ ربّه وربّ سيّده هو واحد. كما فهم اليهود أنّ لا امتيازات لهم من بعدُ: فالمختون واللامختون يقفان على مستوى واحد بالنسبة إلى الخلاص. وفهم اليونانيّ أنّه لا يتفوّق على البربريّ. كلّ هذه الأمور درسها العالم الغربيّ ليكتشف جوابًا عن تساؤلات المؤمن في عالم اليوم. فمتى ندخل في إطار الدراسات البيبليّة لنكتشف فيها كلمة الحياة من أجل عالمنا العربيّ في القرن الحادي والعشرين(41)؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM