الفصل الرابع: الرسالة كفنّ أدبي

 

 

1- الرسالة كفنٍّ أدبيّ

أقدم الوثائق المسيحيَّة التي حُفظت لنا بشكل مستقلّ، هي رسائل بولس. ففي حقبة كان نقلُ البلاغ المسيحيّ في جوهره، شفهيًّا، حلَّت الرسالة محلَّ النقل الشفهيّ ساعة انفصل في المكان المرسِل والمتقبِّل، وما كُتبت الرسائل المسيحيَّة الأولى للأجيال الآتية، بل ردًّا على متطلِّبات الساعة. لا نعرف في مسيحيَّة الأصول سوى رسالة واحدة وجَّهها فردٌ إلى فرد، هي رسالة يوحنّا الثالثة[i]. ثمَّ ننتظر رسالة إغناطيوس الأنطاكيّ إلى بوليكرب الإزميريّ[ii]. وبين رسائل بولس authentique ، وُجِّهت واحدة إلى فيلمون[iii]. وفي الوقت عينه إلى الكنيسة التي تجتمع في بيته. أمّا سائر الرسائل فتوجَّهت إلى كنائس (أو مجموعات كما في رعيَّة) أو إلى مجموعات كنائس (مثلاً، كان أكثر في موضع توجَّهت إليها الرسالة إلى غلاطية. نذكر كولوسّي[iv]، أفسس[v]، 3كو[vi]، 2يو[vii]، ثمَّ سبع رسائل لأغناطيوس الأنطاكيّ[viii] (رسالة إلى بوليكرب الإزميريّ، والرسائل إلى تيموتاوس[ix] وتيطس[x] تعتبر مكتوبة بيد فرد (بولس) إلى فرد آخر (تيموتاوس أو تيطس). ولكنَّنا هنا أمام عنصر اختلافيّ[xi]. والرسالة الإقليميَّة الأولى[xii] دُوِّنت في الواقع من كنيسة إلى كنيسة. وهناك رسائل من أصل مسيحيّ يمكن أن تُعتبر في الحقيقة مقالات تتضمَّن بعض العناصر الشكليَّة في الرسالة، وتتوجَّه إلى جماعة محدَّدة أو جماعات عديدة: الرسالة إلى العبرانيّين[xiii]، رسالة يعقوب[xiv]، رسالة بطرس الأولى[xv]، رسالة بطرس الثانية[xvi]، رسالة يهوذا[xvii]، رسالة برنابا[xviii]. أمّا الرسالة الإقليميَّة الثانية[xix] فهي عظة ولا تمتُّ بصلة إلى الرسالة.

في رؤيا يوحنّا، نجد سبع رسائل موجَّهة إلى جماعات في آسية الصغرى (رؤ 2-3) ولكنَّها في الواقع بلاغات شبيهة بأقوال الأنبياء[xx]، أو بالأحرى هو سفر الرؤيا يعطي لنفسه إطارًا رسائليًَّا (رؤ 1: 4-6؛ 22: 21) بحيث تُقرأ هذه النصوص في سياق الليتورجيّا[xxi]. وأخيرًا، نجد رسالتين داخل سفر الأعمال. الأولى بعد "مجمع" أورشليم (أع 15: 23-26)، والثانية إلى فيلكس حاكم اليهوديَّة (أع 23: 26-30).

هذا التنوُّع في الأشكال والوظائف يوافق التنوُّع الذي حملته الرسالة في العالم الهلِّنستيّ. ميَّز وايسمان[xxii] رسائل بحصر المعنى وتتوخّى الاتِّصال المباشر مع شخص فرد، دون مرمى أدبيّ، ورسائل فيها شكل الرسالة يكون طواعيًا ويُستعمل ليُبرز توسُّعًا يتوجَّه إلى قرّاء عديدين. جعل في الفئة الأولى رسائل بولس ثمَّ 2يو و3يو، وفي الفئة الثانية عب، يع، 1بط، 2بط، يهو. كان هذا الترتيب، مع تحوُّلات ممكنة (رسالة حقيقيَّة، رسالة فنِّيَّة)، تأثيرًا واسعًا، ولكنَّه يُعتبَر اليوم جامدًا. وفضَّل الباحثون في هذه الأيّام ترتيبات أقلَّ جمودًا تأخذ بعين الاعتبار أيضًا دراسات عديدة حول الموضوع (كتب الإبسيتولوغرافيا أو كتابة الرسالة من الحقبة الهلِّنستيَّة، ميَّزت 21 نمطًا من الرسائل، وبعد ذلك 41 نمطًا) وفضَّلوا مجموعة من الإمكانيّات على تعارض بين فئتين كبيرتين.

هكذا أسَّس دوتي[xxiii] ترتيبه على التمييز بين الرسائل (الخاصَّة والعامَّة) وذلك في إطار علاقة مباشرة بين الكاتب والمراسَل. ثمَّ قسم الرسائل الأخيرة إلى عدد من الفئات. وميَّز أوني[xxiv] الرسائل الفرديَّة أو الوثائقيَّة (تتوخّى المحافظة على الاتِّصال مع الأسرة أو الأصدقاء، فتقدِّم معلومة وتطلب طلبًا) والرسائل الرسميَّة (دوَّنها رجل صاحب سلطان أو أحد ممثِّليه في إطار ممارسة وظيفته) والرسائل الأدبيَّة (التي تحفظها وتنقلها قنوات أدبيَّة، مثل المجموعات). ثمَّ إنَّ كلَّ نمط من التأليف يمكن أن يندرج في الإطار الرسائليّ.

إذًا تستطيع عناصر رسائليَّة شكليَّة أن تمنح الطابع الرسائليّ لكتابات من أنماط مختلفة: تلك كانت حالة متواترة في المسيحيَّة الأولى، ونلاحظ هذه العناصر ولا نتوقَّف: هي عبارات ثابتة لا تقبل سوى تنوُّعات محدَّدة، نجدها قبل كلِّ شيء في البداية وفي الخاتمة. تبدأ الرسالة بالعنوان[xxv] المؤلَّف من ثلاثة عناصر: اسم المرسِل[xxvi] واسم المراسَل[xxvii] أو الذي تُرسَل إليه الرسالة، التحيَّة[xxviii] أو السلام التي تتكوَّن عادة من المصدر، الفرح[xxix] مع لفظ متضمِّن: قال[xxx]. وقد نضيف إلى المصدر عبارة بها نتمنّى العافية[xxxi] لمن نكتب إليه. وهناك شكل آخر للعنوان في إشارة بسيطة: من فلان إلى فلان. وذلك دون عبارة السلام والتحيَّة. وكان بالإمكان توسيع هذه العناصر الأساسيّة الثلاثة فنضمُّ مثلاً إلى الاسمَين إشارات تدلُّ على القرابة أو الصفة، أو نضيف ظرفًا على عبارة السلام. وفي نهاية الرسالة نجد عبارة من النمط التالي: "اهتمَّ بنفسك بحيث تكون في صحَّة جيِّدة". وبعد ذلك حلَّ محلَّ العبارة القديمة واحدة أخرى تنقل تحيّات أشخاص آخرين، أو تطلب من المراسل أن يحيي معارف مشتركين. وفي الختام نجد مرارًا: كن بأحسن حال[xxxii]، ويتبع ذلك مرارًا تاريخ الرسالة. ويتوزَّع جسمُ الرسالة حملاً تبدأ مختلف عبارات الاتِّصال. مثلاً: "تسلَّمتُ رسالتك". أو: "إعلم أن"، أو: "كما كتبتُ إليك". أو: "التعجُّب". أو: "أتوسَّل إليك"...

وبولس الذي استنبط الرسائل الرسوليَّة، كوَّن فيما بعد رسائل مسيحيَّة قديمة، فأضاف إلى هذه المصطلحات وحوَّلها. فالتحيَّة أخذت عنده شكلها الأساسيّ: "لكم النعمة والسلام"[xxxiii] حيث ينضمُّ اللفظ اليونانيّ خاريس (نعمة) إلى السلام العبريّ (شلوم) فالنعمة لها مدلولها اللاهوتيّ "العميق"، وتعيدنا إلى عمل المسيح. ونجد العبارة البسيطة في بداية الرسالة الأولى إلى تسالونيكي[xxxiv]. وفي سائر الرسائل، تنوسَّع العبارة مع "من الله الآب (أو: أبينا) ومن الربِّ يسوع المسيح"، وحين يورد بولس اسمه كالمرسِل، يضيف صفة رسول (قد يتوسَّع فيه بالنسبة إلى أصله وإلى مدلوله، روم 1: 1-6) وبعض المرّات أسماء المشاركين معه في إرسال الرسالة[xxxv]، والإشارة إلى المراسَلين قد يكون موضوع توسُّعات[xxxvi]. بعد ذلك يأتي المطلع الذي يقوم في فعل شكر بالنسبة إلى وضع الجماعة التي يُرسَل إليها[xxxvii]، مع عبارة: "أشكر إلهيّ" أو: "تبارك الله". وفي الختام ينقل بولس تحيّاته[xxxviii]، ولكنَّه يُحلُّ محلّ عبارة السلام التقليديَّة تمنِّيات نجدها شكلها الأقدم في 1تس 5: 28: "لتكن نعمة ربِّنا يسوع المسيح معكم". ثمَّ دعوة لتبادل القبلة المقدّسة[xxxix] هذا يعني أنَّ الرسائل تُقرأ في ليتورجيَّة الجماعة. مثلُ هذه الدعوة تضف عبارات التحيَّة مع إشارة أنَّ هذه التحيّات جاءت بخطِّ يده.[xl]

 

بعض الرسائل

من بونسيوس بيلاطس إلى كلود، سلام

حصلت مؤخَّرًا قضيَّة أوضحتُها أنا (أو: حكمتُ فيها): حسدًا اهتمَّ اليهود أنفسهم مع نسلهم، بأحكام مريعة وذلك بخطيئتهم الخاصَّة. مثلاً، كانت لآبائهم مواعيد يحسبها يرسل إليهم الله من السماء قدُّوسه، الذي يُدعى بحق ملكهم ووعدهم إلههم أنَّه يرسله على الأرض بواسطة عذراء. إذًا، أتى إلى اليهوديَّة حين كنتُ واليًا. رأوه يعيد النظر إلى العميان، يطهِّر البرص، يشفي المخلَّعين، يطرد الشياطين من الناس، يقيم الموتى، يهدِّئ الرياح، يمشي على أمواج البحر كما على أرض يابسة، ويجري معجزات أخرى كثيرة، فدعاه جميعُ الشعب اليهوديّ ابن الله. أمّا عظماء الكهنة فدفعهم الحسد عليه، فقبضوا عليه وسلَّموه إليّ وشهدوا عليه شهادة زور فوق شهادة زور وقالوا: إنَّه ساحر ويقوم بهذه الأمور في تعارض مع الإيمان.

وإذ حسبتُ أنا أنَّ الأمر هكذا، جلدتُه بالسياط وسلَّمته إلى محكمتهم العليا فصلبوه هم. ولمَّا دُفن جعلوا الحرس عليه. وساعة كان جنودي يسهرون عليه، قام في اليوم الثالث. فاشتعل مكر اليهود فأعطوا الفضَّة للجنود قائلين: قولوا إنَّ التلاميذ أخذوا الجسد. أمّا الجنود ومع أنَّهم أخذوا الفضَّة، فما استطاعوا أن يلبثوا صامتين على ما حصل. فشهدوا أنَّهم رأوه قائمًا من الموت، وأنَّهم تسلَّموا الفضَّة من اليهود. ذكرتُ هذه الأشياء لجلالتك لئلاّ يغشَّك أحد فتصدِّق أخبار اليهود الكاذبة.

 

في جسم الرسالة، كيَّف بولس مرارًا عبارات الاصطلاح التي أشرنا إليها هنا. واستعمل بشكل خاصّ (سواء للعبور من المطلع إلى القسم الرئيسيّ من الرسالة، أو لإبداء توسُّعات جديدة داخل الرسالة) عبارة من النمط التالي: "أريد أن تعلموا" (غل 1: 11؛ فل 1: 12). أو: "لا أريد أن تجهلوا" (2كو 1: 8؛ روم 1: 13). ثمَّ اعتاد أن يطلب أو يناشد[xli] الجماعة.

لا غروَ أنَّ رسائل بولس أطول وأوسع من أكثر الرسائل الخاصَّة التي نُقلت إلينا عبر البرديّات. فهي تقدِّم التيمات[xlii] اللاهوتيَّة والخلقيَّة وتلجأ بتواتر إلى الوسائل البلاغيَّة من أجل الدفاع والهجوم في شكل مرافعة (أبولوجيّا[xliii]). ولكنَّنا دومًا أمام رسائل ترتبط بأوضاع ملموسة يرى الرسول ضرورة بأن يتدخَّل من بعيد في شأنها، ويقدِّم النقاط التعليميَّة. أمّا الرسالة إلى رومة فتشكِّل استثناء، في جزء منها: هي المرَّة الوحيدة التي فيها يتوجَّه بولس إلى جماعة لم يؤسِّسها بنفسه، فيقدِّم عرضًا لتيمات يحملها إنجيلُه. غير أنَّ هذا الطابع يرتبط بوضع محدَّد تحديدًا: لقد أراد بولس أن يمدّ رسالته إلى الغرب فاحتاج بأن تستقبله كنيسة رومة وتساندَه. في هذه الحالة أيضًا، نحن لسنا أما مقال يُنقَل إلينا عبر رسالة، بل أمام رسالة حقيقيَّة تتوسَّع في التيمات توسُّعًا في إطار متطلِّبات حقيقيَّة ترتبط بوضع فيه يتََّصل الرسول بالمؤمنين.[xliv]

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM