ِبك إحتميت يا الله مزمور:57

 

ِبك إحتميت يا الله

مزمور:57

نبدأ بالآية 2: تحنّن يا الله تحنّن، لأنّي بك احتميت.

وننتهي في الآية 12: ارتفع على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض.

قرأنا، أحبّائي، المزمور 57، مع جملتين تتردّدان في آية 6: ارتفع على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض. ونقرأها أيضًا في آية 12: ارتفع على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض. الربّ أقوى من السماوات، الربّ أرفع من السماوات.

1 - مجد الله

السماوات بكواكبها ونجومها، بالقمر وبالشمس التي كانت تُعبد، كلّ هذا هو خليقة الله، ولا يمكن أن يرتفع فيكون على مستوى الله.

الله أرفع من السماوات وسماء السماوات.

وليكن مجدك على كلّ الأرض. والمجد هو التعبير عن عظمة الله، عن حنانه، عن عناياته، عن جمالاته. هذا هو المجد. الله لا يُرى، ولكنّ مجده يُرى، يُرى في كلّ إنسان منّا، كما يقول القدّيس إيرينيه: »مجد الله الإنسان«. الإنسان في حياته وفي مماته. الطبيعة كلّها تعبِّر عن مجد الله. السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه.

مجد الربّ هو ظهوره، ظهور أعماله، ظهور تدخّلاته، لهذا عظّمته مريم، قالت: »تعظّم نفسي الربّ، لأنّه صنع بي أشياء عظيمة«. وفي المزمور هنا آية 11: »عظمَتْ إلى السماوات رحمتك، وإلى الغيوم أمانتك«. كما يقول الأطفال عندنا حين نسأل: »أتحبّني؟« - »قدر البحر، والأرض، والسماء«. وهنا رحمة الربّ عظيمة، عظيمة جدٌّا، وصلت إلى السماء، وصلت إلى الغيوم. فكأنّي بالمرتّل يقول لنا: لا حدّ لرحمة الربّ. فهو الأب والأمّ. الأمّ يمكن أن تضحّي بذاتها من أجل ابن رحمها، ذاك الذي حملته في أحشائها، ولدته، ربّته، أرضعته، رافقَتْه، والأب كذلك.

2 - رحمة الله

رحمة الربّ عظيمة وأمانته عظيمة أيضًا. رحمة الربّ وصلت إلى السماوات، وأمانته وصلت إلى الغيوم. يعني هذه الرحمة ليست بنت ساعة: الربّ يرحم تارة ويغضب تارة أخرى. لا، الله لا يغضب أبدًا. الغضب هو عاطفة من قِبَل الإنسان، يتصوّرها لدى الله، عندما يقع في الخطأ. فكما أنّ الطفل يعرف أنّ أباه يغضب عليه إن هو قام بعمل سيّئ، كلّ واحد منّا يعتبر أنّ الله غَضِبَ عليه. الله لا يغضب. الله هو من يرحم ويرحم دائمًا، ولهذا قيل هنا: أمانتك (يعني ثباتُك): أنتَ لا ترحم اليوم وتتركنا غدًا، كلاّ. ترحمنا اليوم وغدًا وبعد غدٍ، وما زلنا نحتاج إلى الرحمة. الأمانة هي الثبات: رحمة الربّ ثابتة لا تتبدّل، حتّى وإن كنّا نحن غير أمناء، يبقى هو أمينًا.

لا نقول: الله يرضى عنّا، الله يحبّنا إن نحن عشنا معه بلا خطيئة. وإنّ الله لا يحبّنا عندما نخطأ. هذا كلام خاطئ. فالأمّ تحبّ ابنها، ابنتها، كما هو بشرّه وخيره، بفضائله ورذائله، والربّ يحبّنا ويحبّ بشكل خاصّ المرضى حتّى يُشفَوا. هو جاء من أجل المرضى لا من أجل الأصحّاء، ويحبّ الخطأة لكيّ يتوبوا. هو قال: »ما جئت من أجل الصدّيقين، بل من أجل الخطأة«. وهو جاء من أجل الجميع. ونرى كيف استقبل يسوع، في شخص الأب، الابن الضالّ الذي مضى إلى أرض بعيدة. أراده الآب، أراده الله أن يكون قريبًا، وهيّأ له حفلة عظيمة، أين منها كلّ حفلات البشر.

3 - الله يتمجّد فينا

»ارتفعْ على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض«. مجد الربّ، عنايته، اهتمامه. هو لا يتوقّف عند شخص من الأشخاص يعيش في أنانيّة الأبرار والفرّيسيّين، كلاّ ثمّ كلاّ. مجد الله لا ينحصر في فئة من الفئات، مثلاً عند الرهبان والراهبات والكهنة لا عند المؤمنين، كلاّ. مجد الربّ لا ينحصر عند المعمّدين وينسى الآخرين، كلاّ. مجد الربّ لا ينحصر في هذه الطائفة أو تلك، كلاّ ثمّ كلاّ. مجد الربّ يصل إلى الجميع، مجد الربّ يصل إلى الأرض كلّها. إذًا ما من إنسان، حتّى ما من حيوان، ما من خليقة، ما من حجر، ما من كوكب، ما من نجم، إلاّ ويحلّ عليه مجد الربّ.

»ليكن مجدك على كلّ الأرض«. فالله يتمجّد في كلّ إنسان بشكل خاصّ، ولاسيَّما عندما نقوم بعمل طاهر، بعمل خير، بعمل محبّة، لهذا قال لنا يسوع في الإنجيل: »اعملوا أعمالكم الصالحة، فتمجّدوا الآب الذي في السماوات«. فالله بنا يتمجّد، بأعمالنا يتمجّد، بحياتنا يتمجّد. هنيئًا لنا بهذا المجد الذي حلّ فينا، فيعلّمنا كيف نحن نعيش مجد الله.

نستطيع، أحبّائي، أن نقابل المجد بالنور. وحده يسوع المسيح نور العالم. وكلّ واحد منّا يكون نورًا، إن هو أخذ من ذاك النور. لهذا قال لنا: »أنتم نور العالم«. والله هو الذي مجّدنا، ونحن نمجّده بحياتنا، بأقوالنا، بحياتنا، بموتنا، بأقوالنا وبأعمالنا. هذا، أحبّائي، هو أساس هذا المزمور: »ارتفع على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض«. يا ليتنا في هذا الليل، قبل أن نسمع التأمّل في المزمور، وفي الصباح نردّد هذه الكلمة. نردّدها في الشفاه قبل أن نردّدها في القلب.

4 - صلاة القلب

لماذا لا نعتاد على سبحة من نوع آخر؟ هناك سبحة: »السلام عليك يا مريم«. وهي سبحة جميلة جدٌّا، نترافق فيها مع العذراء مريم، نصلّي معها، نردّد الإنجيل. نردّد أوّلاً كلام الملاك »السلام عليك يا مريم، ما ممتلئة نعمة«، ونردّد كلام أليصابات »مباركة أنت في النساء، ومبارك ثمرة بطنك«. هي مسبحة، هي مسبحة خاصّة بالعذراء مريم، جاءتنا من هذا الاحترام العميق، من هذا التعلّق بمريم، أمّ يسوع، أمّ الربّ. هي التي عرفت أن تطلب من الربّ، في عرس قانا الجليل، ما يحتاج إليه أهل العرس. هي الحاضرة مع ابنها يسوع. وهناك سبحة ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة يجب أن نتعلّمها. في هذه السبحة، نأخذ مقطعًا من الإنجيل، مقطعًا من الكتاب المقدّس، عبارة من المزامير (مثلاً)، كالعبارة التي قرأناها هنا »ارتفع على السماوات يا الله، وليكن مجدك على كلّ الأرض«.

نعم، أحبّائي، نقولها، ونكرّرها المرّة بعد المرّة، إلى ان يختفي الصوت من شفاهنا ويتكلّم قلبنا. هذا ما نسمّيه صلاة القلب. نردّد المرّة بعد المرّة، هذه العبارة أو غيرها من العبارات، مثلاً »ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امحُ مآثمي«، ونردّد غيرها من هذه العبارات.

5 - داود في هذا المزمور

المزمور 57، أحبّائي، الذي عنوانه »بك احتميت يا الله« هو مزمور توسّل ينشده المرنّم للربّ الذي نجّاه من الأخطار، وأعانه في وقت الضيق. وقد ربطه جامع المزامير في النهاية، يعني في القرن الخامس، يعني خلال المنفى أو في ما بعد. ربطه صاحب المزامير بحادثة من حياة داود لمّا كان شاول يلاحقه. نقرأ هنا: لداود عندما هرب من أمام شاول في المغارة. نتذكّر الخبر في 1 صموئيل (22: 1 - 2) ثمّ في (24: 1 - 9) كيف هرب داود إلى المغارة، ودخل شاول إلى هناك في العتمة. كان باستطاعة داود أن يقتل شاول، ولكنّه لم يفعل. قال: »أنا لا أرفع يدي على مسيح الربّ«، لا أرفع يدي على من اختاره الربّ ومسحه بالزيت المقدّس، ليُحلّ العدل والاستقامة في البلاد وبين الشعب، وخصوصًا ليقضي للفقراء والمساكين واليتامى والأرامل. رفض أن يقتله. جعل اتّكاله على الربّ. والربّ هو الذي يعرف أن يفعل، متى وكيف. وأمّا اللحن فتقول البداية هنا »لا تُهلِك...« إذًا هو لحن كان معروفًا في أوساط الهيكل وأوساط اللاويّين الذين ينشدونه.

آية 2: »تحنّن يا الله تحنّن، لأنّي بك احتميت«. تتكرّر الكلمة، كلمة »الحنان« كما كان في المزمور 56: المزمور السابق. أنا أطلب حنان الله، أطلب منه أن يحنّ عليّ، أن ينحني عليّ، كما تنحني الأمّ، كما ينحني الأب على طفله الصغير. آية 2: »تحنّن...«: نعم، لا أطلب حماية إلاّ عندك، »بك احتميت«، ما طلبت حماية من أحد. كما نقول في كلامنا اليوم. »ما طلبت أبدًا واسطة عند أحد«. في الماضي، في العصر الرومانيّ، كان العبد أو المولى يحتمي بزعيم حتّى يأكل في بيته، يشرب في بيته وينام عند بابه. كان هذا الزعيم، أو هذا الشيخ الكبير، أو هذا الغني كأنّه هو إله ذاك العبد: لا يعرف إلاّ هذا السيّد ويتوقّف عنده.

6 - الأصنام

هنا نفهم أنّ هذا السيّد صار كأنّه صنم يعطيه الخلاص الذي ينتظره من كلّ صنم من الأصنام. في أيّ حال، الأصنام عديدة في هذه الأيّام. ولكن البشر لا يستطيعون أن يحملوا الخلاص إلى الإنسان. كلاّ ثمّ كلاّ. مثل هذه الأصنام من الخشب والحجر، يشبهها الكثير من الناس، من المسلّطين، من العظماء الذين لا يهتمّون بالناس ولا بشخصهم. يسلّمون عليهم فلا ينظرون إليهم أبدًا. واجباته أن يسلّم عليّ ويقبّل يدي. هؤلاء هم أصنام ولو كانت متحرّكة. إلى مثل هذه الأصنام لا نلتجئ إلاّ إذا كان عندنا منفعة أو مصلحة. ومثل هذه المنفعة أو المصلحة تزول سريعًا. فننسى الله، ننسى ذاك الذي هو الأمين، هو الحاضر دومًا. بقدر ما نركع أمام ذاك العظيم، أمام »تلك الشخصيّة«، نستطيع أن ننال بعض الفتات. ولكن في أيّ حال لا محبّة، لا رحمة بل مصلحة: هو يحتاج ربّما إلى صوتي، إلى مديحي. ولكن هو في النهاية لا يمكن أن يحمل إليّ الحنان. لا يحمل إليّ الحماية. الطريق بعيدة بين الخادمة وبين الأمّ. الاثنتان تعملان العمل عينه، لكنّ الحنان الذي في قلب الأمّ لا نجده في أيّ قلب آخر. هنا نتذكّر كلام يسوع عن الراعي الصالح، الذي هو بمثابة الأب والأمّ بالنسبة إلى خرافه. كيف يهتمّ بالمكسورة، بالمرضع، بتلك التي هي حبلى، بتلك التي كسرت رجلها. هو ينتظرها، ربّما يحملها على كتفه.

7 - الله أب وأمّ

أمّا الأجير فيشتغل قدر أجرته. وهنا نلاحظ الفرق بين الأمّ وبين الخادمة: الخادمة تشتغل بحسب أجرتها، ليس أكثر ولا أقلّ. أمّا الأمّ، فتعطي الحنان. والله وحده هو الذي يتحنّن، هو الأمّ وهو الأب. كم نحن بحاجة أن نترك الأصنام العديدة التي ننحني أمامها، نقبّلها في رجلها وننتظر عونها. وننسى كلام المزمور. »معونتي ليست من البشر« معونتنا باسم الربّ، هذا الربّ القويّ، هو الذي صنع السماوات والأرض. نعم، هنا تكون معونتنا. ويأتي هذا التشبيه الرائع الذي نقرأه أكثر من مرّة في الكتاب المقدّس، التشبيه مع الطير الذي يمدّ جناحيه لكي يغطّي صغاره، يحميهم من البرد، يحميهم من العدوّ، يحميهم من الخطر، من العاصفة. فالعاصفة يمكن أن تقتلع الطير الصغير، الصوص، إذا لم تَحْمِهِ الدجاجة من العواصف، من كلّ خطر.

8 - الله يحميني

الله يُشبَّه بنسر، هو يرتفع ويرتفع، ويعرف أن ينزل ليحمي كلّ واحد منّا. يغطّينا بجناحيه، ويغطّينا، يقول النصّ في آية 2: »إلى أن تعبر العواصف«. هو يغطّينا من العواصف، ولكنّه لا يحفظنا على الدوام تحت جناحيه، وإلاّ نبقى قاصرين كطير صغير، كصوص، كوَلَدٍ لا شخصيّة له. كولد قاصر، كابنة قاصرة لا يحقّ لها أن تنمي شخصيّتها، وأن تكوّن عائلة جديدة لها. »في ظلّ جناحيك أحتمي« هناك الحماية الحقّة. من يجسر أن يقترب من الذي يحميه الله؟ ما مِن أحد، أبدًا ما من أحد.

آية 2: مرّتين »احتميت« »أحتمي«: في الماضي احتميت في الله فحماني. واليوم أحتمي في ظلّ جناحي الله وهو يحميني. وفي غد هو الربّ نفسه باسط جناحيه يحمينا من العواصف، من الأخطار، من الموت ويُطْلِقنا.

نعم يا ربّ أنت حمايتنا. في ظلّ جناحيك نحتمي، علّمنا كيف نتغلّب على الأخطار والعواصف، وأطلقْنا ساعة تريد أنت، فنمجّدك بحياتنا وأقوالنا وأعمالنا من الآن وإلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM