إتكال على الله في الضِّيق مزمور:56

 

إتكال على الله في الضِّيق

مزمور:56

1 - إطار المزمور

أحبّائي، حين نتكلّم عن المزامير، نتذكّر دائمًا الحالة الأولى التي كُتب فيها المزمور، وبعض المرّات تُجعل حالةٌ جديدة بالنسبة لهذا المزمور أو ذاك.

في بداية المزمور 56، لدينا مقدّمة وُضعت فيما بعد: نشيد لداود عندما أخذه الفلسطيّون في جَتّ. نتذكّر هنا أنّ شاول الملك لاحق داود، فأُجبر داود على الهرب. وهرب إلى أرض الأعداء، هرب إلى الفلسطيّين الذين يقيمون على الساحل: يعني في غزّة، في عسقلان، في جَتّ كما هو الأمر هنا.

إذًا، إطار من الخوف: خوف داود من أن يلاحقه شاول ويقتله. ونتخيّل هذا الرجل يذهب إلى أعدائه، ليحموه من الملك الذي يفترض فيه أن يحمي عباده ولا يلاحقهم حسدًا وغيرةً وغيظًا.

إذًا، جُعل هذا المزمور في فم داود النبيّ لمّا كان شاول يلاحقه، وقال لنا هذا المزمور في المقدّمة من أنشد المزمور: كبير المغنّين، واللحن: الحمامة على الأشجار البعيدة. ففي كلّ طقوسنا الشرقيّة، هناك دومًا لحن نبني عليه القصائد والأناشيد والتراتيل الجديدة.

أمّا عنوان هذا المزمور فهو: اتّكال على الله في الضيق. ونبدأ قراءة المزمور 56: 12 - 14. ما هو موضوع هذا المزمور؟ هو مزمور توسّل. المؤمن يتوسّل، المرتّل صاحب المزمور يتوسّل. هو أشرف على الموت، فجعل اتّكاله على الربّ الذي وحده يستطيع أن يخلّصه من شهود الزور وسافكي الدماء.

2 - لا خوف في قلب العداء

آية 2: تحنّن يا الله فالناس يعادونني. يعني هم أعداء عليّ، هم أعداء لي. ويقول أيضًا في آية 3: الثائرون يعادونني (نهارًا وليلاً). يعادونني، الكلمة نفسها. في الآية 2: يحاربونني، في الآية 3 أيضًا: يحاربونني، هو العداء، العداوة، الحرب عليّ. في الآية 2: الناس فقط، في آية 3: الثائرون، يعني الذين قاموا عليّ بثورة. ثمّ هذا العداء ليس ابن ساعة وليس ابن دقيقة. هو عداء متواصل؛ آية 3: نهارًا وليلاً يعادونني، وفي آية 2: يحاربونني كلّ يوم. أمّا العاطفة الأساسيّة في هذا المزمور، فهي عاطفة الخوف.

في الآية 4: في يوم خوفي. هو الخوف. ولكن سيقول فيما بعد في الآية 5: لا أخاف؛ نعم، هو لا يخاف، لأنّه يتّكل على الله. من هنا يقول في آية 4: أنا عليك أتوكّل، وفي آية 5 يقول: على الله أتوكّل. حين جعل اتّكاله على الربّ زال الخوف، وما عاد يخاف الأعداء أبدًا.

إذًا، الإطار، إطار من المأساة، إطار من الخوف، إطار من العداء، إطار من الحرب على هذا المؤمن الذي يبدو ضعيفًا: وليس فقط الثائرون عليّ، بل الناس أجمعون. وكيف يحاربونه؟ أوّلاً، يشهدون عليه بالزور: يخبرون الملك بأنّ داود فعل هذا وقال هذا.

نقرأ في الآية 6: جميع أفكارهم عليّ للشرّ، ويقول قبل ذلك: نهارًا وليلاً (يحوّرون) يحرّفون كلامي، وكلّ هذا يسبّب الألم للمؤمن. وهم لا يكتفون بأن يفتروا على المؤمن، بل هم يريدون حياته، يريدون أن يسفكوا دمه. في الآية 7 يقول: يراقبون خطواتي ليقتلوني. ولكنّ النهاية تكون نهاية الإيمان، يقول في الآية 14: أنت يا ربّ، نجّيتني من الموت، وقبل في آية 12 نعود إلى الكلمات المهمّة: توكّلت على الله وأنا لا أخاف. وكلّ مرّة ينظر إلى البشر، مرّة يقول: ماذا يفعلون لي؟ هم لا يستطيعون أن يفعلوا لي شيئًا، هم أضعف من أن يفعلوا. لا يستطيعون أن يفعلوا لذواتهم، فكيف يفعلون لي أنا؟ وأنا في حالة تعيسة، وأنا في حالة يائسة. ولكن في الآية 12: فالإنسان ماذا يفعل لي؟ أو ماذا يفعل بي؟ لا يستطيع أن يفعل شيئًا. نلاحظ، أحبّائي، كيف تتكرّر العبارة نفسها.

في الآية 5: فالبشر ماذا يفعلون لي؟ والآية 12: فالإنسان ماذا يفعل لي؟ أجل، ما عاد المرتّل ينتظر شيئًا من البشر، هذا إذا انتظر شيئًا. في المزمور يقول لنا: الاعتصام بالله خير من الاعتصام بالبشر. الاعتصام بالله خير من الاتّكال على العظماء، لا مجال للاتّكال على البشر.

جعل المؤمن كلّ إيمانه، جعل كلّ ثقته، جعل كلّ اتّكاله على الربّ، فما أراد أن يستند إلى أحد. ونتذكّر هنا أشعيا النبيّ الذي يحدّث الملك والعظماء، يريدون أن يستندوا تارة إلى آشور أو بابل وطورًا إلى مصر، يسمّيهم: قصبة مرضوضة، مثقوبة، هي تثقب اليد إذا وضعتَ يدك عليها، هي لا تفعل شيئًا، ولكنّها تجرح لك يدك. وهنا فهم المؤمن ونحن يجب أن نفهم، أنّ البشر لا يستطيعون أن يفعلوا لنا شيئًا، وحده الله يستطيع أن يفعل.

إذا عدنا، أحبّائي، إلى آية 2 وآية 3 حيث نقرأ مقدّمة المزمور، نفهم أنّ المقدّمة هي صلاة المرتّل وشكواه. هي صلاة، منذ الكلمة الأولى نسمع صوت الله. وهي شكوى. رفض المؤمن بعد اليوم أن يشتكي إلى البشر، فما الفائدة من الشكوى إلى البشر، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئًا؟

3 - تحنّن يا الله!

تحنّن يا الله فالناس يعادونني، يحاربونني كلّ يوم ويضايقونني، الثائرون يعادونني نهارًا وليلاً، وما أكثر الذين يحاربونني. هذه الشكوى التي تصل إلى الله، هذه العاطفة، عاطفة الخوف، يرفعها المؤمن إلى الله، وأوّل كلمة هي كلمة الحنان: تحنّن يا الله. أوّل كلمة الحنان، حنان الأمّ، حنان الأبّ، هو الربّ ينحني علينا، يهتمّ بنا، يسمع صراخنا، يسمع نداءنا وصلاتنا. الربّ هو هنا ونحن نستطيع أن نرفع إليه صلاتنا. نقرّ بضعفنا، نقرّ بأنّ الناس لا يستطيعون أن يفعلوا لنا شيئًا. ويدلّ هذا المؤمنُ ا على الله لناس: بدل المحبّة والتعاون هناك العداء، بدل السلم والأمان، هناك الحرب، بدلاً من أن يربح الواحدُ الآخر (يوسع الواحد للآخر) هناك الضيق، وبدل التفاهم هناك الثورة. والثائرون يعادونني نهارًا وليلاً، وكأنّهم لا يريدون له أن يبلع ريقه، أن يرتاح دقيقة واحدة. هجوم بعد هجوم.

وعندما نقرأ خبر ملاحقة شاول لداود، نفهم هذه الملاحقة الدائمة التي لم تكن تترك لداود دقيقة واحدة يرتاح فيها ويفكّر: تحنّن يا الله، هي كلمة الحنان، هي صلاة الحنان التي فيها ندعو الربّ، مرّات عديدة نحسب أنّ الجميع ضدّنا، أنّ الجميع أعداء لنا. لا نخف عند ذلك. نتذكّر القدّيس بولس، في الرسالة إلى رومة: لا الموت، ولا الحياة، لا هذه الدنيا ولا الآخرة، ولا أيّ شخص يستطيع أن يفصلني عن محبّة الله التي في يسوع المسيح.

إذًا، عندما نحسّ بالضيق، بالخوف، باليأس نهتف: تحنّن يا الله، تحنّن يا الله. من آية 4 إلى آية 7، نسمع صرخة المرنّم، لكنّها صرخة الثقة، لا صرخة اليأس، صرخة الهدوء، لا صرخة الثورة على الله. إذا كان الناس ثاروا علينا، فنحن لا نثور على الله. إذا كان المرض ألمّ بنا أو الضيق، فنحن لا نجدّف على اسم الله. الله ليس عدوّنا، ليس هو من يرسل إلينا الضربة أو المرض أو الفشل أو أيّ أمر سيّئ كان. كلاّ. الله هو بقربنا.

4 - صرخة الثقة

وإن كان صليبنا ثقيلاً أو خفيفًا، فكتفُه قرب كتفنا، يحمل معنا صليبنا. لهذا السبب كلّ صرخة من قلوبنا يجب أن تكون صرخة الثقة، صرخة الانفتاح على الله والانتظار، انتظار كلّ عون من عند الله.

هو يقول للربّ: يوم أخاف، أتوكّل عليك. من قلْب خوفي، من قلْب رُعبي، من قلب يأسي، أجعل اتّكالي عليك، وعليك وحدك. لا شكّ هو يرى أمامه الأعداء الذين يشكونه، الذين يترصّدونه، الذين يكمنون له، يتجمّعون عليه لكي يقتلوه. لا شكّ كبشر، كإنسان هو خائف، وأنا أخاف، وكلّ واحد منّا يخاف. لكنّ صرخة الثقة تجعل هذا الإنسان يتجاوز الخوف. لا يترك الخوف يسيطر عليه وكلّنا يعرف أنّ الخوف يعارض الإيمان. من يؤمن لا يخاف، ومن يخاف لا يؤمن. لا شكّ هناك خوف جسديّ، خوف على مستوى العاطفة، كما يقولون بالعربيّ الفصيح: ترتعد فرائصي. وهذا طبيعيّ، ولكن الخوف العميق لا يمكن أن يحلّ في قلب المؤمن.

ونقرأ آية 4 - 7: في يوم خوفي أيّها العليّ... ويراقبون خطواتي ليقتلوني.

5 - التوكّل على الله

في آية 4 قال: في يوم خوفي. وصرخ: أتوكّل عليك. في آية 5 القسم الأوّل: أهلّل لله على كلامه. هذا يعني أنّ الله كلّمه في أعماق قلبه. لهذا استطاع أن يقول: عليه أتوكّل ولا أخاف. كلام الربّ في أعماق قلوبنا هو الذي يعطينا الثقة؛ يا ليتنا نعرف أن نسمع كلمة الربّ في أعماقنا. يا ليتنا نحسّ بهذا الحضور، حضور الله في حياتنا، في قلب حربنا وكفاحنا وصعوباتنا. نتأكّد تأكُّد الإيمان أنّ الله هو في داخلنا، يحارب معنا، هو بقربنا. وكما قلنا: ماذا يفعل البشر لي؟

هذا المؤمن، سمع صوت الله، فما عاد يحتاج إلى صوت البشر. رأى عمل الله، فما احتاج بعدُ أن يرى ماذا يستطيع البشر أن يفعلوا له. وهو لا يطلب شيئًا في الدرجة الأولى، بل يكتفي بأن يقدّم للربّ أعداءه، هؤلاء الذين يجورون، يظلمون، يكمنون لي، يراقبون خطواتي ليقتلوني.

هو لا يرى من إخوته، من شعبه، وإذا أردنا من الملك شاول، سوى العداوة، سوى النوايا الشرّيرة. هنا يمكن أن نتذكّر يسوع المسيح الذي عاش أيّامه الأخيرة وهو يعرف العداء الذي يكنّه له الكتبة والفرّيسيّون، بل هو عداء يبدأ مع أحد تلاميذه، يهوذا. إذًا هو عداء عرف به يسوع، فكانت صلاته صرخة اتّكال. ولكنّ يسوع لن يفعل مثل المرتّل، لن يطلب العقاب لهؤلاء المعادين له. كلاّ. هو يطلب لهم الغفران: اغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون. ومثله قال تلميذه إسطفانس: يا ربّ لا تحسب عليهم خطيئة.

أمّا في هذا المزمور، فيدعو المرتّل الله إلى ضرب أعدائه حسب إثمهم. يقول في الآية 8: جازهم يا الله على إثمهم، وفي غضبك أخضع الشعوب. 9: أنت عليم بما فيّ وها دموعي أمامك، أما هي في حسابك؟

هو يطلب من الربّ أن يضرب أعداءه، أن يُميتهم، أن يذهبوا من طريقه. وما إن يطلب حتّى يكتشف أنّ الله يعطيه (آية 10): يرتدّ أعدائي يوم أدعوك، فأعرف يا الله أنّك معي، أهلّل لله على كلامه، أهلّل للربّ على كلامه، على الله توكّلت فلا أخاف، فالإنسان ماذا يفعل لي؟

هذه، أحبّائي، صرخة المؤمن. ما إن صرخ نحو الله حتّى أحسّ بحضور الله. بدأ يهلّل، بدأ ينشد. عرف أنّ الله، هو معه، هو بجانبه، يمسكه بيده، ينتزعه من الموت، من الخطيئة، من الشرّ، من ضربات الإنسان. وحين يعرف الخلاص الذي حصل عليه، لا يبقَ له سوى تقدمة الذبائح وإعطاء النذور. ونقرأ في النهاية آية 13 وآية 14:

عليّ نذور لك يا الله، سأوفيها ذبائح حمد لك، لأنّك نجّيتني من الموت، وصنت رجليّ من الزلل، حتّى أسير أمامك يا الله في نور الحياة.

إذا كان الله نجّانا، إذا كان لله صان طريقنا، فلكي نسير أمامه، نسير في وصاياه، كما قال يسوع في الإنجيل للخاطئة، بعد أن غفر لها: لا تعودي إلى الخطيئة. والربّ هنا يقول للمؤمن: أنا نجّيتك من الموت، فسِرْ أمامي وكُن كاملاً.

هذا هو نداء المزمور 56: اتّكال على الله في الضيق. ففي قلب الشدّة، في قلب الخوف، في قلب العداء، في قلب التهديد بالموت، أنا لا أخاف، أنا أتّكل على الله والله ينجّيني. وشكري له يكون حياة بحسب وصاياه، فأسير أمامك يا الله في نور الحياة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM